انتقل إلى المحتوى

مجموع الفتاوى/المجلد الرابع عشر/تفسير بعض آيات مشكلة في سورة البقرة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


تفسير بعض آيات مشكلة في سورة البقرة

قال شيخ الإِسَلام:

هذا تفسير آيات أشكلت حتى لا يوجد في طائفة من كتب التفسير إلا ما هو خطأ:

منها قوله: { بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } الآية 1، ذكر أن المشهور أن السيئة الشرك، وقيل: الكبيرة يموت عليها، قاله عكرمة. قال مجاهد: هي الذنوب تحيط بالقلب.

قلت: الصواب ذكر أقوال السلف، وإن كان فيها ضعيف فالحجة تبين ضعفه، فلا يعدل عن ذكر أقوالهم لموافقتها قول طائفة من المبتدعة، وهم ينقلون عن بعض السلف أن هذه الآية أخطأ فيها الكاتب كما قيل في غيرها، ومن أنكر شيئا من القرآن بعد تواتره استتيب، فإن تاب وإلا قتل، وأما قبل تواتره عنده فلا يستتاب، لكن يبين له، وكذلك الأقوال التي جاءت الأحاديث بخلافها؛ فقها، وتصوفا، واعتقادا، وغير ذلك.

وقول مجاهد صحيح، كما في الحديث الصحيح: «إذا أذنب العبد نكتَ في قلبه نكتة سوداء» إلخ..، والذي يغشى القلب يسمى رَيْنا وطَبْعا وخَتْما و قُفْلا ونحو ذلك، فهذا ما أصر عليه. وإحاطة الخطيئة: إحداقها به فلا يمكنه الخروج، وهذا هو البَسْل بما كسبت نفسه، أي: تحبس عما فيه نجاتها في الدارين؛ فإن المعاصي قيد وحبس لصاحبها عن الجَوَلان في فضاء التوحيد، وعن جَنْى ثمار الأعمال الصالحة.

ومن المنتسبين إلى السنة من يقول: إن صاحب الكبيرة يعذب مطلقا، والأكثرون على خلافه، وأن الله سبحانه يزن الحسنات والسيئات، وعلى هذا دل الكتاب والسنة وهو معنى الوزن، لكن تفسير السيئة بالشرك هو الأظهر؛ لأنه سبحانه غاير بين المكسوب والمحيط، فلو كان واحدا لم يغاير، والمشرك له خطايا غير الشرك أحاطت به لأنه لم يتب منها.

وأيضا، قوله: { سَيِّئَةً } نكرة، وليس المراد جنس السيئات بالاتفاق.

وأيضا، لفظ السيئة قد جاء في غير موضع مرادا به الشرك وقوله: { سَيِّئَةً } أي: حال سيئة أو مكان سيئة ونحو ذلك، كما في قوله: { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } 2، أي حالا حسنة تعم الخير كله، وهذا اللفظ يكون صفة، وقد ينقل من الوصفية إلى الاسمية؛ ويستعمل لازما أو متعديا يقال: ساء هذا الأمر، أي: قَبُح، ويقال: ساءنى هذا، قال ابن عباس في قوله: { وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا } 3: عملوا الشرك؛ لأنه وصفهم بهذا فقط، ولو آمنوا لكان لهم حسنات، وكذا لما قال: { كَسَبَ سَيِّئَةً } لم يذكر حسنة، كقوله تعالى: { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى } 4 أي: فعلوا الحسنى، وهو ما أمروا به، كذلك السيئة تتناول المحظور فيدخل فيها الشرك.


هامش

  1. [البقرة: 81]
  2. [البقرة: 201]
  3. [يونس: 27]
  4. [يونس: 26]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الرابع عشر
فصل في أسماء القرآن | فصل في الآيات الدالة على اتباع القرآن | سئل عن بعض الآحاديث هل هي صحيحة أم لا | فصل في ذكر فضائل الفاتحة | سورة الفاتحة | فصل في تفصيل حاجة الناس إلى الرب تبارك وتعالى | فصل في بيان أن الإنسان وجميع المخلوقات عباد لله | فصل في بيان أنه لا غنى عن الله تبارك وتعالى | فصل في بيان ما يصلح العباد من الأوامر والنواهي | فصل في ضرورة اقتفاء الصراط المستقيم | سورة البقرة | تفسير بعض آيات مشكلة في سورة البقرة | فصل في تفسيرقوله تعالى ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق | فصل في معنى المثل | تفسير بعض المشكل من الآيات | فصل في تقسيم ذمم أهل الكتاب | سئل عن معنى قوله تعالى ما ننسخ من آية | تفسير قوله تعالى يسألونك عن الشهر الحرام | سئل عن قوله تعالى ولا تنكحوا المشركات | فصل فيما يبطل الصدقة | فصل في تفسير قوله تعالى وإن تبدوا ما في أنفسكم | خواتيم سورة البقرة | فصل في الدعاء المذكور في آخر سورة البقرة | سورة آل عمران | فصل في كيفية شهادة الرب تبارك وتعالى | فصل في بيان حال الشهادة | فصل في بيان ما يتبع الشهادة من العزة والحكمة | فصل فيما تضمنته أية الشهادة | فصل في قوله تعالى وهو العزيز الحكيم | فصل في أهمية شهادة أولي العلم | فصل في بيان عظمت شهادة الرب تبارك وتعالى | فصل شهادة الرب بالسمع والبصر | فصل في بيان أن الصدق في جانب الله معلوم بالفطرة | فصل في بيان قوله تعالى لكن الله يشهد بما أنزل | فصل في بيان أن من شهادة الرب تبارك وتعالى ما يجعله في القلوب من العلم | سئل عن قوله تعالى ومن دخله كان آمنا | ما قاله الشيخ في قوله تعالى إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه | سورة النساء | سئل عن قوله تعالى واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن | فصل في قوله تعالى إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا | فصل في حكمة الجمع بين الخيلاء والفخر والبخل في الآيات | فصل في قول الناس الآدمي جبار ضعيف | تفسير قوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله | فصل في قوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله | فصل فيما يتناوله لفظ الحسنات والسيئات في القرآن الكريم | فصل في المعصية الثانية | فصل في معنى السيئات التي يعملها الإنسان | فصل ليس للقدرية أن يحتجوا بالآية من يعمل سوءا يجز به | فصل في ظن طائفة أن في الآية إشكالا | فصل في تأويل قوله تعالى وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك | فصل في ذكر كلام الجهمية | فصل في قول من قال لم فرق بين الحسنات والسيئات | فصل في أن الحسنات من فضل الله ومنه | فصل في أن الحسنات يضاعفها الله تبارك وتعالى | فصل في اضطراب الناس في مضاعفة الحسنات | فصل المقصود من الآية هو أن يشكر الإنسان ربه على هذه النعم | فصل في أن ما يحصل للإنسان من الحسنات أمر وجودي أنعم الله به عليه | فصل في تنازع الناس في الترك | فصل في أن الثواب والعقاب على أمر وجودي | فصل منشأ السيئات من الجهل والظلم | فصل في أن الغفلة والشهوة أصل الشر | فصل في بيان تفضل الله على العباد | فصل في الذنوب عقوبة للإنسان على عدم فعله ما خلق له | فصل في قوله تعالى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم | فصل في أن السيئات ليس لها سبب إلا نفس الإنسان | فصل في أن السيئات خبيثة مذمومة | فصل في حتمية ألا يطلب العبد الحسنات إلا من الله تعالى | فصل في تفسير قوله تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن | فصل في تفسير قوله تعالى ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم | فصل في أنه لا يجوز الجدال عن الخائن | سورة المائدة | فصل في تفسير قوله تعالى أوفوا بالعقود | فصل في تفسير قوله تعالى قوله: سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك | تفسير آيات أشكلت | فصل في تفسير قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم | فصل في بيان ما جاءت به الشريعة الإسلامية | فصل في تفسير قوله تعالى عليكم أنفسكم | فصل في تفسير قوله تعالى فيقسمان بالله إن ارتبتم | سورة الأنعام | تفسير قوله تعالى ثم قضى أجلا | فصل في أن الله عز وجل يرفع درجات من يشاء بالعلم | تفسير بعض الآيات المشكلة | فصل في تفسير قوله تعالى وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا