البداية والنهاية/الجزء الثاني/خبر ذي القرنين
قال تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبا * فَأَتْبَعَ سَبَبا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْما قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابا نُكْرا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْما لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْما * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّا } . [الكهف: 83-98] .
ذكر الله تعالى ذا القرنين هذا، وأثنى عليه بالعدل، وأنه بلغ المشارق والمغارب، وملك الأقاليم وقهر أهلها، وسار فيهم بالمعدلة التامة، والسلطان المؤيد، المظفر، المنصور، القاهر، المقسط، والصحيح: أنه كان ملكا من الملوك العادلين، وقيل: كان نبيا، وقيل: رسولا، وأغرب من قال: ملكا من الملائكة.
وقد حكى هذا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فإنه سمع رجلا يقول لآخر: يا ذا القرنين، فقال: مه ما كفاكم أن تتسموا بأسماء الأنبياء، حتى تسميتم بأسماء الملائكة. ذكره السهيلي.
وقد روى وكيع عن إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قال: كان ذو القرنين نبيا.
وروى الحافظ ابن عساكر من حديث أبي محمد بن أبي نصر، عن أبي إسحاق بن إبراهيم بن محمد بن أبي ذؤيب، حدثنا محمد بن حماد، أنبأنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن أبي ذؤيب، عن المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « لا أدري أتبع كان لعينا أم لا، ولا أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا، ولا أدري ذو القرنين كان نبيا أم لا ». وهذا غريب من هذا الوجه.
وقال إسحاق بن بشر: عن عثمان بن الساج، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان ذو القرنين ملكا صالحا، رضي الله عمله، وأثنى عليه في كتابه، وكان منصورا، وكان الخضر وزيره، وذكر أن الخضر عليه السلام كان على مقدمة جيشه، وكان عنده بمنزلة المشاور، الذي هو من الملك بمنزلة الوزير في إصلاح الناس اليوم.
وقد ذكر الأزرقي وغيره أن ذا القرنين أسلم على يدي إبراهيم الخليل، وطاف معه بالكعبة المكرمة هو وإسماعيل عليه السلام.
وروى عن عبيد بن عمير، وابنه عبد الله وغيرهما، أن ذا القرنين حج ماشيا، وأن إبراهيم لما سمع بقدومه تلقاه، ودعا له ورضاه، وأن الله سخر لذي القرنين السحاب يحمله حيث أراد، والله اعلم.
واختلفوا في السبب الذي سمى به ذا القرنين فقيل: لأنه كان له في رأسه شبه القرنين، قال وهب بن منبه: كان له قرنان من نحاس في رأسه، وهذا ضعيف.
وقال بعض أهل الكتاب: لأنه ملك فارس والروم، وقيل: لأنه بلغ قرني الشمس غربا وشرقا، وملك ما بينهما من الأرض، وهذا أشبه من غيره، وهو قول الزهري. وقال الحسن البصري: كانت له غديرتان من شعر يطافهما، فسمي ذي القرنين.
وقال إسحاق بن بشر، عن عبد الله بن زياد بن سمعان، عن عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده أنه قال: دعا ملكا جبارا إلى الله فضربه على قرنه فكسره ورضه، ثم دعاه فدق قرنه الثاني فكسره، فسمي ذي القرنين.
وروى الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل، عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن ذي القرنين، فقال: كان عبدا ناصح الله فناصحه، دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه الآخر، فمات فسمي ذا القرنين.
وهكذا رواه شعبة القاسم بن أبي بزة، عن أبي الطفيل، عن علي به. وفي بعض الروايات عن أبي الطفيل عن علي قال: لم يكن نبيا ولا رسولا ولا ملكا، ولكن كان عبدا صالحا.
وقد اختلف في اسمه: فروى الزبير بن بكار عن ابن عباس: كان اسمه عبد الله بن الضحاك بن معد، وقيل: مصعب بن عبد الله بن قنان بن منصور بن عبد الله بن الأزد بن عون بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبا بن قحطان.
وقد جاء في حديث: أنه كان من حمير، وأمه رومية، وأنه كان يقال له ابن الفيلسوف لعقله. وقد أنشد بعض الحميريين في ذلك شعرا يفتخر بكونه أحد أجداده، فقال:
قد كان ذو القرنين جدي مسلما * ملكا تدين له الملوك وتحشد
بلغ المشارق والمغارب يبتغي * أسباب أمر من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها * في عين ذي خلب وثأط حرمد
من بعده بلقيس كانت عمتي * ملكتهم حتى أتاها الهدهد
قال السهيلي: وقيل: كان اسمه مرزبان بن مرزبة. ذكره ابن هشام. وذكر في موضع آخر أن اسمه الصعب بن ذي مرائد، وهو أول التبابعة، وهو الذي حكم لإبراهيم في بئر السبع.
وقيل: إنه أفريدون بن أسفيان الذي قتل الضحاك، وفي خطبة قس: يا معشر إياد بن الصعب ذو القرنين، ملك الخافقين، وأذل الثقلين، وعمر ألفين، ثم كان كلحظة عين، ثم أنشد ابن هشام للأعشى:
والصعب ذو القرنين أصبح ثاويا * بالجنو في جدث أشم مقيما
وذكر الدارقطني، وابن ماكولا أن اسمه هرمس، ويقال: هرويس بن قيطون بن رومى بن لنطى بن كشلوخين بن يونان بن يافث بن نوح، فالله اعلم.
وقال إسحاق بن بشر: عن سعيد بن بشير، عن قتادة، قال اسكندر: هو ذو القرنين، وأبوه أول القياصرة، وكان من ولد سام بن نوح عليه السلام، فأما ذو القرنين الثاني فهو: اسكندر بن فيلبس بن مصريم بن هرمس بن ميطون بن رومي بن لنطي بن يونان بن يافث بن يونة بن شرخون بن رومة بن شرفط بن توفيل بن رومي بن الأصفر بن يقز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم، الخليل كذا نسبه الحافظ ابن عساكر في تاريخه.
المقدوني اليوناني المصري باني إسكندرية، الذي يؤرخ بأيامه الروم، وكان متأخرا عن الأول بدهر طويل، كان هذا قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة، وكان أرطاطاليس الفيلسوف وزيره، وهو الذي قتل دارا بن دارا، وأذل ملوك الفرس، وأوطأ أرضهم.
وإنما نبهنا عليه لأن كثيرا من الناس يعتقد أنهما واحد، وأن المذكور في القرآن، هو الذي كان أرطاطاليس وزيره فيقع بسبب ذلك خطأ كبير، وفساد عريض طويل كثير، فإن الأول: كان عبدا مؤمنا صالحا وملكا عادلا، وكان وزيره الخضر، وقد كان نبيا على ما قررناه قبل هذا.
وأما الثاني: فكان مشركا، وكان وزيره فيلسوفا، وقد كان بين زمانهما أزيد من ألفي سنة، فأين هذا من هذا لا يستويان ولا يشتبهان إلا على غبي لا يعرف حقائق الأمور.
فقوله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ } كان سببه أن قريشا سألوا اليهود عن شيء يمتحنون به علم رسول الله ﷺ، فقالوا لهم: سلوه عن رجل طوَّاف في الأرض، وعن فتية خرجوا لا يدري ما فعلوا، فأنزل الله تعالى قصة أصحاب الكهف، وقصة ذي القرنين، ولهذا قال: { قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرا } أي: من خبره وشأنه.
{ ذِكْرا } أي: خبرا نافعا كافيا في تعريف أمره، وشرح حاله، فقال: { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبا } أي: وسعنا مملكته في البلاد، وأعطيناه من آلات المملكة ما يستعين به على تحصيل ما يحاوله من المهمات العظيمة، والمقاصد الجسيمة.
قال قتيبة: عن أبي عوانة، عن سماك، عن حبيب بن حماد، قال: كنت عند علي بن أبي طالب، وسأله رجل عن ذي القرنين كيف بلغ المشرق والمغرب؟
فقال له: سخر له السحاب، ومدت له الأسباب، وبسط له في النور، فكان الليل و النهار عليه سواء.
وقال: أزيدك، فسكت الرجل، وسكت علي رضي الله عنه.
وعن أبي إسحاق السبيعي عن عمرو بن عبد الله الوادعي، سمعت معاوية يقول: ملك الأرض أربعة: سليمان بن داود النبي عليهما السلام، وذو القرنين، ورجل من أهل حلوان، ورجل آخر.
فقيل له الخضر؟
قال: لا.
وقال الزبير بن بكار: حدثني إبراهيم بن المنذر، عن محمد بن الضحاك، عن أبيه، عن سفيان الثوري قال: بلغني أنه ملك الأرض كلها أربعة: مؤمنان وكافران، سليمان النبي، وذو القرنين، و نمرود، وبخت نصر. وهكذا قال سعيد بن بشير سواء.
وقال إسحاق بن بشر: عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن قال: كان ذو القرنين ملك بعد النمرود، وكان من قصته أنه كان رجلا مسلما صالحا، أتى المشرق والمغرب، مدَّ الله له في الأجل، ونصره حتى قهر البلاد، واحتوى على الأموال، وفتح المدائن، وقتل الرجال، وجال في البلاد والقلاع، فسار حتى أتى المشرق والمغرب.
فذلك قول الله: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرا } أي: خبرا { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبا } أي: علما بطلب أسباب المنازل.
قال إسحاق: وزعم مقاتل أنه كان يفتح المدائن ويجمع الكنوز، فمن اتبعه على دينه وتابعه عليه وإلا قتله.
وقال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وعبيد بن يعلى، والسدي، وقتادة، والضحاك: { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبا } يعني: علما.
وقال قتادة ومطر الوراق: معالم الأرض ومنازلها وأعلامها وآثارها. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني تعليم الألسنة، كان لا يغزو قوما إلا حدثهم بلغتهم.
والصحيح أنه يعم كل سبب يتوصل به إلى نيل مقصوده في المملكة وغيرها، فإنه كان يأخذ من كل إقليم من الأمتعة والمطاعم والزاد ما يكفيه، ويعينه على أهل الإقليم الآخر.
وذكر بعض أهل الكتاب أنه مكث ألفا وستمائة سنة، يجوب الأرض ويدعو أهلها إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وفي كل هذه المدة نظر، والله أعلم.
وقد روى البيهقي، وابن عساكر حديثا متعلقا بقوله: { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبا } مطولا جدا، وهو منكر جدا، وفي إسناده محمد بن يونس الكديمي، وهو متهم، فلهذا لم نكتبه لسقوطه عندنا، والله أعلم.
وقوله: { فَأَتْبَعَ سَبَبا } أي: طريقا { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ } يعني من الأرض انتهى إلى حيث لا يمكن أحدا أن يجاوزه، ووقف على حافة البحر المحيط الغربي الذي يقال له أوقيانوس، الذي فيه الجزائر المسماة بالخالدات، التي هي مبدأ الأطوال على أحد قولي أرباب الهيئة، والثاني من ساحل هذا البحر كما قدمنا، وعنده شاهد مغيب الشمس فيما رآه بالنسبة إلى مشاهدته.
{ تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } والمراد بها: البحر في نظره، فإن من كان في البحر أو على ساحله يرى الشمس كأنها تطلع من البحر وتغرب فيه، ولهذا قال: { وَجَدَهَا } أي: في نظره، ولم يقل: فإذا هي تغرب في عين حمئة أي: ذات حمأة.
قال كعب الأحبار: وهو الطين الأسود، وقرأه بعضهم: حامية، فقيل: يرجع إلى الأول، وقيل: من الحرارة، وذلك من شدة المقابلة لوهج ضوء الشمس وشعاعها.
وقد روى الإمام أحمد عن يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب: حدثني مولى لعبد الله بن عمرو، عن عبد الله قال: نظر رسول الله ﷺ إلى الشمس حين غابت فقال: « في نار الله الحامية، لولا ما يزعها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض ».
فيه غرابة، وفيه رجل مبهم لم يسم، ورفعه فيه نظر، وقد يكون موقوفا من كلام عبد الله بن عمرو، فإنه أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب المتقدمين، فكان يحدث منها، والله أعلم.
ومن زعم من القصَّاص أن ذا القرنين جاوز مغرب الشمس، وصار يمشي بجيوشه في ظلمات مددا طويلة، فقد أخطأوا بعد النجعة، وقال ما يخالف العقل والنقل.