مجموع الفتاوى/المجلد العشرون/والكلام في إجماع أهل المدينة ومراتبه
والكلام في إجماع أهل المدينة ومراتبه
[عدل]والكلام في إجماع أهل المدينة في تلك الأعصار، والتحقيق في مسألة إجماع أهل المدينة، أن منه ما هو متفق عليه بين المسلمين؛ ومنه ما هو قول جمهور أئمة المسلمين؛ ومنه ما لا يقول به إلا بعضهم. وذلك أن إجماع أهل المدينة على أربع مراتب.
الأولى: ما يجري مجرى النقل عن النبي ﷺ؛ مثل نقلهم لمقدار الصاع والمد؛ وكترك صدقة الخضراوات والأحباس، فهذا مما هو حجة باتفاق العلماء. أما الشافعي وأحمد وأصحابهما فهذا حجة عندهم بلا نزاع، كما هو حجة عند مالك. وذلك مذهب أبي حنيفة وأصحابه.
قال أبو يوسف رحمه الله، وهو أجل أصحاب أبي حنيفة، وأول من لقب قاضي القضاة لما اجتمع بمالك وسأله عن هذه المسائل وأجابه مالك بنقل أهل المدينة المتواتر، رجع أبو يوسف إلى قوله، وقال: لو رأى صاحبي مثل ما رأيت لرجع مثل ما رجعت.
فقد نقل أبو يوسف أن مثل هذا النقل حجة عند صاحبه أبي حنيفة، كما هو حجة عند غيره، لكن أبو حنيفة لم يبلغه هذا النقل، كما لم يبلغه، ولم يبلغ غيره من الأئمة كثير من الحديث، فلا لوم عليهم في ترك ما لم يبلغهم علمه.
وكان رجوع أبي يوسف إلى هذا النقل كرجوعه إلى أحاديث كثيرة اتبعها هو وصاحبه محمد وتركا قول شيخهما؛ لعلمهما بأن شيخهما كان يقول: أن هذه الأحاديث أيضا حجة إن صحت لكن لم تبلغه.
ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما بظن وإما بهوى، فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث التوضي بالنبيذ في السفر مخالفة للقياس وبحديث القهقهة في الصلاة مع مخالفته للقياس؛ لاعتقاده صحتهما، وإن كان أئمة الحديث لم يصححوهما.
وقد بينا هذا في رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وبينا أن أحدا من أئمة الإسلام لا يخالف حديثا صحيحا بغير عذر؛ بل لهم نحو من عشرين عذرا، مثل أن يكون أحدهم لم يبلغه الحديث؛ أو بلغه من وجه لم يثق به، أو لم يعتقد دلالته على الحكم؛ أو اعتقد أن ذلك الدليل قد عارضه ما هو أقوى منه كالناسخ؛ أو ما يدل على الناسخ وأمثال ذلك. والأعذار يكون العالم في بعضها مصيبا، فيكون له أجران، ويكون في بعضها مخطئا بعد اجتهاده فيثاب على اجتهاده وخطؤه مغفور له ؛: لقوله تعالى { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } 1. وقد ثبت في الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء وقال: « قد فعلت» ولأن العلماء ورثة الأنبياء.
وقد ذكر الله عن داود وسليمان أنهما حكما في قضية وأنه فهمها أحدهما؛ ولم يعب الآخر؛ بل أثنى على كل واحد منهما بأنه آتاه حكما وعلما فقال: { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } 2 { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } 3. وهذه الحكومة تتضمن مسألتين تنازع فيهما العلماء: مسألة نفش الدواب في الحرث بالليل وهو مضمون عند جمهور العلماء؛ كمالك والشافعي وأحمد. وأبو حنيفة لم يجعله مضمونا.
والثاني: ضمان بالمثل والقيمة، وفي ذلك نزاع في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما. والمأثور عن أكثر السلف في نحو ذلك يقتضي الضمان بالمثل، إذا أمكن كما قضى به سليمان، وكثير من الفقهاء لا يضمنون ذلك إلا بالقيمة، كالمعروف من مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد.
والمقصود هنا: أن عمل أهل المدينة الذي يجري مجرى النقل، حجة باتفاق المسلمين، كما قال مالك لأبي يوسف - لما سأله عن الصاع والمد، وأمر أهل المدينة بإحضار صيعانهم، وذكروا له أن إسنادها عن أسلافهم أترى هؤلاء يا أبا يوسف يكذبون؟ قال: لا والله ما يكذبون، فأنا حررت هذه الصيعان فوجدتها خمسة أرطال وثلث بأرطالكم يا أهل العراق. فقال: رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت.
وسأله عن صدقة الخضراوات، فقال: هذه مباقيل أهل المدينة، لم يؤخذ منها صدقة على عهد رسول الله ﷺ، ولا أبي بكر ولا عمر رضي الله عنهما، يعني: وهي تنبت فيها الخضراوات.
وسأله عن الأحباس فقال: هذا حبس فلان وهذا حبس فلان، يذكر لبيان الصحابة، فقال أبو يوسف في كل منهما: قد رجعت يا أبا عبد الله ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت.
وأبو يوسف ومحمد وافقا بقية الفقهاء في أنه ليس في الخضراوات صدقة، كمذهب مالك والشافعي وأحمد، وفي أنه ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، كمذهب هؤلاء، وأن الوقف عنده لازم كمذهب هؤلاء.
وإنما قال مالك: أرطالكم يا أهل العراق؛ لأنه لما انقرضت الدولة الأموية، وجاءت دولة ولد العباس قريبا؛ فقام أخوه أبو جعفر الملقب بالمنصور، فبنى بغداد فجعلها دار ملكه، وكان أبو جعفر يعلم أن أهل الحجاز حينئذ كانوا أعنى بدين الإسلام من أهل العراق، ويروى أنه قال ذلك لمالك أو غيره من علماء المدينة، قال: نظرت في هذا الأمر فوجدت أهل العراق أهل كذب وتدليس؛ أو نحو ذلك، ووجدت أهل الشام إنما هم أهل غزو وجهاد، ووجدت هذا الأمر فيكم.
ويقال: أنه قال لمالك: أنت أعلم أهل الحجاز؛ أو كما قال. فطلب أبو جعفر علماء الحجاز أن يذهبوا إلى العراق وينشروا العلم فيه، فقدم عليهم هشام بن عروة؛ ومحمد بن إسحاق؛ ويحيى بن سعيد الأنصاري؛ وربيعة بن أبي عبد الرحمن؛ وحنظلة بن أبي سفيان الجمحي؛ وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون وغير هؤلاء.
وكان أبو يوسف يختلف في مجالس هؤلاء، ويتعلم منهم الحديث، وأكثر عمن قدم من الحجاز؛ ولهذا يقال في أصحاب أبي حنيفة: أبو يوسف أعلمهم بالحديث؛ وزفر أطردهم للقياس، والحسن بن زياد اللؤلؤي أكثرهم تفريعا، ومحمد أعلمهم بالعربية والحساب؛ وربما قيل أكثرهم تفريعا، فلما صارت العراق دار الملك، واحتاج الناس إلى تعريف أهلها بالسنة والشريعة، غيّر المكيال الشرعي برطل أهل العراق، وكان رطلهم بالحنطة الثقيلة والعدس إذ ذاك تسعين مثقالا: مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع الدرهم. فهذا هو المرتبة الأولى لإجماع أهل المدينة وهو حجة باتفاق المسلمين.
المرتبة الثانية: العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان، فهذا حجة في مذهب مالك، وهو المنصوص عن الشافعي، قال في رواية يونس بن عبد الأعلى: إذا رأيت قدماء أهل المدينة على شيء فلا تتوقف في قلبك ريبًا أنه الحق وكذا ظاهر مذهب أحمد أن ما سنه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعها، وقال أحمد كل بيعة كانت في المدينة فهي خلافة نبوة، ومعلوم أن بيعة أبي بكر وعمر وعثمان كانت بالمدينة، وكذلك بيعة علي كانت بالمدينة ثم خرج منها، وبعد ذلك لم يعقد بالمدينة، وقد ثبت في الحديث الصحيح حديث العرباض بن سارية، عن النبى ﷺ أنه قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة».
وفى السنن من حديث سفينة عن النبى ﷺ أنه قال: « خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يصير ملكا عضوضا». فالمحكي عن أبي حنيفة يقتضي أن قول الخلفاء الراشدين حجة، وما يعلم لأهل المدينة عمل قديم على عهد الخلفاء الراشدون مخالف لسنة الرسول ﷺ
والمرتبة الثالثة: إذا تعارض في مسألة دليلان، كحديثين وقياسين جهل أيهما أرجح وأحدهما يعمل به أهل المدينة، ففيه نزاع فمذهب مالك والشافعي أنه يرجح بعمل أهل المدينة، ومذهب أبي حنيفة أنه لا يرجح بعمل أهل المدينة ولأصحاب أحمد وجهان:
أحدهما: وهو قول القاضي أبي يعلى، وابن عقيل أنه لا يرجح.
والثاني: وهو قول أبي الخطاب، وغيره أنه يرجح به قيل هذا هو المنصوص عن أحمد، ومن كلامه قال: إذا رأى أهل المدينة حديثا وعملوا به فهو الغاية، وكان يفتي على مذهب أهل المدينة ويقدمه على مذهب أهل العراق تقريرا كثيرا، وكان يدل المستفتي على مذاهب أهل الحديث، ومذهب أهل المدينة، ويدل المستفتي على إسحق وأبي عبيد وأبي ثور ونحوهم من فقهاء أهل الحديث، ويدله على حلقه المدنيين حلقه أبي مصعب الزهري ونحوه، وأبو مصعب هو آخر من مات من رواة الموطأ عن مالك، مات بعد أحمد بسنة، سنة اثنين وأربعين ومائتين، وكان أحمد يكره أن يرد على أهل المدينة، كما يرد على أهل الرأي، ويقول إنهم اتبعوا الآثار، فهذه مذاهب جمهور الأئمة توافق مذهب مالك في الترجيح لأقوال أهل المدينة.
وأما المرتبة الرابعة: فهي العمل المتأخر بالمدينة، فهذا هل هو حجة شرعية يجب اتباعه أم لا؟
فالذي عليه أئمة الناس أنه ليس بحجة شرعية، هذا مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم، وهو قول المحققين من أصحاب مالك، كما ذكر ذلك الفاضل عبد الوهاب في كتابه أصول الفقه وغيره ذكر أن هذا ليس إجماعا ولا حجة عند المحققين من أصحاب مالك، وربما جعله حجة بعض أهل المغرب من أصحابه، وليس معه للأئمة نص ولا دليل، بل هم أهل تقليد، قلت: ولم أر في كلام مالك ما يوجب جعل هذا حجة، وهو في الموطأ إنما يذكر الأصل المجمع عليه عندهم، فهو يحكي مذهبهم، وتارة يقول الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا يصير إلى الإجماع القديم، وتارة لا يذكر، ولو كان مالك يعتقد أن العمل المتأخر حجة يجب على جميع الأمة اتباعها وإن خالفت النصوص، لوجب عليه أن يلزم الناس بذلك حد الإمكان، كما يجب عليه أن يلزمهم اتباع الحديث والسنة الثابتة التي لا تعارض فيها وبالإجماع، وقد عرض عليه الرشيد أو غيره أن يحمل الناس على موطأه فامتنع من ذلك، وقال: إن أصحاب رسول الله ﷺ تفرقوا في الأمصار، وإنما جمعت علم أهل بلدي أو كما قال وإذا تبين أن إجماع أهل المدينة تفاوت فيه مذاهب جمهور الأئمة، علم بذلك أن قولهم أصح أقوال أهل الأمصار رواية ورأيا، وأنه تارة يكون حجة قاطعة، وتارة حجة قوية، وتارة مرجحا للدليل إذ ليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين، ومعلوم أن من كان بالمدينة من الصحابة هم خيار الصحابة، إذ لم يخرج منها أحد قبل الفتنة إلا وأقام بها من هو أفضل منه، فإنه لما فتح الشام والعراق وغيرهما أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الأمصار من يعلمهم الكتاب والسنة، فذهب إلى العراق عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر، وعمران بن حصين، وسلمان الفارسي وغيرهم.
وذهب إلى الشام معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وبلال بن رباح وأمثالهم. وبقي عنده مثل عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف ومثل أبي بن كعب ومحمد بن مسلمة وزيد بن ثابت وغيرهم.
وكان ابن مسعود وهو أعلم من كان بالعراق من الصحابة إذ ذاك، يفتي بالفتيا ثم يأتي المدينة، فيسأل علماء أهل المدينة فيردونه عن قوله، فيرجع إليهم كما؛ جرى في مسألة أمهات النساء لما ظن ابن مسعود أن الشرط فيها وفي الربيبة، وأنه إذا طلق امرأته قبل الدخول، حلت أمها كما تحل ابنتها، فلما جاء إلى المدينة، وسأل عن ذلك، أخبره علماء الصحابة أن الشرط في الربيبة دون الأمهات، فرجع إلى قولهم، وأمر الرجل بفراق امرأته بعد ما حملت، وكان أهل المدينة فيما يعملون، إما أن يكون سنة عن رسول الله ﷺ؛ وإما أن يرجعوا إلى قضايا عمر بن الخطاب ويقال: أن مالكا أخذ جل الموطأ عن ربيعة، وربيعة عن سعيد بن المسيب؛ وسعيد بن المسيب عن عمر؛ وعمر محدث.
وفي الترمذي عن رسول الله ﷺ قال: «لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر» وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: «كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر » وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ». وكان عمر يشاور أكابر الصحابة، كعثمان وعلي وطلحة والزبير؛ وسعد وعبد الرحمن؛ وهم أهل الشورى؛ ولهذا قال الشعبي انظروا ما قضى به عمر؛ فإنه كان يشاور. ومعلوم أن ما كان يقضي أو يفتي به عمر ويشاور فيه هؤلاء أرجح مما يقضي أو يفتي به ابن مسعود أو نحوه؛ رضي الله عنهم أجمعين. وكان عمر في مسائل الدين والأصول والفروع إنما يتبع ما قضى به رسول الله ﷺ، وكان يشاور عليا وغيره من أهل الشورى، كما شاوره في المطلقة المعتدة الرجعية في المرض إذا مات زوجها هل ترث؟ وأمثال ذلك.
فلما قتل عثمان وحصلت الفتنة والفرقة وانتقل علي إلى العراق هو وطلحة والزبير لم يكن بالمدينة من هو مثل هؤلاء، ولكن كان بها من الصحابة مثل سعد بن أبي وقاص وأبي أيوب؛ ومحمد بن مسلمة؛ وأمثالهم من هو أجل ممن مع علي من الصحابة، فأعلم من كان بالكوفة من الصحابة علي وابن مسعود وعلي كان بالمدينة، إذ كان بها عمر وعثمان وابن مسعود، وهو نائب عمر وعثمان ومعلوم أن عليا مع هؤلاء أعظم علما وفضلًا من جميع من معه من أهل العراق، ولهذا كان الشافعي يناظر بعض أهل العراق في الفقه، محتجا على المناظر بقول علي وابن مسعود، فصنف الشافعي كتاب اختلاف علي وعبد الله يبين فيه ما تركه المناظر وغيره من أهل العلم من قولهما، وجاء بعده محمد بن نصر المروزي، فصنف في ذلك أكثر مما صنف الشافعي قال: إنكم وسائر المسلمين تتركون قوليهما لما هو راجح من قوليهما، وكذلك غيركم يترك ذلك لما هو راجح منه.
ومما يوضح الأمر في ذلك: أن سائر أمصار المسلمين غير الكوفة كانوا منقادين لعلم أهل المدينة لا يعدون أنفسهم أكفاءهم في العلم، كأهل الشام ومصر مثل الأوزاعي ومن قبله وبعده من الشاميين ومثل الليث بن سعد ومن قبل ومن بعد من المصريين وأن تعظيمهم لعمل أهل المدينة واتباعهم لمذاهبهم القديمة ظاهر بين.
وكذلك علماء أهل البصرة كأيوب وحماد بن زيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وأمثالهم. ولهذا ظهر مذهب أهل المدينة في هذه الأمصارفإن أهل مصر صاروا نصرة لقول أهل المدينة وهم أجلاء أصحاب مالك المصريين كابن وهب، وابن القاسم، وأشهب: وعبد الله بن الحكم.
والشاميون مثل الوليد بن مسلم، ومروان بن محمد، وأمثالهم، لهم روايات معروفة عن مالك. وأما أهل العراق كعبد الرحمن بن مهدي وحماد بن زيد، ومثل إسماعيل بن إسحاق القاضي وأمثالهم، كانوا على مذهب مالك، وكانوا قضاة القضاة وإسماعيل ونحوه كانوا من أجل علماء الإسلام.
وأما الكوفيون بعد الفتنة والفرقة يدعون مكافأة أهل المدينة وأما قبل الفتنة والفرقة فقد كانوا متبعين لأهل المدينة ومنقادين لهم لا يعرف قبل مقتل عثمان أن أحدًا من أهل الكوفة أو غيرها يدعي أن أهل مدينته أعلم من أهل المدينة فلما قتل عثمان وتفرقت الأمة وصاروا شيعًا ظهر من أهل الكوفة من يساوي بعلماء أهل الكوفة علماء أهل المدينة.
ووجه الشبهة في ذلك أنه ضعف أمر المدينة لخروج خلافة النبوة منها وقوي أمر أهل العراق لحصول على فيها لكن ما فيه الكلام من مسائل الفروع والأصول قد استقر في خلافة عمر.
ومعلوم أن قول أهل الكوفة مع سائر الأمصار قبل الفرقة أولى من قولهم وحديثهم بعد الفرقة قال عبيدة السلماني قاضي على - رضي الله عنه - رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة. ومعلوم أنه كان بالكوفة من الفتنة والتفرق ما دل عليه النص والإجماع لقول النبي ﷺ: «الفتنة من هاهنا، الفتنة من هاهنا، الفتنة من هاهنا، من حيث يطلع قرن الشيطان».
وهذا الحديث قد ثبت عنه في الصحيح من غير وجه. ومما يوضح الأمر في ذلك أن العلم: إما رواية وإما رأي وأهل المدينة أصح أهل المدن رواية ورأيًا.
هامش