البداية والنهاية/الجزء التاسع/ثم دخلت سنة إحدى وتسعين
فيها غزا الصائفة مسلمة بن عبد الملك وابن أخيه عبد العزيز بن الوليد.
وفيها غزا مسلمة بلاد الترك حتى بلغ الباب من ناحية أذربيجان، ففتح مدائن وحصونا كثيرةً أيضا، وكان الوليد قد عزل عمه محمد بن مروان عن الجزيرة وأذربيجان وولاهما أخاه مسلمة بن عبد الملك. وفها غزا موسى بن نصير بلاد المغرب ففتح مدنا كثيرة ودخل في تلك البلاد وولج فيها حتى دخل أراضي غابرةً قاصيةً فيها آثار قصور وبيوت ليس بها ساكن، ووجد هناك من آثار نعمة أهل تلك البلاد ما يلوح على سماتها أن أهلها كانوا أصحاب أموال ونعمة دارَّة سائغة، فبادوا جميعا فلا مخبر بها.
وفيها مهد قتيبة بن مسلم بلاد الترك الذين كانوا قد نقضوا ما كانوا عاهدوه عليه من المصالحة، وذلك بعد قتال شديد وحرب يشيب لها الوليد، وذلك أن ملوكهم كانوا قد اتعدوا في العام الماضي في أول الربيع أن يجتمعوا ويقاتلوا قتيبة، وأن لا يولوا عن القتال حتى يخرجوا العرب من بلادهم فاجتمعوا اجتماعا هائلا لم يجتمعوا مثله في موقف، فكسرهم قتيبة وقتل منهم أمما كثيرة ورد الأمور إلى ما كانت عليه، حتى ذكر أنه صلب منهم في بعض المواضع من جملة من أخذه منهم سماطين طولهما أربعة فراسخ من ههنا وههنا، عن يمينه وشماله صلب الرجل منهم بجنب الرجل، وهذا شيء كثير وقتل في الكفار قتلا ذريعا، ثم لا يزال يتتبع نيزك خان ملك الترك الأعظم، من إقليم إلى إقليم، ومن كورة إلى كورة، ومن رستاق إلى رستاق، ولم يزل ذلك دأبه ودأبه حتى حصره في قلعة هنالك شهرين متتابعين حتى نفد ما عند نيزك خان من الأطعمة، وأشرف هو ومن معه على الهلاك، فبعث إليه قتيبة من جاء به مستأمنا مذموما مخذولا، فسجنه عنده ثم كتب إلى الحجاج في أمره فجاء الكتاب بعد أربعين يوما بقتله فجمع قتيبة الأمراء فاستشارهم فيه فاختلفوا عليه فقائل يقول: اقتله. وقائل يقول: لا تقتله. فقال له بعض الأمراء: إنك أعطيت الله عهدا أنك إن ظفرت به لتقتلنه، وقد أمكنك الله منه، فقال قتيبة: والله إن لم يبق من عمري إلا ما يسع ثلاث كلمات لقتلته، ثم قال: اقتلوه اقتلوه اقتلوه، فقتل هو وسبعمائة من أصحابه من أمرائه في غداة واحدة وأخذ قتيبة من أموالهم وخيولهم وثيابهم وأبنائهم ونسائهم شيئا كثيرا.
وفتح في هذا العام مدنا كثيرةً، وقرر ممالك كثيرةً وأخذ حصونا كثيرةً مشحونةً بالأموال والنساء، ومن آنية الذهب والفضة شيئا كثيرا، ثم سار قتيبة إلى الطالقان—وهي مدينة كبيرة وبها حصون وأقاليم - فأخذها واستعمل عليها، ثم سار إلى الفارياب وبها مدن ورساتيق، فخرج إليه ملكها سامعا مطيعا، فاستعمل عليها رجلا من أصحابه، ثم سار إلى الجوزجان فأخذها من ملكها واستعمل عليها، ثم أتى بلخ فدخلها وأقام بها نهارا واحدا، ثم خرج منه وقصد نيزك خان ببغلان، وقد نزل نيزك خان معسكرا على فم الشعب الذي منه يدخل إلى بلاده، وفي فم الشعب قلعة عظيمة تسمى شمسية، لعلوها وارتفاعها واتساعها. فقدم على قتيبة الرؤب خان ملك الرؤب وسمنجان، فاستأمنه على أن يدله على مدخل القلعة، فأمنه وبعث معه رجالا إلى القلعة فأتوها ليلا ففتحوها وقتلوا خلقا من أهلها وهرب الباقي، ودخل قتيبة الشعب وأتى سمنجان - وهي مدينة كبيرة - فأقام بها وأرسل أخاه عبد الرحمن خلف ملك تلك المدن والبلاد نيزك خان في جيش هائل، فسار خلفه إلى بغلان فحصره بها، وأقام بحصاره شهرين حتى نفد ما عنده من الأقوات، فأرسل قتيبة من عنده ترجمانا يسمى الناصح فقال له: اذهب فائتني بنيزك خان ولئن عدت إلي وليس هو معك ضربت عنقك. وأرسل قتيبة معه هدايا وأطعمة فاخرة، فسار الترجمان إلى نيزك حتى أتاه وقدم إليه الأطعمة فوقع عليها أصحابه يتخاطفونها - وكانوا قد أجهدهم الجوع - ثم أعطاه الناصح الأمان وحلف له فقدم به على قتيبة ومعه سبعمائة أمير من أصحابه ومن أهل بيته جماعة. وكذلك استأمن قتيبة جماعة من الملوك فأمنهم وولى على بلادهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال الواقدي وغيره: وحج بالناس في هذه السنة أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك، فلما قرب من المدينة أمر عمر بن عبد العزيز أشراف المدينة فتلقوه فرحب بهم وأحسن إليهم، ودخل المدينة النبوية فأخلى له المسجد النبوي، فلم يبق به أحد سوى سعيد بن المسيب لم يتجاسر أحد أن يخرجه، وإنما عليه ثياب لا تساوي خمسة دراهم، فقالوا له: تنح عن المسجد أيها الشيخ فإن أمير المؤمنين قادم.
فقال: والله لا أخرج منه فدخل الوليد المسجد فجعل يدور فيه يصلي ههنا وههنا ويدعو الله عز وجل، قال عمر بن عبد العزيز: وجعلت أعدل به عن موضع سعيد خشية أن يراه، فحانت منه التفاتة فقال: من هذا هو سعيد بن المسيب؟
فقلت: نعم يا أمير المؤمنين ولو علم بأنك قادم لقام إليك وسلم عليك.
فقال: قد علمت بغضه لنا.
فقلت: يا أمير المؤمنين إنه وإنه وشرعت أثني عليه، وشرع الوليد يثني عليه بالعلم والدين.
فقلت: يا أمير المؤمنين إنه ضعيف البصر - وإنما قلت ذلك لأعتذر له - فقال: نحن أحق بالسعي إليه، فجاء فوقف عليه فسلم عليه فلم يقم له سعيد.
ثم قال الوليد: كيف الشيخ؟
فقال: بخير والحمد لله، كيف أمير المؤمنين؟
فقال الوليد: بخير والحمد لله وحده، ثم انصرف وهو يقول لعمر بن عبد العزيز: هذا فقيه الناس.
فقال: أجل يا أمير المؤمنين.
قالوا: ثم خطب الوليد على منبر رسول الله ﷺ فجلس في الخطبة الأولى وانتصب في الثانية.
قال وقال: هكذا خطب عثمان، ثم انصرف فصرف على الناس من أهل المدينة ذهبا كثيرا وفضةً كثيرةً، ثم كسا المسجد النبوي كسوةً من كسوة الكعبة التي معه، وهي من ديباج غليظ.
وتوفي في هذه السنة