مجموع الفتاوى/المجلد العشرون/مذهب أهل المدينة في مسائل العبادات
مذهب أهل المدينة في مسائل العبادات
[عدل]وأما العبادات فإن أصل الدين أنه لا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، فإن الله سبحانه في سورة الأنعام والأعراف عاب على المشركين أنهم حرموا ما لم يحرمه الله، وأنهم شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، كما قال ابن عباس: إذا أردت أن تعرف جهل العرب فاقرأ من قوله: { وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ } 1. الآية ؛ وذلك أن الله ذم المشركين على ما ابتدعوه من تحريم الحرث والأنعام، وما ابتدعوه من الشرك، وذمهم على احتجاجهم على بدعهم بالقدر، قال تعالى: { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا } 2. الآية. وفي الصحيح عن عياض بن حمار عن النبي ﷺ أنه قال: «يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا»وذكر في سورة الأعراف ما حرموه وما شرعوه، وقال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ } 3. الآية وقال: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } 4. الآية فبين لهم ما أمرهم به، وما حرمه هو، وقال ذمًا لهم: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ } 5. الآية. وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
والمقصود أنه ليس لأحد أن يحرم إلا ما جاءت الشريعة بتحريمه، وإلا فالأصل عدم التحريم. سواء في ذلك الأعيان والأفعال، وليس له أن يشرع دينًا واجبًا أو مستحبًا ما لم يقم دليل شرعي على وجوبه واستحبابه.
إذا عرف هذا فأهل المدينة أعظم الناس اعتصامًا بهذا الأصل ؛ فإنهم أشد أهل المدائن الإسلامية كراهية للبدع، وقد نبهنا على ما حرمه غيرهم من الأعيان والمعاملات، وهم لا يحرمونه.
وأما الدين فهم أشد أهل المدائن اتباعًا للعبادات الشرعية، وأبعدهم عن العبادات البدعية. ونظائر هذا كثيرة.
منها أن طائفة من الكوفيين وغيرهم استحبوا للمتوضئ والمغتسل والمصلي ونحوهم أن يتلفظوا بالنية في هذه العبادات، وقالوا: إن التلفظ بها أقوى من مجرد قصدها بالقصد، وإن كان التلفظ بها لم يوجبه أحد من الأئمة. وأهل المدينة لم يستحبوا شيئًا من ذلك وهذا هو الصواب. ولأصحاب أحمد وجهان ؛ وذلك أن هذه بدعة لم يفعلها رسول الله ﷺ ولا أصحابه، بل كان يفتتح الصلاة بالتكبير، ولا يقول قبل التكبير شيئًا من هذه الألفاظ، كذلك في تعليمه للصحابة إنما علمهم الافتتاح بالتكبير، فهذه بدعة في الشرع، وهي أيضا غلط في القصد، فإن القصد إلى الفعل أمر ضروري في النفس، فالتلفظ به من باب العبث، كتلفظ الآكل بنية الأكل ؛ والشارب بنية الشرب ؛ والناكح بنية النكاح؛ والمسافر بنية السفر ؛ وأمثال ذلك.
ومن ذلك صفات العبادات فإن مالكًا وأهل المدينة لا يجوزون تغيير صفة العبادة المشروعة فلا يفتتح الصلاة بغير التكبير المشروع، وهو قول الله أكبر كما أن هذا التكبير هو المشروع في الأذان والأعياد، ولا يجوزون أن يقرأ القرآن بغير العربية، ولا يجوزون أن يعدل عن المقصود المنصوص في الزكاة إلى ما يختار المالك من الأموال بالقيمة، وهم في مواقيت الصلاة أتبع للسنة من أهل الكوفة، حيث يستحبون تقديم الفجر والعصر، ويجعلون وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله، وهو آخر وقت الظهر، ويجعلون وقت صلاة العشاء وصلاة المغرب مشتركًا للمعذور، كالحائض إذا طهرت، والمجنون، إذًا ويجوزون الجمع للمسافر الذي جد به السير، والمريض وفى المطر، وهم في
صلاة السفر معتدلون، فإن من الفقهاء من يجعل الاتمام أفضل من القصر، أو يجعل القصر، أفضل لكن لايكره الاتمام، بل يرى أنه الأظهر، وأنه لايقصر إلا أن ينوي القصر، ومنهم من يجعل الاتمام غير جائز، وهم يرون أن السنة هي القصر وإذا ربع كره له ذلك، ويجعلون القصر سنة راتبة، والجمع رخصة عارضة، ولا ريب أن هذا القول أشبه الأقوال بالسنة.
وكذلك في السنن الراتبة، يجعلون الوتر ركعة واحدة، وإن كان قبلها شفع، وهذا أصح من قول الكوفيين الذين يقولون لاوتر إلا كالمغرب، مع أن تجويز كليهما أصح لكن الفصل أفضل من الوصل.
فقولهم أرجح من قول الكوفيين مطلقًا، ولا يرون للجمعة قبلها سنة راتبة خلافًا لمن خالفهم من الكوفيين ومالك لا يوقت مع الفرائض شيئًا وبعض العراقيين وقت أشياء بأحاديث ضعيفة، فقول مالك أقرب إلى السنة، وأهل المدينة يرون الجمع والقصر للحاج بعرفة ومزدلفة، والقصر بمنى، سواء كان من أهل مكة، أو غيرهم ولا ريب أن هذا هو الذى مضت به سنه رسول الله ﷺ بلا ريب، وهذا القول أحد الأقوال في مذهب الشافعي وأحمد، ومن قال أنه: لايجوز القصر إلا لمن كان منهم على
مسافة القصر، فقوله مخالف للسنة، وأضعف منه قول من يقول لا يجوز الجمع إلا لمن كان على مسافه القصر، وقد علم أن للجمع أسبابًا غير السفر الطويل، ولهذا كان قول من يقول أنه يجوز الجمع في السفرالقصير، كما يجوز في الطويل أقوى من قول من لايجوزه إلا في الطويل لا في القصير، وظن من قال: هذه الأقوال من أهل العراق، وغيرهم أن النبي ﷺ صلى بمنى ثم قال: «يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر»وهذا باطل عن النبي ﷺ باتفاق أهل الحديث وانما الذى في السنن أنه قال: ذلك لما صلى في مكة في غزوة الفتح، وكذلك قد نقلوا هذا عن عمر.
ويروى أن الرشيد لما حج أمر أبايوسف أن يصلى بالناس فلما سلم قال: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، فقال له بعض المكيين، أتقول لنا هذا ومن عندنا خرجت السنة وقال هذا من فقهك تكلم، وأنت في الصلاة.
وهذا المكي وافق أبايوسف على ظنه أنهم لايقصرون لكن من قلة فقهه تكلم وتكلم الناسي والجاهل بتحريم الكلام لايبطل صلاته عند مالك والشافعي وأحمد في إحدى الرواتين ويبطلها، عند أبي حنيفة ولو كان المكي عالمًا بالسنة لقال: ليست هذه السنة، بل قد صلى ﷺ بمنى ركعتين، وأبو بكر وعمر، وكذلك صلوا بعرفة ومزدلفة ركعتين، ولم يأمروا من خلفهم من المكيين بإتمام الصلاة فيها، كما هو مذهب أهل المدينة.
ومن ذلك صلاة الكسوف، فإنه قد تواترت السنن فيها عن النبي ﷺ بأنه صلاها بركوعين في كل ركعة، واتبع أهل المدينة هذه السنة وخفيت على اهل الكوفة حيث منعوا ذلك وكذلك صلاة الاستسقاء فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه صلى صلاة الأستسقاء، وأهل المدينة يرون أن يصلى للأستسقاء وخفيت هذه السنة على من أنكر صلاة الأستسقاء من أهل العراق، ومن ذلك تكبيرات العيد الزوائد، فإن غالب السنن والآثار توافق مذهب أهل المدينة سبع بتكبيرات الافتتاح والاحرام، وفى الثانية خمس.
ومن ذلك أن الصلاة هل تدرك بركعة، أو بأقل من ركعة، فمذهب مالك أنها إنما تدرك بركعة، وهذا هو الذي صح عن النبي ﷺ، حيث قال «من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة »وقال «من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك »فمالك يقول في الجمعة والجماعة إنما تدرك بركعة، وكذلك أدراك الصلاة في اخر الوقت وكذلك إدراك الوقت كالحائض إذا طهرت، والمجنون إذا أفاق قبل خروج الوقت، وأبو حنيفة يعلق
الإدراك في الجميع بمقدار التكبيرة حتى في الجمعة، يقول إذا أدرك منها مقدار تكبيرة فقد أدركها، والشافعي وأحمد يوافقان مالكًا في الجمعة، ويختلف قولهما في غيرها، الأكثرون من أصحابهما يوافقون أبا حنيفة في الباقي، ومعلوم أن قول من وافق مالكًا في الجميع أصح نصًا وقياسًا، وقد احتج بعضهم على مالك بقوله في الحديث الصحيح من أدرك سجدة من الصلاة، وليس في هذا حجة لأن المراد بالسجدة الركعة، كما قال ابن عمر حفظت عن رسول الله ﷺ سجدتين قبل الظهر، وسجدتين بعدهما، ونظائرها متعددة.
ومن ذلك أن مذهب أهل المدينة أن الإمام إذا صلى ناسيًا لجنابته وحدثه، ثم علم أعاد هو ولم يعد المأموم، وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين، كعمر وعثمان، وعند أبي حنيفة يعيد الجميع، وقد ذكر ذلك رواية عن أحمد والمنصوص المشهور عنه، كقول مالك وهو مذهب الشافعي وغيره ومما يؤيد ذلك أن هذه القصة، جرت لأبي يوسف فإن الخليفة استخلفه في صلاة الجمعة، فصلى بالناس ثم ذكر أنه كان محدثًا فأعاد ولم يأمر الناس بالإعادة، فقيل له في ذلك فقال: ربما ضاق علينا الشيء فأخذنا بقول إخواننا المدنيين مع أن صلاة الجمعة فيها خلاف كثير، لكون الإمامة شرطًا فيها، وطرد مالك هذا الأصل أيضا في سائر خطأ الإمام صلى الإمام باجتهاده فترك ما يعتقد المأموم وجوبه، مثل أن يكون الإمام لا يرى وجوب قراءة البسملة، أو لا يرى الوضوء من الدم، أو من القهقهة، أو من مس النساء، والمأموم يرى وجوب ذلك، فمذهب مالك صحة صلاة المأموم، وهذا
أحد القولين عن أحمد والشافعي، والقول الآخر لا يصح. كقول أبي حنيفة مذهب أهل المدينة هو الذي لا ريب في صحته، فقد ثبت في صحيح البخاري، عن النبي ﷺ أنه قال: «يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم»وهذا صريح في المسألة، ولأن الإمام صلى باجتهاده، فلا يحكم ببطلان صلاته، ألا ترى أنه ينفذ حكمه إذا حكم باجتهاده، فالائتمام به أولى والمنازع بنى ذلك على أن المأموم يعتقد بطلان صلاة الإمام، وهذا غلط فإن الإمام صلى باجتهاده أو تقليده وأنه إن كان مصيبًا فله أجران وإن كان مخطئًا فله أجر واحد، وخطؤه مغفور له، فكيف يقال: أنه يعتقد بطلان صلاته ثم من المعلوم بالتواتر عن سلف الأمة أن بعضهم ما زال يصلى خلف بعض مع وجود مثل ذلك، فما زال الشافعي وأمثاله يصلون خلف أهل المدينة، وهم لا يقرأون
البسملة سرًا ولا جهرًا ومن المأثور أن الرشيد، احتجم فاستفتى مالكًا فأفتاه بأنه لا وضوء عليه فصلى خلفه أبو يوسف ومذهب أبي حنيفة وأحمد أن خروج النجاسة من غير السبيلين ينقض الوضوء، ومذهب مالك والشافعي أنه لاينقض الوضوء، فقيل لأبي يوسف أتصلي خلفه فقال: سبحان الله أمير المؤمنين، فإن ترك الصلاة خلف الأئمة، لمثل ذلك من شعائر أهل البدع، كالرافضة والمعتزلة، ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن هذا، فأفتى بوجوب الوضوء، فقال له السائل: فإن كان الإمام لايتوضأ أصلي خلفه فقال سبحان الله: ألا تصلي خلف سعيد بن المسيب، ومالك بن أنس.
ومالك يرى أن كلام الناسي والجاهل في الصلاة لا يبطلها، على حديث ذي اليدين وحديث معاوية بن الحكم لما شمت العاطس، وحديث الأعرابي الذي قال: في الصلاة اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا احدًا، وهذا قول الشافعي وأحمد في إحدى الرواتين، والراوية الأخرى كقول أبي حنيفة قالوا حديث ذي اليدين، كان قبل تحريم الكلام، وليس كذلك بالحديث ذي اليدين كان بعد خيبر إذ قد شهده أبو هريرة وإنما أسلم أبوهريرة عام خيبر، وتحريم الكلام كان قبل رجوع ابن مسعود من الحبشة، وابن مسعود شهد بدرًا ومذهب أهل المدينة في الدعاء في الصلاة والتنبيه بالقرآن والتسبيح وغير ذلك فيه من التوسع ما يوافق السنة، بخلاف الكوفيين، فإنهم ضيقوا في هذا الباب تضيقًا كثيرًا وجعلوا ذلك كله من الكلام المنهي عنه.
ومن ذلك في الطهارة أن مالكًا رأى الوضوء من مس الذكر، ولمس النساء لشهوة، دون القهقهة في الصلاة، ولمس النساء لغير شهوة، ودون الخارج النادر من السبيلين، والخارج النجس من غيرهما، وأبو حنيفة رآها من القهقهة، والخارج النجس من السبيلين مطلقًا، ولا يراها من مس الذكر، ومعلوم أن أحاديث نقض الوضوء من مس الذكر أثبت وأعرف من أحاديث القهقهة، فإنه لم يرو أحد منها في السنن شيئًا، وهى مراسيل ضعيفة عند أهل الحديث، ولهذا لم يذهب إلى وجوب الوضوء من القهقهة أحد من علماء الحديث، لعلمهم بأنه لم يثبت فيها شيء، والوضوء من مس الذكر فيه طريقان منهم، من يجعله تعبدًا لا يعقل معناه فلا يكون بعيدًا عن الأصول، كالوضوء من القهقهة في الصلاة ومنهم من لا يجعله تعبدًا فهو حينئذ أظهر وأقوى، وأما لمس النساء ففيه ثلاثة أقوال مشهورة قول أبي حنيفة لا وضوء منه بحال، وقول مالك وأهل المدينة وهو المشهور عن أحمد أنه إن كان بشهوة نقض الوضوء، وإلا فلا وقول الشافعي يتوضأ منه بكل حال، ولا ريب أن قول أبي حنيفة، وقول مالك هما القولان المشهوران في السلف، وأما إيجاب الوضوء من لمس النساء بغير شهوة، فقول شاذ ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة ولا في أثر عن أحد من سلف الأمة، ولا هو موافق لأصل الشريعة، فإن اللمس العاري عن شهوة لا يؤثر لا في الإحرام، ولا في الإعتكاف، كما يؤثر فيهما اللمس مع الشهوة ولا يكره لصائم، ولا يوجب مصاهرة، ولا يؤثر في شيء من العبادات وغيرها من الأحكام فمن جعله مفسدًا للطهارة فقد خالف الأصول، وقوله تعالى { أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء } 6. إن أريد به الجماع فقط، كما قاله عمر وغيره فمعلوم أن قوله أو لامستم في الوضوء، كقوله في الإعتكاف { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } 7. والمباشرة بغير شهوة لا تؤثر هناك فكذلك هنا، وكذلك قوله { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } هذا مع نعلم أنه مازال
الرجال يمسون النساء بغير شهوة، فلو كان الوضوء من ذلك واجبًا لأمر به رسول الله ﷺ المسلمين، ولكان ذلك مما ينقل ويؤثر.
وهذا كما أنه احتج من احتج على مالك في مسألة المني، أن الناس لا يزالون يحتلمون في المنام، فتصيب الجنابة أبدانهم وثيابهم، فلو كان الغسل واجبًا، لكان النبي ﷺ، يأمر به مع أنه لم يأمر أحدًا من المسلمين بغسل ما أصابه من مني لا في بدنه ولا في ثيابه، وقد أمر الحائض أن تغسل دم الحيض، من ثوبها ومعلوم أن إصابة الجنابة ثياب الناس، أكثر من إصابة دم الحيض ثياب النساء، فكيف يبين هذا للحائض ويترك بيان ذلك الحكم العام، مع أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وما ثبت عنه في الصحيح من أن عائشة، كانت تغسل المني من ثوبه لا يدل على الوجوب، وثبت عنها أيضا في الصحيح أنها كانت تفركه، فكيف وقد ثبت هذا أيضا أن الغسل يكون لقذارته، كما قال سعد بن أبي وقاص وابن عباس أمطه عنك، ولو بأذخرة فإنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، فإن كانت هذه الحجة مستقيمة فمثلها يقال في الوضوء من لمس النساء لغير شهوة، ولمسهن لشهوة في التوضي منه اجتهاد وتنازع قديم، وأما لمسهن بغير شهوة فكما ترى، وكذلك الاغتسال من الجنابة فمذهب مالك وأحد القولين من مذهب أحمد، بل هو المأثور عنه أتباع السنة فيه، فإن من نقل غسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كعائشة وميمونة لم ينقل أنه غسل بدنه كله ثلاثًا، بل ذكر أنه بعد الوضوء وتخليل أصول الشعر حثاثية على شق رأسه وأنه أفاض الماء، بعد ذلك على سائر بدنه، والذين استحبوا الثلاث إنما ذكروه قياسًا على الوضوء والسنة، قد فرقت بينهما، وقد ثبت أن النبي ﷺ، كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع، وهو أربعة أمداد ومعلوم أنه لو كان السنة في الغسل التثليث، لم يكفه ذلك، فإن سائر الأعضاء فوق أعضاء الوضوء أكثر من أربع مرات.
ومن ذلك التيمم منهم من يقول لا يجب أن يتيمم لكل صلاة، كقول أبي حنيفه ومنهم من يقول بل يتيمم لكل صلاة كقول الشافعي ومذهب مالك يتيمم لوقت كل صلاة وهذا أعدل الأقوال، وهو يشبه الآثار المأثورة عن الصحابة والمأثورة في المستحاضة، ولهذا كان ذلك هو المشهور فيهما عند فقهاء الحديث.
ومن ذلك أهل المدينة يوجبون الزكاة في مال الخليطين، كمال المالك الواحد ويجعلون في الإبل إذا زادت على عشرين ومائة، في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، وهذا موافق لكتاب النبي ﷺ في الصدقة الذي أخرجه البخاري من حديث أبي بكر الصديق، وعامة كتب النبي ﷺ كالتي كانت عند آل عمر ابن الخطاب وآل علي بن أبي طالب وغيرهما، توافق هذا ومن خالفهم من الكوفيين يستأنف الفريضة بعد ذلك، ولا يحصل للخلطة تأثير، ومعهم آثار الاستئناف، لكن لا تقاوم هذا، وإن كان ثابتًا فهو منسوخ كما نسخ ما روي في البقر أنها تزكى بالغنم، ومذهب أهل المدينة، أن لا وقص إلا في الماشية ففي النقدين ما زاد فبحسبه، كما روي ذلك في الآثار وأبو حنيفة يجعل الوقص تابعًا للنصاب ففي النقدين عنده لا زكاة في الوقص كما في الماشية، وأما المعشرات فعنده لا وقص فيها ولا نصاب، بل يجب العشر في كل قليل وكثير في الخضراوات، لكن صاحباه وافقا أهل المدينة، لما ثبت عن النبي ﷺ أنه قال «ليس فيما دون خمس أوسق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة »وبما ثبت عنه من ترك أخذ الصدقة من الخضراوات مع ما روي عنه ليس في الخضراوات صدقة، ومذهب أهل المدينة أن الركاز الذي قال عنه ﷺ، «وفى الركاز الخمس »لا يدخل المعدن، بل المعدن تجب فيه الزكاة، كما أخذت من معادن بلال بن الحارث، كما ذكر ذلك مالك في موطأه، فإن الموطأ لمن تدبره وتدبر تراجمه وما فيه من الاثار وترتيبه، علم قول من خالفها من أهل العراق، فقصد بذلك الترتيب والآثار بيان السنة، والرد على من خالفها، ومن كان بمذهب أهل المدينة والعراق أعلم كان أعلم بمقدار الموطأ، ولهذا كان يقول كتاب جمعته في كذا وكذا سنة تأخذونه في كذا وكذا يومًا كيف تفقهون ما فيه. أو كلامًا يشبه هذا.
ومن خالف ذلك من أهل العراق يجعلون الركاز إسمًا يتناول المعادن، ودفن الجاهلية، وكذلك أمور المناسك، فإن أهل المدينة لا يرون للقارن أن يطوف إلا طوافًا واحدًا ولا يسعى إلا سعيًا واحدًا، ومعلوم أن الأحاديث الصحيحة عن النبي ﷺ كلها توافق هذا القول، ومن صار من الكوفيين إلى أن يطوف أولًا ثم يسعى للعمرة، ثم يطوف ثانيًا، ويسعى للحج فمتمسك بآثار منقولة عن علي وابن مسعود، وهذا إن صح لا يعارض السنة الصحيحة، فإن قيل فأبوحنيفة يرى القران، أفضل ومالك يرى الإفراد أفضل، وعلماء الحديث لا يرتابون أن النبي ﷺ إن كان قارنًا كما هو مبسوط في غير هذا الموضع، قيل هذه المسائل كثر نزاع الناس فيها واضطرب عليهم ما نقل فيها وما من طائفة إلا وقد قالت فيها قولًا مرجوحًا والتحقيق الثابت بالأحاديث الصحيحة أن النبي ﷺ لما حج بأصحابه، أمرهم أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي وكان النبي ﷺ قد ساق الهدي فلما لم يحلل توقفوا فقال «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة »وكان النبي ﷺ قد جمع بين العمرة والحج، فالذي تدل عليه السنة، أن من لم يسق الهدي فالتمتع أفضل له، وأن من ساق الهدي فالقران أفضل له، هذا إذا جمع بينهما في سفرة واحدة، وأما إذا سافر للحج سفرة، وللعمرة سفرة، فالإفراد أفضل له، وهذا متفق عليه بين الأئمة الأربعة.
اتفقوا على أن الإفراد أفضل إذا سافر كل منهما سفرة، والقران الذي فعله رسول الله ﷺ كان بطواف واحد وبسعي واحد، لم يقرن بطوافين وسعيين، كما يظنه من يظنه من أصحاب أبي حنيفة كما أنه لم يفرد الحج كما يظنه من ظنه من أصحاب الشافعي ومالك ولا اعتمر بعد الحج لا هو ولا أحد من أصحابه إلا عائشة لأجل عمرتها التي حاضت فيها، مع أنه قد صح أنه اعتمر أربع عمر إحداهن في حجة الوداع ولم يحل النبي ﷺ من إحرامه كما ظنه بعض أصحاب أحمد ومذهبهم أن المحصر لاقضاء عليه، وهذا أصح من قول الكوفيين، فإن النبي ﷺ وأصحابه صدوا عن العمرة الحديبية، ثم من العام القابل، اعتمر النبي ﷺ، وطائفة ممن معه لم يعتمروا، وجميع أهل الحديبية، كانوا أكثر من ألف وأربعمائة وهم الذين بايعوا تحت الشجرة، ومنهم من مات قبل عمرة القضية، ومذهبهم أنه لا يستحب لأحد بل يكره أن يحرم قبل الميقات المكاني، والكوفيون يستحبون الإحرام قبله وقول أهل المدينة الموافق لسنة رسول الله ﷺ وسنة خلفائه الراشدين، فإن النبي ﷺ اعتمر ثلاث عمر قبل حجة الوداع عمرة الحديبية، وعمرة القضية، وكلاهما أحرم فيهما من ذي الحليفة واعتمر عام حنين من الجعرانة، ثم حجة الوداع وأحرم فيها من ذي الحليفة، ولم يحرم من المدينة قط، ولم يكن رسول الله ﷺ ليداوم على ترك الأفضل وخلفاؤه كعمر وعثمان، نهوا عن الإحرام قبل الميقات، وقد سئل مالك عن رجل أحرم قبل الميقات، فقال: أخاف عليه من الفتنة فقال: قال تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } 8.
فقال السائل: وأي فتنة في ذلك وإنما هي زيادة امتثال في طاعة الله تعالى قال وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك خصصت بفعل لم يفعله رسول الله ﷺ. أو كما قال، وكان يقول لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد بجدل هذا.
ومذهب أهل المدينة أن وطىء بعد التعريف قبل التحلل فسد حجه، ومن وطىء بعد التحلل الأول فعليه عمرة، وهذا هو المأثور عن الصحابة، دون قول من قال أن الوطء بعد التعريف لا يفسد، وقول من قال أن الوطء بعد التحلل الأول لا يوجب إحرامًا ثانيًا، واتبع مالك في ذلك قول ابن عباس، وذكره في موطأه، لكن لم يسم من نقله فيه عن ابن عباس إذ الراوي له عكرمة لما بلغه
فيه عن ابن عمر، وسعد وإن كان الذي أتمه توثيق عكرمة ولهذا روى له البخاري، فإن قيل قد خالف حديث ضباعة بنت الزبير في اشتراطها التحلل، إذا حبسها حابس، وحديث عائشة في تطييب رسول الله ﷺ قبل إحرامه، وقبل طوافه بالبيت، وحديث ابن عباس في أنه مازال يلبي حتى رمى جمرة العقبة، وغير ذلك قيل إذا قيس هذا بما خالفه غيره من الكوفيين ونحوه كان ذلك أكثر مع أنه في هذه المسائل اتبع فيها آثارًا عن عمر ابن الخطاب وابن عمر وغيرهما، وإن كان الصواب عند تنازع الصحابة، الرد إلى سنة رسول الله ﷺ، لكن من لم تبلغه بعض السنة، فاتبع عمر وابن عمر، ونحوهما كان أرجح مما خفي عنه أكثر مما خفي عن أهل المدينة النبوية ولم يكن له سلف مثل سلف أهل المدينة.
ومن ذلك حرم المدينة النبوية، فإن الأحاديث قد تواترت عن النبي ﷺ من غير وجه باثبات حرمها، بل صح عنه أيضا أنه جعل جزاء من عضد بها شجرًا، أن سلبه لواجده، ومذهب أهل المدينة ومن وافقهم كالشافعي وأحمد أنها حرام أيضا وإن كان لهم في جزاء الصيد نزاع، ومن خالف في ذلك من الكوفيين لم تبلغه هذه السنن ولكن بعض اتباعهم أخذ يعارض، ذلك بمثل حديث أبي عمير وحديث الوحش وهذه لو كانت تقاوم ذلك في الصحة، لم يجز أن تعارض بها، لكن تلك متواترات، وحديث أبي عمير محمول على أن الصيد صيد خارج المدينة، ثم دخل إليها، وكذلك حديث الوحش، إن صح وإن قدر أنهما متعارضان، فكان مثل تحريم المدينة لأن أحاديث الحرم رواها أبو هريرة، ونحوه ممن صحبته متأخرة.
وأما دخول النبي ﷺ عند أبي طلحة، فكان من أوائل الهجرة، أو أنه إذا تعارض نصان أحدهما ناقل عن الأصل، والآخر ناف مبق لحكم الأصل، كان الناقل أولى لأنه إذا قدم الناقل لم يلزم تعيين الحكم إلا مرة واحدة وإذا قدم المبقي تغير الحكم مرتين، فلو قيل أن حديث أبي عمير بعد أحاديث تحريم المدينة لكان قد حرمه ثم أحله وإذا قدر أنه كان قبل ذلك، لم يلزم إلا كونه قد حرمه بعد التحليل، وهذا لا ريب فيه.
والله أعلم.
هامش
- ↑ [الأنعام 136]
- ↑ [الأنعام 148]
- ↑ [الأعراف 33]
- ↑ [الأعراف 29]
- ↑ [الشورى 21]
- ↑ [المائدة 6]
- ↑ [البقرة 187]
- ↑ [النور 63]