مجموع الفتاوى/المجلد العشرون/فصل في حجة نفاة المجاز
فصل في حجة نفاة المجاز
[عدل]وأما حجة النفاة التى ذكرها فإنه قال: فإن قيل: لو كان في لغة العرب لفظ مجازي فإما أن يقيد معناه بقرينة، أولا يقيد بقرينة؛ فإن كان الأول فهو مع القرينة لا يحتمل غير ذلك فكان مع القرينة حقيقة في ذلك المعنى. وإن كان الثاني فهو أيضا حقيقة، إذ لا معنى للحقيقة إلا ما يكون مستقلا بالإفادة من غير قرينة. ثم قال: قلنا: جواب الأول أن المجاز لا يفيد عند عدم الشهرة إلا بقرينة، ولا معنى للمجاز إلا هذا، والنزاع في ذلك لفظى، كيف وأن المجاز والحقيقة من صفات الألفاظ دون القرائن المعنوية؟ فلا تكون الحقيقة صفة للمجموع.
فيقال: هو قد سلم أن النزاع لفظي، فيقال: إذا كان النزاع لفظيا، وهذا التفريق إصطلاح حادث لم يتكلم به العرب؛ ولا أمة من الأمم، ولا الصحابة، والتابعون، ولا السلف كان المتكلم بالألفاظ الموجودة التى تكلموا بها ونزل بها القرآن أولى من المتكلم باصطلاح حادث لو لم يكن فيه مفسدة، وإذا كان فيه مفاسد كان ينبغى تركه لو كان الفرق معقولا، فكيف إذا كان الفرق غير مقعول فيه مفاسد شرعية وهو إحداث في اللغة؟ كان باطلا عقلا وشرعا ولغة. أما العقل فإنه لا يتميز فيه هذا عن هذا، وأما الشرع فإن فيه مفاسد يوجب الشرع إزالتها، وأما اللغة فلأن تغيير الأوضاع اللغوية غير مصلحة راجحة، بل مع وجود المفسدة.
فإن قيل: وما المفاسد؟
قيل: من المفاسد أن لفظ المجاز المقابل للحقيقة سواء جعل من عوارض الألفاظ أو من عوارض الاستعمال يفهم ويوهم نقص درجة المجاز عن درجة الحقيقة، لاسيما ومن علامات المجاز صحة اطلاق نفيه، فإذا قال القائل: إن الله تعالى ليس برحيم ولا برحمن؛ لا حقيقة بل مجاز؛إلى غير ذلك مما يطلقونه على كثير من أسمائه وصفاته وقال: لا إله إلا الله مجاز لا حقيقة، كما ذكر هذا الآمدي من أن العموم المخصوص مجاز، وقال من جهة منازعه: فإن قيل: لو قال: لا إله تامة مطلقة يكون كفرا ولو اقترن به الاستثناء، وهو قوله: إلا الله كان ايمانا، وكذلك لو قال لزوجته: أنت طالق كانت مطلقة بتنجيز الطلاق، ولو اقترن به الشرط وهو قوله: إن دخلت الدار كان تعليقا، مع أن الاستثناء والشرط له معنى، ولولا الدلالة والوضع لما كان كذلك.
قلنا: لا نسلم التغيير في الوضع، بل غايته صرف اللفظ عما اقتضاه من جهة إطلاقه إلى غيره بالقرينة، فقد تكلم في لا إله إلا الله إذا كانت من مورد النزاع، فإنه يزعم أن كل عام خص ولو بالاستثناء كان مجازا؛ فيكون لا إله إلا الله عنده مجازا
ومعلوم أن هذا الكلام من أعظم المنكرات في الشرع، وقائله إلى أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل أقرب منه الى أن يجعل من علماء المسلمين، ثم هذا القائل مفتر على اللغة والشرع والعقل ؛ فإن العرب لم تتكلم بلفظ لا إله مجردا، ولا كانوا نافين للصانع حتى يقولوا: لا إله، بل كانوا يجعلون مع الله إلهة أخرى، قال تعالى: { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ } 1 ولهذا قالوا: { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } 2.
والقرآن كله يثبت توحيد الألهية ويعيب عليهم الشرك، وقد تواتر عنه ﷺ أنه أول مادعى الخلق الى شهادة أن لا إله إلا الله، وقال: «أمرت أن اقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله»، والمشركون لم يكونوا ينازعونه في إلاثبات بل في النفي، فكان الرسول والمشركون متفقين على اثبات إلهية الله، وكان الرسول ينفي إلهية ما سوى الله وهم يثبتون، فلم يتكلم أحد لا من المسلمين ولا من المشركين بهذه الكلمة إلا لاثبات إلهية الله ولنفي إلهية ماسواه، والمشركون كانوا يثبتون إلهية ما سواه مع إلهيته، أما إلإلهة مطلقا بهذا المعنى فلم يكونوا مما يعتقدونه حتي يعبروا عنه، فكيف يقال: هذا المعنى هو الذي وضعوا له هذا اللفظ في أصل لغتهم؟.
وأما قول القائل: لانسلم تغيير الدلالة بل غايته صرف اللفظ عما اقتضاه من جهة إطلاقه إلى غيره بالقرينة.
فيقال له: هذه مغلطة؛ فإنه في حال القيد لم يكن مطلقا، وهو لا يقتضي النفي العام إذا كان مطلقا غير مقيد، فأما مع القيد فقوله: لا إله إلا الله اللفظ مطلقا، فكيف يقال: إنه صرف عما كان يقتضيه لو كان مطلقا؟ فلو كان مطلقا لكان يقتضي النفي العام، فبالتقييد زالا الإطلاق المقتضى لذلك، وهذا معنى تغيير الدلالة فإنه لو كان له دلالة عند الإطلاق بطلت وصارت له دلالة أخرى عند التقييد والاستثناء فخرج من اللفظ ما لولاه لدخل في اللفظ عند الجمهور القائلين بالعموم، وعند أهل الوقف، فخرج من اللفظ ما لولاه لصلح أن يدخل، فعلى القولين لا يخرج من اللفظ ما دخل، بل ما لولا الاستثناء لكان الاستثناء يمنع ذلك الاقتضاء، فلم يبق اللفظ مع الاستثناء مقتضيا لنفي المستثني ألبتة، كما أنه لم يبق مقتضيا بقوله صرفه عن مقتضاه من جهة إطلاقه ليس بسديد؛ فإنه لو كان مقتضيا مطلقا لم يكن هناك استثناء ولا يصرف شيء، وإذا لم يكن مطلقا بل مقيدا بالاستثناء فليس هناك إطلاق يكون له اقتضاء، ولا هناك لفظ يقتضى نفي المستثنى، ولا هناك مستثنى منفي.
وأيضا من مفاسد هذا جعل عامة القرآن مجازا. كما صنف بعضهم مجازات القراءات. وكما يكثرون من تسمية آيات القرآن مجازا، وذلك يفهم ويوهم المعاني الفاسدة، هذا إذا كان ما ذكروه من المعاني صحيحا فكيف وأكثر هؤلاء يجعلون ما ليس بمجاز مجازا؟ وينفون ما أثبته الله من المعاني الثابتة، ويلحدون في أسماء الله وآياته، كما وجد ذلك للمتوسعين في المجاز من الملاحدة اهل البدع.
وأما قوله: كيف والمجاز والحقيقة من صفات الألفاظ دون القرائن المعنوية؟
فيقال: أولا ليس الأمر كذلك عندكم، بل كثيرا ما تجعلون الحقيقة والمجاز اسما للمعنى، فتقولون: حقيقة هذا اللفظ كذا ومجازه كذا؛ وتقولون حقيقة هذا اللفظ، فتجعلونه من عوارض الألفاظ تارة، ومن عوارض المعنى أخرى، وقد تجعلونه من عوارض الاستعمال، فيقال: استعمال هذا اللفظ في هذا المعنى حقيقة وفي هذا مجاز.
ثم يقال: لا ضابط لهؤلاء فإن منهم من يجعل استعمال اللفظ في بعض معناه حقيقة. ومنهم من يجعله مجازا، ومنهم من يجعله حقيقة ومجازا جميعا، كما قد ذكر ذلك في مسألة العموم والأمر إذا أريد به الندب هو مما يبين تناقض هذا الأصل.
ثم يقال: هب أن هذا من عوارض الألفاظ، فإنما هو من عوارض اللفظ المستعمل الذي أريد به معناه. فقولك: هو من صفات الألفاظ دون القرائن المعنويه فلا تكون الحقيقة صفه للمجموع؛ باطل من وجوه:
أحدهما: أن اللفظ لم يدل قط إلا بقرائن معنوية، وهو كون المتكلم عاقلا له عادة باستعمال ذلك اللفظ في ذلك المعنى؛ وهو يتكلم بعادته والمستمع يعلم ذلك، وهذه كلها قرائن معنويه تعلم بالعقل، ولا يدل اللفظ إلا معها فدعوى المدعى أن اللفظ يدل مع تجرده عن جميع القرائن العقليه: غلط
الثاني: أن يقال: أنت لم تفرق بين القرائن المعنوية واللفظية؛ فإن العامل المخصوص بالاستثناء والشرط والصفه والبدل إنما اقترن به قرائن لفظية؛ وقد جعلته مجازا، وأيضا فقول النبى ﷺ: «أن خالدا سيف سله الله على المشركين»؛ وقول أبي بكر رضي الله عنه: لا يعمد
إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله. وأمثال ذلك وما مثلت به من قوله: ظهر الطريق ومتنه. هي قرائن لفظية بها عرف المعنى، وهو عندك مجاز
الثالث: أن نقول اذكر لنا ضابطا من القرائن التى بها يكون حقيقة والقرائن التي يكون بها مجازا! فإن هذا ممتنع لا سبيل لك إليه لبطلان الفرق في نفس الأمر.
الرابع: أن يقال: هب أنه مفتقر الى قرينه معنوية! فلو قيل لك: الحقيقة اسم لنفس اللفظ لكان يشترط أن يقترن به ما يبين معناه سواء كانت القرينه لفظيه أو معنوية ولفظ الحقيقة في الموضعين اسم اللفظ لما اقترن به لم يكن ما يدفع ذلك.
الخامس: أنه لو قيل لك: أنا أجعل لك لفظ الحقيقة اسما للفظ وما اقترن مطلقا، لم يكن لك جواب عن هذا إلا أن يقول: أنا اجعله اسما للفظ والقرينة اللفظية دون المعنوية، وهذا المعنى لو كان صحيحا لم يكن معك إلا مجرد تحكم قابلت به تحكما، وليس تحكمك أولى. فكيف تجعل ذلك حجه معنوية على بطلان قول خصمك؟
وتحقيق ذلك بالوجه السادس: وهو أن يقال: قولك: كيف وأن المجاز والحقيقة من صفات الألفاظ دون القرائن المعنوية فلا تكون الحقيقة صفة للمجموع؟ ليس فيه إلا مجرد حكاية اللفظ الذي ابتدعته، فإذا قال لك المنازع: بل الحقيقة اسم لمجموع الدال من اللفظ والقرينة المعنوية كان قد قابل اصطلاحك باصلاحه الذي هو أحسن من اصطلاحك حيث سمى جميع البيان الذي علمة الله عباده حقيقة، وأنت جعلت كثيرا منه أو أكثره مجازا.
فإن قلت: فهذا النزاع لفظي، قيل لك: فهذا جوابك الأول، وهو قولك: النزاع في ذلك لفظي.
قوله لي بعد هذا جوابا آخر، وهو قولك: كيف وأن المجاز والحقيقة من صفات الألفاظ دون القرائن المعنوية؟ فلا تكون الحقيقة صفه للمجموع يقتضي أنك ذكرت جوابا ثأنيا غير الأول، وليس فيه إلا إعادة معنى ذلك الاصطلاح، هو أنا اصطلحنا على أن يسمى بالحقيقة اللفظ دون القرائن المعنوية فتبين أنه ليس معك إلا اعترافك بأن النزاع لفظي، فلو كان الاصطلاح مستقيما؛ لم يكن نفاة المجاز الذين سموا جميع الكلام حقيقة إذا كان قد بين به المراد بأنقص حالا ممن سمى ما هو من خيارالكلام وأحسنه وأتمه بيانا مجازا وجعله فرعا في اللغة لا أصل، ا ووضعا حادثا غير به الوضع المتقدم، وجعله تابعا لغيره لا متبوعا.
هامش