مجموع الفتاوى/المجلد الرابع عشر/فصل في بيان حال الشهادة
فصل في بيان حال الشهادة
وقوله: { قَآئِمَا بِالْقِسْطِ } 1 هو نصب على الحال، وفيه وجهان:
قيل: هو حال من شهد أي: شهد قائما بالقسط.
وقيل: من هو أي: لا إله إلا هو قائما بالقسط، كما يقال: لا إله إلا هو وحده، وكلا المعنيين صحيح.
وقوله: { قَآئِمَا بِالْقِسْطِ } يجوز أن يعمل فيه كلا العاملين على مذهب الكوفيين في أن المعمول الواحد يعمل فيه عاملان، كما قالوا في قوله: { هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ } 2، و { آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا } 3، و { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } 4، ونحو ذلك. وسيبويه وأصحابه يجعلون لكل عامل معمولا، ويقولون: حذف معمول أحدهما لدلالة الآخر عليه، وقول الكوفيين أرجح، كما قد بسطته في غير هذا الموضع.
وعلى المذهبين فقوله: { القسط } يخرج على هذا، إما كونه يشهد قائمًا بالقسط فإن القائم بالقسط هو القائم بالعدل، كما في قوله: { كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ } 5، فالقيام بالقسط يكون في القول، وهو القول العدل، ويكون في الفعل. فإذا قيل: شهد { قَآئِمَا بِالْقِسْطِ } أي: متكلما بالعدل مخبرا به آمرا به، كان هذا تحقيقا لكون الشهادة شهادة عدل وقسط، وهى أعدل من كل شهادة، كما أن الشرك أظلم من كل ظلم، وهذه الشهادة أعظم الشهادات.
وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية ما يوافق ذلك، فذكر ابن السائب 6: أن حَبْرَين من أحبار الشام قدما على النبي ﷺ، فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان! فلما دخلا على النبي ﷺ عرفاه بالصفة، فقالا: أنت محمد؟ قال: «نعم». قالا: وأحمد؟ قال: «نعم». قالا: نسألك عن شهادة فإن أخبرتنا بها آمنا بك. فقال: «سلاني». فقالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله فنزلت هذه الآية.
ولفظ القيام بالقسط كما يتناول القول، يتناول العمل، فيكون التقدير: يشهد وهو قائل بالقسط عامل به لا بالظلم؛ فإن هذه الشهادة تضمنت قولا وعملا، فإنها تضمنت أنه هو الذي يستحق العبادة وحده فيعبد، وأن غيره لا يستحق العبادة، وأن الذين عبدوه وحده هم المفلحون السعداء، وأن المشركين به في النار، فإذا شهد قائما بالعدل المتضمن جزاء المخلصين بالجنة وجزاء المشركين بالنار كان هذا من تمام تحقيق موجب هذه الشهادة، وكان قوله: { قّائٌمْا بٌالًقٌسًط } تنبيها على جزاء المخلصين والمشركين، كما في قوله: { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } 7.
قال طائفة من المفسرين منهم البغيى: نظم الآية «شهد الله قائما بالقسط» ومعنى قوله: { قَآئِمَا بِالْقِسْطِ } أي بتدبير الخلق، كما يقال: فلان قائم بأمر فلان، أي يدبره ويتعاهد أسبابه، وقائم بحق فلان، أي مجاز له، فالله تعالى مدبر رزاق مجاز بالأعمال.
وإذا اعتبر القسط في الإلهية كان المعنى: «لا إله إلا هو قائما بالقسط»، أي: هو وحده الإله قائما بالقسط، فيكون وحده مستحقا للعبادة مع كونه قائما بالقسط، كما يقال: أشهد أن لا إله إلا الله إلها واحدا أحدا صمدا. وهذا الوجه أرجح؛ فإنه يتضمن أن الملائكة وأولى العلم يشهدون له، مع أنه لا إله إلا هو، وأنه قائم بالقسط.
والوجه الأول لا يدل على هذا؛ ولأن كونه قائما بالقسط كما شهد به أبلغ من كونه حال الشاهد، وقيامه بالقسط يتضمن أنه يقول الصدق، ويعمل بالعدل، كما قال: { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا } 8، وقال هود: { إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } 9، فأخبر أن الله على صراط مستقيم، وهو العدل الذي لا عوج فيه.
وقال: { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم } 10، وهو مثل ضربه الله لنفسه ولما يشرك به من الأوثان، كما ذكر ذلك في قوله: { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ } الآية 11، وقال: { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } الآيات، إلى قوله: { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } 12، فأخبر أنه خالق منعم عالم، وما يدعون من دونه لا تخلق شيئا ولا تنعم بشيء، ولا تعلم شيئا، وأخبر أنها ميتة، فهل يستوى هذا وهذا؟ فكيف يعبدونها من دون الله مع هذا الفرق الذي لا فرق أعظم منه؟ ولهذا كان هذا أعظم الظلم والإفك.
ومن هذا الباب قوله تعالى: { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } 13، فقوله تعالى: { ضَرَبَ اللهُ مَثَلا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللهُ مَثَلا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } 14، كلاهما مثل بين الله فيه أنه لا يستوى هو وما يشركون به، كما ذكر نظير ذلك في غير موضع، وإن كان هذا الفرق معلوما بالضرورة لكل أحد، لكنْ المشركون مع اعترافهم بأن آلهتم مخلوقة مملوكة له، يسوون بينه وبينها في المحبة والدعاء، والعبادة ونحو ذلك.
والمقصود هنا أن الرب سبحانه على صراط مستقيم، وذلك بمنزلة قوله: { قّائٌمْا بٌالًقٌسًط } ، فإن الاستقامة والاعتدال متلازمان، فمن كان قوله وعمله بالقسط كان مستقيما، ومن كان قوله وعمله مستقيما كان قائما بالقسط.
ولهذا أمرنا الله سبحانه أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، وصراطهم هو العدل والميزان؛ ليقوم الناس بالقسط، والصراط المستقيم هو العمل بطاعته وترك معاصيه، فالمعاصى كلها ظلم مناقض للعدل مخالف للقيام بالقسط والعدل، والله سبحانه أعلم.
هامش
- ↑ [آل عمران: 18]
- ↑ [الحاقة: 19]
- ↑ [الكهف: 96]
- ↑ [ق: 17]
- ↑ [النساء: 135]
- ↑ [هو أبو النضر محمد بن السائب بن بشر بن عمرو بن الحارث الكلبى، نسابة، راوية، عالم بالتفسير والأخبار وأيام العرب، له كتاب في "تفسير القرآن" وهو ضعيف الحديث، ولد بالكوفة وتوفى بها سنة 146ه]
- ↑ [الرعد: 33]
- ↑ [الأنعام: 115]
- ↑ [هود: 56]
- ↑ [النحل: 76]
- ↑ [يونس: 35]
- ↑ [النحل: 17 21]
- ↑ [النمل: 59]
- ↑ [النحل: 75، 76]