أدب الطلب/كيفية الوصول إلى المرتبة الأولى للعلم
كيفية الوصول إلى المرتبة الأولى للعلم
أما أهل الطبقة الأولى التي هي في أرفع مكان وأعز محل يرتقي إليه علماء الشريعة على حسب ما قدمنا بيانه فينبغي لمن تصور الوصول إليها وقصد الإدراك لها علم النحو أن يشرع بعلم النحو مبتدئا بالمختصرات كمنظومة الحريري المسماه بالملحة وشروحها فإذا فهم ذلك وأتقنه انتقل إلى كافية ابن الحاجب وشروحها و مغنى اللبيب وشروحه هذا باعتبار هذه الديار اليمنية إذا كان طالب العلم فيها لأنه يجد شيوخ هذه المصنفات ولا يجد شيوخ غيرها من مصنفات النحو إلا باعتبار الوجادة لا باعتبار السماع فإذا كان ناشئا في أرض يشتغلون فيها بغير هذه المصنفات فعليه الاشتغال بما اشتغل به مشائخ تلك الأرض مبتدئا بما هو أقربها تناولا منتهيا إلى ما هو النهاية للمشتغلين بذلك الفن وذلك القطر فأعرف هذا وأعلم أن ما أسميه هاهنا إنما هو باعتبار ما يشتغل به الناس في الديار اليمنية فمن كان في غيرها فليأخذ عن شيوخها في كل فن مقدارا يوافق ما أذكره هنا وأعلم أنه لا يستغني طالب العلم المتصور المتبحر في علم الشريعة العازم على أن يكون من أهل الطبقة الأولى عن إتقان ما اشتمل عليه شرح الرضي على الكافية من المباحث اللطيفة والفوائد الشريفة وكذلك ما في مغنى اللبيب من المسائل الغريبة ويكون اشتغاله بسماع شروح المختصرات بعد أن تكون هذه المختصرات محفوظة له حفظا يمليه عن ظهر قلب ويبديه من طرف لسانه وأقل الأحوال أن يحفظ مختصرا منها هو أكثرها مسائل وأنفعها فوائد ولا يفوته النظر في مثل الألفية لابن مالك وشروحها والتسهيل وشرحه و المفضل للزمخشري و الكتاب لسيبويه فإنه يجد في هذه الكتب من لطائف المسائل النحوية ودقائق المباحث العربية ما لم يكن قد وجده في تلك وينبغي للطالب المذكور أن يطلع على مختصرات المنطق ويأخذه عن شيوخه ويفهم معانيه بعد أن يفهم النحو يفهم ما يبتدئ به من كتبه ليستعين بذلك على فهم ما يورده المصنفون في مطولات كتب النحو ومتوسطاتها من المباحث النحوية ويكفيه في ذلك مثل المختصر المعروف بإيساغوجي أو تهذيب السعد وشرح من شروحهما وسيأتي بيان ما ينبغي الاشتغال به من فن المنطق إن شاء الله وليس المراد هنا إلا الاستعانة بمعرفة مباحث التصورات والتصديقات إجمالا لئلا يعثر على بحث من مباحث العربية من نحو أو صرف أو بيان قد سلك فيه صاحب الكتاب مسلكا على النمط الذي سلكه أهل المنطق فلا يفهمه كما يقع كثيرا من الحدود والإلزامات فإن أهل العربية يتكلمون بذلك بكلام المناطقة فإذا كان الطالب عاطلا عن علم المنطق بالمرة فلم يفهم تلك المباحث كما ينبغي علم الصرف ثم بعد ثبوت الملكة له في النحو وإن لم يكن قد فرغ من سماع من سميناه يشرع في الاشتغال في علم الصرف كالشافية وشرحها و الريحانية ولامية الأفعال ولا يكون عالما بعلم الصرف كما ينبغي إلا بعد أن تكون الشافية من محفوظاته لانتشار مسائل فن الصرف وطول ذيل قواعده وتشعب أبوابه ولا يفوته الاشتغال بشرح الرضى على الشافية بعد أن يشتغل بما هو أخصر منه من شرحها كشرح الجاربردي و لطف الله الغياث فإن فيه من الفوائد الصرفيه ما لا يوجد في غيره علم المعاني والبيان ثم ينبغي له بعد ثبوت الملكة له نحوا وصرفا وإن لم يكن قد فرغ من سماع كتب الفنين أن يشرع في علم المعاني والبيان فيبتدئ بحفظ مختصر من مختصرات الفن يشتمل على مهمات مسائله كالتلخيص و شرح السعد المختصر وما عليه من الحواشي وشرحه المطول وحواشيه فإنه إذا حفظ هذا المختصر وحقق الشرحين المذكورين وحواشيهما بلغ إلى مكان من الفن مكين فقد أحاطت هذه الجملة بما في مؤلفات المتقدمين من شراح المفتاح ونحوه وإذا ظفر بشيء من مؤلفات عبد القاهر الجرجاني والسكاكي في هذا الفن فليمعن النظر فيه فإنه يقف في تلك المؤلفات على فوائد فن الوضع والمناظرة وينبغي له حال الاشتغال بهذا الفن أن يشتغل بفنون مختصرة قريبة المأخذ قليلة المباحث كفن الوضع وفن المناظرة ويكفيه في الأول رسالة الوضع وشرح من شروحها وفي الثاني أدب البحث العضديه وشرح من شروحها وقد تشعبت مسائل علم المناظرة في الأزمنة الأخيرة فوصل رجل من الأكراد من طلبة العلم ومعه رسالة وشرحها يذكر أنها لبعض علماء الهند ولم يعرف اسمه وفيها من الفوائد وشروحها والتفاصيل ما لا يوجد في الآداب العضدية وشروحها إلا ما هو بالنسبة إليه كالرموز وقد نقلها الناس عنه وانتشرت بين علماء صنعاء وهي في نحو ثلاثة كراريس مشتملة على مقدمة وتسعة مباحث ولا يستغني طالب هذا الفن عن إمعان النظر فيها وقد اشتغلت بهذه الرسالة وقابلتها معه على نسخته ولم يكن له من الفهم والاستعداد ما يبلغ به إلى أن تؤخذ عنه هذه الرسالة وشرحها رواية ولا دراية مع كونه كان من أهل الصلاح والإكباب على الطلب والرغبة في العلم وكما تشعبت مباحث علم المناظرة فقد تشعبت أيضا عند المتأخرين مباحث علم البديع فإن الموجود في كتب المتقدمين من أنواعه اللفظية والمعنوية دون أربعين نوعا وعند أهل البديعيات زيادة على مائة وخمسين نوعا
وأخبرني الشيخ عبد الرحمن بن أحمد الرئيس من علماء الحرم المكي عند وفوده إلى صنعاء أنه قد أنهاها بعض المتأخرين إلى نحو سبع مائة نوع وأنه وقف على رسالة أو منظومة الشك مني لبعض المتأخرين تشتمل على ذلك وأنا بحمد الله قد استخرجت أنواعا من البديع وذكرت لها أسماء خارجة عن الأسماء التي ذكرها أهل هذا العلم وذكرت أبياتا اشتملت على ذلك المؤلفات المشتملة على بيان مفردات اللغة عموما وخصوصا ثم ينبغي له أن يكتب على مؤلفات اللغة المشتملة على بيان مفرداتها كالصحاح و القاموس و شمس العلوم و ضياء الحلوم و ديوان الأدب ونحو ذلك من المؤلفات المشتملة على بيان اللغة العربية عموما أو خصوصا كالمؤلفات المختصة بغريب القرآن والحدث علم المنطق ثم يشتغل بعد هذا بعلم المنطق فيحفظ مختصرا من مختصراته كالتهذيب أو الشمسية ثم يأخذ في سماع شروحها على أهل الفن فإن العلم بهذا الفن على الوجه الذي ينبغي يستفيد به الطالب مزيد إدراك وكمال استعداد عند ورود الحجج العقلية عليه وأقل الأحوال أن يكون على بصيرة عند وقوفه على المباحث التي يوردها المؤلفون في علوم الاجتهاد من المباحث المنطقية كما يفعله كثير من المؤلفين في الأصول والبيان والنحو فن أصول الفقه ثم يشتغل بفن أصول الفقه بعد أن يحفظ مختصرا من مختصراته المشتملة على مهمات مسائله كمختصر المنتهى أو جمع الجوامع أو الغاية ثم يشتغل بسماع شروح هذه المختصرات كشرح العضد على المختصر وشرح المحلى على الجوامع وشرح ابن الإمام على الغاية وينبغي له أن يطول الباع في هذا الفن ويطلع على مؤلفات أهل المذاهب المختلفة كالتنقيح و التوضيح و التلويح و المنار وتحرير ابن الهمام وليس في هذه المؤلفات مثل التحرير المذكور وشرحه ومن أنفع ما يستعان به على بلوغ درجة التحقيق في هذا الفن الاكباب على الحواشي التي ألفها المحققون على الشرح العضدي وعلى شرح الجمع علم الكلام أو أصول الدين ثم ينبغي له بعد إتقان فن أصول الفقه وإن لم يكن قد فرغ من سماع مطولاته أن يشتغل بفن الكلام المسمى بأصول الدين ويأخذ من مؤلفات الأشعرية بنصيب ومن مؤلفات المعتزلة بنصيب ومن المؤلفات الماتريدية بنصيب ومن مؤلفات المتوسطين بين هذه الفرق كالزيدية بنصيب فإنه إذا فعل كل هذا عرف الاعتقادات كما ينبغي وأنصف كل فرقة بالترجيح أو التجريح على بصيرة وقابل كل قول بالقبول أو الرد على حقيقة ومن أحسن مؤلفات المعتزلة المجتبي ومن أحسن مؤلفات متأخري الأشعرية المواقف العضدية وشرحها للشريف و المقاصد السعدية وشرحها له وإياك أن يثنيك عن الاشتغال بهذا الفن ما تسمعه من كلمات بعض أهل العلم في التنفير عنه والتزهيد فيه والتقليل لفائدته فإنك إن عملت على ذلك وقبلت ما يقال في الفن قبل معرفته كنت مقلدا فيما لا يدري ما هو والكون في الطبقة الأولية بل أعرفه حق معرفته وأنت بعد ذلك مفوض فما تقوله من مدح أو قدح فإنه لا يقال لك حينئذ أنت تمدح ما لا تعرفه أو تقدح فيما لا تدري ما هو على أنه يتعلق بذلك فائدة وزيادة بصيرة في علوم أخرى كعلم التفسير وعلم تفسير الحديث فإنك إذا بلغت إلى ذلك علمت ما في العلم بهذا الفن من الفائدة لا سيما عند قراءة كشاف الزمخشري ومن سلك مسلكه فإن في مباحثهم من التدقيقات الراجعة إلى علم الكلام ما لا يفهمها حق الفهم إلا من عرف الفن واطلع على مذاهب المعتزلة والأشعرية وسائر الفرق وإني أقول بعد هذا إنه لا ينبغي لعالم أن يدين بغير ما دان به السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم من الوقوف على ما تقتضيه أدلة الكتاب والسنة وإبراز الصفات كما جاءت ورد علم المتشابه إلى الله سبحانه وعدم الاعتداد بشيء من تلك القواعد المدونة في هذا العلم المبنية على شفى جرف هار من أدلة العقل التي لا تعقل ولا تثبت إلا بمجرد الدعاوي والافتراء على العقل بما يطابق الهوى ولا سيما إذا كانت مخالفة لأدلة الشرع الثابتة في الحديث والسنة فإنها حينئذ حديث خرافة ولعبة لاعب فلا سبيل للعباد يتوصلون به إلى معرفة ما يتعلق بالرب سبحانه وبالوعد والوعيد والجنة والنار والمبدأ والمعاد إلا ما جاءت به الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه عن الله سبحانه وليس للمعقول وصول إلى تلك الأمور ومن زعم ذلك فقد كلف العقول ما أراحها الله منه ولم يتعبدها به بل غاية ما تدركه وجل ما تصل إليه هو ثبوت الخالق الباري وأن هذه المصنوعات لها صانع وهذه الموجودات لها موجد وما عدى ذلك من التفاصيل التي جاءتنا في كتب الله عز وجل وعلى ألسن رسله فلا يستفاد من العقل بل من ذلك النقل الذي منه جاءت وإلينا به وصلت واعلم أني عند الاشتغال بعلم الكلام وممارسة تلك المذاهب والنحل لم أزدد بها إلا حيرة ولا استفدت منها إلا العلم بأن تلك المقالات خزعبلات فقلت إذ ذاك مشيرا إلى ما استفدته من هذا العلم وغاية ما حصلته من مبحاثي ومن نظري من بعد طول التدبر هو الوقف ما بين الطريقين حيرة فما علم من لم يلق غير التحير على أنني قد خضت منه غماره وما قنعت نفسي بدون التبحر وعند هذا رميت بتلك القواعد من حالق وطرحتها خلف الحائط ورجعت إلى الطريقة المربوطة بأدلة الكتاب والسنة المعمودة بالأعمدة التي هي أوثق ما يعتمد عليه عباد الله وهم الصحابة ومن جاء بعدهم من علماء الأمة المقتدين بهم السالكين مسالكهم فطاحت الحيرة وانجابت ظلمة العماية وانقشعت وانكشفت ستور الغواية ولله الحمد على أني ولله الشكر لم أشتغل بهذا الفن إلا بعد رسوخ القدم في أدلة الكتاب والسنة فكنت إذا عرضت مسألة من مسائله مبنية على غير أساس رجعت إلى ما يدفعها من علم الشرع ويدمغ زائفها من أنوار الكتاب والسنة ولكنني كنت أقدر في نفسي أنه لو لم يكن لدي إلا تلك القواعد والمقالات فلا أجد حينئذ إلا حيرة ولا أمشي إلا في ظلمة ثم إذا ضربت بها وجه قائلها ودخلت إلى تلك المسائل من الباب الذي أمر الله بالدخول منه كنت حينئذ في راحة من تلك الحيرة وفي دعة من تلك الخزعبلات والحمد لله رب العالمين عدد ما حمده الحامدون بكل لسان في كل زمان علم التفسير ثم بعد إحراز هذه العلوم يشتغل بعلم التفسير فيأخذ عن الشيوخ ما يحتاج مثله إلى الأخذ كالكشاف ويكب على كتب التفسير على اختلاف أنواعها وتباين مقاديرها ويعتمد في تفسير كلام الله سبحانه ما ثبت عن رسول الله ﷺ ثم عن الصحابة فإنهم مع كونهم أعلم من غيرهم بمقاصد الشارع هم أيضا من أهل اللسان العربي فما وجده من تفاسير رسول الله ﷺ في الكتب المعتبرة كالأمهات وما يلتحق بها قدمه على غيره بل يتعين عليه الأخذ به ولا يحل له مخالفته وأجمع مؤلف في ذلك وأنفعه وأكثره فائدة الدر المنثور للسيوطي وما ذكرنا من تقديم ما ورد عن الصحابة مقيد بما إذا لم يخالف ما يعلم من لغة العرب ولم تكن تلك المخالفة لأجل معنى شرعي فإن كانت لمعنى شرعي فقد تقرر أن الحقائق الشرعية مقدمة على اللغوية وينبغي له أن يطول الباع في هذا العلم ويطالع مطولات التفاسير كمفاتيح الغيب للرازي فإن المعاني المأخوذة من كتاب الله سبحانه كثير العدد يستخرج منها كل عالم بحسب استعداده وقدر ملكته في العلوم ولا يغتر بما يزعمه بعض أهل العلم من أنه يكفي الاطلاع على تفسير آيات الكتاب العزيز كما وقع لكثير من التآليف في تفسير آيات مخصوصة مسميا لها بآيات الأحكام كالموزعي وصاحب الثمرات فإن القرآن جميعه حتى قصصه وأمثاله لا يخلو من فوائد متعلقة بالأحكام الشرعية ولطائف لا يأتي الحصر عليها لها مدخل في الدين يعرف هذا من يعرفه ويجهله من يجهله وينبغي أن يقدم على قراءة التفاسير الاطلاع على علوم الأداء وكل ما كان له مدخل في التلاوة وسائر العلوم المتعلقة بالكتاب العزيز وما أنفع الإتقان للسيوطي في مثل هذه الأمور ثم لا يهمل النظر في الكتب المدونة في القراءات وما يتعلق بها كالشاطبية وشرحها و الطيبة وشروحها علم السنة إذا عرفت ما ينبغي لمن أراد أن يكون من أهل الطبقة الأولى فاعلم أن أعظم العلوم فائدة وأكثرها نفعا وأوسعها قدرا وأجلها خطرا علم السنة المطهرة فإنه الذي تكلفل ببيان الكتاب العزيز ثم استقل بما لا ينحصر من الأحكام ولست أقول إن الطالب يشتغل به في وقت معين ولا أقول إنه يقدمه على هذه العلوم المتقدمة أو يؤخره عنها بل أقول إنه ينبغي لطالب العلم بعد أن يقيم لسانه بما يحتاج إليه من النحو أن يقبل على سماع الكتب التي جمع فيها أهل العلم متون الأحاديث مقطوعة الأسانيد كجامع الأصول و المشارق و كنز العمال و المنتقى لابن تيمية و بلوغ المرام لابن حجر و العمدة ثم يسمع الكتب التي فيها الأسانيد كالأمهات الست و مسند أحمد و صحيح ابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود و سنن الدارقطني والبيهقي وبالجملة فما بلغت إليه قدرته ووجد في أهل عصره شيوخه من كتب السنة جد في سماعه واجتهد بحسب ما يمكنه ويكون هذا الاشتغال بهذا العلم الجليل مصاحبا لاشتغاله بجميع العلوم المتقدمة من البداية إلى النهاية فإذا قضى وطره من سماع كتب المتن والإسناد اشتغل بشروح هذه المؤلفات فيسمع منها ما تيسر له سماعه ويطالع ما لم يتيسر له سماعه ويستكثر من النظر في المؤلفات في علم الجرح والتعديل بل يتوسع في هذا العلم بكل ممكن وأنفع ما ينتفع به مثل النبلاء و تاريخ الإسلام و تذكرة الحفاظ و الميزان فإنه يجد في هذه المؤلفات من الاختلاف في المترجم له وذكر أسباب الجرح والتعديل ما لا يجده في غيرها كتهذيب الكمال وفروعه علم مصطلح الحديث وهذا بعد أن يشتغل بشيء من علم اصطلاح أهل الحديث كمؤلفات ابن الصلاح و الألفية للعراقي وشروحها ولا يستغني عن المطولات بالمختصرات لا سيما إذا بالغ مؤلفوها في الاختصار كالنخبة وما هو مشابه لها علم التاريخ وينبغي له أن يشتغل بمطالعة الكتب المصنعة في تاريخ الدول وحوادث العالم في كل سنة كما فعله الطبري في تاريخه وابن كثير في كامله وكما فعله كثير من المؤرخين على اختلاف مسالكهم في تخصيص التصنيف بدولة من الدول أو طائفة من طوائف أهل العلم والأدب أو فرقة من فرق أهل الرئاسات أو غير ذلك فإن للاطلاع على ذلك فائدة جليلة لا يعرفها إلا من عرف أحوال العالم وأتقن أهل كل عصر منهم وعلم بأوقات موالدهم ووفياتهم مؤشر الوصول إلى المرتبة الأولى فإذا أحاط الطالب بما ذكرناه من العلوم فقد صار حينئذ في الطبقة العالية من طبقات المجتهدين وكملت له جميع أنواع علوم الدين وصار قادرا على استخراج الأحكام من الأدلة متى شاء وكيف شاء ولكنه ينبغي له أن يطلع على علوم أخرى ليكمل له ما قد حازه من الشرف ويتم له ما قد ظفر به من بلوغ الغاية علم الفقه فمن ذلك علم الفقه وأقل الأحوال أن يعرف مختصرا في فقه كل مذهب من المذاهب المشهورة فإن معرفة ما يذهب إليه أهل المذاهب الإسلامية قد يحتاجه المجتهد لإفادة المتذهبين السائلين عن مذاهب أئمتهم وقد يحتاجه لدفع من يشنع عليه في اجتهاده كما يقع ذلك كثيرا من أهل التعصب والتقصير فإنه إذا قال له قد قال بهذه المقالة العالم الفلاني أو عمل عليها أهل المذهب الفلاني كان ذلك دافعا لصولته كاسرا لسورته وقد وقعنا في كثير من هذه الأمور مع المقصرين وتخلصنا عن شغبهم بحكاية ما أنكروه علينا عن بعض من يعتقدونه من الأموات وما أنفع الاطلاع على المؤلفات البسيطة في حكاية مذاهب السلف وأهل المذاهب وحكاية أدلتهم وما دار بين المتناظرين منهم إما تحقيقا أو فرضا كمؤلفات ابن المنذر وابن قدامة وابن حزم وابن تيمية ومن سلك مسالكهم فإن المجتهد يزداد بذلك علما إلى علمه وبصيرة إلى بصيرته وقوة في الاستدلال إلى قوته فإن تلك المؤلفات هي مطارح أنظار المحققين ومطامح أفكار المجتهدين وكثيرا ما يحصل للعالم من النكت واللطائف الصالحة للاستدلال بها ما لا يحصل للعالم الآخر وإن تقاربت معارفهما وتوازنت علومها بل قد يتيسر لمن هو أقل علما ما لا يتيسر لمن هو أكثر علما من الاستدلال والجواب والنقض والمعارضة وكما قيل ورأيان أحزم من واحد ورأي الثلاثة لا ينقض وكما قيل ولكن تأخذ الأفهام منه على قدر القرائح والعلوم ولا سيما مؤلفات أهل الإنصاف الذين لا يتعصبون لمذهب من المذاهب ولا يقصدون إلا تقرير الحق وتبيين الصواب فإن المجتهد الطالب للحق ينتفع بها ويستعين بأهلها فينظر فيما قد حرروه من الأدلة وقدروه من المباحث ويعمل فكره في ذلك فيأخذ ما يرتضيه ويزيد عليه ما بلغت إليه قدرته ووصلت إليه ملكته غير تارك للبحث عن تصحيح ما قد صححوه وتضعيف ما قد ضعفوه على الوجه المعتبر من لوازم الإنصاف والاجتهاد ومن حق الإنصاف ولازم الاجتهاد أن لا يحسن الظن أو يسيئه بفرد من أفراد أهل العلم على وجه يوجب قبول ما جاء به أو رده من غير إعمال فكر وإمعان نظر وكشف وبحث فإن هذا شأن المقلدين وصنيع المتعصبين وإن غرته نفسه بأنه من المنصفين وأن لا يغتر بالكثرة فإن المجتهد هو الذي لا ينظر إلى من قال بل إلى ما قال فإن وجد نفسه تنازعه إلى الدخول في قول الأكثرين والخروج عن قول الأقلين أو إلى متابعة من له جلالة قدر ونبالة ذكر وسعة دائرة علم لا لأمر سوى ذلك فيعلم أنه قد بقي فيه عرق من عروق العصبية وشعبة من شعب التقليد وأنه لم يوف الاجتهاد حقه وبالجملة فالمجتهد على التحقيق وهو من يأخذ الأدلة الشرعية من مواطنها على الوجه الذي قدمناه ويفرض نفسه موجودا في زمن النبوة وعند نزول الوحي وإن كان في آخر الزمان وكأنه لم يسبقه عالم ولا تقدمه مجتهد فإن الخطابات الشرعية تتناوله كما تناولت الصحابة من غير فرق وحينئذ يهون الخطب وتذهب الروعة التي نزلت بقلبه من الجمهور وتزول الهيبة التي تداخل قلوب المقصرين أهمية الاطلاع على أشعار المبدعين ومما يزيد من أراد هذه الطبقة العلية علوا ويفيده قوة إدراك وصحة فهم وسيلان ذهن الإطلاع على أشعار فحول الشعراء ومجيديهم والمشهورين منهم باستخراج لطائف المعنى ومطربات النكات مع ما تحصل له بذلك من الاقتدار على النظم والتصرف في فنونه فقد يحتاج العالم إلى النظم لجواب ما يرد عليه من الأسئلة المنظومة أو المطارحات الواردة إليه من أهل العلم وربما ينظم في فن من الفنون لغرض من الأغراض الصحيحة فإن من كان بهذه المنزلة الرفيعة من العلم إذا كان لا يقتدر على النظم كان ذلك خدشة في وجه محاسنه ونقصا في كماله النظر في بلاغات مبدعي الإنشاء وهكذا الاستكثار من النظر في بلاغات أهل الإنشاء المشهورين بالإجادة والإحسان المتصرفين في رسالاتهم وحكاياتهم بأفصح لسان وأبين بيان فإنه ينتفع بذلك إذا احتاج إلى الإنشاء أو جاوب صديقا أو كاتب حبيبا لأنه ينبغي أن يكون كلامه على قدر علمه وهو إذا لم يمارس جيد النظم والنثر كان كلامه ساقطا عن درجة الاعتبار عند أهل البلاغة والعلم شجرة ثمرتها الألفاظ وما أقبح بالعالم المتبحر في كل فن أن يتلاعب به في النظم والنثر من لا يجاريه في علم من علومه ويتضاحك منه من له أدنى إلمام بمستحسن الكلام ورائق النظام علم العروض والقوافي ويستعين على بلوغ ما يليق به ويطابق رتبته بمثل علم العروض والقوافي وأنفع ما في ذلك منظومة الجزولي وشروحها وبمثل المؤلفات المدونة لذلك وأنفع ما ينتفع به المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر لابن الأثير أهمية الاطلاع على العلوم الفلسفية ثم لا بأس على من رسخ قدمه في العلوم الشرعية أن يأخذ بطرف من فنون هي من أعظم ما يصقل الأفكار ويصفي القرائح ويزيد القلب سرورا والنفس انشراحا كالعلم الرياضي والطبيعي والهندسة والهيئة والطب وبالجملة فالعلم بكل فن خير من الجهل به بكثير ولا سيما من رشح نفسه للطبقة العلية والمنزلة الرفيعة ودع عنك ما تسمعه من التشنيعات فإنها كما قدمنا لك شعبة من التقليد وأنت بعد العلم بأي علم من العلوم حاكم عليه بما لديك من العلم غير محكوم عليك واختر لنفسك ما يحلو وليس يخشى على من كان غير ثابت القدم في علوم الكتاب والسنة فإنه ربما يتزلزل وتحول ثقته
فإذا قدمت العلم بما قدمنا لك من العلوم الشرعية فاشتغل بما شئت واستكثر من الفنون ما أردت وتبحر في الدقائق ما استطعت وجاوب من خالفك وعذلك وشنع عليك بقول القائل أتانا أن سهلا ذم جهلا علوما ليس يعرفهن سهل علوما لو دراها ما قلاها ولكن الرضى بالجهل سهل وإني لأعجب من رجل يدعي الإنصاف والمحبة للعلم ويجري على لسانه الطعن في علم من العلوم لا يدري به ولا يعرفه ولا يعرف موضوعه ولا غايته ولا فائدته ولا يتصوره بوجه من الوجوه وقد رأينا كثيرا ممن عاصرنا ورأيناه يشتغل بالعلم وينصف في مسائل الشرع ويقتدي به بالدليل فإنه سمع مسألة من فن من الفنون التي لا يعرفها كعلم المنطق والكلام والهيئة ونحو ذلك نفر منه طبعه ونفر عنه غيره وهو لا يدري ما تلك المسألة ولا يعقلها قط ولا يفهم شيئا منها فما أحق من كان هكذا بالسكوت والاعتراف بالقصور والوقوف حيث أوقفه الله والتمسك في الجواب إذا سئل عن ذلك بقوله لا أدري فإن كان ولا بد متكلما ومادحا أو قادحا فلا يكون متكلما بالجهل وعائبا لما لا يفهمه بل يقدم بين يدي ذلك الاشتغال بذلك الفن حتى يعرفه حق المعرفة ثم يقول بعد ذلك ما شاء ولقد وجدنا لكثير من العلوم التي ليست من علم الشرع نفعا عظيما وفائدة جليلة في دفع المبطلين والمتعصبين وأهل الرأي البحت ومن لا اشتغال له بالدليل فإنه إذا اشتغل من يشتغل منهم بفن من الفنون كالمشتغلين بعلم المنطق جعلوا كلامهم ومذكراتهم في قواعد فنهم ويعتقدون لعدم اشتغالهم بغيره أن من لا يجاريهم في مباحثه ليس من أهل العلم ولا هو معدود منهم وإن كان بالمحل العالي من علوم الشرع فحينئذ لا يبالون بمقاله ويوردون عليه ما لا يدري ما هو ويسخرون منه فيكون في ذلك من المهانة على علماء الشريعة ما لا يقادر قدره وأما إذا كان العالم المتشرع المتصدر للهداية إلى المسالك الشرعية والمناهج الإنصافية عالما بذلك فإنه يجري معهم في فنهم فيكبر في عيونهم ثم يعطف عليهم فيبن لهم بطلان ما يعتقدونه بمسلك من المسالك التي يعرفونها فإن ذلك لا يصعب على مثله ثم بعد ذلك يوضح لهم أدلة الشرع فيقبلون منه أحسن قبول ويقتدون به أتم قدوة وأما العالم الذي لا يعرف ما يقولون فغاية ما يجري بينه وبينهم خصام وسباب ومشاتمة هو يرميهم بالاشتغال بالعلوم الكفرية ولا يدري ما هي تلك العلوم وهم يرمونه بالبلادة وعدم الفهم والجهل بعلم العقل ولا يدرون ما لديه من علم الشرع أنصاف المثقفين في زمن الشوكاني ولقد أهدت لها هذه الأيام ما لم يكن لنا في حساب من زعانف هم سقط المتاع وفقعة القاع وأبناء الرعاع لابسوا طلبة العلم بعض الملابسة وشاركوهم بجامع الخلطة والعشرة في مثل النظر في مختصرات النحو حتى صاروا ممن يتمكن من إعراب أواخر الكلم ثم طاحت بهم الطوائح ورمت بهم الروامي إلى مطالعة تجريد الطوسي وبعض شروحه وفهموا بعض مباحثه فظنوا أنهم قد ظفروا بما لم يظفر به أرسطو طاليس ولا جالينوس دع مثل الكندي والفارابي وابن سينا فإنهم عندهم في عداد المقصرين وأما مثل الرازي وطبقته فليسوا من أهل العلم في ورد ولا صدر وأما سائر العلماء المتبحرين في علم الشرع وغيره من أهل العصر وغيرهم فهم عند هؤلاء النوكاء الرقعاء لا يفهمون شيئا ولا يعقلون فقبح الله تلك الوجوه فإنها صارت عارا وشنارا على أهل العلم وصار دخول مثل هؤلاء الذين دنسوا عرض العلم وجهموا وجهه وأهانوا شرفه من أعظم المصائب التي أصابت أهله وأكبر المحن التي امتحن بها حملته فإنه يسمعهم السامع يثلبون أعراض الأحياء والأموات من المشهورين بالعلم الذين قد اشتهرت مصنفاتهم وانتشرت معارفهم فيزهد في العلم ويخاف من أن يعرض نفسه للوقيعة من مثل هؤلاء الجهلة وعلى أنهم لا يعرفون شيئا إلا ما ذكرت لك ولا يفهمون علما من العلوم لا بالكنة ولا بالوجه فما أحق هؤلاء بالمنع لهم عن مجالس العلم والأخذ على أيديهم من الدخول في مداخل أهله والتشبه بهم في شيء من الأمور وإلزامهم بملازمة حرف آبائهم وصناعات أهلهم والوقوف في الأسواق لمباشرة الأعمال التي يباشرها سلفهم فليس في مفارقتهم لها إلا ما جلبوه من الشر على العلم وأهله ولكنهم قد تحذلقوا وجعلوا لأنفسهم حصنا حصينا وسورا منيعا فتظهروا بشيء من الرفض وتلبسوا بثيابه فإذا أراد من له غيرة على العلم المعاقبة لهم وإعزاز دين الإسلام بإهانتهم قالوا للعامة إنهم أصيبوا بسبب التشيع وأهينوا بما اختاروه لأنفسهم من محبة أهل البيت رضي الله عنهم وقد علم الله وكل من له فهم أنهم ليسوا من ذلك في قبيل ولا دبير بل ليس عندهم إلا التهاون بالشريعة الإسلامية والتلاعب بالدين والطعن على الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه فضلا عن غيرهم من المتمسكين بالشرع وكل عارف إذا سمع كلامهم وتدبر أبحاثهم يتضوع له منها روائح الزندقة بل قد يقف على ما هو صريح الكفر الذي لا يبقى معه ريب ولقد كان القضاة من أهل المذاهب في البلاد الشامية والمصرية والرومية والمغربية وغيرها يحكمون بإراقة دم من ظهر منه دون ما يظهر من هؤلاء حسبما تحكيه كتب التاريخ وقد أصابوا أصاب الله بهم فإعزاز دين الله هو في الانتقام من أعدائه المتنقصين به وما يصنع العالم في مثل أرضنا هذه في مثل هؤلاء المخذولين فإنه إن قام عليهم وأفتى بما يستحقونه ويوجبه عليهم الشرع حال بينه وبينهم حوائل منها عدم اعتياد مثل هذه البلاد لمثل سفك دماء المتزندقين ومنها عدم نفوذ أفهام المنفذين لأحكام الشرع حتى يعرفوا الدقائق الكفرية الموجبة للخروج من الإسلام القاضية بسفك دم من صدرت عنه وكيف يفهم ذلك غالب القضاة وهم يعجزون عن فهم شروط الوضوء وفرائضه وسننه بل يقصرون عن فهم مباحث أبواب قضاء الحاجة فهل تراهم يفهمون ما يقوله لهم المفتي بسفك دم المتزندق من أنه كفر بكذا استحق سفك دمه بكذا هيهات هيهات فإنهم أبلد من ذاك وأسوأ فهما من البلوغ إليه ومنها وهو أعظمها ما عرفناك به من تظهرهم بالرفض وادعائهم أنهم لم يصابوا بذنب سواه ولا نالهم ما نالهم إلا بسببه فإن هذه الدعوى سريعة النفاق تدخل إلى أذهان غالب الناس وتقبلها عقولهم بأيسر عمل للاشتراك في الجنس وإن لم يكن على التواطئ بل على التشكيك وكفاك من شر سماعه وبعد هذا فإني أرجو الله عز وجل أن يمكن منهم فتجري عليهم الأحكام الشرعية وينفذ فيهم ما يقتضيه مر الحق ونص الدليل وقد علم الله سبحانه أني أجد من الحسرة والتلهف ما لا يقادر قدره ولا يمكن التعبير عنه لأنه ليس بتغاض عن مبتدع ولا بمجرد سكوت عن انتهاك حرمة من حرمات الشرع بل هو سكوت عن الكفر وإغماض عن متظهر بالزندقة يتكلم فيما بملء فيه ويبدي منها ما تبكي له عيون الإسلام وأهله فتارة يتهاون بالقرآن وتارة يتهاون بالأنبياء وتارة يتهاون بحملة الدين وحينا يزري على علماء المسلمين ولكن بعبارات لا يفهمها المقصرون ورموز لا يهتدي إليها المشتغلون بأبواب الفقه مع خلط تلك العبارات بشيء من الرفض يفهمه المقصر والكامل فإذا نظره المقصرون في كلامهم لم يفهموا منه إلا ما فيه من الرفض ولا يفهمون شيئا مما عداه وإذا أخبرهم العالم بما اشتمل عليه ذلك الكلام من الكفر والزندقة لم تقبله أفهامهم لأمرين أحدهما الجهل بالعلوم التي يتوصلون بها إلى فهم ذلك والثاني اعتقادهم أن ذلك المتكلم شيعي وأن هذا العالم الذي أنكره إنما قام عليه لأجل الشيعة لكونهم يعتقدون في كل من اشتغل بعلوم الاجتهاد أنه يخالف الشيعة طبيعة راسخة فيهم وأمر ورثوه عن أسلافهم وداء قبلوه من كل مخذول ومحنة تعاظم بسببها البلاء على الشريعة وعلى أهلها فبهذه الأسباب علمت أن قيامي عليهم لا يجدى إلا ثوران فتنة وظهور محنة وقد يكون سببا لتظهرهم بزيادة على ما يتظهرون به من تلك الأمور الفظيعة والكفريات الشنيعة اللهم إني أشهدك وأنت خير الشاهدين أني أول حاكم بسفك دم من صدر منه ذلك وأول مفت بقتل من فعل شيئا منه أو قال به عند أول بارقة من بوارق العدل وفي إخفاء رائحة من روائح الإنصاف ولست أقول أن جميع من أشرت إليهم هم على الصفة التي ذكرتها الموجبة لإراقة الدم وإزهاق الروح بل يتظهر بذلك بعض مخذوليهم ويشتغل به أناس من شياطينهم والبقية وإن كانوا بما يصدر منهم نقمة على العلم وأهله فإنهم ينفرون الناس عن علم الشرع ويهونونه في صدورهم ويستصغرون علوم الدين بأسرها ويجذبون من يطمعون فيه إلى جهالاتهم وضلالاتهم فهم مستحقون للحيلولة بينهم وبين كل سبب يتوصلون به إلى العلم على كل تقدير كما أشرنا إليه سابقا مع إنزال بعض ما فيه إهانة لهم بهم ومسهم بسوط إذلال ليكون في ذلك إعزاز للدين ورفع لمناره وغسل لما قد لوثوا به أهله من القدر الذي يلقونه عليهم وينجسونهم به والله المرجو فعنده الخير كله وهو أغير على دينه وهو أكرم عليه من أن يهان أو يضام أهله وفيهم أفراد قليلون يصلحون بتعلم العلم ويتشبهون بأهله ويجرون على نمط من يتعلمون منه ويأخذون عنه إن خيرا فخير وإن شر فشر ولكن ما أقل من يكون هكذا منهم المؤهلون لتلقي العلم فإن قلت وما هذه الأهلية التي يكون صاحبها محلا لوضع العلم فيه وتعليمه إياه قلت هي شرف المحتد وكرم النجار وظهور الحسب أو كون في سلف الطالب من له تعلق بالعلم والصلاح ومعالم الدين أو بمعالي الأمور ورفيع الرتب وقد أشار إلى هذا النبي ﷺ في الحديث الثابت عنه في الصحيح فقال الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا فاعتبر ﷺ الخيار في الجاهلية وليس ذلك لأمر يتعلق بالدين فإنه لا دين لأهل الجاهلية بل المراد بخيار أهل من كان منهم من أهل الشرف وفي البيوت الرفيعة فإن هذا أمر يجذب بطبع صاحبه إلى معالي الأمور ويحول بيته وبين الرذائل ويوجب عليه إذا دخل في أمر أن يكون منه في أعلى محل وأرفع رتبة فمتعلم العلم منهم يكون في أهله على أتم وصف وأحسن حال غير شامخ بأنفه ولا متباه بما حصله ولا مترفع على الناس بما نال منه وأما من كان من سقط المتاع وسفساف أهل المهن كأهل الحياكة العصارة والقضابة ونحو ذلك من المهن الدنية والحرف الوضيعة فإن نفسه لا تفارق الدناءة ولا تجانب السقوط ولا تأبى المهانة ولا تنفر عن الضيم فإذا اشتغل مشتغل منهم بطلب العلم ونال منه بعض النيل وقع في أمور منها العجب والزهو والخيلاء لأنه يرى نفسه بعد أن كان في أوضع مكان وأخس رتبة قاعدا في أعلا محل وأرفع موضع فإن منزلة العلم وأهله هي المنزلة التي لا تساميها منزلة وإن علت ولا تساويها رتبة وإن ارتفعت فبينما ذلك الطالب قاعد بين أهل حرفته من أهل الحياكة أو الحجامة أو الجزارة أو نحوهم في أخس بقعة وأعظم مهانة إذ صار بين العلماء المتعلمين الذين هم في أعلا منازل الدنيا والدين فمبجرد ذلك يحصل له من العجب والتطاول على الناس والترفع عليهم ما يعظم به الضرر على أهل العلم فضلا عن غيرهم ممن هو دونهم ومع ما ينضم إلى ذلك من السخف الذي نشأ عليه وتلقاه من سلفه وسقوط النفس وضعف العقل ونذالة الهمة ومثل تأمر الصبي لما ينشأ عليه من أخلاق آبائه لا ينكره أحد ولهذا يقول ﷺ فيما صح عنه في الصحيح كل مولود يولد على الفطرة ولكن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه فإذا كان الصغير ينطبع بطابع الكفر بسبب أبويه فما بالك بسائر الأخلاق التي يجدهما عليها ومما يقع فيه هذا الطالب الناشئ بين أهل الوضاعة المرتضع من ثدي الرقاعة أنه بحكم الطبع وألف المنشأ لا يرى في الناس إلا أهل حرفته وبني مهنته فيعود من حيث بدا ويرجع من الباب الذي خرج منه فيكون في ذلك من الإهانة للعلم والإزراء على أهله والوضع بجانبه ما لا يقادر قدره لأن هذا يراه الناس تارة في المدارس قاعدا بين أيدي شيوخ العلم مشاركا للمتعلمين وتارة يرونه في دكاكين الحجامين وحوانيت العطارين ومن جرى هذا المجرى من المحترفين ومما يقع فيه أنه بحكم الطبع الذي استفاده من المنشأ وتطبع به من أبويه ومن يماثلهما وإن دخل في مداخل العلم وتزيا بزي أهله فهم أبغض الناس إليه وأحقرهم لديه لا يقيموا له وزنا ولا يعترف لهم بفضيلة بل يكون ديدنه وهجيراه ومعنى كلامه وفحواه هو التهاوم بهم وتحقير ما عظمه الله من أمرهم والإغراء بين أماثلهم والتعرض للمفاضلة بين فضائلهم وإدخال الشحناء بينهم بكل ممكن ومن نكر هذا فعليه بالاستقراء والتتبع فإنه سيجد ما وجدناه ويقف على صحة ما حكيناه ولا يخرج من هؤلاء إلا النادر القليل ولا يكون ذلك إلا لعرق ينزعه إلى الشرف ويجذبه إلى الخير في سلفه القديم وإن جهله من لم يعرفه وبالجملة فهذا ما تفيده التجربة وتشير إليه بعض الأدلة الشرعية وإذا صح قوله ﷺ واضع العلم في غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر ففيه أعظم عبرة للمعتبرين من الحاملين لعلوم الدين وقد عزاه بعض أهل العلم إلى ابن ماجه ولا استحضره حال الرقم فيما هو في حفظ من أحاديث كتاب سنن ابن ماجه فلينظر ثم كشفت عنه فوجدته في سنن ابن ماجه عن أنس بن مالك قال رسول الله ﷺ طلب العلم فريضة على كل مسلم وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب وفي إسناده حفص بن سليمان البزاز وفيه مقال وأما من كان أهلا للعم وفي مكان من الشرف فإنه يزداد بالعلم شرفا إلى شرفه ويكتسب به من حسن السمت وجميل التواضع ورائق الوقار وبديع الأخلاق ما يزيد عمله علوا وعرفانه تعظيما فيتخلق بأخلاق الأنبياء ومن يمشي على طريقهم من عامل العلماء وصالح الأمة ويعرف للعلم حقه ويعظمه بما ينبغي من تعظيمه فلا يكدره بالمطامع ولا يشوبه بالخضوع لأهل الدنيا ولا يجهمه بالتوصل به إلى ما في يد الأغنياء فيكون عنده مخدوما لا خادما ومقصودا لا قاصدا وبين هذه الطائفتين طائفة ثالثه ليست من هؤلاء ولا من هؤلاء جعل العلم مكسبا من مكاسب الدنيا ومعيشة من معايش أهله لا غرض لهم فيه إلا إدراك منصب من مناصب أسلافهم ونيل رئاسة من الرئاسات التي كانت لهم كما نشاهده في غالب البيوت المعمورة بالقضاء أو الإفتاء أو الخطابة أو الكتابة أو ما هو شبيه بهذه الأمور فإن من كان طالبا للوصول إلى شئ من هذه الأمور ذهب إلى مدارس العلم يتعلم ما يتأهل به لما يطلبه وهو لا يتصور البلوغ إلى الثمرة المستفادة من العلم والغاية الحاصلة لطالبه فيكون ذهنه كليلا وفهمه عليلا ونفسه خائرة ونيته خاسرة بل غاية تصوره ومعظم فكرته في اقتناص المنصب والوصول إليه فيخدم في مدة طلبه واشتغاله أهل المناصب ومن يرجو منهم الإعانة على بلوغ مراده أكثر مما يخدم العلم ويتردد إلى أبوابهم ويتعثر في مجالسهم ويذوق به من الإهانة ما فيه أعظم مرارة ويتجرع من الغصص ما يصغر قدر الدنيا بالنسبة إليه فإذا نال ذلك المنصب ضرب بالدفاتر وجه الحائط وألقاها خلف الصور لعدم الباعث عليها من جهة نفسه والمنشط على العلم والمرغب فيه فهذا هو شبيه بمن يتعلم مهنة من المهن ويتدرب في حرفة من الحرف فيقصد أهلها حتى يدركها ويكون فيها أستاذا ثم يذهب إلى دكان من الدكاكين فيعتاش بتلك الحرفة وليس هو من أهل العلم في ورد ولا صدر ولا ينبغي أن يكون معدودا منهم وإن ارتسم في ذهنه منه رسوم فهو من أزهد الناس فيها وأجفاهم لها وأقلهم احتفالا بها ولا فائدة في تعلمه راجعة إلى الدين قط بل غاية ما استفاده منه العلم وأهله تعريضه وتعريضهم للإهانة عند أهل الدنيا وإيقاعه وإيقاعهم في يد من لا يعرف للعلم قدرا ولا يرفع له ذكرا ولا يقيم له وزنا كما يشاهد من المتعلقين بالأعمال الدولية فإنهم يتلاعبون بطلبة المناصب الدنيوية غاية التلاعب ويعرضونهم للإهانة مرة بعد أخرى ويتلذذون بذلك ويبتهجون لأنهم يظنون أنها قد ارتفعت طبقتهم عن طبقات أهل العلم وحكموا تارة فيهم بالولاية وتارة بالعزل وتمرغوا على عتابتهم مرة بعد مرة فبهذه الوسيلة دخل على أهل العلم بما يصنعه هؤلاء من هذه الهنات الوضيعة والفعلات الشنيعة ما تبكي عيون العلم وأهله وتقوم عليه النواعي ويغضب له كل من له حمية دينة وهمة علية ولو علم أولئك المغرورون لم يبتهجوا بمن قصدهم من هؤلاء النوكاء فإنهم ليسوا من أهل العلم ولا بينهم وبينهم علاقة ولا فرق بينهم وبين من يطلب الأعمال الدولية التي لا تعلق لها بالعلم ومن هذه الحيثية تنازل منصب العلم وتهاون الناس به لأنهم يرون رجلا قد لبس لباس أهل العلم وتزين بزيهم وحضر مجالسهم ثم ذهب إلى مجالس أهل الدنيا ومن لهم قدرة على إيصال أهل الأعمال الدنيوية إليها من وزير أو أمير فتصاغر لهم وتذلل وتهاون وتحقر حتى يصير في عداد خدمهم ومن هو في أبوابهم ثم أعطوه منصبا من المناصب فعمل ما يريدونه منهم وإن خالف الشرع واعتمد على ما يرسمونه له وإن كان طاغوتا بحتا فيظن من لا علم عنده بحقائق الأمور أن أهل العلم كلهم هكذا وأنهم ينسلخون من العلم إذا ظفروا بمنصب من المناصب هذا الانسلاخ ويمسخون هذا المسخ ويعود أمرهم إلى هذا المعاد فيزهد في العلم وأهله وتنفر عنه نفسه وتقل فيه رغبته ويؤثر الحرف الدنيوية عليه ليربح السلامة من المهانة التي رآها نازلة بهذا المشؤوم الجالب على نفسه وعلى أهل العلم ما جلب من الذل والصغار وإذا كان ما جناه هؤلاء النكاء على العلم وأهله بالغا إلى هذا الحد عند سائر الناس فما ظنك بما يعتقده فيهم من يطلبونه من المناصب بعد أن شاهد منهم ما يشاهد من الخضوع والذلة والانسلاخ عن الشرع إلى ما يريدونه منه وبذل الأموال لهم على ذلك ومهاداتهم بأفخر الهدايا والوقوف على ما يطلبونه منه على أي صفة تراد منهم وينظم إلى هذا خلوهم عن العلم وجهلهم لأهله الذين هم أهلهم فيظنون أن هؤلاء الذين قصدوهم وتعثروا على أبوابهم هم رؤوس أهله لما يشاهدونه عليهم من الهيئة واللباس الفاخر الذي لا يجدونه عند المشتغلين بالعلم فهل تراهم بعد هذا يميلون إلى ما يقوله أهل العلم وينزجرون بما يوردونه عليهم من الزواجر الشرعية المتضمنة لإنكار ما هو منكر والأمر بما هو معروف والتخويف لهم عن مجاوزة حدود الله هيهات أن يصغوا لهذا سمعا أو يفتحوا له طرفا فإلى الله المشتكى وعليه المعول فهذا أمر وقع فيه أهل العصور الأول فألأول وما أحق أهل العلم الحاملين لحجيج الله المرشدين لعباده إلى شرائعه أن يطردوا هؤلاء عن مجالسهم ويبعدونهم عن مواطن تعليمهم وأن لا يبذلوا العلم إلا لمن يقدره حق قدره وينزله منزلته ويطلبه لذاته ويرغب فيه لشرفه ويعتقد أنه أشرف مطلب من مطالب الدين والدنيا وأنه يصغر عنده الملك فضلا عما هو دونه تولي أهل العلم للمناصب ولا أقول إن أهل العلم العارفين به المطلعين على أسراره يمنعون أنفسهم من المناصب الدينية وكيف أقول بهذا وهذه المناصب إذا لم تربط بهم ضاعت وإذا لم يدخل فيها الأخبار تتابع فيها الأشرار وإذا لم يقم بها أهل العلم قام بها أهل الجهل وإذا أدبر عنها أهل الورع أقبل إليها أهل الجور وكيف أقول هذا وأهل العلم هم المأمورون بالحكم بين الناس بالحق والعدل والقسط وما أنزل الله وما أراهم الله القيام بين الناس بحججه والتبليغ لأحكامه وتذكيرهم بما أمر الله بالتذكير به وإرشادهم إلى ما أرشدهم الله إليه ولأهل القضاء والإفتاء ونحوها من هذه الأمور أوفر نصيب وأكبر حظ ولكني أقول إنه ينبغي لطالب العلم أن يطلبه كما ينبغي ويتعلمه على الوجه الذي يريده الله منه معتقدا أنه أعلى أمور الدين والدنيا راجيا أن ينفع به عباد الله بعد الوصول إلى الفائدة منه ومن جملة النفع إذا احتاج إليه الملوك وأهل الدنيا أن يلي منصبا من المناصب فطلبوا منه ذلك وعولوا عليه في الإجابة معترفين بحق العلم منقادين إلى ما يوجبه الشرع معظمين لما أوجب الله تعظيمه وكان قد بلغ إلى منزلة في العلم تصلح لذلك المنصب وشهد له أهل العلم بكمال التأهيل وإحراز عدته فهذا إذا كان الحال هكذا لا يحل له أن يمتنع من الإجابة أو يأتي من قبول ذلك فإنه إذا فعل ذلك كان تاركا لما أوجبه الله عليه من القيام بحجته ونشر أحكامه وإرشاد عباده إلى معالمه ونهيهم عن تجاوز حدوده ولا شك أن ذلك من أوجب الواجبات على أهل العلم وأهم المهمات ولو جاز ذلك لمن طلب منهم وعول عليه لجاز لغيره من أهل العلم أن يصنع كصنعه ويسلك مسلكه فتتعطل معاهد الشرع وتذهب رسومه ويتخذ الناس رؤوسا جهالا يقضون بغير علم فيضلون ويضلون وذلك من علامات القيامة وأشراط الساعة كما ورد به الخبر الصحيح