البداية والنهاية/الجزء التاسع/سنة عشرين ومائة من الهجرة
فيها غزا سليمان بن هشام بلاد الروم وافتتح فيها حصونا.
وفيها غزا إسحاق بن مسلم العقيلي تومان شاه، وافتتحها وخرب أراضيها.
وفيها غزا مروان بن محمد بلاد الترك.
وفيها كانت وفاة أسد بن عبد الله القسري أمير خراسان، وكانت وفاته بسبب أنه كانت له دُبيلة في جوفه، فلما كان مهرجان هذه السنة قدمت الدهاقين - وهم: أمراء المدن الكبار - من سائر البلدان بالهدايا والتحف على أسد، وكان فيمن قدم نائب هراة ودهقانها، واسم دهقانها: خراسان شاه، فقدم بهدايا عظيمة وتحف عزيزة، وكان من جملة ذلك قصر من ذهب، وقصر من فضة، وأباريق من ذهب، وصحاف من ذهب وفضة، وتفاصيل من حرير تلك البلاد ألوان ملونة، فوضع ذلك كله بين يدي أسد حتى امتلأ المجلس.
ثم قام الدهقان خطيبا فامتدح أسدا بخصال حسنة، على عقله ورياسته وعدله ومنعه أهله وخاصته أن يظلموا أحدا من الرعايا بشيء قل أو كثر، وأنه قهر الخان الأعظم، وكان في مائة ألف فكسره وقتله، وأنه يفرح بما يفد إليه من الأموال، وهو بما خرج من يده أفرح وأشد سرورا، فأثنى عليه أسد وأجلسه، ثم فرق أسد جميع تلك الهدايا والأموال وما هناك أجمع على الأمراء والأكابر بين يديه، حتى لم يبق منه شيء.
ثم قام من مجلسه وهو عليل من تلك الدبيلة، ثم أفاق إفاقة وجيء بهدية كمثرى فجعل يفرقها على الحاضرين واحدة واحدة، فألقى إلى دهقان خراسان واحدة.
فانفجرت دبيلته وكان فيها حتفه، واستخلف على عمله جعفر بن حنظلة البهراني، فمكث أميرا أربعة أشهر حتى جاء عهد نصر بن سيار في رجب منها، فعلى هذا تكون وفاة أسد في صفر من هذه السنة.
وقد قال ابن عرس العبدي يرثيه:
نعى أسد بن عبد الله ناع * فريع القلب للملك المطاع
ببلخ وافق المقدار يسري * وما لقضاء ربك من دفاع
فجودي عين بالعبرات سحا * ألم يحزنك تفريق الجماع
أتاه حِمامهُ في جوف ضيع * وكم بالضيع من بطل شجاع
أتاه حمامه في جوف صيغ * وكم بالصيغ من بطل شجاع
كتائب قد يجيبون المنادي * على جرد مسومة سراع
سقيت الغيث إنك كنت غيثا * مريعا عند مرتاد النجاع
وفيها عزل هشام خالد بن عبد الله القسري عن نيابة العراق، وذلك أنه انحصر منه لما كان يبلغه من إطلاق عبارة فيه، وأنه كان يقول عنه: ابن الحمقاء، وكتب إليه كتابا فيه غلظة، فرد عليه هشام ردا عنيفا.
ويقال: إنه حسده على سعة ما حصل له من الأموال والحواصل والغلات، حتى قيل: إنه كان دخله في كل سنة ثلاثة عشر ألف ألف دينار، وقيل: درهم، ولولده يزيد بن خالد عشرة آلاف ألف.
وقيل: إنه وفد إليه رجل من إلزام أمير المؤمنين من قريش، يقال له: ابن عمرو، فلم يرحب به ولم يعبأ به، فكتب إليه هشام يعنفه ويبكته على ذلك، وأنه حال وصول هذا الكتاب إليه يقوم من فوره بمن حوله من أهل مجلسه فينطلق على قدميه حتى يأتي باب ابن عمرو صاغرا ذليلا مستأذنا عليه، متنصلا إليه مما وقع، فإن أذن لك وإلا فقف على بابه حولا غير متحلل من مكانك ولا زائل، ثم أمرك إليه إن شاء عزلك وإن شاء أبقاك، وإن شاء انتصر، وإن شاء عفا.
وكتب إلى ابن عمرو يعلمه بما كتب إلى خالد، وأمره إن وقف بين يديه أن يضربه عشرين سوطا على رأسه، إن رأى ذلك مصلحة.
ثم إن هشاما عزل خالدا وأخفى ذلك، وبعث البريد إلى نائبه على اليمن وهو: يوسف بن عمرو فولاه إمرة العراق، وأمره بالمسير إليها والقدوم عليها في ثلاثين راكبا، فقدموا الكوفة وقت السحر، فدخلوها، فلما أذن المؤذن أمره يوسف بالإقامة، فقال: إلى أن يأتي الإمام - يعني: خالدا - فانتهره وأمره بالإقامة، وتقدم يوسف فصلى وقرأ: { إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } [الواقعة: 1] و { سَأَلَ سَائِلٌ } [المعارج: 1]
ثم انصرف فبعث إلى خالد وطارق وأصحابهما، فاحضروا فأخذ منهم أموالا كثيرةً، صادر خالدا بمائة ألف ألف درهم، وكانت ولاية خالد في شوال سنة خمس ومائة، وعزل عنها في جمادى الأولى من هذه السنة - أعني: سنة عشرين ومائة -.
وفي هذا الشهر قدم يوسف بن عمر على ولاية العراق مكان خالد بن عبد الله القسري، واستناب على خراسان جُديع بن علي الكرماني، وعزل جعفر بن حنظلة الذي كان استنابه أسد.
ثم إن يوسف بن عمر عزل جديعا في هذه السنة عن خراسان، وولى عليها نصر بن سيار، وذهب جميع ما كان اقتناه وحصله خالد من العقار والأملاك وهلة واحدة.
وقد كان أشار عليه بعض أصحابه لما بلغهم عتب هشام عليه أن يبعث إليه يعرض عليه بعض أملاكه، فما أحب منها أخذه وما شاء ترك، وقالوا له: لأن يذهب البعض خير من أن يذهب الجميع مع العزل والاخراق، فامتنع من ذلك واغتر بالدنيا وعزت نفسه عليه أن يذل، ففجأه العزل، وذهب ما كان حصله وجمعه ومنعه، واستقرت ولاية يوسف بن عمر على العراق وخراسان، واستقرت نيابة نصر بن سيار على خراسان، فتمهدت البلاد وأمن العباد، والله الحمد والمنة.
وقد قال سوار بن الأشعري في ذلك:
أضحت خراسان بعد الخوف آمنةً * من ظلم كل غشوم الحكم جبار
لما أتى يوسفا أخبار ما لقيت * اختار نصرا لها نصر بن سيار
وفي هذه السنة استبطأت شيعة آل العباس كتاب محمد بن علي إليهم، وقد كان عتب عليهم في اتباعهم ذلك الزنديق الملقب: بخداش، وكان خُرَّميا، وهو الذي أحل لهم المنكرات ودنَّس المحارم والمصاهرات، فقتله خالد القسري كما تقدم.
فعتب عليهم محمد بن علي في تصديقهم له واتباعهم إياه على الباطل، فلما استبطأوا كتابه إليهم بعث إليهم رسولا يخبر لهم أمره، وبعثوا هم أيضا رسولا، فلما جاء رسولهم أعلمه محمد بماذا عتب عليهم بسبب الخُرَّمي، ثم أرسل مع الرسول كتابا مختوما، فلما فتحوه لم يجدوا فيه سوى: بسم الله الرحمن الرحيم، تعلموا أنه إنما عتبنا عليكم بسبب الخرمي.
ثم أرسل رسولا إليهم فلم يصدقه كثير منهم وهموا به، ثم جاءت من جهته عصى ملويا عليها حديد ونحاس، فعلموا أن هذا إشارة لهم إلى أنهم عصاة، وأنهم مختلفون كاختلاف ألوان النحاس والحديد.
قال ابن جرير: وحج بالناس فيها محمد بن هشام المخزومي فيما قاله أبو معشر.
قال: وقد قيل: إن الذي حج بالناس سليمان بن هشام بن عبد الملك.
وقيل: ابنه يزيد بن هشام، فالله سبحانه وتعالى أعلم.