مجموع الفتاوى/المجلد العشرون/فصل في موقف الصحابة من القياس
فصل في موقف الصحابة من القياس
[عدل]وأما قول القائل: إنهم يقولون ذلك فيما يروي عن بعض الصحابة فهذا باب واسع والذي يلتزمه إنما كان من أقوال الصحابة فقال بعضهم بقول وقال بعضهم بخلافهم فقد يكون أحد القولين مخالفا للقياس الصحيح بل وللنص الصريح.
والذي لا ريب فيه أنه حجة ما كان من سنة الخلفاء الراشدين الذي سنوه للمسلمين ولم ينقل أن أحدا من الصحابة خالفهم فيه فهذا لا ريب أنه حجة بل إجماع. وقد دل عليه قول النبي ﷺ: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة».
مثال ذلك حبس عمر وعثمان رضي الله عنهما للأرضين المفتوحة وترك قسمتها على الغانمين.
فمن قال: إن هذا لا يجوز قال: لأن النبي ﷺ قسم خيبر وقال: إن الإمام إذا حبسها نقض حكمه لأجل مخالفة السنة فهذا القول خطأ وجرأة على الخلفاء الراشدين ؛ فإن فعل النبي ﷺ في خيبر إنما يدل على جواز ما فعله لا يدل على وجوبه فلو لم يكن معنا دليل يدل على عدم وجوب ذلك لكان فعل الخلفاء الراشدين دليلا على عدم الوجوب ؛ فكيف وقد ثبت أنه فتح مكة عنوة كما استفاضت به الأحاديث الصحيحة ؛ بل تواتر ذلك عند أهل المغازي والسير؟ فإنه قدم حين نقضوا العهد ونزل بمر الظهران ولم يأت أحد منهم يصالحه ولا أرسل إليهم أحدًا يصالحهم بل خرج أبو سفيان يتجسس الأخبار فأخذه العباس وقدم به كالأسير وغايته أن يكون العباس أمنه فصار مستأمنا ثم أسلم فصار من المسلمين فكيف يتصور أن يعقد عقد صلح الكفار بعد إسلامه بغير إذن منهم؟ مما يبين ذلك أن النبي ﷺ علق الأمان بأسباب كقوله: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن». فأمن من لم يقاتله فلو كانوا معاهدين لم يحتاجوا إلى ذلك وأيضا فسماهم النبي ﷺ طلقاء ؛ لأنه أطلقهم بعد القدرة عليهم كما يطلق الأسير فصاروا بمنزلة من أطلقهم من الأسر كثمامة بن أثال وغيره وأيضا فإنه أذن في قتل جماعة منهم من الرجال والنساء. وأيضا فقد ثبت عنه في الصحاح أنه قال في خطبته: «إن مكة لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار».
ودخل مكة وعلى رأسه المغفر لم يدخلها بإحرام فلو كانوا قد صالحوه لم يكن قد أحل له شيء كما لو صالح مدينة من مدائن الحل لم تكن قد أحلت فكيف يحل له البلد الحرام وأهله مسالمون له صلح معه؟ وأيضا فقد قاتلوا خالدًا وقتل طائفة منهم.
وفي الجملة: من تدبر الآثار المنقولة علم بالاضطرار أن مكة فتحت عَنْوَة ومع هذا فالنبي ﷺ لم يقسم أرضها كما لم يسترق رجالها ففتح خيبر عنوة وقسمها وفتح مكة عنوة ولم يقسمها فعلم جواز الأمرين.
والأقوال في هذا الباب ثلاثة: إما وجوب قسم العقار كقول الشافعي ؛ وإما تحريم قسمه ووجوب تحبيسه كقول مالك ؛ وإما التخيير بينهما كقول الأكثرين: الثوري وأبي حنيفة ؛ وأبي عبيد. وهو ظاهر مذهب أحمد وعنه كالقولين الأولين. ومن أشكل ما أشكل على الفقهاء من أحكام الخلفاء الراشدين: امرأة المفقود ؛ فإنه قد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه لما أجل امرأته أربع سنين وأمرها أن تتزوج بعد ذلك ؛ ثم قدم المفقود خيره عمر بين امرأته وبين مهرها وهذا مما اتبعه فيه الإمام أحمد وغيره.
وأما طائفة من متأخرى أصحابه فقالوا: هذا يخالف القياس والقياس أنها باقية على نكاح الأول إلا أن نقول: الفرقة تنفذ ظاهرًا وباطنًا فهي زوجة الثاني والأول قول الشافعي والثاني قول مالك. وآخرون أسرفوا في إنكار هذا حتى قالوا: لو حكم حاكم بقول عمر لنقض حكمه ؛ لبعده عن القياس.
وآخرون أخذوا ببعض قول عمر وتركوا بعضه فقالوا: إذا تزوجت فهي زوجة الثاني وإذا دخل بها الثاني فهي زوجته ولا ترد إلى الأول.
ومن خالف عمر لم يهتد إلى ما اهتدى إليه عمر ولم يكن له من الخبرة بالقياس الصحيح مثل خبرة عمر ؛ فإن هذا مبني على أصل وهو وقف العقود إذا تصرف الرجل في حق الغير بغير إذنه: هل يقع تصرفه مردودًا أو موقوفا على إجازته؟ على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد: أحدهما: الرد في الجملة على تفصيل عنه والرد مطلقا قول الشافعي. والثاني: أنه موقوف ؛ وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وهذا في النكاح والبيع والإجارة وغير ذلك فظاهر مذهب أحمد أن المتصرف إذا كان معذورا لعدم تمكنه من الاستئذان وحاجته إلى التصرف وقف على الإجازة بلا نزاع وإن أمكنه الاستئذان أو لم يكن به حاجة إلى التصرف ففيه النزاع فالأول مثل من عنده أموال لا يعرف أصحابها كالغصوب والعواري ونحوهما إذا تعذرت عليه معرفة أرباب الأموال ويئس منها ؛ فإن مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد أنه يتصدق به عنهم فإن ظهروا بعد ذلك كانوا مخيرين بين الإمضاء وبين التضمين وهذا مما جاءت به السنة في اللقطة ؛ فإن الملتقط يأخذها بعد التعريف ويتصرف فيها ثم إن جاء صاحبها كان مخيرًا بين إمضاء تصرفه وبين المطالبة بها فهو تصرف موقوف ؛ لكن تعذر الاستئذان ودعت الحاجة إلى التصرف.
وكذلك الموصى بما زاد على الثلث وصيته موقوفة على إجازة الورثة عند الأكثرين وإنما يخيرون عند الموت ففي المفقود المنقطع خبره إن قيل: إن امرأته تبقى إلى أن يعلم خبره: بقيت لا أيما ولا ذات زوج إلى أن تصير عجوزا وتموت ولم تعلم خبره والشريعة لم تأت بمثل هذا. فلما أجلت أربع سنين ولم ينكشف خبره حكم بموته ظاهرا. وإن قيل: إنه يسوغ للإمام أن يفرق بينهما للحاجة فإنما ذلك لاعتقاده موته وإلا فلو علم حياته لم يكن مفقودًا كما ساغ التصرف في الأموال التي تعذر معرفة أصحابها فإذا قدم الرجل تبين أنه كان حيا كما إذا ظهر صاحب المال والإمام قد تصرف في زوجته بالتفريق فيبقى هذا التفريق موقوفًا على إجازته فإن شاء أجاز ما فعله الإمام وإذا أجازه صار كالتفريق المأذون فيه.
ولو أذن للإمام أن يفرق بينهما ففرق وقعت الفرقة بلا ريب وحينئذ فيكون نكاح الأول صحيحًا. وإن لم يجز ما فعله الإمام كان التفريق باطلًا من حين اختار امرأته لا ما قبل ذلك بل المجهول كالمعدوم كما في اللقطة فإنه إذا ظهر مالكها لم يبطل ما تقدم قبل ذلك وتكون باقية على نكاحه من حين اختارها ؛ فتكون زوجته فيكون القادم مخيرا بين إجازة ما فعله الإمام ورده وإذا أجازه فقد أخرج البضع عن ملكه.
وخروج البضع من ملك الزوج متقوم عند الأكثرين كمالك والشافعي وأحمد في أنص الروايتين عنه وهو مضمون بالمسمى كما يقوله مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه والشافعي يقول: هو مضمون بمهر المثل والنزاع بينهم فيما إذا شهد شهود أنه طلق امرأته ورجعوا عن الشهادة فقيل: لا شيء عليهم: بناء على أن خروج البضع من ملك الزوج غير متقوم وهو قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين ؛ اختارها متأخرو أصحابه كالقاضي أبي يعلى وأصحابه وقيل: عليهم مهر المثل وهو قول الشافعي وهو وجه في مذهب أحمد وقيل: عليهم المسمى وهو مذهب مالك وهو أشهر في نصوص أحمد وقد نص على ذلك فيما إذا أفسد نكاح امرأته برضاع أنه يرجع بالمسمى والكتاب والسنة دلا على هذا القول ففي سورة الممتحنة في قول الله تعالى: { وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا } 1. وقوله: { فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا } 2.
وهذا المسمى دون مهر المثل وكذلك «أمر النبي ﷺ زوج المختلعة أن يأخذ ما أعطاها». ولم يأمر بمهر المثل وهو إنما يأمر في المعاوضات المطلقة بالعدل وهو مبسوط في غير هذا الموضع فقصة عمر تنبني على هذا.
والقول بوقف العقود عند الحاجة متفق عليه بين الصحابة ثبت ذلك عنهم في قضايا متعددة ولم يعلم أن أحدًا أنكر ذلك مثل قصة ابن مسعود في صدقته عن سيد الجارية، التي ابتاعها بالثمن الذي كان له عليه في ذمته؛ لما تعذرت عليه معرفته وكتصدق الغالّ بالمال المغلول لما تعذر قسمته بين الجيش ؛ وإقرار معاوية على ذلك. وغير ذلك من القضايا مع أن القول بوقف العقود مطلقًا هو الأظهر في الحجة وهو قول الجمهور وليس ذلك إضرارًا أصلا بل صلاح بلا فساد فإن الرجل قد يرى أن يشتري لغيره أو يبيع له أو يستأجر له أو يوجب له ثم يشاوره فإن رضي وإلا فلم يصبه ما يضره وكذلك في تزويج موليته ونحو ذلك.
وأما مع الحاجة فالقول به لا بد منه فمسألة المفقود هي مما يقف فيها تعريف الإمام على إذن الزوج إذا جاء كما يقف تصرف الملتقط على إذن المالك إذا جاء والقول برد المهر إليه لخروج امرأته من ملكه ولكن تنازعوا في المهر الذي يرجع به: هل هو ما أعطاها هو أو ما أعطاها الثاني؟ وفيه روايتان عن أحمد. والصواب أنه إنما يرجع بمهره هو ؛ فإنه الذي استحقه وأما المهر الذي أصدقها الثاني فلا حق له فيه.
وإذا ضمن الأول الثاني المهر فهل يرجع به عليها؟ فيه روايتان: إحداهما: يرجع لأنها التي أخذته والثاني قد أعطاها المهر الذي عليه فلا يضمن مهرين ؛ بخلاف المرأة فإنها لما اختارت فراق الأول ونكاح الثاني فعليها أن ترد المهر ؛ لأن الفرقة جاءت منها.
والثانية: لا يرجع ؛ لأن المرأة تستحق المهر بما استحل من فرجها والأول يستحق المهر لخروج البضع من ملكه فكان على الثاني مهران.
وهذا المأثور عن عمر في مسألة المفقود هو عند طائفة من أئمة الفقهاء من أبعد الأقوال عن القياس حتى قال من أئمة الفقهاء فيه ما قال وهو مع هذا أصح الأقوال وأجراها على القياس وكل قول قيل سواه فهو خطأ فمن قال: إنها تعاد إلى الأول وهو لا يختارها ولا يريدها وقد فرق بينه وبينها تفريقًا سائغًا في الشرع وأجاز هو ذلك التفريق فإنه وإن كان الإمام تبين أن الأمر بخلاف ما اعتقده فالحق في ذلك للزوج فإذا أجاز ما فعله الإمام زال المحذور.
وأما كونها زوجة الثاني بكل حال مع ظهور زوجها وتبين الأمر بخلاف ما فعل فهو خطأ أيضا فإنه لم يفارق امرأته وإنما فرق بينهما بسبب ظهر أنه لم يكن كذلك وهو يطلب امرأته فكيف يحال بينهما؟ وهو لو طلب ماله أو بدله رد إليه فكيف لا ترد إليه امرأته وأهله أعز عليه من ماله؟ وإن قيل: تعلق حق الثاني بها قيل: حقه سابق على حق الثاني وقد ظهر انتقاض السبب الذي به استحق الثاني أن تكون زوجة له وما الموجب لمراعاة حق الثاني دون حق الأول.
فالصواب ما قضى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وإذا ظهر صواب الصحابة في مثل هذه المشكلات التي خالفهم فيها مثل أبي حنيفة ومالك والشافعي فلأن يكون الصواب معهم فيما وافقهم فيه هؤلاء بطريق الأولى وقد تأملت من هذا الباب ما شاء الله فرأيت الصحابة أفقه الأمة وأعلمها واعتبر هذا بمسائل الأيمان بالنذر والعتق والطلاق وغير ذلك ومسائل تعليق الطلاق بالشروط ونحو ذلك وقد بينت فيما كتبته أن المنقول فيها عن الصحابة هو أصح الأقوال قضاء وقياسا وعليه يدل الكتاب والسنة وعليه يدل القياس الجلي وكل قول سوى ذلك تناقض في القياس مخالف للنصوص.
وكذلك في مسائل غير هذه مثل مسألة ابن الملاعنة ومسألة ميراث المرتد. وما شاء الله من المسائل لم أجد أجود الأقوال فيها إلا الأقوال المنقولة عن الصحابة. وإلى ساعتي هذه ما علمت قولا قاله الصحابة ولم يختلفوا فيه إلا وكان القياس معه لكن العلم بصحيح القياس وفاسده من أجل العلوم وإنما يعرف ذلك من كان خبيرا بأسرار الشرع ومقاصده ؛ وما اشتملت عليه شريعة الإسلام من المحاسن التي تفوق التعداد ؛ وما تضمنته من مصالح العباد في المعاش والمعاد ؛ وما فيها من الحكمة البالغة والرحمة السابغة ؛ والعدل التام. والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
هامش