البداية والنهاية/الجزء الثاني/قريش نسبا واشتقاقا وفضلا وهم بنو النضر بن كنانة
قال ابن إسحاق: وأم النضر برة بنت مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر وسائر بنيه لامرأة أخرى.
وخالفه ابن هشام فجعل برة بنت مرام النضر ومالك وملكان، وأم عبد مناة هالة بنت سويد بن الغطريف من أزد شنوءة.
قال ابن هشام: النضر هو قريش، فمن كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي. وقال: ويقال فهر بن مالك هو قريش، فمن كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي.
وهذان القولان قد حكاهما غير واحد من أئمة النسب، كالشيخ أبي عمر ابن عبد البر، والزبير بن بكار، ومصعب، وغير واحد. قال أبو عبيد، وابن عبد البر: والذي عليه الأكثرون أنه النضر بن كنانة، لحديث الأسعد بن قيس، قلت: وهو الذي نص عليه هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وأبو عبيدة معمر بن المثنى، وهو جادة مذهب الشافعي رضي الله عنه.
ثم اختار أبو عمر أنه فهر بن مالك، واحتج بأنه ليس أحد اليوم ممن ينتسب إلى قريش إلا وهو يرجع في نسبه إلى فهر بن مالك. ثم حكى اختيار هذا القول عن الزبير بن بكار، ومصعب الزبيري، وعلي بن كيسان. قال: وإليهم المرجع في هذا الشأن.
وقد قال الزبير بن بكار: وقد أجمع نساب قريش وغيرهم أن قريشا إنما تفرقت من فهر بن مالك، والذي عليه من أدركتُ من نساب قريش أن ولد فهر بن مالك قرشي، وأن من جاوز فهر بن مالك بنسبه فليس من قريش، ثم نصر هذا القول نصرا عزيزا، وتحامى له بأنه ونحوه أعلم بأنساب قومهم وأحفظ لمآثرهم.
وقد روى البخاري من حديث كليب بن وائل قال: قلت لربيبة النبي ﷺ - يعني: زينب بنت أبي سلمى - في حديث ذكره أخبريني عن النبي ﷺ أكان من مضر؟ قالت: فممن كان إلا من مضر. من بني النضر بن كنانة.
وقال الطبراني: ثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني، حدثنا إسماعيل بن عمرو البجلي، ثنا الحسن بن صالح، عن أبيه، عن الجشيش الكندي قال: جاء قوم من كندة إلى رسول الله ﷺ فقالوا: أنت منا وادعوه.
فقال: « لا نحن بنو النضر بن كنانة لا نقف أمنا، ولا ننتفي من أبينا ».
وقال الإمام أبو عثمان سعيد بن يحيى بن سعيد: ثنا أبي، ثنا الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: جاء رجل من كندة يقال له الجشيش إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله إنا نزعم أن عبد مناف منا، فأعرض عنه، ثم عاد فقال مثل ذلك، ثم أعرض عنه، ثم عاد فقال مثل ذلك فقال النبي ﷺ:
« نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفُ أمنا ولا ننتفي من أبينا ».
فقال الأشعث: ألا كنت سكت من المرة الأولى، فأبطل ذلك قولهم على لسان نبيه ﷺ، وهذا غريب أيضا من هذا الوجه، والكلبي ضعيف، والله أعلم.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا بهز وعفان قالا: ثنا حماد بن سلمة قال: ثني عقيل بن أبي طلحة، وقال عفان: عقيل بن طلحة السلمي، عن مسلم بن الهيصم، عن الأشعث بن قيس أنه قال: أتيت رسول الله ﷺ في وفد كندة، قال عفان: لا يروني أفضلهم قال فقلت يا رسول الله: إنا نزعم أنكم منا.
قال: فقال رسول الله ﷺ: « نحن بنو النضر بن كنانة لا نقف أمنا ولا ننتفي من أبينا ».
قال: فقال الأشعث بن قيس: فوالله لا أسمع أحدا نفى قريشا من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد. وهكذا رواه ابن ماجه من طرق عن حماد بن سلمة به. وهذا إسناد جيد قوي. وهو فيصل في هذه المسألة فلا التفات إلى قول من خالفه، والله أعلم ولله الحمد والمنة.
وقد قال جرير بن عطية التميمي يمدح هشام بن عبد الملك بن مروان:
فما الأم التي ولدت قريشا * بمُقْرِفَة النجار ولا عقيم
وما قِرْمٌ بأنجبَ من أبيكم * ولا خالٌ بأكرم من تميم
قال ابن هشام: يعني أم النضر بن كنانة وهي برة بنت مر أخت تميم بن مر.
وأما اشتقاق قريش فقيل من التقرش وهو: التجمع بعد التفرق وذلك في زمن قصي بن كلاب، فإنهم كانوا متفرقين فجمعهم بالحرم كما سيأتي بيانه، وقد قال حذافة بن غانم العدوي:
أبوكم قصي كان يدعى مجمعا * به جمع الله القبائل من فِهْر
وقال بعضهم: كان قصي يقال له قريش قيل: من التجمع.
والتقرش: التجمع، كما قال أبو خلدة اليشكري:
إخوة قرشوا الذنوب علينا * في حديث من دهرنا وقديم
وقيل: سميت قريش من التقرش، وهو: التكسب والتجارة. حكاه ابن هشام رحمه الله. وقال الجوهري: القرش الكسب والجمع، وقد قرش يقرش. قال الفراء: وبه سميت قريش وهي قبيلة وأبوهم النضر بن كنانة، فكل من كان من ولده فهو قرشي دون ولد كنانة فما فوقه.
وقيل: من التفتيش. قال هشام بن الكلبي: كان النضر بن كنانة تسمى قريشا لأنه كان يقرش عن خلة الناس وحاجتهم فيسدها بماله. والتقريش هو: التفتيش، وكان بنوه يقرشون أهل الموسم عن الحاجة فيرفدونهم بما يبلغهم بلادهم فسموا بذلك من فعلهم، وقرشهم قريشا، وقد قال الحارث بن حلزة في بيان أن التقرش التفتيش:
أيها الناطق المقرش عنا * عند عمرو فهل له إبقاء
حكى ذلك الزبير بن بكار.
وقيل: قريش تصغير قرش، وهو دابة في البحر قال بعض الشعراء:
وقريش هي التي تسكن البحر * بها سميت قريش قريشا
قال البيهقي: أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أنا أبو الحسن علي بن عيسى الماليني، حدثنا محمد بن الحسن بن الخليل النسوي أن أبا كريب حدثهم، حدثنا وكيع بن الجراح، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي ركانة العامري أن معاوية قال لابن عباس: فلم سميت قريش قريشا؟ فقال: لدابة تكون في البحر تكون أعظم دوابه، فيقال لها: القرش لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته. قال فأنشدني في ذلك شيئا فأنشدته شعر الجمحي إذ يقول:
وقريش هي التي تسكن البحر * بها سميت قريش قريشا
تأكل الغث والسمين ولا * تتركن لذي الجناحين ريشا
هكذا في البلاد حي قريش * يأكلون البلاد أكلا كميشا
ولهم آخر الزمان نبي * يكثر القتل فيهم والخموشا
وقيل: سموا بقريش بن الحارث بن يخلد بن النضر بن كنانة، وكان دليل بني النضر وصاحب ميرتهم، فكانت العرب تقول: قد جاءت عير قريش.
قالوا: وابن بدر بن قريش هو الذي حفر البئر المنسوبة إليه التي كانت عندها الوقعة العظمى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، والله أعلم
ويقال في النسبة إلى قريش قرشي وقريشي، قال الجوهري وهو القياس. قال الشاعر:
لكل قريشي عليه مهابة * سريع إلى داعي الندا والتكرم
قال فإذا أردت بقريش الحي صرفته وإن أردت القبيلة منعته، قال الشاعر في ترك الصرف: * وكفى قريش المعضلات وسادها
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي عمرو الأوزاعي قال: حدثني شداد أبو عمار، حدثني واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله ﷺ:
« إن الله تعالى اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى هاشما من قريش، واصطفاني من بني هاشم ».
قال أبو عمر بن عبد البر: يقال بنو عبد المطلب فصيلة رسول الله ﷺ، وبنو هاشم فخذه، وبنو عبد مناف بطنه، وقريش عمارته، وبنو كنانة قبيلته، ومضر شعبه، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين.
ثم قال ابن إسحاق: فولد النضر بن كنانة مالكا ومخلدا، قال ابن هشام والصلت: وأمهم جميعا بنت سعد بن الظرب العدواني.
قال كثير بن عبد الرحمن وهو كثير عزة أحد بني مُلَيح بن عمرو من خزاعة:
أليس أبي بالصلت أم ليس إخوتي * لكل هجان من بني النضر أزهرا
رأيت ثياب العصب مختلط السدي * بنا وبهم والحضرمي المخصرا
فإن لم تكونوا من بني النضر فاتركوا * أراكا بأذناب الفواتج أخضرا
قال ابن هشام: وبنو مليح بن عمرو يعزون إلى صلت بن النضر.
قال ابن إسحاق: فولد مالك بن النضر فهر بن مالك، وأمه جندلة بنت الحارث بن مضاض الأصغر، وولد فهر غالبا ومحاربا والحارث وأسدا وأمهم ليلى بنت سعد بن هذيل بن مدركة.
قال ابن هشام: وأختهم لأبيهم جندلة بنت فهر.
قال ابن إسحاق: فولد غالب بن فهر لؤي بن غالب وتيم بن غالب، وهم الذين يقال لهم بنو الأدرم، وأمهما سلمى بنت عمرو الخزاعي.
قال ابن هشام: وقيس بن غالب وأمه سلمى بنت كعب بن عمرو الخزاعي، وهي أم لؤي.
قال ابن إسحاق: فولد لؤي بن غالب أربعة نفر: كعبا وعامرا وسامة وعوفا.
قال ابن هشام ويقال: والحارث، وهم جشم بن الحارث في هزان من ربيعة، وسعد بن لؤي وهما بنانة في شيبان بن ثعلبة وبنانة حاضنة لهم، وخزيمة بن لؤي، وهم عايذة في شيبان بن ثعلبة.
ثم ذكر ابن إسحاق خبر سامة بن لؤي وأنه خرج إلى عُمان، فكان بها. وذلك لشنآن كان بينه وبين أخيه عامر فأخافه عامر فخرج عنه هاربا إلى عمان، وأنه مات بها غريبا وذلك أنه كان يرعى ناقته فعلقت حية بمشفرها فوقعت لشقها، ثم نهشت الحية سامة حتى قتلته، فيقال: إنه كتب بأصبعه على الأرض:
عين فابكي لسامة بن لؤي * علقت ما بسامة العلاَّقه
لا أرى مثل سامة بن لؤي * يوم حلوا به قتيلا لناقه
بلّغا عامرا وكعبا رسولا * أن نفسي إليهما مشتاقه
إن تكن في عمان داري فإني * غالبيّ خرجت من غير فاقه
رب كأس هرقت يا ابن لؤي * حذر الموت لم تكن مهراقه
رمتَ دفع الحتوف يا بن لؤي * ما لمن رام ذاك بالحتف طاقة
وخروس السرى تركت رزيا * بعد جِد وحِدَّة ورشاقه
قال ابن هشام: وبلغني أن بعض ولده أتى رسول الله ﷺ فانتسب إلى سامة بن لؤي.
فقال له رسول الله ﷺ: « آلشاعر؟ ».
فقال له بعض أصحابه: كأنك يا رسول الله أردت قوله؟
رب كأس هرقت يا ابن لؤي * حذر الموت لم تكن مهراقه
فقال: « أجل ».
وذكر السهيلي عن بعضهم أنه لم يعقب. وقال الزبير: ولد أسامة بن لؤي غالبا والنبيت والحارث قالوا: وكانت له ذرية بالعراق يبغضون عليا ومنهم: علي بن الجعد كان يشتم أباه لكونه سماه عليا، ومن بني سامة بن لؤي محمد بن عرعرة بن اليزيد شيخ البخاري
وقال ابن إسحاق: وأما عوف بن لؤي فإنه خرج - فيما يزعمون - في ركب من قريش حتى إذا كان بأرض غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان، أبطئ به، فانطلق من كان معه من قومه، فأتاه ثعلبة بن سعد، وهو أخوه في نسب بني ذبيان، فحبسه وزوجه والتاطه وآخاه. فشاع نسبه في ذبيان. وثعلبة - فيما يزعمون -
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، أو محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين أن عمر بن الخطاب قال: لو كنت مدعيا حيا من العرب أو ملحقهم بنا لادعيت بني مرة بن عوف، إنا لنعرف منهم الأشباه مع ما نعرف من موقع ذلك الرجل حيث وقع، يعني عوف بن لؤي.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم أن عمر بن الخطاب قال لرجال منهم من بني مرة: إن شئتم أن ترجعوا إلى نسبكم فارجعوا إليه.
قال ابن إسحاق: وكان القوم أشرافا في غطفان هم سادتهم وقادتهم، قوم لهم صيت في غطفان وقيس كلها، فأقاموا على نسبهم قالوا: وكانوا يقولون إذا ذكر لهم نسبهم: ما ننكره وما نجحده وإنه لأحب النسب إلينا، ثم ذكر أشعارهم في انتمائهم إلى لؤي.
قال ابن إسحاق: وفيهم كان البسل، وهو تحريم ثمانية أشهر لهم من كل سنة من بين العرب، وكانت العرب تعرف لهم ذلك ويأمنونهم فيها ويؤمنونهم أيضا، قلت: وكانت ربيعة ومضر إنما يحرمون أربعة أشهر من السنة وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، واختلفت ربيعة ومضر في الرابع وهو رجب.
فقالت مضر: هو الذي بين جمادى وشعبان. وقالت ربيعة: هو الذي بين شعبان وشوال.
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي بكرة أن رسول الله ﷺ قال في خطبة حجة الوداع:
« إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ». فنص على ترجيح قول مضر لا ربيعة.
وقد قال الله عز وجل: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } [التوبة: 36] فهذا رد على بني عوف بن لؤي في جعلهم الأشهر الحرم ثمانية، فزادوا على حكم الله وأدخلوا فيه ما ليس منه. وقوله في الحديث: ثلاث متواليات رد على أهل النسيء الذين كانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر. وقوله فيه: ورجب مضر رد على ربيعة.
قال ابن إسحاق: فولد كعب بن لؤي ثلاثة: مرة، وعديا، وهصيصا. وولد مرة ثلاثة أيضا: كلاب بن مرة، وتيم بن مرة، ويقظة بن مرة، من أمهات ثلاث. قال: وولد كلاب رجلين: قصي بن كلاب، وزهرة بن كلاب، وأمهما فاطمة بنت سعد بن سيل أحد بني الجُدّرَة من جعثمة الأسد من اليمن، حلفاء بني الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وفي أبيها يقول الشاعر:
ما نرى في الناس شخصا واحدا * من علمناه كسعد بن سيل
فارسا أضبط فيه عسرة * وإذا ما واقف القِرن نزل
فارسا يستدرج الخيل كما استدرج * الحر القطامي الحجل
قال السهيلي: سيل اسمه خير بن جمالة، وهو أول من طليت له السيوف بالذهب والفضة.
قال ابن إسحاق: وإنما سمو الجدرة، لأن عامر بن عمرو بن خزيمة بن جعثمة تزوج بنت الحارث بن مضاض الجرهمي، وكانت جرهم إذ ذاك ولاة البيت، فبنى للكعبة جدارا فسمى عامر بذلك الجادر، فقيل لولده الجدرة لذلك.