مجموع الفتاوى/المجلد العشرون/قاعدة في تعليل الحسنات
قاعدة في تعليل الحسنات
وقال شيخ الإسلام
قاعدة الحسنات تعلل بعلتين: إحداهما: ما تتضمنه من جلب المصلحة والمنفعة.
والثانية: ما تتضمنه من دفع المفسدة والمضرة. وكذلك السيئات تعلل بعلتين:
إحداهما: ما تتضمنه من المفسدة والمضرة.
والثانية: ما تتضمنه من الصد عن المنفعة والمصلحة. مثال ذلك قوله تعالى: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ } 1، فبين الوجهين جميعا فقوله: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ } بيان لما تتضمنه من دفع المفاسد والمضار فإن النفس إذا قام بها ذكر الله ودعاؤه - لا سيما على وجه الخصوص - أكسبها ذلك صبغة صالحة تنهاها عن الفحشاء والمنكر كما يحسه الإنسان من نفسه، ولهذا قال تعالى: { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ } 2، فإن القلب يحصل له من الفرح والسرور وقرة العين ما يغنيه عن اللذات المكروهة ويحصل له من الخشية والتعظيم لله والمهابة. وكل واحد من رجائه وخشيته ومحبته ناه ينهاه. وقوله: { وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ } 3 بيان لما فيها من المنفعة والمصلحة أي ذكر الله الذي فيها أكبر من كونها ناهية عن الفحشاء والمنكر فإن هذا هو المقصود لنفسه كما قال: { إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ } 4، والأول تابع فهذه المنفعة والمصلحة أعظم من دفع تلك المفسدة، ولهذا كان المؤمن الفاسق يئول أمره إلى الرحمة والمنافق المتعبد أمره صائر إلى الشقاء فإن الإيمان بالله ورسوله هو جماع السعادة وأصلها. ومن ظن أن المعنى ولذكر الله أكبر من الصلاة فقد أخطأ، فإن الصلاة أفضل من الذكر المجرد بالنص والإجماع. والصلاة ذكر الله لكنها ذكر على أكمل الوجوه فكيف يفضل ذكر الله المطلق على أفضل أنواعه؟ ومثال ذلك قوله ﷺ: «عليكم بقيام الليل فإنه قربة إلى ربكم، ودأب الصالحين قبلكم ومنهاة عن الإثم، ومكفرة للسيئات ومطردة لداعي الحسد» فبين ما فيه من المصلحة بالقرب إلى الله وموافقة الصالحين ومن دفع المفسدة بالنهي عن المستقبل من السيئات، والتكفير للماضي منها وهو نظير الآية.
وكذلك قوله: { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات } 5، فهذا دفع المؤذي ثم قال: { ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } 6، فهذا مصلحة وفضائل الأعمال وثوابها وفوائدها ومنافعها كثير في الكتاب والسنة من هذا النمط كقوله في الجهاد: { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَار } 7، إلى قوله: { وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } 8، فبين ما فيه من دفع مفسدة الذنوب ومن حصول مصلحة الرحمة بالجنة فهذا في الآخرة وفي الدنيا النصر والفتح وهما أيضا دفع المضرة وحصول المنفعة ونظائره كثيرة. وأما من السيئات فكقوله: { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ } 9، فبين فيه العلتين:
إحداهما: حصول مفسدة العداوة الظاهرة والبغضاء الباطنة والثانية: المنع من المصلحة التي هي رأس السعادة وهي ذكر الله والصلاة فيصد عن المأمور به إيجابا أو استحبابا.
وبهذا المعنى عللوا أيضا كراهة أنواع الميسر من الشطرنج ونحوه فإنه يورث هذه المفسدة ويصد عن المأمور به وكذلك الغناء فإنه يورث القلب نفاقا ويدعو إلى الزنى ويصد القلب عن ما أمر به من العلم النافع والعمل الصالح فيدعو إلى السيئات وينهى عن الحسنات مع أنه لا فائدة فيه والمستثنى منه عارضه ما أزال مفسدته كنظائره.
وكذلك البدع الاعتقادية والعملية، تتضمن ترك الحق المشروع الذي يصد عنه من الكلم الطيب والعمل الصالح إما بالشغل عنه وإما بالمناقضة وتتضمن أيضا حصول ما فيها من مفسدة الباطل اعتقادا وعملا. وهذا باب واسع إذا تؤمل انفتح به كثير من معاني الدين.
وقال: فصل قاعدة شرعية: شرع الله ورسوله للعمل بوصف العموم والإطلاق لا يقتضي أن يكون مشروعا بوصف الخصوص والتقييد، فإن العام والمطلق لا يدل على ما يختص بعض أفراده ويقيد بعضها فلا يقتضي أن يكون ذلك الخصوص والتقييد مشروعا، ولا مأمورا به فإن كان في الأدلة ما يكره ذلك الخصوص والتقييد كره وإن كان فيها ما يقتضي استحبابه استحب وإلا بقي غير مستحب ولا مكروه.
مثال ذلك: أن الله شرع دعاءه وذكره شرعا مطلقا عاما. فقال: { اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرا } 10، وقال: { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } 11، ونحو ذلك من النصوص فالاجتماع للدعاء والذكر في مكان معين، أو زمان معين، أو الاجتماع لذلك: تقييد للذكر والدعاء لا تدل عليه الدلالة العامة المطلقة بخصوصه وتقييده لكن تتناوله، لما فيه من القدر المشترك فإن دلت أدلة الشرع على استحباب ذلك كالذكر والدعاء يوم عرفة بعرفة، أو الذكر والدعاء المشروعين في الصلوات الخمس، والأعياد والجمع وطرفي النهار، وعند الطعام والمنام واللباس، ودخول المسجد والخروج منه، والأذان والتلبية وعلى الصفا والمروة ونحو ذلك صار ذلك الوصف الخاص مستحبا مشروعا استحبابا زائدا على الاستحباب العام المطلق. وفي مثل هذا يعطف الخاص على العام، فإنه مشروع بالعموم والخصوص كصوم يوم الاثنين والخميس بالنسبة إلى عموم الصوم وإن دلت أدلة الشرع على كراهة ذلك كان مكروها مثل اتخاذ ما ليس بمسنون سنة دائمة، فإن المداومة في الجماعات على غير السنن المشروعة بدعة كالأذان في العيدين والقنوت في الصلوات الخمس والدعاء المجتمع عليه أدبار الصلوات الخمس أو البردين منها والتعريف المداوم عليه في الأمصار والمداومة على الاجتماع لصلاة تطوع، أو قراءة أو ذكر كل ليلة، ونحو ذلك، فإن مضاهاة غير المسنون بالمسنون بدعة مكروهة كما دل عليه الكتاب والسنة والآثار والقياس. وإن لم يكن في الخصوص أمر ولا نهي بقي على وصف الإطلاق كفعلها أحيانا على غير وجه المداومة مثل التعريف أحيانا كما فعلت الصحابة والاجتماع أحيانا لمن يقرأ لهم أو على ذكر أو دعاء، والجهر ببعض الأذكار في الصلاة كما جهر عمر بالاستفتاح وابن عباس بقراءة الفاتحة. وكذلك الجهر بالبسملة أحيانا. وبعض هذا القسم ملحق بالأول فيكون الخصوص مأمورا به كالقنوت في النوازل وبعضها ينفى مطلقا ففعل الطاعة المأمور بها مطلقا حسن وإيجاب ما ليس فيه سنة مكروه. وهذه القاعدة إذا جمعت نظائرها نفعت وتميز بها ما هو البدع من العبادات التي يشرع جنسها من الصلاة والذكر والقراءة وأنها قد تميز بوصف اختصاص تبقى مكروهة لأجله أو محرمة كصوم يومي العيدين والصلاة في أوقات النهي كما قد تتميز بوصف اختصاص تكون واجبة لأجله أو مستحبة كالصلوات الخمس والسنن الرواتب. ولهذا قد يقع من خلقه العبادة المطلقة والترغيب فيها في أن شرع من الدين ما لم يأذن به الله كما قد يقع من خلقه العلم المجرد في النهي عن بعض المستحب أو ترك الترغيب. ولهذا لما عاب الله على المشركين أنهم شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله وأنهم حرموا ما لم يحرمه الله.
وهذا كثير في المتصوفة من يصل ببدع الأمر لشرع الدين وفي المتفقهة من يصل ببدع التحريم إلى الكفر.
هامش
- ↑ [العنكبوت: 45]
- ↑ [البقرة: 45]
- ↑ [العنكبوت: 45]
- ↑ [الجمعة: 9]
- ↑ [هود: 114]
- ↑ [هود: 114]
- ↑ [الصف: 12]
- ↑ [الصف: 13]
- ↑ [المائدة: 91]
- ↑ [الأحزاب: 41]
- ↑ [الأعراف: 55]