البداية والنهاية/الجزء الثامن/الأحنف بن قيس
أبو معاوية بن حصين التميمي السعدي أبو بحر البصري ابن أخي صعصعة بن معاوية، والأحنف لقب له، وإنما اسمه: الضحاك.
وقيل: صخر.
أسلم في حياة النبي ﷺ ولم يره، وجاء في حديث أن رسول الله ﷺ دعا له، وكان سيدا شريفا مطاعا مؤمنا، عليم اللسان، وكان يضرب بحلمه المثل، وله أخبار في حلمه سارت بها الركبان.
قال عنه عمر بن الخطاب: هو مؤمن عليم اللسان.
وقال الحسن البصري: ما رأيت شريف قوم أفضل منه.
وقال أحمد بن عبد الله العجلي: هو بصري، تابعي ثقة، وكان سيد قومه، وكان أعور، أحيف الرجلين، ذميما، قصيرا كوسجا له بيضة واحدة.
احتبسه عمر عن قومه سنة يختبره، ثم قال: هذا والله السيد - أو قال: السؤدد -.
وقيل: إنه خطب عند عمر فأعجبه منطقه.
قيل: ذهبت عينه بالجدري.
وقيل: في فتح سمرقند.
وقال يعقوب بن سفيان: كان الأحنف جوادا حليما، وكان رجلا صالحا.
أدرك الجاهلية ثم أسلم، وذكر للنبي ﷺ فاستغفر له، وقال: كان ثقة مأمونا قليل الحديث، وكان كثير الصلاة بالليل، وكان يسرج المصباح ويصلي ويبكي حتى الصباح، وكان يضع إصبعه في المصباح ويقول: حسَّ يا أحنف، ما حملك على كذا؟ ما حملك على كذا؟
ويقول لنفسه: إذا لم تصبر على المصباح فكيف تصبر على النار الكبرى؟
وقيل له: كيف سودك قومك وأنت أرذلهم خلقة؟
قال: لو عاب قومي الماء ما شربته.
كان الأحنف من أمراء علي يوم صفين، وهو الذي صالح أهل بلخ على أربعمائة ألف دينار في كل سنة.
وله وقائع مشهودة مشهورة، وقتل من أهل خراسان خلقا كثيرا في القتال بينهما، وانتصر عليهم.
وقال الحاكم: وهو الذي افتتح مرو الروذ، وكان الحسن وابن سيرين في جيشه، وهو الذي افتتح سمرقند وغيرها من البلاد.
وقيل: أنه مات سنة سبع وستين.
وقيل غير ذلك، عن سبعين سنة.
وقيل: عن أكثر من ذلك.
ومن كلامه وقد سئل عن الحلم ما هو؟
فقال: الذل مع الصبر.
وكان إذا تعجب الناس من حلمه يقول: والله إني لأجد ما يجدون، ولكني صبور.
وقال: وجرت الحلم أنصر لي من الرجال، وقد انتهى إليه الحلم والسؤدد، وقال: أحيي معروفك بإماتة ذكره.
وقال: عجبت لمن يجري مجرى البول مرتين كيف يتكبر؟
وقال: ما أتيت باب أحد من هؤلاء إلا أن أُدعى، ولا دخلت بين اثنين إلا أن يدخلاني بينهما.
وقيل له: بم سدت قومك؟
قال: بتركي من الأمر ما لا يعنيني، كما عناك من أمري ما لا يعنيك.
وأغلظ له رجل في الكلام وقال: والله يا أحنف لئن قلت لي واحدة لتسمعن بدلها عشرا.
فقال له: إنك إن قلت لي عشرا لا تسمع مني واحدة.
وكان يقول في دعائه: اللهم إن تعذبني فأنا أهل لذلك، وإن تغفر لي فأنت أهل لذلك.
وقد كان زياد بن أبيه يقربه ويدنيه، فلما مات زياد وولى ابنه عبيد الله لم يرفع به رأسا، فتأخرت عنده منزلته، فلما وفد برؤساء أهل العراق على معاوية أدخلهم عليه على مراتبهم عنده، فكان الأحنف آخر من أدخله عليه.
فلما رآه معاوية أجله وعظمه، وأدناه وأكرمه، وأجلسه معه على الفراش، ثم أقبل عليه يحادثه دونهم، ثم شرع الحاضرون في الثناء على ابن زياد والأحنف ساكت.
فقال له معاوية: مالك لا تتكلم؟
قال: إن تكلمت خالفتهم.
فقال معاوية: أشهدكم أني قد عزلته عن العراق، ثم قال لهم: انظروا لكم نائبا، وأَجَّلَهُم ثلاثة أيام، فاختلفوا بينهم اختلافا كثيرا، ولم يذكر أحد منهم بعد ذلك عبيد الله، ولا طلبه أحد منهم، ولم يتكلم الأحنف في ذلك كلمة واحدة مع أحد منهم.
فلما اجتمعوا بعد ثلاث أفاضوا في ذلك الكلام وكثر اللغط، وارتفعت الأصوات والأحنف ساكت.
فقال له معاوية: تكلم.
فقال له: إن كنت تريد أن تولي فيها أحدا من أهل بيتك فليس فيهم من هو مثل عبيد الله، فإنه رجل حازم لا يسد أحد منهم مسده، وإن كنت تريد غيره فأنت أعلم بقرابتك.
فرده معاوية إلى الولاية، ثم قال له بينه وبينه: كيف جهلت مثل الأحنف؟ إنه هو الذي عزلك وولاك وهو ساكت، فعظمت منزلة الأحنف بعد ذلك عند ابن زياد جدا.
توفي الأحنف بالكوفة وصلى عليه مصعب بن الزبير، ومشى في جنازته، وقد تقدمت له حكاية.
ذكر الواقدي أنه قدم على معاوية فوجده غضبان على ابنه يزيد، وأنه أصلح بينهما بكلام.
قال: فبعث معاوية إلى يزيد بمالٍ جزيل وقماش كثير، فأعطى يزيد نصفه للأحنف، والله سبحانه أعلم.