أدب الطلب/حب القرابة والتعصب للأجداد
حب القرابة والتعصب للأجداد
ومن الأسباب المقتضية للتعصب أن يكون بعض سلف المشتغل بالعلم قد قال بقول ومال إلى رأى فيأتي هذا الذي جاء بعده فيحمله حب القرابة على الذهاب إلى ذلك المذهب والقول بذلك القول وإن كان يعلم أنه خطأ وأقل الأحوال إذا لم يذهب إليه أن يقول فيه إنه صحيح ويتطلب له الحجج ويبحث عن ما يقويه وإن كان بمكان من الضعف ومحل من السقوط وليس له في هذا حظ ولا معه فائدة إلا مجرد المباهاة لمن يعرفه والتزين لأصحابه بأنه في العلم معرق وان بيته قديم فيه ولهذا ترى كثيرا منهم يستكثر من قال جدنا قال والدنا واختار كذا صنع كذا فعل كذا وهذا لا شك أن الطباع البشرية تميل إليه ولا سيما طبائع العرب فإن الفخر بالأنساب والتحدث بما كان للسلف من الأحساب يجدون فيه من اللذة ما لا يجدونه في تعدد مناقب أنفسهم ويزداد هذا بزيادة شرف النفس وكرم العنصر ونبالة الآباء ولكن ليس من المحمود أن يبلغ بصاحبه إلى التعصب في الدين وتأثير الباطل على الحق فإن اللذة التي يطلبها والشرف الذي يريده قد حصل له بكون من سلفه ذلك العالم ولا يضيره أن يترك التعصب له ولا يمحق عليه شرفه بل التعصب مع كونه مفسدا للحظ الأخروي يفسد عليه أيضا الحظ الدنيوي فإنه إذا تعصب لسلفه بالباطل فلا بد أن يعرف كل من له فهم أنه متعصب وفي ذلك عليه من هدم الرفعة التي يريدها والمزية التي يطلبها ما هو أعظم عليه وأشد من الفائدة التي يطلبها بكون له قريب عالم فإنه لا ينفعه صلاح غيره مع فساد نفسه وإذا لم يعتقد فيه السامع التعصب اعتقد بلاده الفهم ونقصان الإدراك وضعف التحصيل لأن الميل إلى الأقوال الباطلة ليس من شأن أهل التحقيق الذين لهم كمال إدراك وقوة فهم وفضل دراية وصحة رواية بل ذلك دأب من ليست له بصيرة نافذة ولا معفرة نافعة فقد حصل عليه بما تلذذ به وارتاح إليه من ذكر شرف السلف ما حقق عند سامعه بأنه من خلف الخلف ولقد رأيت من أهل عصري في هذا عجبا فإن بعض من جمعني وإياه الطلب لعلوم الاجتهاد يتعصب لبعض المصنفين من قرابته تعصبا مفرطا حتى أنه إذا سمع من يعترض عليه أو يستبعد شيئا قاله اضطرب وتزيد وجهه وتغيرت أخلاقه سواء عليه من اعترض بحق أو بباطل فإنه لا يقبل سمعه في هذا كلاما ولا يسمع من نصيح ملاما ومع هذا فهو بمحل من الإنصاف ومكان من العرفان قد تحصلت له علوم الاجتهاد تحصلا قويا ونظر في الأدلة نظرا مشبعا وكان صدور مثل هذا منه يحملني في سن الحداثة وشرخ الشباب على تحرير مباحث انقض بها رسائل ومسائل من كلام قريبه قاصدا بذلك إيقاظه ورده إلى صواب الصواب وكنت إذا أردت إغضابه أو الانتصاف منه ذكرت بحثا من تلك الأبحاث أو مسألة من تلك المسائل التي اعترضتها وبهذا السبب تجد من كان له سلف على مذهب من المذاهب كان على مذهبه سواء كان ذلك المذهب من مذاهب الحق أو الباطل ثم تجد غالب العلوية شيعة وغالب الأموية عثمانية وكان تعظيم عثمان في الدولة الأموية عظيما وأهل تلك الدولة مشغولون بحفظ مناقبه ونشرها وتعريف الناس إياها وكانوا إذ ذاك يثلبون من كانت بينه وبينه عداوة أو منافسة ثم لما جاءت الدولة العباسية عقبها كان العباس عند أهلها أعظم الصحابة قدرا وأجلهم وكذلك ابنه عبد الله وتوصلت خلفاء بني العباس بكثير من شعراء تلك الدولة إلى تفضيل العباس على علي ثم تفضيل أولاد العباس على أولاد علي وكان الناس في أيامهم يعدونهم أهل البيت ويطبقون ما ورد من فضائل الآل عليهم وأولاد علي إذ ذاك إنما هم عندهم خوارج لقيامهم عليهم ومنازعتهم لهم في الملك ولقد كان بنو أمية قبلهم هكذا يعتقد أهل دولتهم فيهم أنهم هم الآل والقرابة وعصبة رسول الله ﷺ وأن العلوية والعباسية ليسوا من ذلك في ورود ولا صدر بل أطبقوا هم وأهل دولتهم على لعن علي ولا يعرف لديهم إلا بأبي تراب والمنتسب إليه والمعظم له ترابى لا يقام له وزن ولا يعظم له جانب ولا ترعى له حرمة ثم قامت الدولة العبيدية فانتسبوا إلى علي وسموا دولتهم الدولة العلوية الفاطمية ثم أفرطوا في التشيع وغالوا في حب علي وبغض كثير من الصحابة واشتغل الناس بفضائل علي ونشرها وبالغوا في ذلك حتى وضع لهم علماء السوء أكاذيب مفتراة وقد جعل الله ذلك الإمام في غنى عنها بما ورد في فضائله فالناشئ في دولة ينشأ على ما يتظهر به أهلها ويجد عليه سلفه فيظنه الدين الحق والمذهب العدل ثم لا يجد من يرشده إلى خلافه إن كان قد تظهر أهله بشيء من البدع وعلموا على خلاف الحق لأن الناس إما عامة وهم يعتقدون في تلك البدع التي نشأوا عليها ووجدها بين ظهرانيهم إنما هي الدين الحق والسنة القويمة والنحلة الصحيحة وإما خاصة ومنهم من يترك التكلم بالحق والإرشاد إليه مخافة الضرر من تلك الدولة وأهلها بل وعامتها فإنه لو تكلم بشئ خلاف ما قد علموا عليه ونشروه في الناس لخشى على نفسه وأهله وماله وعرضه ومنهم من يترك التكلم بالحق محافظة على حظ قد ظفر به من تلك الدولة من مال وجاه وقد يترك التكلم بالحق الذي هو خلاف ما عليه الناس استجلابا لخواطر العوام ومخافة من نفورهم عنه وقد يترك التكلم بالحق لطمع يظنه ويرجو حصوله من تلك الدولة أو من سائر الناس في مستقبل الزمان كمن يطمع في نيل رئاسة من الرئاسات ومنصب من المناصب كائنا ما كان ويرجو حصول رزق من السلطان أو أي فائدة فإنه يخاف أن تفوت عليه هذه الفائدة المظنونة والرئاسة المطموع فها فيتظهر بما يوافق الناس ويتفق عندهم ويميلون إليه ليكون له ذلك ذخيرة وبذا عندهم ينال بها عرض الدنيا الذي يرجوه فكيف تجد ذلك الناشئ بين من كان كذلك من يرشده إلى الحق ويبين له الصواب ويحول بينه وبين الباطل ويجنبه الغواية
وهيهات ذاك فالدنيا مؤثرة والدين تبع لها ومن شك في هذا فليخبرنا من ذاك الذي يستطيع أن يصرخ بين ظهراني دولة من تلك الدول بما يخالف اعتقاد أهلها وتألفه عامتها وخاصتها ووقوع مثل ذلك نادرا إنما يقوم به أفراد من مخلصي العلماء ومنصفيهم وقليل ما هم فإنهم لا يوجدون إلا على قلة وإعواز وهم حملة الحجة على الحقيقة والقائمون ببيان ما أنزل الله والمترجمون للشريعة وهم العلماء حقا وأما غيرهم ممن يعلم كما يعلمون ولا يتكلم كما يتكلمون بل يكتم ما أخذ الله عليه بيانه ويعمل بالجهل مع كونه عالما بأنه جهل ويقول بالبدعة مع اعتقاده أنها بدعة فهذا ليس بأهل لدخوله في مسمى العلم ولا يستأهل أن يوصف بوصف من أوصافه أو يدخل في عداد أهله بل هو متظهر وأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته بالجهل والبدعة مطابقة لأهل الجهل والابتداع وتنفيفا لنفسه عليهم واستجلابا لقلوبهم ومداراة لهم حتى يبقى عليه جاهه ويستمر له رزقه الجاري عليه من بيت مال المسلمين أو وقفهم أو نحو ذلك فهذا هو من البائعين عرض الدين بالدنيا المؤثرين العاجلة على الآجلة فضلا عن أن يستحق الدخول في أهل العلم والوصول إلي هذا العلم ومن شك فيما ذكرته أو تردد في بعض ما سقته فليمعن النظر في أهل عصره هل يستطيع أحد من أهل العلم أن يخالف ما يهواه السلطان من المذاهب فضلا عن أن يصرح للناس بخلافه هذا على فرض أن ذلك الذي يهواه الملك بدعة من البدع الشنيعة التي لا خلاف في شناعتها ومخالفتها للشريعة كما تعتقده الخوارج والروافض فإن السنة الصريحة المتواترة التي لا خلاف فيها قد جاءت بقبح ذلك وذم فاعله وضلاله فانظر هداك الله وإياي من يتكلم من أهل العلم الساكنين في أرض الخوارج كبلاد عمان ونحوها بما يخالف مذهب الخوارج أو ينكر ذلك عليهم أو يرشد الناس إلى الحق وكذلك من كان ساكنا من أهل العلم ببلاد الروافض كبلاد الأعاجم ونحوها هل تجد رجلا منهم يخالف ما هم عليه من الرفض فضلا عن أن ينكره عليهم بل قد تجد غالب من في بلاد أهل البدع من العلماء الذين لا تخفى عليهم مناهج الحق وطرائق الرشد يتظهرون للملوك والعامة بما يناسب ما هم عليه ويوهمونهم بأنهم يوافقونهم وأن تلك البدعة التي هم عليها ليست ببدعة بل هي سنة وحق وشريعة ويعملون كعملهم ويدخلون في ضلالهم فيكونون ممن أضله الله على علم
فمن كان من أهل العلم هكذا فهو لم ينتفع بعلمه فضلا عن أن ينتفع به غيره فعلمه محنة له وبلاء عليه والجاهل خير منه بكثير فإنه فعل البدعة ووقع في غير الحق معتقدا أن ما فعله هو الذي تعبده الله به وأراده منه فيا من أخذ الله عليه البيان وعلمه السنة والقرآن إذا تجزئت على ربك بترك طاعاته وطرح ما أمرك به فقف عند هذه المعصية وكفى بها وقس ما علمته كالعدم لا عليك ولا لك ودع المجاورة لهذه المعصية إلى ما هو أشد منها وأقبح من ترويج بدع المبتدعين والتحسين لها وإيهامهم أنهم على الحق فإنك إذا فعلت ذلك كان علمك لا علمت بلاء على أهل تلك البدع بعد كونه بلاء عليك لأنهم يفعلون تلك البدع على بصيرة ويتشددون فيها ولا تنجع فيهم بعد ذلك من موعظة واعظ ولا نصيحة ناصح ولا إرشاد مرشد لاعتقادهم فيك لا كثر الله في أهل العلم من أمثالك فإنك عالم محقق متقن قد عرفت علوم الكتاب والسنة فلم يكن في علماء السوء شر منك ولا أشد ضررا على عباد الله وقد جرت قاعدة أهل البدع في سابق الدهر ولاحقه بأنهم يفرحون بصدور الكلمة الواحدة عن عالم من العلماء ويبالغون في إشهارها وإذاعتها فيما بينهم ويجعلونها حجة لبدعتهم ويضربون بها وجه من أنكر عليهم كما تجده في كتب الروافض من الروايات لكلمات وقعت من علماء الإسلام فيما يتعلق بما شجر بين الصحابة وفي المناقب والمثالب فإنهم يطيرون عند ذلك فرحا ويجعلونه من أعظم الذخائر والغنائم فإن قلت لا شك فيما أرشدت إليه من وجوب الصدع بالحق والهداية إلى الإنصاف وتأثير ما قام عليه الدليل الصحيح على محض الرأي وبيان ما أنزله الله للناس وعدم كتمه لكن إذا فعل العالم ذلك وصرح بالحق في بلاد البدع وأرشد إلى العمل بالدليل في مدائن التقليد قد لا يتأثر عن ذلك إلا مجرد التنكيل به والهتك لحرمته وإنزال الضرر به قلت إنما سألت هذا السؤال وجئت بهذا المقال ذهولا عما قدمته لك وأوضحته وكررت من حفظ الله للمتكلمين بالحق ولطفه بالمرشدين لعباده إلى الإنصاف وحمايته لهم عن ما يظنه من ضعف إيمانه وخارت قوته ووهت عزيمته فارجع النظر فيما أسلفته وتدبر ما قدمته تعلم به صدق ما وعد الله به عباده المؤمنين من أن العاقبة للمتقين ثم هب صدق ما حدسته ووقوع ما قدرته وحصول المحنة عليك ونزول الضرر بك فهل أنت كل العالم وجميع الناس أم تظن أنك مخلد في هذه الدار أم ماذا عسى يكون إذا عملت بالعلم ومشيت على الطريقة التي أمرك الله بها فنهاية ما ينزل عليك ويحل بك أن تكون قتيلا للحق وشهيدا للعلم فتظفر بالسعادة الأبدية وتكون قدوة لأهل العلم إلى آخر الدهر وخزيا لأهل البدع وقاصمة لظهورهم وبلاء مصوبا عليهم وعارا لهم ما داموا متمسكين بضلالهم سادرين في عمايتهم واقعين في مزالقهم وكم قد سبقك من عباد الله إلى هذه الطريقة وظفر بهذه المنزلة العلية وفيهم لك القدوة وبهم الأسوة فانظر يا مسكين من قطعته السيوف ومزقته الرماح من عباد الله في الجهاد فإنهم طلبوا الموت ورغبوا في الشهادة والبيض تغمد في الطلاء والرماح تغرز في الكلأ والموت بمرأى منهم ومسمع يأتيهم من أمامهم وخلفهم ومن عن يمينهم وشمالهم فأين أنت من هؤلاء ولست إلا قائما بين ظهراني المسلمين تدعوهم إلى ما شرعه الله وترشدهم إلى تأثير كتاب الله وسنة رسوله على محض الرأي والبدع فإن الذي نظن بمثلك ممن يقوم بمقامك إن لم تنجذب له القلوب بادئ ذي بدء ويتبعه الناس بأول نداء أن يستنكر الناس ذلك عليه ويستعظموه منه وينالوه بألسنتهم ويسيئوا القالة فيه فيكثروا الغيبة له فضلا عن أن يبلغ ما يصدر منهم إلى الإضرار ببدنه أو ماله فضلا عن أن ينزل به منهم ما نزل بأولئك وهب أنه ناله أعظم ما جوزه وأقبح ما قدره فليس هو بأعظم مما أصيب به من قتل في سبيل الله وها أنا أرشدك على ما تستعين به على القيام بحجة الله والبيان لما أنزله وإرشاد الناس إليه على وجه لا تتعاظمه وتقدر فيه ما كنت تقدره من تلك الأمور التي جبنت عند تصورها وفرقت بمجرد تخيلها وهو أنك لا تأتي الناس بغتة وتصك وجهوهم مفاجئة ومجاهرة وتنعى عليهم ما هم فيه نعيا صراحا وتطلب منهم مفارقة ما ألفوه طلبا مضيفا وتقتضيه اقتضاء حثيثا بل أسلك معهم مسالك المتبصرين في جذب القلوب إلى ما يطلبه الله من عباده ورغبهم في ثواب المنقادين إلى الشرع المؤثرين للدليل على الرأي وللحق على الباطل فإن كانوا عامة فهم أسرع الناس انقيادا لك وأقربهم امتثالا لما تطلبه منهم ولست تحتاج معهم إلى كثير مؤنة بل اكتف معهم بترغيبهم في التعلم لأحكام الله ثم علمهم ما علمك الله منها على الوجه الذي جاءت به الرواية وصح في الدليل فهم يقبلون ذلك منك قبولا فطريا ويأخذونه أخاذ خلقيا لأن فطرتهم لم تتغير بالتقليد ولا تكدرت بالممارسة لعلم الرأي ما لم يتسلط عليه شيطان من شياطين الإنس قد مارس علم الرأي واعتقد أنه الحق وأن غيره الباطل وأنه لا سبيل للعامة إلى الشريعة إلا بتقليد من هو مقلد له واتباع من يتبعه فإنه إذا تسلط على العامة مثل هذا وسوس لهم كما يوسوس الشيطان وبالغ في ذلك لأنه يعتقد ذلك من الدين ويقطع بأنه في فعله داع من دعاة الحق وهاد من هداة الشرع وأن غيره على ضلالة وهذا وأمثاله هم أشد الناس على من يريد إرشادهم إلى الحق ودفعهم عن البدع لأن طبائعهم قد تكدرت وفطرهم قد تغيرت وبلغت في الكثافة والغلظة والعجرفة إلى حد عظيم لا تؤثر فيه الرقى ولا تبلغ إليه المواعظ فلم تبق عندهم سلامة طبائع العامة حتى ينقادوا إلى الحق بسرعة ولا قد بلغوا إلى ما بلغ إليه الخاصة من رياضة أفهامهم وتلطيف طبائعهم بممارسة العلوم التي تتعقل بها الحجج الشرعية ويعرف بها الصواب ويتميز بها الحق حتى صاروا إذا أرادوا النظر في مسئلة من المسائل أمكنهم الوقوف على الحق والعثور على الصواب وبالجملة فالخاصة إذا بقى فيهم شيء من العصبية كان إرجاعهم إلى الإنصاف متيسر غير متعسر بإيراد الدليل الذي تقوم به الحجة لديهم فإنهم إذا سمعوا الدليل عرفوا الحق وإذا حاولوا وكابروا فليس ذلك عن صميم اعتقاد ولا عن خلوص نية فرياضة الخاصة بإيراد الأدلة عليهم وإقامة حجج الله وإيضاح براهينه وذلك يكفي فإنهم لما قد عرفوه من علوم الاجتهاد ومارسوه من الدقائق لا يخفى عليهم الصواب ولا يلتبس عليهم الراجح بالمرجوح والصحيح بالسقيم والقوي بالضعيف والخالص بالمغشوش ورياضة العامة بإرشادهم إلى التعلم ثم بذل النفس لتعليمهم ما هو الحق في اعتقاد ذلك المعلم بعد أن صار داعيا من دعاة الحق ومرشدا من مرشدي المسلمين ثم ترغيبهم بما وعد الله به وإخبارهم بما يستحقه من فعل كفعلهم من الجزاء والأجر ثم يجعل لهم من القدوة بأفعاله مثل ما يجعله لهم من القدوة بأقواله أو زيادة فإن النفوس إلى الاقتداء بالفعال أسرع منها إلى الاقتداء بالقوال والعقبة الكؤود والطريق المستوعرة والخطب الجليل والعبء الثقيل إرشاد طبقة متوسطة بين طبقة العامة والخاصة وهم قوم قلدوا الرجال وتلقوا علم الرأي ومارسوه حتى ظنوا أنهم بذلك قد فارقوا طبقة العامة وتميزوا عنهم وهم لم يتميزوا في الحقيقة عنهم ولا فارقوهم إلا بكون جهل العامة بسيطا وجهل هؤلاء جهلا مركبا وأشد هؤلاء تغييرا لفطرته وتكديرا لخلقته أكثرهم ممارسة لعلم الرأي وأثبتهم تمسكا بالتقليد وأعظمهم حرصا عليه فإن الدواء قد ينجع في أحد هؤلاء في أوائل أمره وأما بعد طول العكوف على ذلك الشغف به والتحفظ له فما أبعد التأثير وما أصعب القبول لأن طبائعهم ما زالت تزداد كثافة بازدياد تحصيل ذلك وتستفيد غلظة وفظاظة باستفادة ذلك وبمقدار ولوعهم بما هم فيه وشغفهم به تكون عدواتهم للحق ولعم الأدلة وللقائمين بالحجة ولقد شاهدنا من هذه الطبقة مالوا سردنا بعضه لاستعظمه سامعه واستفظعه فإن غالبهم لا يتصور بعد تمرنه فيما هو فيه إلا منصبا يثبت عليه أو يتيما يشاركه في ماله أو أرملة يخادعها عن ملكها أو فرصة ينتهزها عند ملك أو قاض فيبلغ بها إلى شيء من حطام الدنيا ولا يبقى في طبائع هؤلاء شيء من نور العلم وهدى أهله وأخلاقهم بل هم أشبه شيء بالجبابرة وأهل المباشرة للمظالم ومع هذا فهم أشد خلق الله تعصبا وتعنتا وبعدا من الحق ورجوعهم إلى الحق من أبعد الأمور وأصعبها لأنه لم يبق في أفهامهم فضلة لتعقل ذلك وتدبره بل قد صار بعضها مستغرقا بالرأي وبعضها مستغرقا بالدنيا فإن قلت فهل بقى مطمع في أهل هذه الطبقة وكيف الوصول إلى إرشادهم إلى الإنصاف وإخراجهم عن التعصب قلت لا مطمع إلا بتوفيق الله وهدايته فإنه إذا أراد أمرا يسر أسبابه وسهل طرائقه وأحسن ما يستعمله العالم مع هؤلاء ترغيبهم في العلم وتعظيم أمره والإكثار من مدح علوم الاجتهاد وأن بها يعرف أهل العلم الحق من الباطل ويميزون الصواب من الخطأ وأن مجرد التقليد ليس من العلم الذي ينبغي عد صاحبه من جملة أهل العلم لان كل مقلد يقر على نفسه بأنه لا يعقل حجج الله ولا يفهم ما شرعه لعباده في كتابه وعلى لسان رسوله وأن من ظفر من طلبه وفاز من كده ونصبه لمجرد اتباع فرد من أفراد علماء هذه الأمة وتقليده وقبول قوله دون حجته فلم يظفر بطائل ولا نال حظا فإن بقى في من كان من هذه الطبقة من علو الهمة وحظ من شرف النفس وقسط من الرغبة في نيل ما هو أعلى مناقب الدنيا والآخرة فقد تميل نفسه إلى العلم بعض الميل فيأخذ من علوم الاجتهاد بنصيب ويفهم بعض الفهم فيعرف أنه كان معللا لنفسه بما لا يسمن ولا يغني من جوع ومشتغلا بما لا يرتقى به إلى شئ من درجات العلم فهذا الدواء لأهل هذه الطبقة من أنفع الأدوية وهو لا يؤثر بعض التأثير إلا مع كون ذلك المخاطب له بعض استعداد للفهم وعنده إدراك وهو القليل وأما من كان لا يفهم شيئا فيه من علوم الاجتهاد وإن أجهد نفسه وأطال عناها وأعظم كدها كما هو الغالب على أهل هذه الطبقة فإنهم إذا استفرغوا وسعهم في علم الرأي وأنفقوا في الاشتغال به شطرا من أعمارهم وسكنت أنفسهم إلى التقليد سكونا تاما وقبلته قبولا كليا لم تبق بقية لفهم شئ من العلوم وقد شاهدنا من هذا الجنس من لا يأتي عليه الحصر قد تقتضيه في بعض الأحوال رغبة تجذبه إلى النظر في علم النحو فلا يفهمه قط فضلا عن سائر علوم الاجتهاد التي يفتتحها الطلبة بهذا العلم فمن كان على هذه الصفة وبهذه المنزلة لا يأتي إرشاده إلى تعلم علوم الاجتهاد بفائدة وأحسن ما يستعمله معه من يريد تقليل تعصبه ودفع بعض ما قد تغيرت به فطرته هو أن ينظر العالم من عمل بذلك الدليل الذي هو الحق من قدماء المقلدين فيذكرهم أنه قد خالف إمامهم في تلك المسألة فلان وفلان ممن هو في طبقته أو أعلا طبقة منه وليس هو بالحق أولى من المخالفين له فإن قبل ذهنهم هذا فقد انفتح باب العلاج للطبيب لأنه ينتقل معهم من ذلك إلى ما استدل به أمامهم وما استدل به من خالفه وينتقل منه إلى وجوه الترجيح مبتدئا بما هو أقرب إلى قبول فهم ذلك العليل ثم ينقله من مرتبة إلى مرتبة حتى يستعمل من الدواء ما يقلل تلك العلة فإنه إذا أدرك العليل ذهاب شئ منها حصل له بعض نشاط يحمله على قبول ما يذهب بالبقية ولكن ما أقل من يقبل شيئا من هذه الأدوية فإنه قد ارتكز في ذهن غالب هؤلاء إن الصحة والسلامة لهم هي في نفس العلة التي قد تمكنت من أذهانهم فسرت إلى قلوبهم وعقولهم وأشربوا من حبها زيادة على ما يجده الصحيح عن العلة من محبة ما هو فيه من الصحة والعافية وسبب ذلك أنهم اعتقدوا أن إمامهم الذي قلدوه ليس في علماء الأمة من يساويه أو يدانيه ثم قبلت عقولهم هذا الاعتقاد الباطل وزاد بزيادة الأيام والليالي حتى بلغ إلى حد يتسبب عنه أن جميع أقواله صحيحة جارية على وفق الشريعة ليس فيها خطأ ولا ضعف وأنه أعلم الناس في الأدلة الواردة في الكتاب والسنة على وجه لا يفوت عليه منها شئ ولا تخفى منها خافية فإذا أسمعوا دليلا في كتاب الله أو سنة رسوله قالوا لا كان هذا راجحا على ما ذهب إليه إمامنا لذهب إليه ولم يتركه لكنه تركه لما هو أرجح منه عنده فلا يرفعون لذلك رأسا ولا يرون بمخالفته بأسا وهذا صنيع قد اشتهر عنهم وكاد أن يعمهم قرنا بعد قرن وعصرا بعد عصر على اختلاف المذاهب وتباين النحل فإذا قال لهم القائل اعملوا بهذه الآية القرآنية أو بهذا الحديث الصحيح قالوا لست أعلم من إمامنا حتى نتبعك ولو كان هذا كما تقول لم يخالفه من قلدناه فهو لم يخالفه إلا ما أرجح منه وقد ينظم إلى هذا من بعض أهل الجهل والسفه والوقاحة وصف ذلك الدليل الذي جاء به المخاطب لهم بالبطلان والكذب إن كان من السنة ولو تمكنوا من تكذيب ما في الكتاب العزيز إذا خالف ما قد قلدوا فيه لفعلوا وأما في ديارنا هذه فقد لقنهم من هو مثلهم في القصور والبعد عن معرفة الحق ذريعة إبليسية ولطيفة مشئومة هي أن دواوين الإسلام الصحيحين والسنن الأربع وما يلتحق بها من المستندات والمجاميع المشتملة على السنة إنما يشتغل بها ويتكرر درسها ويأخذ منها ما تدعو حاجته إليه من لم يكن من اتباع أهل البيت لأن المؤلفين لها لم يكونوا من الشيعة فيدفعون بهذه الذريعة الملعونة جميع السنة المطهرة لأن السنة الواردة عن رسول الله ﷺ هي ما في تلك المصنفات ولا سنة غير ما فيها وهؤلاء وإن كانوا يعدون من أهل العلم لا يستحقون أن يذكروا مع أهله ولا تنبغي الشغلة بنشر جهلهم وتدوين غباوتهم لكنهم لما كانوا قد تلبسوا بلباس أهل العلم وحملوا دفاتره وقعدوا في المساجد والمدارس اعتقدتهم العامة من أهل العلم وقبلوا ما يلقونه من هذه الفواقر فظلوا وأظلوا وعظمت بهم الفتنة وحلت بسببهم الرزية فشاركوا سائر المقلدة في ذلك الاعتقاد في أئمتهم الذين قد قلدوهم واختصموا من بينهم بهذه الخصلة الشنيعة والمقالة الفضيعة فإن أهل التقليد من سائر المذاهب يعظمون كتب السنة ويعترفون بشرفها وأنها أقوال رسول الله ﷺ وأفعاله وأنها هي دواوين الإسلام وأمهات الحديث وجوامعه التي عول عليها أهل العلم في سابق الدهر ولاحقه بخلاف أولئك فإنها عندهم بالمنزلة التي ذكرناها فضموا إلى شنعة التقليد شنعة أخرى هي أشنع منها وإلى بدعة التعصب بدعة أخرى هي أفضع منها ولو كان لهم أقل حظ من علم وأحقر نصيب من فهم لم يخف عليهم أن هذه الكتب لم يقصد مصنفوها إلا جمع ما بلغ إليهم من السنة بحسب ما بلغت إليه مقدرتهم وانتهى إليه علمهم ولم يتعصبوا فيها لمذهب ولا اقتصروا فيها على ما يطابق بعض المذاهب دون بعض بل جمعوا سنة رسول الله ﷺ لأمته ليأخذ كل عالم منها بقدر علمه وبحسب استعداده ومن لم يفهم هذا فهو بهيمة لا يستحق أن يخاطب بما يخاطب به النوع الإنساني وغاية ما ظفر به من الفائدة بمعاداة كتب السنة التسجيل على نفسه بأنه مبتدع أشد ابتداع فإن أهل البدع لم ينكروا جميع السنة ولا عادوا كتبها الموضوعة لجمعها بل حق عليهم اسم البدعة عند سائر المسلمين بمخالفة بعض مسائل الشرع فانظر أصلحك الله ما يصنع الجهل بأهله ويبلغ منهم حتى يوقعهم في هذه الهوة فيعترفون على أنفسهم بما يقشعر له جلد الإسلام وتبكي منه عيون أهله وليتهم نزلوا كتب السنة منزلة فن من الفنون التي يعتقدون أن أهله أعرف به من غيرهم وأعلم ممن سواهم فإن هؤلاء المقلدة على اختلاف مذاهبهم وتباين نحلهم إذا نظروا في مسألة من مسائل النحو بحثوا كتب النحاة وأخذوا بأقوال أهله وأكابر أئمته كسيبويه والأخفش ونحوهما ولم يلتفتوا إلى ما قاله من قلدوهم في تلك المسألة النحوية لأنهم يعلمون أن لهذا الفن أهلا هم المرجوع إليهم فيه فلو فرضنا أنه اختلف أحد المؤلفين في الفقه من أهل المذهب المأخوذ بقولهم المرجوع إلى تقليدهم وسيبويه في مسألة نحوية لم يشك أحد أن سيبويه هو أولى بالحق في تلك المسألة من ذلك الفقيه لأنه صاحب الفن وإمامه وهكذا لو احتاج أحد من المقلدين أن ينظر في مسألة لغوية لرجع إلى كتب اللغة وأخذ بقول أهلها ولم يلتفت في تلك المسألة إلى ما قاله من هو مقلد له ولا عول عليه ولا سيما إذا عارض ما يقوله أقوال أئمة اللغة وخالف ما يوجد في كتبها وهكذا لو أراد أحدهم أن يبحث عن مسألة أصولية أو كلامية أو تفسير أو غير ذلك من علوم العقل والنقل لم يرجع في كل فن إلا إلى أهله ولا يعول على سواهم أنه قد عرف أن أهل تلك الفنون أخبر بها وأتقن لها وأعرف بدقائقها وخفياتها وراجحها ومرجوحها وصحيحها وسقيمها بخلاف من يقلدونه فإنه وإن كان في علم الفقه بارعا عارفا به لكنه في هذه الفنون لا يرتقي إلى أقل رتبة وأحقرهم معرفة لا يرضى مقلدوه أن يعارضوا بقوله في هذه الفنون قول من هو من أهلها وإذا عرفت هذا من صنيعهم وتبينته فقل لهم ما بالكم تركتم خير الفنون نفعا وأشرفه أهلا وأفضله واضعا وهو علم السنة فإنكم قد علمتم أن اشتغال أهل هذا العلم به أعظم من اشتغال أهل سائر الفنون بفنونهم وتنقيحهم له وتهذيبه والبحث عن صحيحه وسقيمه ومعرفة علله والإحاطة بأحوال رواته وإتعاب أنفسهم في هذا الشأن مالا يتبعه أحد من أهل الفنون في فنونهم حتى صار طالب الحديث في تلك العصور لا يكون طالبا إلا بعد أن يرحل إلى أقطار متباينة ويسمع من شيوخ عدة ويعرف العالي والنازل والصحيح وغيره على وجه لا يخفى عليه مخرج الحرف الواحد من الحديث الواحد فضلا عن زيادة على ذلك وفيهم من يحفظ مائة ألف حديث إلى خمسمائة ألف حديث إلى ألف ألف حديث هي على ظهر قلبه لا تخفى عليه منها خافية ولا يلتبس عليه فيها حرف واحد ومع هذا الحفظ والإتقان في المتون كذلك يحفظون ويتقنون أسانيدهم على حد لا يخفى عليهم من أحوال الرواة شيء ولا يلتبس عليهم ما كان فيه من خير وشر وجرح وتعديل ويتركون من وجدوا في حفظه أدنى ضعف أو كان به أقل تساهل أو أحقر ما يوجب الجرح وبالجملة فمن عرف الفنون وأهلها معرفة صحيحة لم يبق عنده شك أن اشتغال أهل الحديث بفنهم لا يساويه اشتغال سائر أهل الفنون بفنونهم ولا يقاربه بل لا يعد بالنسبة إليه كثير شيء فإن طالب الحديث لا يكاد يبلغ من هذا الفن بعض ما يريده إلا بعد أن يفنى صباه وشبابه وكهولته وشيخوخته فيه ويطوف الأقطار ويستغرق بالسماع والكتب الليل والنهار ونحن نجد الرجل يشتغل بفن من تلك الفنون العام والعامين والثلاثة فيكون معدودا من محققي أهله ومتقنيهم فما بالكم أيها المقلدة إذا أردتم الرجوع إلى فن السنة لم تصنعوا فيه كما تصنعونه في غيره من الرجوع إلى أهل الفن وعدم الاعتداد بغيرهم وهل هذا منكم إلا التعصب البحت والتعسف الخالص والتحكم الصرف فهلا صنعتم في هذا الفن الذي هو رأس الفنون وأشرفها كما صنعتم في غيره فرجعتم إلى أهله وتركتم ما تجدونه مما يخالف ذلك في مؤلفات المشتغلين بالفقه الذين لا يفرقون بين أصح الصحيح وأكذب الكذب كما يعرف ذلك من يعرف نصيبا من العلم وحظا من العرفان ومن أراد الوقوف على حقيقة هذا فلينظر مؤلفات جماعة هم في الفقه بأعلى رتبة مع التبحر في فنون كثيرة كالجويني والغزالي وأمثالها فإنهم إذا أرادوا أن يتكلموا في الحديث جاءوا بما يضحك منه سامعه ويعجب لأنهم يوردون الموضوعات فضلا عن الضعاف ولا يعرفون ذلك ولا يفطنون به ولا يفرقون بينه وبين غيره وسبب ذلك عدم اشتغالهم بفن الحديث كما ينبغي فكانوا عند التكلم فيه عبرة من العبر وهكذا حال مثل هذين الرجلين وأشباههم من أهل طبقتهم مع تبحرهم في فنون عديدة فما بالك بمن يتصدى للكلام في فن الحديث ويشتغل بإدخاله في مؤلفاته وهو دون أولئك بمراحل لا تحصر وهكذا تجد كثيرا من أئمة التفسير الذين لم يكن لهم كثير اشتغال بعلم السنة كالزمخشري والفخر الرازي وغالب من جاء بعدهم فإنهم يوردون في تفاسيرهم الموضوعات التي لا يشك من له أدنى اشتغال بعلم الحديث في كونه موضعا مكذوبا على رسول الله ﷺ وذلك المفسر قد أدخله في تفسيره واستدل به على ما يقصده من تفسير كتاب الله سبحانه وهكذا أئمة أصول الفقه فإن أكثر من يشتغل من الناس في هذا الزمان بمؤلفاتهم لا يعرفون فن الحديث ولا يميزون شيئا منه بل يذكرون في مؤلفاتهم الموضوعات ويبنون عليها القناطر وبهذه الأسباب تلاعب الناس بهذا الفن الشريف وكذبوا على رسول الله ﷺ أقبح كذب فصار من له تمييز يقضي من صنيعهم العجب إذا وقف على مؤلفاتهم ومع ذلك فهم لا يشعرون بما هم فيه من الخطأ والخطل والزلل وهم الموقعون لأنفسهم في هذه الورطة بعدم رجوعهم في هذا الفن بخصوصه إلى أهله المشتغلين به كما يرجعون إلى أهل سائر الفنون عند احتياجهم إلى مسألة من مسائله ولست أظن سبب تخصيصهم لهذا الفن الشريف الجليل بعدم الرجوع إلى أهله دون غيره إلا ما يجده الشيطان في تزيين مثل ذلك لهم من المحال في الدين وإثبات الأحكام الشرعية بالأكاذيب المختلفة وإغفال كثير من مهمات الدين لعدم علم المتكلمين في الفقه بأدلتها وأنت لا يخفى علك بعد هذا أن إنصاف الرجل لا يتم حتى يأخذ كل فن عن أهله كائنا ما كان فإنه لو ذهب العلم الذي قد تأهل للاجتهاد يأخذ مثلا الحديث عن أهله ثم يريد أن يأخذ ما يتعلق بتفسيره في اللغة عنهم كان مخطئا في أخذ المدلول اللغوي عنهم وهكذا أخذ المعنى الإعرابي عنهم فإنه خطأ بل يأخذ الحديث عن أئمته بعد أن يكشف عن سنده وحال رواته ثم إذا احتاج إلى معرفة ما يتعلق بذلك الحديث من الغريب رجع إلى الكتب المدونة في غريب الحديث وكذا سائر كتب اللغة المدونة في الغريب وغيره وإذا احتاج إلى معرفة بنية كلماته رجع إلى علم الصرف وإذا احتاج إلى معرفة إعراب أواخر كلمة رجع إلى علم النحو وإذا أراد الاطلاع على ما في ذلك الحديث من دقائق العربية وأسرارها رجع إلى علم المعاني والبيان وإذا أراد أن يسلك طريقة الجمع والترجيح بينه وبين غيره رجع إلى علل أصول الفقه فالعالم إذا صنع ظفر بالحق من أبوابه ودخل إلى الإنصاف بأقوى أسبابه وأما أخذ العلم عن غير أهله ورجح ما يجده من الكلام لأهل العلم في فنون ليسوا من أهلها وأعرض من كلام أهلها فإنه يخبط ويخلط ويأتي من الأقوال والترجيحات بما هو في أبعد درجات الإتقان وهو حقيق بذلك فإن من ذهب يقلد أهل علم الفقه فيما ينقلونه من أحاديث الأحكام ولم يعتد بأئمة الحديث ولا أخذ عنهم واعتمد مؤلفاتهم كان حقيقا بأن يأخذ بأحاديث موضوعة مكذوبة على رسول الله ﷺ ويفرع عليه مسائل ليست من الشريعة فيكون من المتقولين على الله بما لم يقل المكلفين عباده بما لم يشرعه فيضل ويضل ولا بد أن يكون عليه نصيب من وزر العاملين بتلك المسائل الباطلة إلى يوم القيامة فإنه قد سن لهم سننا سيئة ويصدق عليها قول النبي ﷺ من أفتى بفتيا غير ثبت فإنما أثمه على الذي أفتاه أخرجه أحمد في المسند وابن ماجه وفي لفظ من أفتى بفتيا بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه أخرجه أحمد وأبو داود ورجال إسناده أئمة ثقات وليس هذا بمجتهد حتى يقال إنه إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر بل هذا مجازف مجترئ على شريعة الله متلاعب بها لأنه عمد إلى من لا يعرف علم الشريعة المتطهرة فرواها عنه وترك أهلها بمعزل فإن كان يعلم أن أخذ ما يستدل به من الأحاديث عن غير أهل الفن فهو قد أتى ما أتاه من الاستدلال بالباطل وإثبات المسائل التي ليست بشرع عن عمد وقصد فما أحقه أن يعاقب على ذلك فقد صح عن رسول الله ﷺ أنه قال من روى عني حديثا يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين وفي رواية يظن أنه كذب والحديث ثابت في صحيح مسلم وغيره وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث جماعة من الصحابة أنه ﷺ قال من كذب علي متعمدا فليبوأ مقعده من النار.
فهذا العامد إلى كتب ما لا يعرفون صحيح الأحاديث من باطلها ولا يميزونها بوجه من وجوه التمييز كالمشتغلين بعلم الفقه والمشتغلين بعلم الأصول قد دخل تحت حديث فهو أحد الكاذبين لأن من كان كذلك فهو مظنة للكذب على رسول الله ﷺ وإن لم يكن عن عمد منه وقصد لأنه أقدم على رواية من لا يدري أصحيح هو أم باطل ومن أقدم على ما هذا شأنه وقع في الكذب وإما إذا كان الناقل من غير أهل الفن لا يدري أن من نقل عنه لا تمييز له فهذا جاهل ليس بأهل لئن يتكلم على أحكام الله فاستحق العقوبة من الله بإقدامه على الشريعة وهو بهذه المنزلة التي لا يستحق صاحبها أن يتكلم معها على كلام فرد من أفراد أهل العلم فكيف على كلام الله ورسوله فبعدا وسحقا للمتجرئين على الله وعلى شريعته بالإقدام على التأليفات للناس مع قصورهم وعدم تأهلهم وقد كثر هذا الصنع من جماعة يبرزون في معرفة مسائل الفقه التي هي مشوبة بالرأي إن لم يكن هو الغالب عليها ويتصدرون لتعليم الطلبة لهذا العلم ثم تكبر أنفسهم عندهم لما يجدونه من اجتماع الناس عليهم وأخذ العامة بأقوالهم في دينهم فيظنون أنهم قد عرفوا ما عرفه الناس وظفروا بما ظفر به علماء الشريعة المتصدرون للتأليف والكلام على مسائل الشريعة فيجمعون مؤلفات هي مما قمشت وطن حبل الحاطب صنع من لا يدري لمن لا يفهم ثم يأخذها عنهم من هو أجهل منهم وأقصر باعا في العلم فينشر في العالم وتظهر في الملة الإسلامية فاقرة من الفواقر وقاصمة من القواصم وصاحبها لجهله يظن أنه قد تقرب إلى الله بأعظم القرب وتاجره بأحسن متاجرة وهو فاسد الظن باطل الاعتقاد مستحق لسخط الله وعقوبته لأنه أقدم في محل الإحجام وتحلى بما ليس له ودخل في غير مدخله ووضع جهله على أشرف الأمور وأعلاها وأوالها بالعلم والإتقان والتمييز وكمال الإدراك فهذا هو بمنزلة القاضي الذي لا يعلم بالحق فهو في النار سواء حكم بالحق أو بالباطل بل هذا الذي أقدم على تصنيف الكتب وتحرير المجلدات في الشريعة الإسلامية مع قصوره وعدم بلوغه إلى ما لا يبد لمن يتكلم في هذا الشأن منه أحق بالنار من ذلك القاضي الجاهل لأنه لم يصب بجهل القاضي الجاهل مثل ما أصيب بمصنفات هذا المصنف المقصر ومن فتح الله عليه من معارفه بما يعرف به الحق من الباطل والصواب من الخطأ لا يخفى عليه ما في هذه المصنفات الكائنة بأيدي الناس في كل مذهب فإنه يقف من ذلك على العجب ففي بعض المذاهب يرى أكثر ما يقف عليه في مصنف من مصنفات الفقه خلاف الحق وفي بعضها يجد بعضه صوابا وبعضه خطأ وفي بعضها يجد الصواب أكثر من الخطأ ثم يعثر على ما يحرره مصنفو تلك الكتب من الأدلة لتلك المسائل التي قد دونوها فيجدوا في الصحيح والحسن والضعيف والموضوع وقد جعلها المصنف شيئا واحدا وعمل بها جميعا من غير تمييز وعارض بين الصحيح والموضوع وهو لا يدري ورجح الباطل على الصحيح وهو لا يعلم فما كان أحق هذا المصنف لا كثر الله في أهل العلم من أمثاله بأن يؤخذ على يده ويقال له اترك ما لا يعنيك ولا تشتغل بما ليس من شأنك ولا تدخل فيما لا مدخل لك فيه ثم إذا فات أهل عصره أن يأخذوا على يده فلا ينبغي أن يفوت من بعده أن يأخذوا على أيدي الناس ويحولوا بينهم وبين هذا الكتاب الذي لا يفرق مؤلفه بين الحق والباطل ولا يميز بين ما هو من الشريعة وما ليس منها فما أوجب هذا عليهم فإن هذا المشئوم قد جنى على الشريعة وأهلها جناية شديدة وفعل منكرا عظيما وهو يعتقد لجهله أنه قد نشر في الناس مسائل الدين ويظن من اتبعه في الأخذ عنه أن هذا الذي جاء به هذا المصنف هو الشريعة فانتشر بين الجاهلين أمر عظيم وفتنة شديدة وهذا هو السبب الأعظم في اختلاط المعروف بالمنكر في كتب الفقه وغلبة علم الرأي على علم الرواية فإن المتصدر للتصنيف في كتب الفقه وإن بلغ في إتقانه وإتقان علم الأصول وسائر الفنون الآلية إلى حد يتقاصر عنه الوصف إذ لم يتقن علم السنة ويعرفه صحيحه من سقيمه ويعول على أهله في إصداره وإيراده كانت مصنفاته مبنية على غير أساس لأن علم الفقه هو مأخوذ من علم السنة إلا القليل منه وهو ما قد صرح بحكمه القرآن الكريم فما يصنع ذو الفنون بفنونه إذا لم يكن عالما بعلم الحديث متقنا له معولا على المصنفات المدونة فيه وبهذه العلة تجد المصنفين في علم الفقه يعولون في كثير من المسائل على محض الرأي ويدونونه في مصنفاتهم وهم لا يشعرون أن في ذلك سنة صحيحة يعرفها أقل طالب لعلم الحديث وقد كثر هذا جدا من المشتغلين بالفقه على تفاقم شره وتعاظم ضرره وجنوا على أنفسهم وعلى الشريعة وعلى المسلمين وإذا شككت في شئ من هذا فخذ أي كتاب شئت من الكتب المصنفة في الفقه وطالعه تجد الكثير الواسع وكثيرا ما تجد في ذلك من المسائل التي لم تدع إليها حاجة ولا قام عليها دليل بل مجرد الفرض والتقدير وما يدور في مناظرة الطلبة ويسبق إليه أذهانهم فإن هذا يكون في الابتداء سؤالا ومناظرة ثم يجيب عنه من هو من أهل الفقه وغالب من يتصدر منهم وينفق بينهم هو من لا التفات له إلى سائر العلوم ولا اشتغال منه بها ولا يعرف الحجة ولا يعقلها فيدون الطلبة جوابه ويصير حينئذ فقيها وعلما وهو كلام جاهل لا يستحق الخطاب ولا يعول على مثله في جواب لو تكلم معه المتكلم في فن من فنون الاجتهاد لكان ذلك عنده بمنزلة من يتكلم بالعجمية ويأتي بالمعميات ويتعمد الألغاز فيا هذا الجاهل لا كثر الله في أهل العلم من أمثالك ألا تعتصر على ما قد عرفته من كلام من تقلده فإذا سألك سائل عن شيء منه نقلته له بنصه وإن سألك عما لم يكن منه قلت لا أدري فما بالك والكلام برأيك وأنت جاهل لعلم الرأي فضلا عن علم الرواية وعاطل عن كل معقول ومنقول لم تحط من علم الفقه الذي ألفه أهل مذهبك إلا بمختصر من المختصرات فضلا عن مؤلفات غير أهل مذهبك في الفقه فضلا عن المؤلفات في سائر العلوم فأنت من علامات القيامة ومن دلائل رفع العلم وقد أخبرنا رسول الله ﷺ عنك وعن أمثالك وأبان لنا أنه يتخذ الناس رؤوسا جهالا فيفتون بغير علم فيظلون ويضلون فأنت ممن يفتي بغير علم ويعتمد الضلالة لنفسه والإضلال للناس فاربع على ظلعك وأقصر من غوايتك واترك ما ليس من شأنك ودع مثل هذا لمن علمه الله الكتاب والسنة وأطلعه على أسرارها بما فتح له من المعارف الموصلة إليهما فأنت وإن وكلت الأمر إلى أهله وألقيت عنان هذا المركب إلى فارسه دخل إلى الشرع من أبوابه ووصل إلى الحق من طريقه وحط عن عباد الله كثيرا من هذه التكاليف التي قد كلفهم بها أمثالك من الجهال وأراحهم من غالب هذه الأكاذيب التي يسمونها علما فإن ذلك شيء بالجهل خير منه ولقد عظمت المحنة على الشرع وأهله بهذا الجنس من المقلدة حتى بطل كثير من الشريعة الصحيحة التي لا خلاف بين المسلمين في ثبوتها لاشتهارها بين أهل العلم ووجودها إما في محكم الكتاب العزيز أو في ما صح من دواوين السنة المطهرة التي هي مشتهرة بين الناس اشتهارا على وجه لا يخفى على من ينسب إلى العلم وإن كان قليل الحظ فيه وسبب ذلك أن هؤلاء كما عرفت قد جعلوا غاية مطلبهم ونهاية مقصدهم العلم بمختصر من مختصرات الفقه التي هي مشتملة على ما هو من علم الرأي والرواية والرأي أغلب ولم يرفعوا إلى غير ذلك رأسا من جميع أنواع العلوم فصاروا جاهلين بالكتاب والسنة وعلمهما جهلا شديدا لأنه قد تقرر عندهم أن حكم الشريعة منحصر في ذلك المختصر وأن ما عداه فضلة أو فضول فاشتد شغفهم به وتكالبهم عليه ورغبوا عما عداه وزهدوا فيه زهدا شديدا فإذا سمعوا آية من كتاب الله أو حديثا من سنة رسول الله ﷺ مصرحا بحكم من الأحكام الشرعية تصريحا يفهمه العامة من أهل طبقتهم كان ذلك هينا عندهم كأنه لم يكن كلام الله أو كلام رسوله ويطرحونه لمجرد مخالفته لحرف من حروف ذلك الكتاب بل مفهوم من مفاهيمه وهذا لا ينكره من صنيعهم إلا من لا يعرفهم وقد عرفت منهم من لو جمع له الجامع مصنفا مستقلا من أدلة الكتاب والسنة يشتمل على أدلة قرآنية وحديثية ما يجاوز المئتين أو الألوف كلها مصرح بخلاف حرف من حروف ذلك المختصر الذي قد عرفه من الفقه لم يلتفت إلى شيء من ذلك ولو انضم إلى الكتاب والسنة المنقولة في ذلك المصنف إجماع الأمة سابقها ولاحقها وكبيرها وصغيرها من كل من ينتسب إلى العلم على خلاف ما في ذلك المختصر لم يرفع رأسه إلى شيء من ذلك ولا أستبعد أنه لو جاءه نبي مرسل أو ملك مقرب يخبره أن الحق الذي شرعه الله لعباده خلاف حرف من حروف ذلك المختصر لم يسمع منهما ولا صدقهما بل لو انشقت السماء وصرخ منها ملك من الملائكة بصوت يسمعه جميع أهل الدنيا بأن الحق على خلاف ذلك الحرف الذي في المختصر لم يصدقه ولا رجع إلى قوله وأعظم من هذا أنك ترى الواحد منهم يعترف بأنه مقلد ثم يحفظ عن شيخه مسألة يعترف أنها من أفكاره وأنه لم يسبق إليها مع اعترافه بأن ذلك الشيخ مقلد واعترافه بأن تقليد المقلد لا يصح ثم يأخذ هذه المسألة عن شيخه ويعمل بها قابلا لها قبولا تاما ساكنا إليها منثلج الخاطر بها مؤثر لها على أدلة الكتاب والسنة وأنظار المبرزين من العلماء ولو أجمعوا جميعا فإن إجماعهم ودليلهم لا يثني هذا الفدم الجافي الجلف عن كلام شيخه المقلد الذي سمعه منه وبالجملة فمن كان بهذه المنزلة فهو ممن طبع الله على قلبه وسلبه نور التوفيق فعمى عن طريق الرشاد وضل عن سبيل الحق ومثل هذا لا يستحق توجيه الخطاب إليه ولا يستأهل الاشتغال به فإنه وإن كان في مسلاخ إنسان وعلى شكل بني آدم فهو بالدواب أشبه وإليها أقرب ويا ليته لو كان دابة ليسلم من معرته عباد الله وشريعته ولكن هذا المخذول مع كونه حماري الفهم بهيمي الطبع قد شغل نفسه بالحط على علماء الدين المبرزين المشتغلين بالكتاب والسنة وعلمهما وما يوصل إليهما وعاداهم أشد العداوة وكافحهم بالمكروه مكافحة ونسبهم إلى مخالفة الشرع ومباينة الحق بسبب عدم موافقتهم له على العمل بما تلقنه من شيخه الجاهل ولقد جاءت هذه الأزمة في ديارنا هذه بما لم يكن في حساب ولا خطر ببال إبليس أن تكون له مثل هذه البطانة ولا ظن أنه ينجح كيده فيهم إلى هذا الحد ويبلغون في طاعته هذا المبلغ فإن غالبهم قد ضم إلى ما قدمنا من أوصافه وصفا أشد منها وأشنع وأقبح وهو أنه إذا سمع قائلا يقول قال رسول الله أو يملي سندا فيقول حدثنا فلان عن فلان قامت قيامته وثار شيطانه واعتقد أن هذه صنع أعداء أهل البيت المناصبين لهم بالعداوة المخالفين لهديهم فانظر ما صنع هذا الشيطان فإن في نسبته للمشتغلين بالسنة المطهرة إلى مخالفة أهل البيت طعنا عظيما على أهل البيت لأنه جعلهم في جانب والسنة في جانب آخر وجعل بينهما عنادا وتخالفا فانظر هذا الشيعي المحب لأهل البيت القائم في نشر مناقبهم كان أول ما قرره من مناقبهم النداء في الناس بأن من عمل بالسنة المطهرة أو رواها أو أحبها فهو مخالف لأهل البيت وحاشى لأهل البيت أن يكونوا كما قال فهم أحق الأمة باتباع سنة رسول الله ﷺ والاهتداء بهديه والاقتداء بكلامه ولقد رأينا هؤلاء الذين يسخطون على السنة المطهرة ويعاون من اشتغل بها وعكف عليها يسمع أحدهم في المساجد والمدارس علوم الفلسفة وسائر علوم غير الشريعة يقرأها الطلبة على الشيوخ فلا ينكر ذلك ولا يرى به بأسا فإذا سمع حدثنا فلان عن فلان قال قال رسول الله ﷺ كان هذا أشد على سمعه من علم أرسطو طاليس وأفلاطون وجالينوس بل أثقل على سمعه من فرعون وهامان فقبح الله أهل البدع وقلل عددهم وأراح منهم فإنهم أضر على الشريعة من كل شيء قد شغلوا أنفسهم بمسائل معروفة هي رأس مذهبهم وأساسه وتركوا ما عدا ذلك وعابوه وعادوا أهله انظر الرافضة فإنك تجد أكثر ما لديهم وأعظم ما يشتغلون به ويكتبونه ويحفظونه مثالب الصحابة رضي الله عنهم المكذوبة عليهم ليتوصلوا بذلك إلى ما هو غاية ما لديهم من السب والثلب لهم صانهم الله وكبت مبغضيهم ثم يعتبرون الناس جميعا بهذا المسألة فمن وافقهم فيما هو المسلم حقا المحق وإن فعل ما فعل ومن خالفهم في هذه المسألة فهو المبطل المبتدع وإن كان على جانب من الورع وحظ من التقوى لا يقادر قدرهما وقد يضمون إلى هذه المسألة التظهر بجميع الصلوات وترك الجمع كما قلته في أبيات تشيع الأقوام في عصرنا منحصر في بدع تبتدع عداوة السنة والثلب للأسلاف والجمع وترك الجمع وأما معيار التشيع في دارنا هذه عند جماعة من الزيدية لا عند جميعهم فيزيدون على هذه الأربع خامسة وهي التظهر بترك بعض من سنن الصلاة كالرفع والضم فإن أهل الطبقة التي ذكرنا لك أنها أصل الشر إذا رأوا من يفعل الرفع والضم ونحوهما كالتوجه في الصلاة بعد التكبير والتورك في التشهد الأخير والدعاء في الصلاة بغير ما قد عرفوه عادوه عداوة أشد من عداوتهم لليهود النصارى وظنوا أنه على شريعة أخرى وعلى دين غير دين الإسلام وأوقعوا في أذهان العوام أنه ناصبي فانتقوا من فعله لهذه السنن أو أحدها إلى النصب الذي هو بغض علي وحكموا عليه به حكما جازما فانظر هذا الصنع الشنيع الذي هو شبيه بلعب الصبيان ومما أحكيه لك إني أدركت في أوائل أيام طلبي رجلا يقال له الفقيه صالح النهمي قد اشتهر في الناس بالعلم والزهد وطلب علوم الاجتهاد طلبا قويا فأدركها إدراكا جيدا فرفع يديه في بعض الصلوات ورآه يفعل ذلك بعض المدرسين في علم الفقه المشهورين بالتحقيق فيه والإتقان له فقال اليوم ارتد الفقيه صالح فانظر هذه الكلمة من مثل هذا مع شهرته في الناس واجتماع كثير من طيلة علم الفروع عليه في جامع صنعاء وشيبه الناصع وثيابه الحسنة كيف موقعها في قلوب العامة وما تراهم يعتقدون في الفاعل لذلك بعد هذا فأبعد الله هذا عالما وذهب بهذا علما وإن كان لا عالم ولا علم فإن من لا يعقل الحجة ولا يفهم إلا مجرد الرأي لا الرواية ليس من العلم في شيء ولا يستحق الدخول في باب من أبوابه ولا ينبغي وصفه بشيء من صفاته فيا هذا لا حياك الله أيكون فعل سنة الرفع التي اجتمع على روايتها عن رسول الله ﷺ العشرة المبشرة بالجنة ومعهم زيادة على أربعين صحابيا ردة وكفرا وخروجا من الملة الإسلامية أتدري ما صنعت بنفسك يا جاهل عمدت إلى سنة من السنن الثابتة ثبوتا متواترا فتركتها ولم تقنع لمجرد إنكار ثبوتها بل جاوزت ذلك إلى أن جعلتها ردة فجنيت على صاحب الشريعة أولا ثم على كل مسلم يفعل هذه السنة ثانيا ثم على نفسك ثالثا فخبت وخسرت وخبطت خبطا ليس من شأن من هو مثلك من أسراء التقليد واتباع التعصب وكفرت عالما من علماء المسلمين يفعل سنة من سنن سيد المرسلين فما بالك بهذا وأنت تعترف على نفسك أنك لا تعرف الحق ولا تعقل الصواب في مسائل الطهارة والتخلي والوضوء والصلاة فكيف قمت هاهنا مقام تكفير المسلمين والحكم عليهم بصريح الردة جازما بذلك متحدثا به مطمئنا إليه فما أوجب إنكار مثل هذا المنكر على أئمة المسلمين وأولي الأمر منهم فإن التنكيل بهذا المتكلم بمثل هذا الكلام بالحبس وسائر أنواع التعزير التي تردعه وتردع أمثاله من أهل التعصب عن انتهاك أعراض المسلمين والتلاعب بعلماء الدين من أعظم ما يتقرب به المتقربون وأفضل ما يفعله من ولاه الله من أمر عباده شيئا فإن غالب ما يصدر من هؤلاء المتعصبة من تمزيق أعراض علماء الدين المتمسكين بالسنن الصحيحة الثابتة في هذه الشريعة هو راجع إلى الطعن على الشريعة والرد لما جاءت به وتقليب السنن بدعا والبدع سننا والأخذ على أيدي هؤلاء حتى يدعوا ما ليس من شأنهم ويقلعوا عن غوايتهم ويقصروا عن ضلالتهم واجب على كل مسلم وإذا لم تتناول أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا لم تتناول غيره ومن هذا الجنس الذي يفعله أهل التعصب فرارهم عن علماء الإنصاف وطعنهم على من اتصل بهم أو أخذ عنهم وتحذيرهم للعامة وللطلبة عن مجالسة من كان كذلك وإخبارهم لهم بأن ذلك العالم سيضلهم ويخرجهم عما هم فيه من المذهب الذي هم عليه ثم يذكرون عند هذا التحذير والإنذار مطاعن يطعنون بها على ذلك العالم لمجرد سماعها يثور غضب كل مسلم ويلتهب طبع من يسمع ذلك كائنا من كان فيقولون مثلا لذلك العامي أو الطالب هذا العالم الذي تتصل به يبغض علي بن أبي طالب ويبغض أهل البيت أو نحو هذه العبارات الفظيعة فعند سماع ذلك تقوم قيامة هذا المسكين وليس بملوم فإنه جاهل جاء إليه من له ثياب أهل العلم وسمتهم وشكلهم فقال له إن ذلك العالم يعتقد كذا أو يقول كذا فصدقه فالذئب محمول على ذلك القائل ولا يكون إلا من أهل تلك الطبقة التي هي منشأ الشر ومنبع الفتنة وقد اشتهر على ألسن الناس في صنعاء وما يتصل بها أن العلماء المجتهدين ومن يأخذ عنهم ويتصل بهم في هذه العصور يقال لهم سنية وهذا هو اللقب الذي يتنافس فيه المتنافسون فإن نسبة الرجل إلى السنة تنادي أبلغ نداء وتشهد أكمل شهادة بأنه متلبس بها ولكنه لما صار في اصطلاح هؤلاء المتعصبة يطلق على من يعادي عليا ويوالي معاوية افتراء منهم على أهل العلم واجتراء على المسلمين استصعب ذلك من استصعبه عند إطلاقه عليه في ألسن هؤلاء الذين هم بالدواب أشبه ولم أجد ملة من الملل ولا فرقة من الفرق الإسلامية أشد بهتا وأعظم كذبا وأكثر افتراء من الرافضة فإنهم لا يبالون بما يقولون من الزور كائنا من كان ومن كان مشاركا لهم في نوع من أنواع الرفض وإن قل كان فيه مشابهة لهم بقدر ما يشاركهم فيه فهذا الذي نجده في ديارنا هذه يختلف باختلاف المشاركة المذكورة فمن تلاعب به الشيطان ولم يزل ينقله من درجة إلى درجة حتى وصل به إلى الرفض البحت كما تشاهده في جماعة فلا مطمع في كفه عن الطعن والثلب لخير القرون فضلا عن أهل عصره وليس يفلح من كان هكذا ولا يرجع إلى حق ولا ينزع عن باطل فإن تظاهر بالإنصاف والإقلاع عن البدعة والتلبس بالسنة فالغالب أن ذلك يكون لجلب مصلحة له دنيوية أو دفع مفسدة يخشى ضررها ولا يصح إلا في أندر الأحوال فالهداية بيد الله يهدي من يشاء وقد شاهدنا من خضوع هؤلاء لأطماع الدنيا وإن كانت حقيرة ما لا يمكن التعبير عنه فإنه لو طلب منه بعض أهل الدنيا أن يخرج من مذهبه لكان سريع الإجابة قريب الانفعال حتى ينال ذلك الغرض الدنيوي وهو لا محالة راجع إلى ما كان فيه ومن كان دون هذا فهو أقل ضررا منه للإسلام وأهله ولنفسه وأقرب إلى الإنصاف ثم من كان أقل تلبسا بهذه البدعة كان أقل شرا وأخف ضرا وهو يرجع عنها إذا طلب العلم ومارس فنونه وعكف على علم الحديث فإن لم يكن متأهلا لطلب العلوم فليلزم أهله المتصفين بالإنصاف العارفين بالحق المهتدين بهدى الدليل وقد شاهدنا كثيرا فمن كان كذلك يقلع عنه وتنحل من عقد ما قد أصابه عقدة بعد عقدة حتى تصفو وتذهب ما تكدرت به فطرته ويدخل إلى الحق من أبوابه بحسب استعداده وبقدر فهمه