انتقل إلى المحتوى

منهاج السنة النبوية/4

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



فقول القائل الآفتقار إلى المؤثر إما أن يكون لأجل الحدوث أو الإمكان أو لمجموعهما وما يذكره طائفة من المتأخرين من الأقوال الثلاثة في ذلك فحقيقه أن يقال أتريدون البحث عن نفس العلة الموجبة في نفس الأمر لهذا الافتقار أم البحث عن الدليل الدال على هذا الافتقار

فإن أردتم الأول قيل لكم هذا فرع ثبوت كون افتقار المفعول إلى الفاعل إنما هو لعلة أخرى ولم تثبتوا ذلك بل لقائل أن يقول كل ما سوى الله مفتقر اليه لذاته وحقيقته لا لعلة أوجبت كون ذاته وحقيقته مفتقرة إلى الله ومن المعلوم أنه لا يجب في كل حكم وصفة توصف بها الذوات أن تكون ثابتة لعلة فإن هذا يستلزم التسلسل الممتنع فإن افتقار كل ما سوى الله إلى الله هو حكم وصفة ثبت لما سواه فكل ما سواه سواء سمى محدثا أو ممكنا أو مخلوقا أو غير ذلك هو مفتقر محتاج إليه لا يمكن استغناؤه عنه بوجه من الوجوه ولا في حال من الأحوال بل كما أن غنى الرب من لوازم ذاته ففقر الممكنات من لوازم ذاتها وهي لا حقيقة لها إلا إذا كانت موجودة فإن المعدوم ليس بشيء فكل ما هو موجود سوى الله فإنه مفتقر إليه دائما حال حدوثه وحال بقائه

وإن أريد بعلة الافتقار إلى الفاعل ما يستدل به على ذلك فيقال كون الشيء حادثا بعد أن لم يكن دليل على أنه مفتقر إلى محدث يحدثه وكونه ممكنا لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام دليل على أنه مفتقر إلى واجب يبدعه وكونه ممكنا محدثا دليلان لأن كلا منهما دليل على افتقاره وهذه الصفات وغير ذلك من صفاته مثل كونه محدثا وكونه فقيرا وكونه مخلوقا ونحو ذلك تدل على احتياجه إلى خالقه فأدلة احتياجه إلى خالقه كثيرة وهو محتاج إليه لذاته لا لسبب آخر وحينئذ فيمكن أن يقال وجوده دليل على افتقاره إلى خالقه وعدمه السابق دليل على افتقاره إلى الخالق وكونه موجودا بعدم العدم دليل على افتقاره إلى الخالق فلا منافاة بين الأقسام وعلى هذا فلا يصح قوله العدم نفى محض فلا حاجة له إلى المؤثر أصلا وذلك أنا إذا جعلنا عدمه دليلا على أنه لا يوجد بعد العدم إلا بفاعل لم يجعل عدمه هو المحتاج إلى المؤثر بل نظار المسلمين يقولون إن الممكن لا يفتقر إلى المؤثر إلا في وجوده وأما عدمه المستمر فلا يفتقر فيه إلى المؤثر

وأما هؤلاء الفلاسفة كابن سينا ومن تبعه كالرازي فيقولون إنه لا يترجح أحد طرفي الممكن على الآخر إلا بمرجح فيقولون لا يترجح عدمه على وجوده إلا بمرجح كما يقولون لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح ثم قالوا مرجح العدم عدم المرجح فعله كونه معدوما عدم علة كونه موجودا

وأما نظار المسلمين فينكرون هذا غاية الإنكار كما ذكر ذلك القاضي أبو بكر والقاضي أبو يعلى وغيرهما من نظار المسلمين وهذا هو الصواب

وقول أولئك علة عدمه عدم علته فيقال لهم أتريدون أن عدم علته مستلزم لعدمه ودليل على عدمه أم تريدون أن عدم علته هو الذي جعله معدوما في الخارج

أما الأول فصحيح ولكن ليس هو قولكم

وأما الثاني فباطل فإن عدمه المستمر لا يحتاج إلى علة إلا كما يحتاج عدم العلة إلى علة ومعلوم أنه إذا قيل عدم لعدم علته قيل وذلك العدم أيضا لعدم علته وهذا مع أنه يقتضي التسلسل في العلل والمعلولات وهو باطل بصريح العقل فبطلانه ظاهر ولكن المقصود بيان بعض تناقض هؤلاء الملاحدة المتفلسفة المخالفين لصريح المعقول وصحيح المنقول

وكذلك قوله لأن كونه مسبوقا بالعدم كيفية تعرض للوجود بعد حصوله وهي لازمة له لا علة له

فيقال هذا ليس بصفة ثبوتية له بل هي صفة إضافية معناها أنه كان بعد أن لم يكن ثم لو قدر أنها صفة لازمة له فالمراد أنها دليل على افتقاره إلى المؤثر وأيضا فأنت قدرت هذا علة افتقاره لم تقدره معلول افتقاره فكونه غنيا لا يمنع كونه علة وإنما يمنع كونه معلولا وإن قال هذه متأخرة عن افتقاره والمتأخر لا يكون علة للمتقدم

قيل هذا ذكرته في مواضع أخر لا هاهنا وجوابه أنه دليل على الافتقار لا موجب له والدليل متأخر عن المدلول عليه باتفاق العقلاء

فإن قيل إن كان الحدوث دليلا على الافتقار إلى المؤثر لم يلزم أن يكون كل مفتقر إلى المؤثر حادثا لأن الدليل يجب طرده ولا يجب عكسه

قيل نعم انتفاء الدلالة من هذا الوجه لا ينفي الدلالة من وجوه أخر مثل أن يقال شرط افتقاره إلى الفاعل كونه محدثا والشرط يقارن المشروط وهذا أيضا مما يبين به الاقتران فيقال علة الافتقار بمعنى شرط افتقاره كونه محدثا أو ممكنا أو مجموعهما والجميع حق ومثل أن يقال إذا أريد بالعلة المقتضى لافتقاره إلى الفاعل هو حدوثه أي كونه مسبوقا بالعدم فإن كل ما كان مسبوقا بالعدم هو ثابت حال افتقاره إلى الفاعل فإن افتقاره إلى الفاعل هو حال حدوثه وتلك الحال هو فيها مسبوق بالعدم فإن كل ما كان مسبوقا بالعدم كان كائنا بعد أن لم يكن وهذا المعنى يوجب افتقاره إلى الفاعل

قال الرازي:

البرهان الخامس أنه إما أن يتوقف جهة افتقار الممكنات إلى المؤثر أو جهة تأثير المؤثرات فيها على الحدوث أو لا تتوقف والأول قد أبطلناه في باب القدم والحدوث فثبت أن الحدوث غير معتبر في جهة الافتقار

فيقال ما ذكرته في ذلك قد بين إبطاله أيضا وأن كل ما يفتقر إلى الفاعل لا يكون إلا حادثا وأما القديم الأزلي فيمتنع أن يكون مفعولا والذي ذكرته في كتاب الحدوث والقدم في المباحث المشرقية هو الذي جرت عادتك بذكره في المحصل وغيره وهو أن الحدوث عبارة عن كون الوجود مسبوقا بالعدم وبالغير فهو صفة للوجود فيكون متأخرا عنه وهو متأخر عن تأثير المؤثر فيه المتأخر عن احتياجه إليه المتأخر عن علة الحاجة فلو كان الحدوث علة الحاجة إلى الحدوث أو شرطها لزم تأخر الشيء عن نفسه بأربع مراتب

جوابه أن هذا ليس صفة وجودية قائمة به حتى يتأخر عن وجوده بل معناه أنه كان بعد أن لم يكن وهو إنما يحتاج إلى المؤثر في هذه الحال وهو في هذه الحال مسبوق بالعدم والتأخرات المذكورات هنا اعتبارات عقلية ليست تأخرات زمانية والعلة هنا المراد بها المعنى الملزوم لغيره ليس المراد بها أنها فاعل متقدم على مفعوله بالزمان واللازم والملزوم قد يكون زمانهما جميعا كما يقولون الصفة تفتقر إلى الموصوف والعرض إلى الجوهر وإن كانا موجودين معا ويقولون إنما افتقر العرض إلى الموصوف لكونه معنى قائما بغيره وهذا المعنى مقارن لافتقاره إلى الموصوف

قال الرازي

البرهان السادس أن الممكن إذا لم يوجد فعدمه إما أن يكون لأمر أو لا لأمر ومحال أن يكون لا لأمر فإنه حينئذ يكون معدوما لما هو هو وكل ما هويته كافية في عدمه فهو ممتنع الوجود فإذن الممكن العدم ممتنع الوجود هذا خلف فتبين أن يكون الأمر ثم ذلك المؤثر لا يخلو إما أن يشترط في تأثيره فيه تجدده أولا يشترط ومحال أن يشترط ذلك فإن الكلام مفروض في العدم السابق على وجوده والعدم المتجدد هو العدم بعد الوجود فإذن لا يشترط في استناد عدم الممكنات إلى ما يقتضى عدمها تجدده وإذا كان العدم الممكن مستندا إلى المؤثر من غير شرط التجدد علمنا أن الحاجة والافتقار لا يتوقف على التجدد وهو المطلوب

فيقال من العجائب بل من أعظم المصائب أن يجعل مثل هذا الهذيان برهانا في هذا المذهب الذي حقيقته أن الله لم يخلق شيئا بل الحوادث تحدث بلا خالق وفي إبطال أديان أهل الملل وسائر العقلاء من الأولين والأخرين لكن هذه الحجج الباطلة وأمثالها لما صارت تصد كثيرا من أفاضل الناس وعقلائهم وعلمائهم عن الحق المحض الموافق لصريح المعقول وصحيح المنقول بل تخرج أصحابها عن العقل والدين كخروج الشعرة من العجين إما بالجحد والتكذيب وإما بالشك والريب احتجنا إلى بيان بطلانها للحاجة إلى مجاهدة أهلها وبيان فسادها من أصلها إذ كان فيها من الضرر بالعقول والأديان ما لا يحيط به إلا الرحمن

والجواب من وجوه

أحدها أن يقال قد تقدم قولكم قبل هذا بأسطر إن العدم نفى محض فلا حاجة به إلى المؤثر أصلا وجعلتم هذا مقدمة في الحجة التي قبل هذه فكيف تقولون بعد هذا بأسطر المعدوم الممكن لا يكون عدمه إلا لموجب وقدمنا أن جماهير نظار المسلمين وغيرهم يقولون إن العدم لا يفتقر إلى علة وما علمت أحدا من النظار جعل عدم الممكن مفتقرا إلى علة إلا هذه الطائفة القليلة من متأخري المتفلسفة كابن سينا وأتباعه وإلا فليس هذا قول قدماء الفلاسفة لا أرسطو ولا أصحابه كبرقلس والإسكندر الأفروديسي شارح كتبه وثامسطيوس ولا غيرهم من الفلاسفة ولا هو قول أحد من النظار كالمعتزلة والأشعرية والكرامية وغيرهم فليس هو قول طائفة من طوائف النظار لا المتكلمة ولا المتفلسفة ولا غيرهم

الوجه الثاني أن يقال قوله محال أن يكون معدوما لا لأمر فإنه حينئذ يكون معدوما لما هو هو وكل ما هويته كافية في عدمه فهو ممتنع الوجود

فيقال هذا تلازم باطل فإنه إذا كان معدوما لا لأمر لم يكن معدوما لا لذاته ولا لغير ذلك فقولك فإنه حينئذ يكون معدوما لما هو هو باطل فإنه يقتضي أنه معدوم لأجل ذاته وأن ذاته هي العلة في كونه معدوما كالممتنع لذاته وهذا يناقض قولنا معدوم لا لأمر فكيف يكون نفى الشيء لازما لثبوته

فإن قيل مراده إما أن يكون لأمر أو لا لأمر خارجي قيل فتكون القسمة غير حاصرة وهو أن يكون معدوما لا لعلة

الوجه الثالث أن يقال الفرق معلوم بين قولنا ذاته لا تقتضي وجوده ولا عدمه أو لا تستلزم وجوده ولا عدمه أو لا توجب وجوده ولا عدمه وبين قولنا تقتضي وجوده أو عدمه أو تستلزم ذلك أو توجه فإن ما استلزمت ذاته وجوده كان واجبا بنفسه وما استلزمت عدمه كان ممتنعا وما لم تستلزم واحدا منهما لم يكن واجبا ولا ممتنعا بل كان هو الممكن فإذا قيل إنه معدوم لا لأمر لم يوجب أن يكون هناك أمر يستلزم عدمه بل يقتضي ألا يكون هناك أمر يستلزم وجوده ومعلوم أنه على هذا التقدير لا يكون ممتنع الوجود

ولهذا يقول المسلمون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فمشيئته مستلزمة لوجود مراده وما لا يشاؤه لا يكون فعدم مشيئته مستلزم لعدمه لا أن العدم فعل شيئا بل هو ملزوم له وإذا فسرت العلة هنا بالملزوم وكان النزاع لفظيا ولم يكن لهم فيه حجة

وقولنا ذاته استلزمت وجوده أو استلزمت عدمه لا ينبغي أن يفهم منه أن في الخارج شيئا كان ملزوما لغيره فإن الممتنع ليس بشيء أصلا في الخارج باتفاق العقلاء ولكن حقيقة الأمر أن نفسه هي اللازم والملزوم إما الوجود وإما العدم فعدم الممتنع ملزوم عدمه ووجود الواجب ملزوم وجوده وأما الممكن فليس له من نفسه وجود ولا عدم ملزوم لوجود ولا عدم بل إن حصل ما يوجده وإلا بقي معدوما

الوجه الرابع أن يقال إذا كان كل ممكن لا يعدم إلا بعلة معدومة مؤثرة في عدمه فتلك العلة المعدومة إن كان عدمها واجبا كان وجودها ممتنعا فإن المعلول يجب بوجوب علته ويمتنع بامتناعها وحينئذ فيكون عدم الممكن علته واجبة ووجوده ممتنعا فإن المعلول يجب بوجوب علته ويمتنع بامتناعها وحينئذ كل ممكن يقدر إمكانه فإنه ممتنع وهذا فيه من الجمع بين النقيضين ما هو في غاية الاستحالة كيفية وكمية

وإن قيل عدم علته يفتقر إلى عدم يؤثر في وجودها وعدم ذاك المؤثر لعدم مؤثر فيه وهلم جرا فلذلك يستلزم التسلسل الباطل الذي هو أبطل من تسلسل المؤثرات الوجودية

الوجه الخامس أن يقال إنه لو فرض أن العدم المستمر له علة قديمة وأن المعلول إذا كان عدما مستمرا كانت علته التي هي عدم مستمر علة أزلية لم يلزم من ذلك أن يكون الموجود المعين الذي يمكن أن يوجد وأن يعدم قديما أزليا ويكون الفاعل له لم يزل فاعلا له بحيث يكون فاعل الموجودات لم يحدث شيئا قط فإن قياس الموجود الواجب القديم الأزلي الخالق فاعل الموجودات المخلوقة على العدم المستمر المستلزم لعدم مستمر من أفسد القياس وهو قياس محض من غير جامع فكيف يجوز الاحتجاج بمثل هذا التشبيه الفاسد في مثل هذا الأصل العظيم ويجعل خلق رب العالمين لمخلوقاته مثل كون العدم علة للعدم وهل هذا إلا أفسد من قول الذين ذكر الله عنهم إذ قال فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين سورة الشعراء 94 98 فإذا كان هذا حال من سوى بينه وبين بعض الموجودات فكيف بمن سوى بينه وبين العدم المحض

قال الرازي

البرهان السابع واجب الوجود لذاته يمتنع أن يكون أكثر من واحد فإذن صفات واجب الوجود وهي تلك الأمور الإضافية والسلبية على رأي الحكماء والصفات والأحوال والأحكام على اختلاف آراء المتكلمين في ذلك ليس شيء منها واجب الثبوت بأعيانها بل هي بما هي ممكنة الثبوت في نفسها واجبة الثبوت نظرا إلى ذات واجب الوجود فثبت أن التأثير لا يتوقف على سبق العدم وتقدمه

فلئن قالوا تلك الصفات والأحكام ليست من قبيل الأفعال ونحن إنما نوجب سبق العدم في الأفعال فنقول إن مثل هذه المسائل العظيمة لا يمكن التعويل فيها على مجرد الألفاظ فهب أن ما لا يتقدمه العدم لا يسمى فعلا لكن ثبت أن ما هو ممكن الثبوت لما هو هو يجوز استناده إلى مؤثر يكون دائم الثبوت مع الأثر وإذا كان ذلك معقولا لا يمكن دعوى الامتناع فيه في بعض المواضع اللهم إلا أن يمتنع صاحبه عن إطلاق لفظ الفعل وذلك مما لا يعود إلى فائدة عظيمة

فيقال الجواب عن هذه الحجة من وجوه

أحدها أن قوله واجب الوجود لذاته يمتنع أن يكون أكثر من واحد إن أريد به يمتنع أن يكون أكثر من إله واحد أو رب واحد أو خالق واحد أو معبود واحد أو حي واحد أو قيوم واحد أو صمد واحد أو قائم بنفسه واحد ونحو ذلك فهذا صحيح

لكن لا يستلزم ذلك أن لا يكون له صفات من لوازم ذاته يمتنع تحقق ذاته بدونها وأن لا يكون واجب الوجود هو تلك الذات المستلزمة لتلك الصفات والمراد بكونه واجب الوجود أنه موجود بنفسه يمتنع عليه العدم بوجه من الوجوه ليس له فاعل ولا ما يسمى علة فاعلة ألبتة وعلى هذا فصفاته داخلة في مسمى اسمه ليست ممكنة الثبوت فإنها ليست ممكنة يمكن أن توجد ويمكن أن تعدم ولا تفتقر إلى فاعل يفعلها ولا علة فاعلة بل هي من لوازم الذات التي هي بصفاتها اللازمة لها واجبة الوجود فدعوى المدعي أن الصفات اللازمة ممكنة الثبوت تقبل الوجود والعدم كدعواه أن الذات الملزومة تقبل الوجود والعدم وإن أراد بقوله واجب الوجود واحد أن واجب الوجود هو ذات مجردة عن صفات كان هذا ممنوعا ولم يذكر عليه دليلا

الوجه الثاني أن يقال دعوى المدعي أن واجب الوجود هو الذات دون صفاتها وأن صفاتها هي ممكنة الوجود إن أراد بواجب الوجود أنه يمتنع عدمه من غير فاعل فعله فكلاهما يمتنع عدمه من غير فاعل فعله وإن أراد بواجب الوجود أنه القائم بنفسه الذي لا يفتقر إلى محل كان حقيقة هذا أن الصفات لا بد لها من محل تقوم به بخلاف الذات لكن هذا لا يقتضي أنها ممكنة الثبوت مفتقرة إلى فاعل وإن أراد بواجب الوجود مالا يمكن عدمه وبممكن الوجود ما يمكن وجوده وعدمه فمعلوم أن الصفات لا يمكن عدمها كما لا يمكن عدم الذات فوجوب الوجود يتناولهما وإن أراد بواجب الوجود مالا ملازم له لم يكن في الوجود شيء واجب الوجود لا سيما على قولهم بأنه ملازم لمفعولاته فلا يكون واجب الوجود

ومن تناقض هؤلاء ومن اتبعهم كصاحب الكتب المضنون بها صاحب المضنون الكبير أنهم يفسرون واجب الوجود بأنه مالا يلازم غيره لينفوا بذلك صفاته اللازمة له ويقولون لو قلنا إن له صفات لازمة له لم يكن واجب الوجود ثم يجعلون الأفلاك وغيرها لازمة له أزلا وأبدا ويقولون إن ذلك لا ينافي كونه واجب الوجود فأي تناقض أعظم من هذا

الوجه الثالث أن يقال الواحد المجرد عن جميع الصفات ممتنع الوجود كما بسط في غير هذا الموضع وبين أنه لا بد من ثبوت معان ثبوتية مثل كونه حيا وعالما وقادرا وأنه يمتنع أن يكون كل معنى هو الآخر أو أن تكون تلك المعاني هي الذات وما كان ممتنع الوجود امتنع أن يكون واجب الوجود فإذا ما زعم أنه واجب الوجود فهو ممتنع فضلا عن أن يقال إنه فاعل لصفاته كما هو فاعل لمخلوقاته أو إنه مؤثر ومقتص ومستلزم لمخلوقاته كما هو مؤثر ومقتض ومستلزم لصفاته

الوجه الرابع أن يقال قوله وهي تلك الأمور الإضافية والسلبية على رأي الحكماء إنما هو على رأي نفاة الصفات منهم كأرسطو وأتباعه وأما أساطين الفلاسفة فهم مثبتون للصفات كما قد نقلنا أقوالهم في غير هذا الموضع وكذلك كثير من أئمتهم المتأخرين كأبي البركات وأمثاله

وأيضا فنفاة الصفات منهم كابن سينا وأمثاله متناقضون يجمعون بين نفيها وإثباتها كما قد بسط الكلام عليهم في غير الموضع فإن كان مثبتيها فهم كسائر المثبتين وإن كانوا نفاة قيل لهم أما السلب فعدم محض وأما الإضافة مثل كونه فاعلا أو مبدءا فإما أن تكون وجودا أو عدما فإن كانت وجودا لأنها من مقوله أن يفعل وأن ينفعل وهذه المقولة من جملة الأجناس العالية العشرة التي هي أقسام الموجودات كانت الإضافة التي يوصف بها وجودا فكانت صفاته الإضافية وجودية قائمة به وإن كانت الإضافة عدما محضا فهي داخلة في السلب فجعل الإضافة قسما ثالثا ليس وجودا ولا عدما خطأ

وحينئذ فإذا لم يثبتوا صفة ثبوتية لم تكن ذاته مستلزمة لشيء من الصفات إلا أمرا عدميا وأما المخلوقات فإنها موجودات جواهر وأعراض ومعلوم أن اقتضاء الواجب وغير الواجب للعدم المحصن ليس كاقتضائه للوجود وسواء سمي ذلك استلزاما أو إيجابا أو فعلا أو غير ذلك فإن وجود الشيء يستلزم عدم ضده ولا يقول عاقل إنه فاعل لعدم ضده ووجود الشيء يناقض عدم نفسه ولا يقول عاقل إن وجوده هو الفاعل لعدم عدمه فإن عدم عدمه هو وجوده ووجوده واجب لا يكون مفعولا ولا معلولا

وأيضا فالعدم المحض إما أن لا يكون له علة كما هو عند جمهور العقلاء وإما أن يقال علته عدم علة وجوده فيجعل علة العدم عدما ولا يجعل للعدم الممكن علة وجودية فالعدم الواجب أولى ألا يفتقر إلى علة وجودية فإن العدم الواجب اللازم لذاته عدم واجب فلا إلى علة وجودية فإن العدم الواجب يتصف به الممتنع والممتنع الذي يمتنع وجوده لا يفتقر إلى علة وجودية وعدم وجود الرب ممتنع لنفسه كما أن وجود الرب واجب لنفسه فلا يكون له علة

الوجه الخامس قوله والصفات والأحوال والأحكام على اختلاف آراء المتكلمين في ذلك فيقال له إثبات الصفات لله هو مذهب جماهير الأمة سلفها وخلفها وهو مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين المتبعين وأهل السنة والجماعة وسائر طوائف أهل الكلام مثل الهشامية والكرامية والكلابية والأشعرية وغيرهم وإنما نازع في ذلك الجهمية وهم عند سلف الأمة وأئمتها وجماعتها من أبعد الناس عن الإيمان بالله ورسوله ووافقهم المعتزلة ونحوهم ممن هم عند الأمة مشهورون بالابتداع

وأما الأحكام فهي الحكم على الله بأنه حي عالم قادر وهذا هو الخبر عنه بذلك وهذا تثبته المعتزلة كلهم مع سائر المثبتة لكن غلاة الجهمية ينفون أسماءه ويجعلونها مجازا فيجعلون الخبر عنه كذلك وهؤلاء هم من النفاة وعلى قولهم فالذات لم تقتض شيئا لأن كلام المخبرين وحكمهم أمر قائم بهم ليس قائما بذات الرب وأما من لم يثبت الأحكام كأبي هاشم وأتباعه فهؤلاء يقولون هي لا موجودة ولا معدومة فلا يجعل ذلك كالموجودات

بقي الكلام على مثبتة الصفات الذين يقولون صفاته موجودة قائمة به ومخلوقاته موجودة بائنة عنه فهؤلاء عندهم صفاته واجبة الثبوت يمتنع عليها العدم لا يقال إنها يمكن أن تكون موجودة ويمكن أن تكون معدومة كما يقال مثل ذلك في الممكنات التي أبدعها ولا يقولون إن الصفات لها ذوات ثابتة غير وجودها وتلك الذوات تقبل الوجود والعدم كما يقول ذلك من يقوله في الممكنات المفعولة فتبين أن تمثيل صفاته بمخلوقاته في غاية الفساد على قول كل طائفة

الوجه السادس قوله ليس شيء منها واجب الثبوت بأعيانها بل هي بما هي ممكنة الثبوت في نفسها واجبة الثبوت نظرا إلى ذات واجب الوجود كلام ممنوع بل باطل بل الصفات ملازمة للذات لا يمكن وجود الذات بدون صفاتها اللازمة ولا وجود الصفات اللازمة بدون الذات وكل منهما لازم للآخر ملزوم له ودعوى المدعى أن الذات هي واجبة الوجود دون الصفات ممنوع وباطل وهو بمنزلة قول من يقول الصفات واجبة الوجود دون الذات لكن الذات واجبة نظرا إلى وجوب الصفات سواء فسروا واجب الوجود بالموجود نفسه أو بما لا يقبل العدم أو بما لا فاعل ولا علة فاعلة أو نحو ذلك وإنما يفترقان إذا فسر الواجب بالقائم بنفسه والممكن بالقائم بغيره ومعلوم أن تفسيره بذلك باطل ووضع محض وغايته منازعة لفظية لا فائدة فيها

الوجه السابع قوله فثبت أن التأثير لا يتوقف على سبق العدم فيقال له هذا إنما يصح إذا كانت الذات المستلزمة لصفاتها هي المؤثرة في الصفات

وحينئذ فلفظ التأثير إن أريد به الاستلزام فكلاهما مؤثر في الآخر إذ هو مستلزم له فيلزم أن يكون كل منهما واجبا بنفسه لا ممكنا وهو باطل وإن أريد بلفظ التأثير أن أحدهما أبدع الآخر أو فعله أو جعله موجودا ونحو ذلك مما يعقل في ابداع المصنوعات فهذا باطل فإن عاقلا لا يقول إن الموصوف أبدع صفاته اللازمة ولا خلقها ولا صنعها ولا فعلها ولا جعلها موجودة ولا نحو ذلك مما يدل على هذا المعنى. بل ما يحدث في الحي من الأعراض والصفات بغير اختياره مثل الصحة والمرض والكبر ونحو ذلك لا يقول عاقل إنه فعل ذلك أو أبدعه أو صنعه فكيف بما يكون من الصفات لازما له كحياته ولوازمها وكذلك لا يقول عاقل هذا في غير الحي مثل الجماد والنبات وغيرهما من الأجسام لا يقول عاقل إن شيئا من ذلك فعل قدره اللازم وفعل تخيره وغير ذلك من صفاته اللازمة بل العقلاء كلهم المثبتون للأفعال الطبيعية والإرادية والذين لا يثبتون إلا الإرادية ليس فيهم من يجعل ما يلزم الذات من صفاتها مفعولا لها لا بالإرادة ولا بالطبع بل يفرقون بين آثارها الصادرة عنها التي هي أفعال لها ومفعولات وبين صفاتها اللازمة لها بل وغير اللازمة

وقد يكون للذات تأثير في حصول بعض صفاتها العارضة فيضاف ذلك إلى فعلها لحصول ذلك به كحصول العلم بالنظر والاستدلال وحصول الشبع والري بالأكل والشرب بخلاف اللازمة وما يحصل بدون قدرتها وفعلها واختيارها فإن هذا لا يقول عاقل إنها مؤثرة فيه وإنه من أثرها بل يقول إنه لازم لها وصفة لها وهي مستلزمة له وموصوفة به وقد يقول إن ذلك مقوم لها ومتمم لها ونحو ذلك وهم يسلمون أن فاعل الشيء هو فاعل صفاته اللازمة لامتناع فعل الشيء بدون صفاته اللازمة

وأيضا فالذات مع تجردها عن الصفات يمتنع أن تكون مؤثرة في شيء فضلا عن أن تكون مؤثرة في صفات نفسها فإن شرط كونها مؤثرة أن تكون حية عالمة قادرة فلو كانت هي المؤثرة في كونها حية عالمة قادرة لكانت مؤثرة بدون اتصافها بهذه الصفات وهذا مما يعلم امتناعه بصريح العقل بل صفاتها اللازمة لها أكمل من كل موجود فإذا امتنع أن يؤثر في شيء من الموجودات بذات مجردة عن هذه الصفات فكيف يؤثر في هذه الصفات بمجرد هذه الذات

فتبين أنه ليس ههنا تأثير بوجه من الوجوه في صفاتها إلا أن يسمى المسمى الاستلزام تأثيرا كما تقدم وحينئذ فيقال له مثل هذه المسائل العظيمة لا يمكن التعويل فيها على مجرد الألفاظ فإن تسميتك لاستلزام الذات المتصفة بصفاتها اللازمة لها تأثيرا لا يوجب أن يجعل هذا كإبداعها لمخلوقاتها فهب أنك سميت كل استلزام تأثيرا لكن دعواك بعد هذا أن المخلوق المفعول ملازم لخالقه وفاعله مما يعلم فساده ببديهة العقل كما اتفق على ذلك جماهير العقلاء من الأولين والآخرين وأنت لا تعرف هذا في شيء من الموجودات لا يعرف قط شيء أبدع شيئا وهو مقارن له بحيث يكونان متقارنين في الزمان لم يسبق أحدهما الآخر بل من المعلوم بصريح العقل أن التأثير الذي هو إبداع الشيء وخلقه وجعله موجودا لا يكون إلا بعد عدمه وإلا فالموجود الأزلي الذي لم يزل موجودا لا يفتقر قط إلى مبدع خالق يجعله موجودا ولا يكون ممكنا يقبل الوجود والعدم بل ما وجب قدمه امتنع عدمه فلا يمكن أن يقبل العدم

الوجه الثامن أن تسمية تأثير الرب في مخلوقاته فعلا وصنعا وإبداعا وإبداء وخلقا وبرءا وأمثال ذلك من العبارات هو مما تواتر عن الأنبياء بل ومما اتفق عليه جماهير العقلاء وذلك من العبارات التي تتداولها الخاصة والعامة تداولا كثيرا ومثل هذه العبارات لا يجوز أن يكون معناها المراد بها أو الذي وضعت له ما لا يفهمه إلا الخاصة فإن ذلك يستلزم أن لا يكون جماهير الناس يفهم بعضهم عن بعض ما يعنونه بكلامهم ومعلوم أن المقصود من الكلام الإفهام

وأيضا فلو كان المراد بها غير المفهوم منها لكان الخطاب بها تلبيسا وتدليسا وإضلالا

وأيضا فلو قدر أنهم أرادوا بها خلاف المفهوم لكان ذلك مما يعرفه خواصهم

ومن المعلوم بالاضطرار أن خواص الصحابة وعوامهم كانوا يقرون أن الله خالق كل شيء ومليكه وأن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام وأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما فحدثت هذه المخلوقات بعد أن لم تكن

وإذا كان كذلك حصل لنا علم بمراد الأنبياء وجماهير العقلاء بهذه العبارات واستفدنا بذلك أن من قصد بها غير هذا المعنى لم يكن موافقا لهم في المراد بها فإذا ادعى أن مرادهم هو مراده في كونها ملازمة للرب أزلا وأبدا علم أنه كاذب على الأنبياء وجماهير العقلاء كذبا صريحا

كما يصنعون مثل ذلك في لفظ الإحداث فإن الإحداث معناه معقول عند الخاصة والعامة وهو مما تواتر معناه في اللغات كلها وهؤلاء جعلوا لهم وضعا مبتدعا فقالوا الحدوث يقال على وجهين أحدهما زماني ومعناه حصول الشيء بعد أن لم يكن له وجود في زمان سابق والثاني أن لا يكون الشيء مستندا إلى ذاته بل إلى غيره سواء كان ذلك الاستناد مخصوصا بزمان معين أو كان مستمرا في كل الزمان قالوا وهذا هو الحدوث الذاتي وكذلك القدم فسروه بهذين المعنيين وجعلوا القدم بأحد معنييه معناه معنى الوجوب قالوا والدليل على إثبات الحدوث الذاتي أن كل ممكن لذاته فإنه لذاته يستحق العدم ومن غيره يستحق الوجود وما بالذات أقدم مما بالغير فالعدم في حقه أقدم من الوجود تقدما بالذات فيكون محدثا حدوثا ذاتيا

وقد أورد عليهم الرازي سؤالا وهو أنه لا يجوز أن يقال الممكن يستحق العدم من ذاته فإنه لو استحق العدم من ذاته لكان ممتنعا لا ممكنا بل الممكن يصدق عليه أنه ليس من حيث هو موجود ولا يصدق عليه أنه من حيث هو ليس بموجود والفرق بين الاعتبارين معروف بل كما أن الممكن يستحق الوجود من وجود علته فإنه يستحق العدم من عدم علته وإذا كان استحقاقه الوجود والعدم من الغير ولم يكن واحد منها من مقتضيات الماهية لم يكن لأحدهما تقدم على الآخر فإذن لا يكون لعدمه تقدم ذاتي على وجوده

قال ولعل المراد من هذه الحجة هو إن الممكن يستحق من ذاته لا استحقاقية الوجود والعدم وهذه اللا استحقاقية وصف عدمي سابق على الاستحقاق فتقرر الحدوث الذاتي من هذا الوجه

فيقال هذا السؤال سؤال صحيح يبين بطلان قولهم مع ما سلمه لهم من المقدمات الباطلة فإن هذا الكلام مبني على أن المعين في الخارج ذات تقبل الوجود والعدم وغير الوجود الثابت في الخارج وهذا باطل ومبني أيضا على أن عدم الممكن معلل بعدم علته وهو باطل

وأما الاعتذار بأن المراد أنه لا يستحق من ذاته وجودا أو عدما

فيقال إذا قدر أن هذا هو المراد لم يكن مستحقا للعدم بحال فإن نفسه لم تقتض وجوده ولا عدمه ولكن غيره اقتضى وجوده ولم يقتض عدمه فيبقى العدم لم يحصل من نفسه ولا من موجود آخر بخلاف الوجود فلا يكون عدمه سابقا لوجوده بحال

وقوله اللا استحقاقية وصف عدمي جوابه أن هذا العدمي هو عدم النقيضين جميعا الوجود والعدم ليس هو عدم الوجود فقط والنقيضين لا يرتفعان كما لا يجتمعان فيمتنع أن يقال إن ارتفاع النقيضين جميعا سابق لوجوده وإن أريد أنه ليس واحد من النقيضين منه فهذا حق وليس فيه سبق أحدهما للآخر

وهم يقولون عدمه سابق لوجوده مع أنه موجود دائما فعلمت أنهم مع قولهم إن الممكن قديم أزلي يمتنع أن يكون هناك عدم يسبق وجوده بوجه من الوجوه وإنما كلامهم جمع بين النقيضين في هذا وأمثاله فإن مثل هذا التناقض كثير في كلامهم ولكن الإمكان الذي أثبته جمهور العقلاء وأثبته قدماؤهم أرسطو وأتباعه هو إمكان أن يوجد الشئ وأن يعدم وهذا الإمكان مسبوق بالعدم سبقا حقيقيا فإن كل ممكن محدث كائن بعد أن لم يكن وبسط هذه الأمور له موضع آخر

والمقصود هنا أنهم أفسدوا الأدلة السمعية بما أدخلوه فيها من القرمطة وتحريف الكلم عن مواضعه كما أفسدوا الأدلة العقلية بما أدخلوه فيها من السفسطة وقلب الحقائق المعقولة عما هي عليه وتغيير فطرة الله التي فطر الناس عليها ولهذا يستعملون الألفاظ المجملة والمتشابهة لأنها أدخل في التلبيس والتمويه مثل لفظ التأثير والاستناد ليقولوا ثبت أن ما هو ممكن الثبوت لما هو هو يجوز استناده إلى مؤثر يكون دائم الثبوت مع الأثر والمراد في الأصل الذي قاسوا عليه على قولهم إنه عدم لازم لوجوده في الفرع أنه مبدع لمبدع ومخلوق لخالق فأين هذا الاستناد من هذا الاستناد وأين هذا التأثير من هذا التأثير

الوجه التاسع أن يقال حقيقة هذه الحجة هي قياس مجرد بتمثيل مجرد خال عن الجامع فإن المدعي يدعي أنه لا يشترط في فعل الرب تعالى أن يكون بعد عدم كما أن صفاته لازمة لذاته بلا سبق عدم وصاغ ذلك بقياس شمول بقوله إن التأثير لا يشترط فيه سبق العدم

فيقال له لا نسلم أن بينهما قدرا مشتركا كما يدل عليه ما ذكرته من اللفظ بل لا نسلم أن بينهما قدرا مشتركا يخصهما بل القدر المشترك الذي بينهما يتناول كل لازم لكل ملزوم فيلزمه أن يجعل كل لازم مفعولا لملزومه وإن سلمنا أن بينهما قدرا مشتركا فلا نسلم أنه مناط الحكم في الأصل حتى يلحق به الفرع

وإن ادعى ذلك دعوى كلية وصاغه بقياس شمول قيل له الدعوى الكلية لا تثبت بالمثال الجزئي فهب أن ما ذكرته في الأصل أحد أفراد هذه القضية الكلية فلم قلت إن سائر أفرادها كذلك غايتك أن ترجع إلى قياس التمثيل ولا حجة معك على صحته هنا ثم بعد هذا نذكر نحن الفروق الكثيرة المؤثرة وهذا الوجه يتضمن الجواب من وجوه متعددة

قال الرازي

البرهان الثامن لوازم الماهية معلولة لها وهي غير متأخرة عنها زمانا فإن كون المثلث مساوي الزوايا لقائمتين ليس إلا لأنه مثلث وهذا الاقتضاء من لوازم المثلث بل نزيد فنقول إن الأسباب مقارنة لمسبباتها مثل الإحراق يكون مقارنا للاحتراق والألم عقيب سوء المزاج أو تفرق الاتصال بل نذكر شيئا لا ينازعون فيه ليكون أقرب إلى الغرض وهو كون العلم علة للعالمية والقدرة للقادرية عند من يقول به وكل ذلك يوجد مقارنة لآثارها غير متقدمة عليها فعلمنا أن مقارنة الأثر والمؤثر في الزمان لا تبطل جهة الاستناد والحاجة

والجواب أن يقال إن أريد بالماهية ما هو موجود في الخارج مثل المثلثات الموجودة فصفات تلك الماهية اللازمة لها ليست صادرة عنها بل الفاعل للملزوم هو الفاعل للصفة اللازمة له القائمة به ويمتنع فعله لأحدهما بدون الآخر ومن قال إن الموصوف علة للازمه فإن أراد بالعلة أنه ملزوم فلا حجة له فيه وإن أراد أنه فاعل أو مبدع أو علة فاعلة فقوله معلوم الفساد ببديهة العقل فإن الصفات القائمة بالموصوف اللازمة له إنما يفعلها من فعل الموصوف فإنه يمتنع فعله للموصوف بدون فعله لصفته اللازمة له وإن أريد بالماهية ما يقدر في الذهن فتلك صورة علمية والكلام فيها كالكلام في الخارجية فالفاعل للملزوم هو الفاعل للازمه لم يكن الملزوم علة فاعلة للازم

وقولهم هذا الاقتضاء من لوازم المثلث إن أرادوا بالاقتضاء والتعليل الاستلزام فهو حق ولا حجة فيه وإن أرادوا أنه علة فاعلة فهذا معلوم الفساد وأما الأسباب والمسببات الموجودة في الخارج كما في سوء المزاج والألم فمن الذي سلم أن زمانهما واحد والمستدلون أنفسهم قد قالوا في حجتهم إن وجود الألم عقب سوء المزاج وما يوجد عقب الشيء يكون وجوده بعده لكن غايته أن يكون بلا فصل لكن لا يكون معه في الزمان فإن ما مع الشيء في الزمان لا يقال إنه إنما يوجد عقبه

وهكذا القول في كل الأسباب لا نسلم أن زمان وجودها كلها هو زمان وجود المسببات بل لا بد من حصول تقدم زماني وكذلك الكسر والانكسار والإحراق والاحتراق فإن الكسر هو فعل الكاسر الذي يقوم به مثل الحركة القائمة بالإنسان والانكسار هو التفرق الحاصل بالمكسور وذلك يحصل بحركة في زمان ومعلوم أن زمان تلك الحركة قبل زمان هذه لكن قد يتصل الزمان بالزمان والمتصل يقال إنه معه لكن فرق بين ما يكون زمانهما واحدا وما يكون زمانهما متعاقبا

ومن الأسباب ما يقتضي مسببه شيئا فشيئا فإذا كمل السبب كمل مسببه مثل الأكل والشرب مع الشبع والري والسكر فكلما حصل بعض الأكل حصل جزء من الشبع لا يحصل المسبب إلا بعد حصول السبب لا معه

وهذا قول جماهير العقلاء من أهل الكلام والفقه والفلسفة وغيرهم يقرون بأن المسبب يحصل عقب السبب ولهذا كان أئمة الفقهاء وجماهيرهم على أنه إذا قال إذا مات أبي فأنت حرة أو طالق أو غيرهما أنه إنما يحصل المسبب عقب الموت لا مع الموت وشذ بعض المتأخرين فظن حصول الجزاء مع السبب وقال إن هذا بمنزلة العلة مع المعلول وأن المعلول يحصل زمن العلة

ولفظ العلة مجمل يراد به المؤثر في الوجود ويراد به الملزوم فإذا سلم الاقتران في الثاني لم يسلم الاقتران في الأول فلا يعرف في الوجود مؤثر في وجود غيره مقارن له في الزمان من كل وجه بل لا بد أن يتقدم عليه زمانا ولا بد أن يحصل وجوده بعد عدم ولهذا جعل الفلاسفة العدم من جملة المبادىء كما قد ذكرنا كلامهم

ومما يمثلون به حصول الصوت مع الحركة كالطنين مع النقرة وأن المسبب هنا مع السبب وهذا أيضا ممنوع فإن وجود الحركة التي هي سبب الصوت يتقدم وجود الصوت وإن كان وجود الصوت متصلا بوجود الحركة لا ينفصل عنه لكن المقصود أنه لا يكون إلا بعده وليس أول زمن الحركة يكون أول زمن الصوت بل لا بد من وجود الحركة والصوت يعقبها ولهذا يعطف المسبب على السبب بحرف الفاء الدالة على التعقيب فيقال كسرته فانكسر وقطعته فانقطع ويقال ضربته بالسيف فمات أو فقتلته وأكل فشبع وشرب فروى وأكل حتى شبع وشرب حتى روى ونحو ذلك فالكسر والقطع فعل يقوم بالفاعل مثل أن يضربه بيده أو بآلة معه فإذا وصل إليه الأثر انكسر وانقطع فأحدهما يعقب الآخر لا يكون أول زمان هذا أول زمان هذا ولا آخر زمان هذا آخر زمان هذا بل يتقدم زمان السبب ويتأخر زمان المسبب

ولهذا تنازع الناس في المسبب المتولد عن فعل الإنسان فقالت طائفة هو فعله وقالت طائفة هو فعل الرب وقالت طائفة بل الإنسان مشارك في فعله وهو حاصل بفعله وبسبب آخر مثل خروج السهم من القوس ومثل حصول الشبع والري بالأكل والشرب

ولولا تقدم السبب على المسبب لم يحصل هذا النزاع فإن السبب حاصل في العبد في محل قدرته وحركته والمسبب حاصل في غير محل قدرته وحركته ومن هذا الباب حركة الكم مع حركة اليد وحركة آخر الحبل مع حركة أوله ونظائره كثيرة

فعلم أنهم لم يجدوا في الوجود مفعولا يكون زمانه زمان فاعله بلا تأخر أصلا لا مع الاتصال ولا مع الانفصال كما يدعونه في فعل رب العالمين خالق كل شيء ومليكه من أن السماوات لم تزل معه مقارنة له في الزمان زمان وجودها هو زمان وجوده لا يجوز أن يتقدم عليها بشيء من الزمان ألبتة

وأما ما ذكره من كون العلم علة للعالمية فهذا أولا قول مثبتي الأحوال كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وقبلهما أبو هاشم وجمهور النظار يقولون إن العلم هو العالمية وهذا هو الصواب وعلى قول أولئك فلا يقولون إن العلم هنا علة فاعلة لا بإرادة ولا بذات ولا بغير ذلك بل المعلول عندهم لا يوصف بالوجود فقط ومعنى العلة عندهم الاستلزام وهذا لا نزاع فيه

قال الرازي

البرهان التاسع هو أن الشيء حال اعتبار وجوده من حيث هو موجود واجب الوجود لامتناع عدمه مع وجوده وكذلك هو في حال عدمه واجب العدم لامتناع كونه موجودا معدوما والحدوث عبارة عن ترتب هاتين الحالتين فإذا كانت الماهية في كلتا الحالتين على كلتا الصفتين واجبة فالماهية من حيث هي واجبة غير مفتقرة إلى مؤثر فإن الواجب من حيث هو واجب يمتنع استناده إلى المؤثر فإذن الحدوث من حيث هو حدوث مانع عن الحاجة فإن لم تعتبر الماهية من حيث هي هي لم يرتفع الوجوب أي وجوب الوجود في زمنه ووجوب العدم في زمنه وهو بهذا الاعتبار لا يحتاج إلى المؤثر فعلمنا أن الحدوث من حيث هو حدوث مانع عن الحاجة وإنما المحوج هو الإمكان

والجواب أن في هذه الحجة مغالطات متعددة وجوابها من وجوه أحدها أن يقال هب أنه في حال وجوده واجب الوجود لكنه واجب الوجود بغيره وذلك لا يناقض كونه مفتقرا إلى الفاعل مفعولا له محدثا بعد أن لم يكن فإذا لم يكن هذا الوجوب مانعا مما يستلزم افتقاره إلى الفاعل لم يمتنع كونه مفتقرا إلى الفاعل مع هذا الوجوب

الثاني أن قوله الحدوث عبارة عن ترتب هاتين الحالتين يقال له الحدوث يتضمن هاتين الحالتين وهو يتضمن مع ذلك أنه وجد بفاعل أوجده هو مفتقر إليه لا يوجد بدون إيجاده له بعد أن لم يكن موجودا فالحدوث يتضمن هذا المعنى أو يستلزمه وإذا كان الحدوث متضمنا للحاجة إلى الفاعل أو مستلزما للحاجة إلى الفاعل لم يجز أن يقال هو مانع عن الحاجة فإن الشيء لا يمنع لازمه وإنما يمنع ضده

الثالث قوله الواجب من حيث هو واجب يمتنع استناده إلى المؤثر ممنوع بل الواجب بنفسه هو الذي يمتنع استناده إلى المؤثر وأما الواجب بغيره فلا يمتنع استناده إلى المؤثر بل نفس كونه واجبا بغيره يتضمن استناده إلى المؤثر ويستلزم ذلك فكيف يقال إن الوجوب بالغير يمنع الاستناد إلى الغير

وإن قال أنا أريد الواجب من حيث هو واجب مع قطع النظر عن كونه واجبا بنفسه أو بغيره

قيل له ليس في الخارج إلا واجب بنفسه أو بغيره وإذا أخذ مطلقا عن القيدين فهو أمر يقدر في الأذهان لا يوجد في الأعيان

ثم يقال لا نسلم أن الواجب إذا أخذ مطلقا يمتنع استناده إلى المؤثر بل الواجب إذا أخذ مطلقا لا يستلزم المؤثر ولا ينفي المؤثر فإن من الواجب ما يستلزم المؤثر وهو الواجب بغيره ومنه ما ينفيه وهو الواجب بنفسه وصار هذا كاللون إذا أخذ مجردا لا يستلزم السواد ولا ينفيه والحيوان إذا أخذ مجردا لا يستلزم النطق ولا ينفيه وكذلك سائر المعاني العامة التي تجري مجرى الأجناس إذا أخذت مع قطع النظر عن بعض الأنواع لم تكن مستلزمة لذلك ولا مانعة منه

الرابع أن قول القائل الحدوث من حيث هو حدوث مانع عن الحاجة إلى المؤثر مما يعلم فساده ببديهة العقل والعلم بفساد ذلك أظهر من العلم بفساد قول من يقول الإمكان من حيث هو إمكان مانع عن الحاجة إلى المؤثر فإن علم الناس بأن ما حدث بعد أن لم يكن لا بد له من محدث أظهر وأبين من علمهم بأن ما قبل الوجود والعدم لا بد له من مرجح فإذا كانت الحجة النافية لهذا سوفسطائية فتلك أولى أن تكون سوفسطائية

الخامس أن هذه الحجة مبنية على أن في الخارج ماهية غير الوجود الحاصل في الخارج وأنه يعتقب عليها الوجود والعدم وهذا ممنوع وباطل

السادس أنه لو سلم ذلك فالماهية من حيث هي هي لا تستحق وجودا ولا عدما ولا تفتقر إلى فاعل فإن من يقول ذلك يقول الماهيات غير مجعولة وأن المجعول اتصافها بالوجود وإنما تفتقر إلى الفاعل إذا كانت موجودة وإذا كانت موجودة فوجودها واجب فعلم أن افتقارها إلى الفاعل في حال وجوب وجودها بالغير لا في الحال التي لا تستحق فيها وجودا ولا عدما

السابع أنه لو سلم أن هذه الماهية ثابتة في الخارج وإنما هي من حيث هي هي مفتقرة إلى المؤثر فليس في هذا ما يدل على وجوب كونها أزلية بل ولا على إمكان ذلك وإذا لم يكن فيه ما يدل على ذلك لم يمتنع أن يكون هذا الافتقار لا يثبت لها إلا مع الحدوث ولكون الحدوث شرطا في هذا الافتقار

الثامن أنا إذا سلمنا أن علة الافتقار إلى الفاعل هو الإمكان فالإمكان الذي يعقله الجمهور إمكان أن يوجد الشيء وإمكان أن يعدم الشيء وهذا الإمكان ملازم للحدوث فلا يعقل إمكان كون الشيء قديما أزليا واجبا بغيره وهو مع ذلك يفتقر إلى الفاعل وهذا هو الذي يدعونه

التاسع أنهم إذا جعلوا الوجوب مانعا من الاستناد إلى الغير وإن كان وجوبا حادثا فالوجوب القديم الأزلي أولى أن يكون مانعا من الاستناد إلى الغير والأفلاك عندهم واجبة الوجود أزلا وأبدا ووجوب ذلك بغيرها فإذا كان هذا الوجوب لازما للماهية والوجوب مانع من الافتقار إلى الغير كان لازم الماهية مانعا لها من الافتقار فلا تزال الماهة القديمة ممنوعة من الإفتقار إلى الغير فيلزم أن لا تفتقر إلى الغير أبدا وهذا هو الذي يقوله جماهير العقلاء وأن ما كان قديما يمتنع أن يكون مفعولا

العاشر أنه إذا قدر أن الإمكان هو المحوج إلى الغير المؤثر فالتأثير هو جعل الشيء موجودا وإبداع وجوده جعل ما يمكن عدمه موجودا لا يعقل إلا بإحداث وجود له بعد أن لم يكن وإلا فما كان وجوده واجبا أزليا يمتنع عدمه لا يعقل حاجته إلى من يجعله موجودا وإذا قالوا هو واجب الوجود أزلا وأبدا يمتنع عدمه وقالوا مع ذلك إن غيره هو الذي أبدعه وجعله موجودا وإنه يمكن وجوده وعدمه فقد جمعوا في كلامهم من التناقض أعظم مما يذكرونه عن غيرهم

الحادي عشر أنه لو كان مجرد الإمكان مستلزما للحاجة إلى الفاعل لكان كل ممكن موجودا كما أنا إذا قلنا الحدوث هو المحوج إلى المؤثر كان كل محدث موجودا لأن المحتاج إلى الفاعل إنما يحتاج إليه إذا فعله الفاعل وإلا فبتقدير أن لا يفعله لا حاجة به إليه وإذا فعله الفاعل لزم وجوده فيلزم وجود كل ممكن وهو معلوم الفساد بضرورة العقل

فإن قيل المراد أن الممكن لا يوجد إلا بفاعل قيل فيكون الإمكان مع الوجود يستلزم الحاجة إلى الفاعل وحينئذ فيحتاجون إلى بيان أنه يمكن كون وجود الممكن أزليا وأن الفاعل يمكنه أن يكون مفعوله المعين أزليا وهذا إذا إثبتموه لم تحتاجوا إلى ما تقدم فإنه لا تثبت حاجة الممكن إلى الفاعل إلا في حال وجوده فعلم أن الاستدلال بمجرد الإمكان باطل

قال الرازي

البرهان العاشر جهة الاحتياج لابد وأن لا تبقى مع المؤثر كما كانت لا مع المؤثر وإلا لبقيت الحاجة مع المؤثر إلى مؤثر آخر فلو جعلنا الحدوث جهة الاحتي إلى المؤثر والحدوث مع المؤثر كهو لا مع المؤثر لأن الحدوث هو الوجود بعد العدم وسواء كان ذلك الوجود بالفاعل أو لا بالفاعل فهو وجود بعد العدم وسواء أخذ حال الحدوث أو حال البقاء فهو في كليهما وجود بعد العدم فإذن هو مع المؤثر كهولا مع المؤثر فيلزم المحال المذكور أما إذا جعلنا الإمكان جهة الاحتياج فهو عند المؤثر لا يبقى كما كان عند عدم المؤثر فإن الماهية مع المؤثر لا تبقى ممكنة ألبتة فعلم أن الحدوث لا يصلح جهة الاحتياج

فيقال هذا من جنس الذي قبله والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال كون الماهية مع المؤثر لا تبقى ممكنة ألبتة هو وصف ثابت لها مع الحدوث أيضا بل لا يعلم ذلك إلا مع الحدوث فإن الممكن الذي يعلم أنه يصير واجبا بالفاعل هو المحدث أما القديم الأزلي فهو مورد النزاع

وجمهور العقلاء يقولون نعلم ببديهة العقل أنه لا يكون له فاعل وبتقدير أن تكون المسألة نظرية فالمنازع لم يقم على ذلك دليلا ألبتة إذ لا دليل يدل على قدم شيء من العالم ألبته وإنما غاية الأدلة الصحيحة أن تدل على دوام الفاعلية وذلك يحصل بإحداث شيء بعد شيء وبكل حال فلا ريب أن الممكن المحدث واجب بفاعله

وحينئذ فيقال الحدوث بعد العدم إذا كان بالفاعل اقتضى وجوب المحدث وأما إذا لم يكن بالفاعل امتنع الحدوث فلم يكن الحدوث بعد العدم مع المؤثر كهو لا مع المؤثر فأنه في هذه الحال واجب وفي هذه ممتنع كما أن الممكن مع المؤثر واجب وبدون المؤثر ممتنع وإذا كان واجبا مع المؤثر مع كونه حادثا لم يحتج مع ذلك إلى مؤثر آخر

والجواب الثاني أن يقال قوله الماهية مع المؤثر لا تبقى ممكنة ألبتة إن أراد به أنها لا تبقى محتاجة إلى المؤثر أو لا يبقى علة احتياجها هو الإمكان فهذا باطل وهو خلاف ما يقولونه دائما وإن أراد به أنها لا تبقى ممكنة العدم لوجوبها بالغير فهذا يناقض ما يقولونه من أنها باعتبار ذاتها يمكن وجودها وعدمها مع كونها واجبة بالغير وحينئذ فبطل قولهم إن القديم الأزلي يكون ممكنا فليس شيء من القديم الأولى بممكن وهذا ينعكس بانعكاس النقيض فلا يكون شيء من الممكن بقديم أزلي فثبت أن كل ممكن لا يوجد إلا بعد عدمه وهو المطلوب وإذا بطل المذهب بطلت جميع أدلته لأن القول لازم عن الأدلة فإذا انتفى اللازم انتفت الملزومات كلها

والجواب الثالث قوله جهة الاحتياج لا بد وأن لا تبقى مع المؤثر كما كانت لا مع المؤثر أتريد به أن المحتاج إلى المؤثر لا يكون مع عدم المؤثر كما يكون مع المؤثر أم تريد أن علة احتياجه أو شرط احتياجه أو دليل احتياجه يختلف في الحالين فإن أردت الأول فهذا صحيح فإن المحدث بعد العدم لا يكون مع المؤثر كما كان مع عدم المؤثر فإنه مع عدمه معدوم بل واجب العدم ومع وجوده موجود بل واجب الوجود

وقوله لأن الحدوث هو الوجود بعد العدم سواء كان الوجود بالفاعل أو بغير الفاعل تقدير ممتنع فإن كونه بغير الفاعل ممتنع فلا يكون حدوث بعد العدم بغير الفاعل حتى يسوى بينه في هذه الحال وفي حال عدمها بل هذا مثل أن يقال رجحان وجوده على عدمه سواء كان بالفاعل أو بغير الفاعل

وإن أردت بذلك أنه ما كان علمة أو دليلا أو شرطا في أحد الحالين لا يكون كذلك في الحال الأخرى فهذا باطل فإن علة احتياج الأثر إلى المؤثر إذا قيل هو الإمكان أو الحدوث أو مجموعهما فهو كذلك مطلقا فإنا نعلم أن المحدث لا يحدث إلا بفاعل سواء حدث أو لم يحدث والممكن لا يترجح وجوده إلا بمرجح سواء ترجح أو لم يترجح لكن هذا الاحتياج إنما يحقق في حال وجوده إذ ما دام معدوما فلا فاعل له

وقولك وإلا لبقيت الحاجة مع المؤثر إلى موثر آخر إنما يدل على المعنى المسلم دون الممنوع فإنه يدل على أنه بالمؤثر يحصل وجوده لا يفتقر مع المؤثر إلى شيء آخر لا يدل على أنه مع المؤثر لا يكون علة حاجتها أو دليلها أو شرطها الحدوث أو الإمكان أو مجموعهما بل هذا المعنى هو ثابت له حال وجوده أظهر من ثبوته له حال عدمه فإنه إنما يحتاج إلى ذلك حال وجوده لا حال عدمه

وحينئذ فإذا قلنا احتاج إلى المؤثر لحدوثه بعد العدم وهذا الوصف ثابت له حال وجوده كنا قد أثبتنا علة حاجته وقت وجوده والعلة حاصلة وإذا قلنا العلة هي الإمكان وادعينا انتفاءها عند وجوده كنا قد عللنا حاجته إلى المؤثر بعد وقت وجوده بعلة منتفية وقت وجوده وهذا يدل على أن ما ذكره حجة عليهم لا لهم وهذا بين لمن تدبره

وهذا وغيره مما يبين أن القوم لما غيروا فطرة الله التي فطر عليها عباده فخرجوا عن صريح المعقول وصحيح المنقول ودخلوا في هذا الإلحاد الذي هو من أعظم جوامع الكفر والعناد صار في أقوالهم من التناقض والفساد مالا يعلمه إلا رب العباد مع دعواهم أنهم أصحاب البراهين العقلية والمعارف الحكمية وأن العلوم الحقيقية فيما يقولونه لا فيما جاءت به رسل الله الذين هم أفضل الخليقة وأعلمهم بالحقيقة

وهؤلاء الملاحدة يخالفون المعقولات والمسموعات بمثل هذه الضلالات إذ من البين أن المحتاج إلى الخالق الذي خلقه هو محتاج إليه في حال وجوده وكونه مخلوقا أما إذا قدر أنه باق على العدم ففي تلك الحال لا يحتاج عدمه إلى خالق لوجوده بل ولا فاعل لعدمه وهم وإن قالوا عدمه يفتقر إلى فالمرجح فالمرجح عندهم عدم العلة فالجميع عدم لم يقولوا إن العدم يفتقر إلى موجود

وإذا كان هذا بينا فقوله جهة الاحتجاج لا بد وأن لا تبقى مع المؤثر كما كانت لا مع المؤثر هو كلام ملبس فإن الاحتجاج إنما هو في حال كون المؤثر مؤثرا فكيف تزول حاجته إلى المؤثر في الحال التي هو فيها محتاج إلى المؤثر وكيف يكون محتاجا إلى المؤثر حين لم يؤثر فيه وهو معدوم لا يحتاج إلى مؤثر أصلا وفي حال احتياجه إليه لا يكون محتاجا إليه

وإن قالوا هو في حال عدمه لا يمكن وجوده إلا بمؤثر قلنا فهذا بعض ما ذكرنا فإن كونه لا يوجد إلا بمؤثر أمر لازم له لا يقال إنه ثابت له في حال عدمه دون حال وجوده

وإذا تبين أن الفعل مستلزم لحدوث المفعول وأن إرادة الفاعل أن يفعل مستلزمة لحدوث المراد فهذا يبين أن كل مفعول وكل ما أريد فعله فهو حادث بعد أن لم يكن عموما وعلم بهذا أنه يمتنع أن يكون ثم إرادة أزلية لشيء من الممكنات يقارنها مرادها أزلا وأبدا سواء كانت عامة لكل ما يصدر عنه أو كانت خاصة ببعض المفعولات

ثم يقال أما كونها عامة لكل ما يصدر عنه فامتناعه ظاهر متفق عليه بين العقلاء فإن ذلك يستلزم أن يكون كل ما صدر عنه بواسطة أو بغير واسطة قديما أزليا فيلزم أن لا يحدث في العالم شيء وهو مخالف لما يشهده الخلق من حدوث الحوادث في السماء والأرض وما بينهما من حدوث الحركات والأعيان والأعراض كحركة الشمس والقمر والكواكب وحركة الرياح وكالسحاب والمطر وما يحدث من الحيوان والنبات والمعدن

وأما إرادة شيء معين فلما تقدم ولأنه حينئذ إما أن يقال ليس له إلا تلك الإرادة الأزلية وإما أن يقال له إرادات تحصل شيئا بعد شيء فإن قيل بالأول فإنه على هذا التقدير يكون المريد الأزلي في الأزل مقارنا لمراده الأزلي فلا يريد شيئا من الحوادث لا بالإرادة القديمة ولا بإرادة متجددة لأنه إذا قدر أن المريد الأزلي يجب أن يقارنه مرادة كان الحادث حادثا إما بإرادة أزلية فلا يقارن المريد مراده وإما حادثا بإرادة حادثة مقارنة له وهذا باطل لوجهين

أحدهما أن التقدير أنه ليس له إلا إرادة واحدة أزلية

الثاني أن حدوث تلك الإرادة يفتقر إلى سبب حادث والقول في ذلك السبب الحادث كالقول في غيره يمتنع أن يحدث بالإرادة الأزلية المستلزمة لمقارنة مرادها لها ويمتنع أن يحدث بلا إرادة لامتناع حدوث الحادث بلا إرادة فيجب على هذا التقدير أن تكون إرادة الحادث المعين مشروط بإرادة له وبإرادة للحادث الذي قبله وأن الفاعل المبدع لم يزل مريدا لكل ما يحدث من المرادات

وهذا هو التقدير الثاني وهو أن يقال لو أراد أن يحصل شيئا بعد شيء فكل مراد له محدث كائن بعد أن لم يكن وهو وحده المنفرد بالقدم ولأزلية وكل ما سواه مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن وعلى هذا التقدير فليس فيه إلا دوام الحوادث وتسلسلها وهذا هو التقدير الذي تكلمنا عليه ويلزم أن يقوم بذات الفاعل ما يريده ويقدر عليه وهذا هو قول أئمة أهل الحديث وكثير من أهل الكلام والفلسفة بل قول أساطينهم من المتقدمين والمتأخرين

فتبين أنه يجب القول بحدوث كل ما سوى الله سواء سمى جسما أو عقلا أو نفسا وأنه يمتنع كون شيء من ذلك قديما سواء قيل بجواز دوام الحوادث وتسلسلها وأنه لا أول لها أوقيل بامتناع ذلك وسواء قيل بأن الحادث لا بد له من سبب حادث أو قيل بامتناع ذلك وأن القائلين بقدم العالم كالأفلاك والعقول والنفوس قولهم باطل في صريح العقل الذي لم يكذب قط على كل تقدير وهذا هو المطلوب

وقد بسط الكلام على ما يتعلق يهذا في غير هذا الموضع فإن هذا الأصل هو الأصل الذي تصادمت فيه أئمة الطوائف من أهل الفلسفة والكلام والحديث وغيرهم وهو الكلام في الحدث والقدم في أفعال الله وكلامه ويدخل في ذلك الكلام في حدوث العالم والكلام في كلام الله وأفعاله والكلام في هذين الأصلين من محارات العقول فالفلاسفة القائلون بقدم العالم كانوا في غاية البعد عن الحق الذي جاءت به الرسل الموافق لصريح المعقول وصحيح المنقول ولكنهم ألزموا أهل الكلام الذين وافقوهم على نفي قيام الأفعال والصفات بذاته أو على نفي قيام الأفعال بذاته بلوازم قولهم فظهر بذلك من تناقض أهل الكلام ما استطال به عليهم هؤلاء الملحدون وذمهم به علماء المؤمنين من السلف والأئمة وأتباعهم وكان كلامهم من الكلام الذي ذمهم به السلف لما فيه من الخطأ والضلال الذي خالفوا به الحق في مسائلهم ودلائلهم فبقوا فيه مذبذبين متناقضين لم يصدقوا بما جاءت به الرسل على وجهه ولا قهروا أعداء الملة بالحق الصريح المعقول

وسبب ذلك أنهم لم يحققوا ما أخبرت به الرسل ولم يعلموه ولم يؤمنوا به ولا حققوا موجبات العقول فنقصوا في علمهم بالسمعيات والعقليات وإن كان لهم منهما نصيب كبير فوافقوا في بعض ما قالوا الكفار الذين قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير سورة الملك 10 وفرعوا من الكلام في صفات الله وأفعاله ما هو بدعة مخالفة للشرع وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فهي مخالفة للعقل كما هي مخالفة للشرع

والذي نبهنا عليه هنا يعلم به دلالة العقل الصريح على ما جاءت به الرسل ولا ريب أن كثيرا من طوائف المسلمين يخطئ في كثير من دلائله ومسائله فلا يسوغ ولا يمكن نصر قوله مطلقا بل الواجب أن لا يقال إلا الحق قال تعالى ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق سورة الأعراف 16وإذا كان المقصود نصر حق اتفق عليه أهل الملة أو رد باطل اتفقوا على أنه باطل نصر بالطريق الذي يفيد ذلك وإن لم يستقم دليله على طريقة طائفة من طوائف أهل القبلة بين كيف يمكن إثباته بطريقة مؤلفة من قولها وقول طائفة أخرى فإن تلك الطائفة أن توافق طائفة من طوائف المسلمين خير لها من أن تخرج عن دين الإسلام وكذلك أن توافق المعقول الصريح خير من أن تخرج عن المعقول بالكلية والقول كلما كان أفسد في الشرع كان أفسد في العقل فإن الحق لا يتناقض والرسل إنما أخبرت بالحق والله فطر عباده على معرفة الحق والرسل بعثت بتكميل الفطرة لا بتغيير الفطرة قال تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق سورة فصلت 53

فأخبر أنه سيريهم الآيات الأفقية والنفسية المبينة لأن القرآن الذي أخبر به عباده حق فتتطابق الدلالة البرهانية القرآنية والبرهانية العيانية ويتصادق موجب الشرع المنقول والنظر المعقول

لكن أهل الكلام المحدث الذي ذمه السلف والأئمة من الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم من المنتسبين إلى السنة من المتأخرين ابتدعوا في أصول دينهم حكما ودليلا فأخبروا عن قول أهل الملل بما لم ينطق به كتاب ولا سنة واستدلوا على ذلك بطريقة لا أصل لها في كتاب ولا سنة فكان القول الذي أصلوه ونقلوه عن أهل الملل والدليل عليه كلاهما بدعة في الشرع لا أصل لواحد منهما في كتاب ولا سنة مع أن أتباعهم يظنون أن هذا هو دين المسلمين فكانوا في مخالفة المعقول بمنزلتهم في مخالفة المنقول وقابلتهم الملاحدة المتفلسفة الذين هم أشد مخالفة لصحيح المنقول وصريح المعقول

وما ذكرناه هنا هو مما يعلم به حدوث كل ما سوى الله وامتناع قدم شيء بعينه من العالم بقدم الله يفيد المطلوب على كل تقدير من التقديرات ويمكن التغيير عنه بأنواع من العبارات وتأليفه على وجوه من التأليفات فإن المادة إذا كانت مادة صحيحة أمكن تصويرها بأنواع من الصور وهي في ذلك يظهر أنها صحيحة بخلاف الأدلة المغالطية التي قد ركبت على وجه معين بألفاظ معينة فإنها متى غير ترتيبها وألفاظها ونقلت من صورة إلى صورة ظهر خطؤها فالأولى كالذهب الصحيح فإنه إذا نقل من صورة إلى صورة لم يتغير جوهره بل يتبين أنه ذهب وأما المغشوش فإنه إذا غير من صورة ظهر أنه مغشوش

وهذه الأدلة المذكورة دالة على حدوث كل ما سوى الله وأن كل ما سوى الله حادث كائن بعد أن لم يكن سواء قيل بدوام نوع الفعل كما يقوله أئمة أهل الحديث وأئمة الفلاسفة أو لم يقل

ولكن من لم يقل بذلك يظهر بينه وبين طوائف أهل الملل وغيرها من النزاع والخصومات والمكابرات ما أغنى الله عنه من لم يشركه في ذلك أو تتكافأ عنده الأدلة ويبقى في أنواع من الحيرة والشك والاضطراب قد عافى الله منها من هداه وبين له الحق

قال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم سورة البقرة 213 فالخالق سبحانه يمتنع أن يكون مقارنا له في القدم شيء من العالم كائنا ما كان سواء قيل إنه يخلق بمشيئته وقدرته كما يقوله المسلمون وغيرهم أو قيل إنه موجب بذاته أو علة مستلزمة للمعلول أو سمى مؤثرا لكون لفظ التأثير يعم هذه الأنواع فيدخل فيه الفاعل باختياره ويدخل فيه بذاته وغير ذلك بل هو المختص بالقدم الذي استحق ما سواه كونه مسبوقا بالعدم

ولكن الاستدلال على ذلك بالطريقة الجهمية المعتزلية طريقة الأعراض والحركة والسكون التي مبناها على أن الأجسام محدثة لكونها لا تخلو عن الحوادث وامتناع حوادث لا أول لها طريقة مبتدعة في الشرع باتفاق أهل العلم بالسنة وطريقة مخطرة مخوفة في العقل بل مذمومة عند طوائف كثيرة وإن لم يعلم بطلانها لكثرة مقدماتها وخفائها والنزاع فيها عند كثير من أهل النظر كالأشعري في رسالته إلى أهل الثغر ومن سلك سبيله في ذلك كالخطابي وأبي عمر الطلمنكي وغيرهم وهي طريقة باطلة في الشرع والعقل عند محققي الأئمة العالمين بحقائق المعقول والمسموع

والاستدلال بهذه الطريق أوجب نفي صفات الله القائمة به ونفى أفعاله القائمة به وأوجبت من بدع الجهمية ما هو معروف عند سلف الأمة وسلطت بذلك الدهرية على القدح فيما جاءت به الرسل عن الله فلا قامت بتقرير الدين ولا قمعت أعداءه الملحدين وهي التي أوجبت على من سلكها قولهم إن الله لم يتكلم بل كلامه مخلوق فإنه بتقدير صحتها تستلزم هذا القول

وأما ما أحدثه ابن كلاب ومن اتبعه من القول بقدم شيء منه معين إما معنى واحد وإما حروف وأصوات معينة يقترن بعضها ببعض أزلا وأبدا فهي أقوال محدثة بعد حدوث القول بخلق القرآن وفيها من الفساد شرعا وعقلا ما يطول وصفه لكن القائلون بها بينوا فساد قول من قال هو مخلوق من الجهمية والمعتزلة فكان في كلام كل طائفة من هؤلاء من الفائدة بيان فساد قول الطائفة الأخرى لا صحة قولها إذ الأقوال المخالفه للحق كلها باطلة

وكان الناس لما بعث الله محمدا في ضلال عظيم كما في صحيح مسلم من حديث عياش بن حمار عن النبي أنه قال إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وإن ربي قال لي قم في قريش فأنذرهم فقلت أي رب إذن يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزة فقال إني مبتليك ومبتل بك ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان فابعث جندا ابعث مثليهم وقاتل بمن أطاعك من عصاك وأنفق أنفق عليك وقال إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا الحديث بطوله وكان المسلمون على ما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول فلما قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه ووقعت الفتنة فاقتتل المسلمون بصفين مرقت المارقة التي قال فيها النبي تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أولي الطائفتين بالحق وكان مروقها لما حكم الحكمان وافترق الناس على غير اتفاق

وحدثت أيضا بدعة التشيع كالغلاة المدعين لإلاهية علي والمدعين النص على علي رضي الله عنه السابين لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فعاقب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه الطائفتين قاتل المارقين وأمر بإحراق أولئك الذين ادعوا فيه الإلاهية فإنه خرج ذات يوم فسجدوا له فقال لهم ما هذا فقالوا أنت هو قال من أنا قالوا أنت الله الذي لا إله إلا هو فقال ويحكم هذا كفر ارجعوا عنه وإلا ضربت أعناقكم فصنعوا به في اليوم الثاني والثالث كذلك فأخرهم ثلاثة أيام لأن المرتد يستتاب ثلاثة أيام فلما لم يرجعوا أمر بأخاديد من نار فخدت عند باب كندة وقذفهم في تلك النار وروى عنه أنه قال

لما رأيت الأمر أمرا منكرا ... أججت ناري ودعوت قنبرا

وقتل هؤلاء واجب باتفاق المسلمين لكن في جواز تحريقهم نزاع فعلي رضي الله عنه رأى تحريقهم وخالفه ابن عباس وغيره من الفقهاء قال ابن عباس أما أنا فلو كنت لم أحرقهم لنهي النبي أن يعذب بعذاب الله ولضربت أعناقهم لقول النبي من بدل دينه فاقتلوه وهذا الحديث في صحيح البخاري

وأما السبابة الذين يسبون أبا بكر وعمر فإن عليا لما بلغه ذلك طلب ابن السوداء الذي بلغه ذلك وقيل إنه أراد قتله فهرب منه إلى أرض قرقيسيا

وأما المفضلة الذين يفضلونه على أبي بكر وعمر فروى عنه أنه قال لا أوتي بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حد المفتري وقد تواتر عنه أنه كان يقول على منبر الكوفة خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر روى ذلك عنه من أكثر من ثمانين وجها ورواه البخاري وغيره ولهذا كانت الشيعة المتقدمون كلهم متفقين على تفضيل أبي بكر وعمر كما ذكر ذلك غير واحد

فهاتان البدعتان بدعة الخوارج والشيعة حدثنا في ذلك الوقت لما وقعت الفتنة ثم إنه في أواخر عصر الصحابة حدثت بدعة القدرية والمرجئة فأنكر ذلك الصحابة والتابعون كعبد الله بن عمر وعبد الله ابن عباس وجابر بن عبد الله وواثلة بن الأسقع

ثم إنه في أواخر عصر التابعين من أوائل المائة الثانية حدثت بدعة الجهمية منكرة الصفات وكان أول من أظهر ذلك الجعد بن درهم فطلبه خالد بن عبد الله القسري فضحى به بواسط فخطب الناس يوم النحر وقال أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله تعالى لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه

ثم ظهر بهذا المذهب الجهم بن صفوان ودخلت فيه بعد ذلك المعتزلة وهؤلاء أول من عرف عنهم في الإسلام أنهم أثبتوا حدوث العالم بحدوث الإجسام وأثبتوا حدوث الأجسام بحدوث ما يستلزمها من الأعراض وقالوا الأجسام لا تنفك عن أعراض محدثة وما لا ينفك عن الحوادث أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها

ثم إنهم تفرقوا عن هذا الأصل فلما قالوا بامتناع دوام الحوادث في الماضي عورضوا بالمستقبل فطرد إماما هذه الطريقة هذا الأصل وهما إمام الجهمية الجهم بن صفوان وأبو الهذيل العلاف إمام المعتزلة وقالا بامتناع دوام الحوادث في المستقبل والماضي

ثم إن جهما قال إذا كان الأمر كذلك لزم فناء الجنة والنار وأنه يعدم كل ما سوى الله كما كان ما سواه معدوما وكان هذا مما أنكره السلف والأئمة على الجهمية وعدوه من كفرهم وقالوا إن الله تعالى يقول إن هذا لرزقنا ماله من نفاد سورة ص 54 وقال تعالى أكلها دائم وظلها سورة الرعد 35 إلى غير ذلك من النصوص الدالة على بقاء نعيم الجنة

وأما أبو الهذيل فقال إن الدليل إنما دل على انقطاع الحوادث فقط فيمكن بقاء الجنة والنار لكن تنقطع الحركات فيبقى أهل الجنة والنار ساكنين ليس فيهما حركة أصلا ولا شيء يحدث ولزمه على ذلك أن يثبت أجساما باقية دائمة خالية عن الحوادث فيلزم وجود أجسام بلا حوادث فينتقض الأصل الذي أصلوه وهو أن الأجسام لا تخلو عن الحوادث

وهذا هو الأصل الذي أصله هشام بن الحكم وهشام بن سالم الجواليقي وغيرهما من المجسمة الرافضة وغير الرافضة كالكرامية فقالوا بل يجوز ثبوت جسم قديم أزلي لا أول لوجوده وهو خال عن جميع الحوادث وهؤلاء عندهم الجسم القديم الأزلي يخلو عن الحوادث وأما الأجسام المخلوقة فلا تخلو عن الحوادث ويقولون ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث لكن لا يقولون إن كل جسم فإنه لا يخلو عن الحوادث

ثم إن هؤلاء الجهمية أصحاب هذا الأصل المبتدع احتاجوا أن يلتزموا طرد هذا الأصل فقالوا إن الرب لا تقوم به الصفات ولا الأفعال فأنها أعراض وحوادث وهذه لا تقوم إلا بجسم والأجسام محدثة فيلزم أن لا يقوم بالرب علم ولا قدرة ولا كلام ولا مشيئة ولا رحمة ولا رضا ولا غضب ولا غير ذلك من الصفات بل جميع ما يوصف به من ذلك فإنما هو مخلوق منفصل عنه

والجهمية كانوا يقولون قولنا إنه يتكلم هو مجاز والمعتزلة قالوا إنه متكلم حقيقة لكن المعنى واحد فكان أصل هؤلاء هو المادة التي تشعبت عنها هذه البدع فجاء ابن كلاب بعد هؤلاء لما ظهرت المحنة المشهورة وامتحن الإمام أحمد بن حنبل وغيره من ائمة السنة وثبت الله الإمام أحمد بن حنبل وجرت أمور كثيرة معروفة وانتشر بين الأمة النزاع في هذه المسائل قام أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري وصنف في الرد على الجهمية والمعتزلة مصنفات وبين تناقضهم فيها وكشف كثيرا من عوراتهم لكن سلم لهم ذلك الأصل الذي هو ينبوع البدع فاحتاج لذلك أن يقول إن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية ولا يتكلم بمشيئته وقدرته ولا نادى موسى حين جاء الطور بل ولا يقوم به نداء حقيقي ولا يكون إيمان العباد وعملهم الصالح هو السبب في رضاه ومحبته ولا كفرهم هو السبب في سخطه وغضبه فلا يكون بعد أعمالهم لا حب ولا رضا ولا سخط ولا فرج ولا غير ذلك مما أخبرت به نصوص الكتاب والسنة

قال تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله سورة آل عمران 31 وقال تعالى ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم سورة محمد 28 وقال تعالى فلما آسفونا انتقمنا منهم سورة الزخرف 55 وقال تعالى إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم سورة الزمر 7 وقال تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون سورة آل عمران 59 وقال تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة أسجدوا لآدم سورة الأعراف 1وأمثال ذلك من نصوص الكتاب والسنة التي لا تحصى إلا بكلفة وهي تبلغ مئين من نصوص القرآن والحديث كما ذكرنا طرفا منها في غير هذا الموضع وذكرنا كلام السلف والخلف في هذا الأصل وذكرنا مذاهب القدماء من الفلاسفة أيضا وموافقة أساطينهم على هذا الأصل

ثم إنه بسبب ذلك تفرق الناس في مسألة القرآن فاحتاج ابن كلاب ومتبعوه إلى أن يقولوا هو قديم وإنه لازم لذات الله وإن الله لم يتكلم بمشيئته وقدرته وجعلوا جميع ما يتكلم به قديم العين لم يقولوا إنه يتكلم بمشيئته وقدرته أزلا وأبدا وإن كلامه قديم بمعنى أنه قديم النوع لم يزل الله متكلما بمشيئته كما قاله السلف والأئمة

ثم قالوا إنه قديم العين وافترقوا على حزبين حزب قالوا يمتنع أن يكون القديم هو الحروف والأصوات لامتناع البقاء عليها وكونها توجد شيئا بعد شيء لأن المسبوق بغيره لا يكون قديما فالقديم هو المعنى ويمتنع وجود معان لا نهاية لها في آن واحد والتخصيص بعدد دون عدد لا موجب له فالقديم معنى واحد هو الأمر بكل مأمور والخبر عن كل مخبر وهو معنى التوراة والإنجيل والقرآن وهو معنى آية الكرسي وآية الدين وقل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وأنكروا أن يكون الكلام العربي كلام الله

والحزب الثاني قالوا بل الحروف أو الحروف والأصوات قديمة أزلية الأعيان وقالوا الترتيب في ذاتها لا في وجودها وفرقوا بين الحقيقة وبين وجود الحقيقة كما يفرق كثير من أهل الكلام بين وجود الرب وبين حقيقته وكثير منهم ومن الفلاسفة يفرق بين وجود الممكنات وبين حقيقتها وقالوا الترتيب هو في حقيقتها لا في وجودها بل هي موجودة أزلا وأبدا لم يسبق منها شيء شيئا وإن كانت حقيقتها مرتبة ترتيبا عقليا كترتيب الذات على الصفات وكترتيب المعلول على العلة كما يقوله المتفلسفة القائلون بقدم العالم حيث قالوا إن الرب متقدم على العالم بذاته وحقيقته ولم يتقدم عليه تقدما زمانيا وقالوا في تقدم بعض كلامه على بعض كما قال هؤلاء في تقدمه على معلوله وهؤلاء يجعلون التقدم والتأخر والترتيب نوعين عقليا ووجوديا ويدعون أن ما أثبتوه من الترتيب والتقدم والتأخر هو عقلي لا وجودي

وأما جمهور العقلاء فينكرون هذا ويقولون إن قول هؤلاء معلوم الفساد بالضرورة وإن الترتيب والتقدم والتأخر لا يعقل إلا وجود الشيء بعد غيره لا يمكن مع كونه معه إلا أن يكون بعده كما يقولون إن المعلول لا يكون إلا بعد العلة ولا يكون إلا معها وهذه الأمور قد بسطت في غير هذا الموضع بسطا كبيرا ولكن ذكر هنا ما تيسر

والمقصود أن هذه الطريق الكلامية التي ابتدعتها الجهمية والمعتزلة وأنكرها سلف الأمة وأئمتها صارت عند كثير من النظار المتأخرين هي دين الإسلام بل يعتقدون أن من خالفها فقد خالف دين الإسلام مع أنه لم ينطق بما فيها من الحكم والدليل لا آية من كتاب الله ولا خبر عن رسول الله ولا أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فكيف يكون دين الإسلام بل أصل أصول دين الإسلام مما لم يدل عليه لا كتاب ول سنة ولا قول أحد من السلف

ثم حدث بعد هذا في الإسلام الملاحدة من المتفلسفة وغيرهم حدثوا وانتشروا بعد انقراض العصور المفضلة وصار كل زمان ومكان يضعف فيه نور الإسلام يظهرون فيه وكان من أسباب ظهورهم أنهم ظنوا أن دين الإسلام ليس إلا ما يقوله أولئك المبتدعون ورأوا ذلك فسادا في العقل فرأوا دين الإسلام المعروف فاسدا في العقل فكان غلاتهم طاعنين في دين الإسلام بالكلية باليد واللسان كالخرمية أتباع بابك الخرمي وقرامطة البحرين أتباع أبي سعيد الجنابي وغيرهم وأما مقتصدوهم وعقلاؤهم فرأوا أن ما جاء به محمد فيه من الخير والصلاح مالا يمكن القدح فيه بل اعترف حذاقهم بما قاله ابن سينا وغيره من أنه لم يقرع العالم ناموس أفضل من ناموس محمد وكان هذا موجب عقلهم وفلسفتهم فإنهم نظروا في أرباب النواميس من اليونان فرأوا أن الناموس الذي جاء به موسى وعيسى أعظم من نواميس أولئك بأمر عظيم ولهذا لما ورد ناموس عيسى بن مريم عليه السلام على الروم انتقلوا عن الفلسفة اليونانية إلى دين المسيح

وكان أرسطو قبل المسيح بن مريم عليه السلام بنحو ثلاثمائة سنة كان وزيرا للإسكندر بن فيلبس المقدوني الذي غلب على الفرس وهو الذي يؤرخ له اليوم بالتاريخ الرومي تؤرخ له اليهود والنصارى وليس هذا الإسكندر هو ذا القرنين المذكور في القرآن كما يظن ذلك طائفة من الناس فإن ذلك كان متقدما على هذا وذلك المتقدم هو الذي بنى سد يأجوج ومأجوج وهذا المقدوني لم يصل إلى السد وذاك كان مسلما موحدا وهذا المقدوني كان مشركا هو وأهل بلده اليونان كانوا مشركين يعبدون الكواكب والأوثان وقد قيل إن آخر ملوكهم كان هو بطليموس صاحب المجسطى وأنهم بعده انتقلوا إلى دين المسيح فإن الناموس الذي بعث به المسيح كان أعظم وأجل بل النصارى بعد أن غيروا دين المسيح وبدلوا هم أقرب إلى الهدى ودين الحق من أولئك الفلاسفة الذين كانوا مشركين وشرك أولئك الغليظ هو مما أوجب إفساد دين المسيح كما ذكره طائفة من أهل العلم قالوا كان أولئك يعبدون الأصنام ويعبدون الشمس والقمر والكواكب ويسجدون لها والله تعالى إنما بعث المسيح بدين الإسلام كما بعث سائر الرسل بدين الإسلام وهو عبادة الله وحده لا شريك له

قال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون س سورة الزخرف 45 وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فأعبدون سورة الأنبياء 25 وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمه رسولا أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة سورة النحل 3وقد أخبر الله تعالى عن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وغيرهم من الرسل والمؤمنين إلى زمن الحواريين أن دينهم كان الإسلام قال تعالى عن نوح عليه السلام إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءهم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم أقضوا إلى ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين سورة يونس 71 72 وقال تعالى عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون سورة البقرة 130 133

وقال تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين سورة يونس 84 وقال إن أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا سورة المائدة 44 وقال عن بلقيس رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين سورة النمل 44 وقال عن الحواريين وإذ أوحيت إلى الحواديين أن أمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون سورة المائدة 11ولما كان المسيح صلوات الله عليه قد بعث بما بعث به المرسلون قبله من عباده الله وحده لا شريك له وأحل لهم بعض ما كان حرم عليهم في التوراة وبقي أتباعه على ملته مدة قيل أقل من مائة سنة ثم ظهرت فيهم البدع بسبب معاداتهم لليهود صاروا يقصدون خلافهم فغلوا في المسيح وأحلوا أشياء حرمها وأباحوا الخنزير وغير ذلك

وابتدعوا شركاء بسبب شرك الأمم فإن أولئك المشركين من اليونان والروم وغيرهم كانوا يسجدون للشمس والقمر والأوثان فنقلتهم النصارى عن عبادة الأصنام المجسدة التي لها ظل إلى عبادة التماثيل المصورة في الكنائس وابتدعوا الصلاة إلى المشرق فصلوا إلى حيث تظهر الشمس والقمر والكواكب واعتاضوا بالصلاة إليها والسجود إليها عن الصلاة لها والسجود لها

والمقصود أن النصارى بعد تبديل دينهم كان ناموسهم ودينهم خيرا من دين أولئك اليونان أتباع الفلاسفة فلهذا كان الفلاسفة الذين رأوا دين الإسلام يقولون إن ناموس محمد أفضل من جميع النواميس ورأوا أنه أفضل من نواميس النصارى والمجوس وغيرهم فلم يطعنوا في دين محمد كما طعن أولئك المظهرون للزندقة من الفلاسفة ورأوا أن ما يقوله أولئك المتكلمون فيه ما يخالف صريح المعقول فطعنوا بذلك عليهم وصاروا يقولون من أنصف ولم يتعصب ولم يتبع الهوى لا يقول ما يقوله هؤلاء في المبدأ والمعاد

وكان لهم أقوال فاسدة في العقل أيضا تلقوها من سلفهم الفلاسفة ورأوا ما تقوله فيه ما يخالف العقول وطعنوا بذلك الفلاسفة ورأوا أن ما تواتر عن الرسل يخالفها فسلكوا طريقتهم الباطنية فقالوا إن الرسل لم تبين العلم والحقائق التي يقوم عليها البرهان في الأمور العلمية ثم منهم من قال إن الرسل علمت ذلك وما بينته ومنهم من يقول إنها لم تعلمه وإنما كانوا بارعين في الحكمة العملية دون الحكمة العلمية ولكن خاطبوا الجمهور بخطاب تخييلي خيلت لهم في أمر الإيمان بالله واليوم الآخر ما ينفعهم اعتقاده في سياستهم وإن كان ذلك اعتقادا باطلا لا يطابق الحقائق

وهؤلاء المتفلسفة لا يجوزون تأويل ذلك لأن المقصود بذلك عندهم التخييل والتأويل يناقض مقصوده وهم يقرون بالعبادات لكن يقولون مقصودها إصلاح أخلاق النفس وقد يقولون إنها تسقط عن الخاصة العارفين بالحقائق فكانت بدعة أولئك المتكلمين مما أعانت إلحاد هؤلاء الملحدين

وقد بسط الكلام في كشف أسرارهم وبيان مخالفتهم لصريح المعقول وصحيح المنقول في غير هذا الموضع وذكر أن المعقولات الصريحة موافقة لما أخبرت به الرسل لا تناقض ذلك ونبهنا في مواضع على ما يستوجب الاستغناء عن الطرق الباطلة المبتدعة وما به يعلم ما يوافق خير الرسول وبينا أن الطرق الصحيحة في المعقول هي مطابقة لما أخبر به الرسول مثل هذه الطرق وغيرها

فإنه يعلم بصريح المعقول أن فاعل العالم إذا قيل إنه علة تامة أزلية والعلة التامة تستلزم معلولها لزم أن لا يتخلف عنه في القدم شيء من المعلول فلا يحدث عنه شيء لا بواسطة ولا بغير واسطة ويمتنع أن يصير علة لمفعول بعد مفعول من غير أن يقوم به ما يصير علة للثاني فيمتنع مع تماثل أحواله أن تختلف مفعولاته ويحدث منها شيء

وهذا مما لا ينازع فيه عاقل تصوره تصورا جيدا وحذاقهم معترفون بهذا كما يذكره ابن رشد الحفيد وأبو عبد الله الرازي وغيرهما من أن صدور المتغيرات المختلفة عن الواحد البسيط مما تنكره العقول وكذلك إذ سمى موجبا بالذات وكذلك إذا قيل مؤثر تام التأثير في الأزل أو مرجح تام الترجيح في الأزل أو نحو ذلك وكذلك إذا قيل هو قادر مختار يستلزم وجود مراده في الأزل فإنه إذا استلزم وجود مراده في الأزل لزم أن لا يحدث شيء من مراده فلا يحدث في العالم شيء إذ لا يحدث شيء إلا بإرادته فلو كانت إرادته أزلية مستلزمة لوجود مرادها معها في الأزل لزم أن لا يكون شيء من المرادات حادثا فلا يكون في العالم حادث وهو خلاف المشاهدة

وهم لا يقولون به ولا يقول عاقل إنه علة تامة أزلية لجميع معلولاتها ولا موجب أزلي لجميع العالم حتى أشخاصه ولا يقول أحد إن جميع مراده مقارن له في الأزل بل يقولون إن أصول العالم كالأفلاك والعناصر هي الأزلية القديمة بأعيانها وإن الحركات والمولدات قديمة النوع أو يقولون إن مواد هذا العالم كالجواهر المفردة أو الهيولى أو غير ذلك هي قديمة أزلية بأعيانها وهذا كله باطل إذ كان قدم شيء من ذلك يستلزم أن يكون فاعله مستلزما له في الأزل سواء سمى موجبا له بذاته في الأزل أو علة تامة قديمة مستلزمة لمعلولها أو قيل إنه فاعل بإرادته الأزلية المستلزمة للمفعول المراد في الأزل

وإذا قيل هو علة تامة لأصول العالم دون حوادثه أو هو مريد بإرادة أزلية مستلزمة لاقتران مرادها بها في الأزل لكن تلك الإرادة الأزلية المقارنة لمرادها إنما تعلقت بأصول العالم دون حوادثه

قيل لهم هذا باطل من وجوه

منها أن مقارنة المفعول المعين لفاعله لا سيما مقارنته له أزلا وأبدا ممتنع في صرائح العقول بل وفي بداية العقول بعد التصور التام

وإذا قالوا العلوم الضرورية لا يجتمع على جحدها طائفة من العقلاء الذين لا يجوز عليهم التواطؤ على الكذب

قيل لهم لا جرم هذا القول لم يتفق عليه طائفة من العقلاء من غير تواطؤ بل جماهير العقلاء من الأولين والآخرين ينكرونه غاية الإنكار وإنما تقوله طائفة واحدة بعضهم عن بعض على سبيل مواطأة بعضهم لبعض وتلقى بعضهم عن بعض ومع المواطأة تجوز المواطأة على تعمد الكذب وعلى الأمور المشتبهة كالمذاهب الباطلة التي يعلم فسادها بالضرورة وقد توارثها طائفة تلقاها بعضهم عن بعض بخلاف الأقوال التي يقر بها الناس عن غير مواطأة فتلك لا يكون منها ما يعلم فساده ببديهة العقل ولهذا كان في عامة أقوال الكفار وأهل البدع من المشركين والنصارى والرافضة والجهمية وغيرهم ما يعلم فساده بضرورة العقل ولكن قاله طائفة تلقاه بعضهم عن بعض

ومنها أن يقال لو كان هذا حقا لامتنع حدوث الحوادث في العالم جملة ولم يكن للحوادث محدث أصلا وهذا من أظهر ما يعلم فساده بضرورة العقل فإن العلة إذا كانت تامة أزلية قارنها معلولها وكان ما يحدث غير معلولها لأنه لو كان معلولا لها لكان قد تأخر المعلول أو بعض المعلول عن علته التامة والعلة التامة لا يجوز أن يتأخر عنها لا معلولها ولا بعض معلولها فكل ما حدث لا يحدث عن علة تامة أزلية وواجب الوجود عندهم علة تامة أزلية فيلزم أن لا يحدث عنه حادث لا بواسطة ولا بغير واسطة

وما يعتذرون به في هذا المكان من قولهم إنما تأخرت الحوادث لتأخر الاستعداد ونحوه من أفسد الأقوال فإن هذا إنما يمكن أن يقال فيما يكون علة وجوده غير علة استعداده وقبوله كما يحدث عن الشمس فإنها تارة تلين وترطب كما تلين الثمار بعد يبسها بسبب ما يحصل فيها من الرطوبة فتجتمع الرطوبة المائية والسخونة الشمسية فتنضج الثمار وتلين وتارة تجفف وتيبس كما يحصل للثمار بعد تناهي نضجها فإنه ينقطع عنها الاستمداد من الرطوبة فتبقى حرارة تفعل في رطوبة من غير إمداد فتجففها كما تجفف الشمس والنار وغيرهما لغير ذلك من الأجسام الرطبة

منهاج السنة النبوية
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57