انتقل إلى المحتوى

منهاج السنة النبوية/38

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



وأما قوله ثم أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام

فيقال أولا من قال إن هذا الصحيح وأين النقل الثابت بهذا وإنما المعروف أنه أمر الأنصار أن أن لايفارقوهم حتى يبايعوا واحدا منهم

ثم يقال ثانيا هذا من الكذب على عمر ولم ينقل هذا أحد من أهل العلم بإسناد يعرف ولا أمر عمر قط بقتل الستة الذين يعلم أنهم خيار الأمة وكيف يأمر بقتلهم وإذا قتلوا كان الأمر بعد قتلهم أشد فسادا ثم لو أمر بقتلهم لقال ولوا بعد قتلهم فلانا وفلانا فكيف يأمر بقتل المستحقين للأمر ولا يولى بعدهم أحدا

وأيضا فمن الذي يتمكن من قتل هؤلاء والأمة كلها مطيعة لهم والعساكر والجنود معهم ولو أرادت الأنصار كلهم قتل واحد منهم لعجزوا عن ذلك وقد أعاذ الله الأنصار من ذلك فكيف يأمر طائفة قليلة من الأنصار بقتل هؤلاء الستة جميعا ولو قال هذا عمر فكيف كان يسكت هؤلاء الستة ويمكنون الأنصار منهم ويجتمعون في موضع ليس فيه من ينصرهم

ولو فرضنا أن الستة لم يتول واحد منهم لم يجب قتل أحد منهم بذلك بل تولى غيرهم وهذا عبد الله بن عمر كان دائما تعرض عليه الولايات فلا يتولى وما قتله أحد وقد عين للخلافة يوم الحكمين فتغيب عنه وما آذاه أحد قط وما سمع قط أن أحدا امتنع من الولاية فقتل على ذلك، فهذا من اختلاق مفتر لا يدري ما يكتب لا شرعا ولا عادة

ثم نقول جوابا مركبا لا يخلو إما أن يكون عمر أمر بهذا أو لم يكن أمر به فإن كان الأول بطل إنكاره وإن كان الثاني فليس كون الرجل من أهل الجنة أو كونه وليا لله مما يمنع قتله إذا اقتضى الشرع ذلك فإنه قد ثبت في الصحاح أن النبي رجم الغامدية وقال لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله فهذه يشهد لها الرسول بذلك ثم لما كان الحد قد ثبت عليها أمر برجمها

ولو وجب على الرجل قصاص وكان من أولياء الله وتاب من قتل العمد توبة نصوحا لوجب أن يمكن أولياء المقتول منه فإن شاءوا قتلوه ويكون قتله كفارة له

والتعزير بالقتل إذا لم تحصل المصلحة بدونه مسألة اجتهادية كقتل الجاسوس المسلم للعلماء فيه قولان معروفان وهما قولان في مذهب أحمد أحدهما يجوز قتله وهو مذهب مالك واختيار ابن عقيل والثاني لا يجوز قتله وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي واختيار القاضي أبي يعلى وغيره

وفي الصحيح عن النبي أنه قال من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه وقال في شارب الخمر إن شربها في الرابعة فاقتلوه وقد تنازع العلماء في هذا الحكم هل هو منسوخ أم لا

فلو قدر أن عمر أمر بقتل واحد من المهاجرين الأولين لكان ذلك منه على سبيل الاجتهاد السائغ له ولم يكن ذلك مانعا من كون ذلك الرجل في الجنة ولم يقدح لا في عدل هذا ولا في دخول هذا الجنة فكيف إذا لم يقع شيء من ذلك

ثم من العجب أن الرافضة يزعمون أن الذين أمر عمر بقتلهم بتقدير صحة هذا النقل يستحقون القتل إلا عليا فإن كان عمر أمر بقتلهم فلماذا ينكرون عليه ذلك ثم يقولون إنه كان يحابيهم في الولاية ويأمر بقتلهم فهذا جمع بين الضدين

وإن قلتم كان مقصوده قتل علي

قيل لو بايعوا إلا عليا لم يكن ذلك يضر الولاية فإنما يقتل من يخاف وقد تخلف سعد بن عبادة عن بيعة أبي بكر ولم يضربوه ولم يحبسوه فضلا عن القتل

وكذلك من يقول إن عليا وبني هاشم تخلفوا عن بيعة أبي بكر ستة أشهر يقول إنهم لم يضربوا أحدا منهم ولا أكرهوه على البيعة فإذا لم يكره أحد على مبايعة أبي بكر التي هي عنده متعينة فكيف يأمر بقتل الناس على مبايعة عثمان وهي عنده غير متعينة

وأبو بكر وعمر مدة خلافتهما ما زالا مكرمين غاية الإكرام لعلي وسائر بني هاشم يقدمونهم على سائر الناس ويقول أبو بكر أيها الناس ارقبوا محمدا في أهل بيته وأبو بكر يذهب وحده إلى بيت علي وعنده بنو هاشم فيذكر لهم فضلهم ويذكرون له فضله ويعترفون له باستحقاقه الخلافة ويعتذرون من التأخر ويبايعونه وهو عندهم وحده

والآثار المتواترة بما كان بين القوم من المحبة والائتلاف توجب كذب من نقل ما يخالف ذلك

ولو أراد أبو بكر وعمر في ولايتهما إيذاء علي بطريق من الطرق لكانا أقدر على ذلك من صرف الأمر عنه بعد موت النبي

فهؤلاء المفترون يزعمون أنهم ظلموه في حال كان فيها أقدر على دفع الظلم عن نفسه ومنعهما من ظلمه وكانا أعجز عن ظلمه لو أرادا ذلك فهلا ظلماه بعد قوتهما ومطاوعة الناس لهما إن كانا مريدين لظلمه

ومن العادة المعروفة أن من تولى ولاية وهناك من هو مرشح لها يخاف أن ينازعه أنه لا يقر حتى يدفعه عن ذلك إما بحبس وإما بقتل سرا أو علانية كما جرت عادة الملوك فإذا كانا يعلمان أنهما ظالمان له وهو مظلوم يعرف أنه مظلوم وهو مريد للولاية فلا بد أن يخافا منه

فكان ينبغي لو كان هذا حقا أن يسعيا في قتله أو حبسه ولو بالحيلة وهذا أو أراداه لكان أسهل عليهما من منعه ابتداء مع وجود النص ولو أرادا تأميره على بعض الجيوش وأوصيا بعض أهل الجيوش أن يقتله ويسمه كان هذا ممكنا

ففي الجملة دفع المتولى لمن يعرف أنه ينازعه ويقول إنه أحق بالأمر منه أمر لا بد منه وذلك بأنواع من إهانة وإيذاء وحبس وقتل وإبعاد

وعلي رضي الله عنه ما زالا مكرمين له غاية الإكرام بكل طريق مقدمين له بل ولسائر بني هاشم على غيرهم في العطاء مقدمين له في المرتبة والحرمة والمحبة والموالاة والثناء والتعظيم كما يفعلان بنظرائه ويفضلانه بما فضله الله عز وجل به على من ليس مثله ولم يعرف عنهم كلمة سوء في علي قط بل ولا في أحد من بني هاشم

ومن المعلوم أن المعاداة التي في القلب توجب إرادة الأذى لمن يعادي فإذا كان الإنسان قادرا اجتمعت القدرة مع الإرادة الجازمة وذلك يوجب وجود المقدور فلو كانا مريدين بعلي سوءا لكان ذلك مما يوجب ظهوره لقدرتهما فكيف ولم يظهر منهما إلا المحبة والموالاة

وكذلك علي رضي الله عنه قد تواتر عنه من محبتهما وموالاتهما وتعظيمهما وتقديمهما على سائر الأمة ما يعلم به حاله في ذلك ولم يعرف عنه قط كلمة سوء في حقهما ولا أنه كان أحق بالأمر منهما

وهذا معروف عند من عرف الأخبار الثابتة المتواترة عند الخاصة والعامة والمنقولة بأخبار الثقات

وأما من رجع إلى ما ينقله من هو من أجهل الناس بالمنقولات وأبعد الناس عن معرفة أمور الإسلام ومن هو معروف بافتراء الكذب الكثير الذي لا يروج إلا على البهائم ويروج كذبه على قوم لا يعرفون الإسلام إما قوم سكان البوادي أو رءوس الجبال أو بلد أهله من أقل الناس علما وأكثرهم كذابا فهذا هو الذي يضل

وهكذا الرافضة لا يتصور قط أن مذهبهم يروج على أهل مدينة كبيرة من مدائن المسلمين فيها أهل علم ودين وإنما يروج على جهال سكنوا البوادي والجبال أو على محلة في مدينة أو بليدة أو طائفة يظهرون للناس خلاف ما يبطنون لظهور كذبهم حتى أن القاهرة لما كانت مع العبيديين وكانوا يظهرون التشيع لم يتمكنوا من ذلك حتى منعوا من فيها من أهل العلم والدين من إظهار علمهم ومع هذا فكانوا خائفين من سائر مدائن المسلمين يقدم عليهم الغريب من البلد البعيد فيكتمون عنه قولهم ويداهنونه ويتقونه كما يخاف الملك المطاع وهذا لأنهم أهل فرية وكذب

وقد قال تعالى إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين سورة الأعراف 152 قال ابو قلابة هي لكل مفتر من هذه الأمة إلى يوم القيامة

وكذلك قوله أمر بقتل من خالف الأربعة وأمر بقتل من خالف الثلاثة منهم عبد الرحمن، فيقال هذا من الكذب المفترى ولو قدر أنه فعل ذلك لم يكن عمر قد خالف الدين بل يكون قد أمر بقتل من يقصد الفتنة كما قال النبي من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان

والمعروف عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقتل من أراد أن ينفرد عن المسلمين ببيعة بلا مشاورة لأجل هذا الحديث

وأما قتل الواحد المتخلف عن البيعة إذا لم تقم فتنة فلم يأمر عمر بقتل مثل هذا ولا يجوز قتل مثل هذا

وكذلك ما ذكره من الإشارة إلى قتل عثمان ومن الإشارة إلى ترك ولاية علي كذب بين على عمر فإن قوله لئن فعلت ليقتلنك الناس إخبار عما يفعله الناس ليس فيه أمر لهم بذلك

وكذلك قوله لا يولونه إياها، إخبار عما سيقع ليس فيه نهي لهم عن الولاية مع أن هذا اللفظ بهذا السياق ليس بثابت عن عمر بل هو كذب عليه والله تعالى أعلم

فصل

قال الرافضي وأما عثمان فإنه ولى أمور المسلمين من لا يصلح للولاية حتى ظهر من بعضهم الفسوق ومن بعضهم الخيانة وقسم الولايات بين أقاربه وعوتب على ذلك مرارا فلم يرجع واستعمل الوليد بن عقبة حتى ظهر منه شرب الخمر وصلى بالناس وهو سكران واستعمل سعيد بن العاص على الكوفة وظهر منه ما أدى إلى أن أخرجه أهل الكوفة منها

وولي عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر حتى تظلم منه أهلها وكاتبه أن يستمر على ولايته سرا خلاف ما كتب إليه جهرا وأمر بقتل محمد بن أبي بكر وولى معاوية الشام فأحدث من الفتن ما أحدث وولى عبد الله بن عامر البصرة ففعل من المناكير ما فعل وولى مروان أمره وألقى إليه مقاليد أموره ودفع إليه خاتمه فحدث من ذلك قتل عثمان وحدث من الفتنة بين الأمة ما حدث وكان يؤثر أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال حتى أنه دفع إلى أربعة نفر من قريش زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار ودفع إلى مروان ألف ألف دينار وكان ابن مسعود يطعن عليه ويكفره ولما حكم ضربه حتى مات وضرب عمارا حتى صار به فتق وقد قال فيه النبي عمار جلدة بين عيني تقتله الفئة الباغية لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة وكان عمار يطعن عليه وطرد رسول الله الحكم بن أبي العاص عم عثمان عن المدينة ومعه ابنه مروان فلم يزل هو وابنه طريدا في زمن النبي وأبي بكر وعمر فلما ولي عثمان آواه ورده إلى المدينة وجعل مروان كاتبه وصاحب تدبيره مع أن الله تعالى قال لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم الآية سورة المجادلة 22 ونفى أبا ذر إلى الربذة وضربه ضربا وجيعا مع أن النبي قال في حقه ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر وقال إن الله أوحى إلى أنه يحب أربعة من أصحابي وأمرني بحبهم فقيل من هم يا رسول الله قال سيدهم علي وسلمان والمقداد وأبو ذر وضيع حدود الله فلم يقتل عبيد الله بن عمر حين قتل الهرمزان مولى أمير المؤمنين بعد إسلامه وكان أمير المؤمنين يطلب عبيد الله لإقامة القصاص عليه فلحق بمعاوية وأراد أن يعطل حد الشرب في الوليد بن عقبة حتى حده أمير المؤمنين وقال لا يبطل حد الله وأنا حاضر وزاد الأذان الثاني يوم الجمعة وهو بدعة وصار سنة إلى الآن وخالفه المسلمون كلهم حتى قتل وعابوا أفعاله وقالوا له غبت عن بدر وهربت يوم أحد ولم تشهد بيعة الرضوان والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى

والجواب أن يقال نواب علي خانوه وعصوه أكثر مما خان عمال عثمان له وعصوه وقد صنف الناس كتبا فيمن ولاه علي فأخذ المال وخانه وفيمن تركه وذهب إلى معاوية وقد ولى علي رضي الله عنه زياد بن أبي سفيان أبا عبيدالله بن زياد قاتل الحسين وولي الأشتر النخعي وولى محمد بن أبي بكر وأمثال هؤلاء

ولا يشك عاقل أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كان خيرا من هؤلاء كلهم

ومن العجب أن الشيعة ينكرون على عثمان ما يدعون أن عليا كان أبلغ فيه من عثمان فيقولون إن عثمان ولى أقاربه من بني أمية ومعلوم أن عليا ولى أقاربه من قبل أبيه وأمه كعبد الله وعبيد الله ابنى العباس فولى عبيد الله بن عباس على اليمن وولى على مكة والطائف قثم ابن العباس وأما المدينة فقيل إنه ولى عليها سهل بن حنيف وقيل ثمامة بن العباس وأما البصرة فولى عليها عبد الله بن عباس وولى على مصر ربيبه محمد بن أبي بكر الذي رباه في حجره

ثم إن الإمامية تدعي أن عليا نص على أولاده في الخلافة أو على ولده وولده على ولده الآخر وهلم جرا

ومن المعلوم أنه إن كان توليه الأقربين منكرا فتولية الخلافة العظمى أعظم من إمارة بعض الأعمال وتولية الأولاد أقرب إلى الإنكار من تولية بني العم ولهذا كان الوكيل والوالي الذي لا يشترى لنفسه لا يشترى لابنه أيضا في أحد قولي العلماء والذي دفع إليه المال ليعطيه لمن يشاء لا يأخذه لنفسه ولا يعطيه لولده في أحد قوليهم

وكذلك تنازعوا في الخلافة هل للخليفة أن يوصي بها لولده على قولين والشهادة لابنه مردودة عند أكثر العلماء ولا ترد الشهادة لبني عمه وهكذا غير ذلك من الأحكام

وذلك أن النبي قال أنت ومالك لأبيك وقال ليس لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما وهبه لولده

فإن قالوا إن عليا رضي الله عنه فعل ذلك بالنص

قيل أولا نحن نعتقد أن عليا خليفة راشد وكذلك عثمان لكل قبل أن ينعلم حجة كل منهما فيما فعل فلا ريب أن تطرق الظنون والتهم إلى ما فعله على أعظم من تطرق التهم والظنون إلى ما فعله عثمان

وإذا قال القائل لعلي حجة فيما فعله

قيل له وحجة عثمان فيما فعله أعظم وإذا ادعى لعلي العصمة ونحوها مما يقطع عنه ألسنة الطاعنين كان ما يدعى لعثمان من الاجتهاد الذي يقطع ألسنة الطاعنين أقرب إلى المعقول والمنقول

فإن الرافضي يجيء إلى أشخاص ظهر بصريح المعقول وصحيح المنقول أن بعضهم أكمل سيرة من بعض فيجعل الفاضل مذموما مستحقا للقدح ويجعل المفضول معصوما مستحقا للمدح كما فعلت النصارى يجيئون إلى الأنبياء صلوات الله عليهم وقد فضل الله بعضهم على بعض فيجعلون المفضول إلها والفاضل منقوصا دون الحواريين الذين صحبوا المسيح فيكون ذلك قلبا للحقائق وأعجب من ذلك أنهم يجعلون الحواريين الذين ليسوا أنبياء معصومين عن الخطأ ويقدحون في بعض الأنبياء كسليمان وغيره

ومعلوم أن إبراهيم ومحمدا أفضل من نفس المسيح صلوات الله وسلامه عليهم بالدلائل الكثيرة بل وكذلك موسى فكيف يجعل الذين صحبوا المسيح أفضل من إبراهيم ومحمد

وهذا من الجهل والغلو الذي نهاهم الله عنه قال تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه سورة النساء 17وكذلك الرافضة موصفون بالغلو عند الأمة فإن فيهم من أدعى الإلهية في علي وهؤلاء شر من النصارى وفيهم من أدعى النبوة فيه ومن أثبت نبيا بعد محمد فهو شبيه بأتباع مسيلمة الكذاب وأمثاله من المتنبئين إلا أن عليا رضي الله عنه بريء من هذه الدعوة بخلاف من أدعى النبوة لنفسه كمسيلمة وأمثاله

وهؤلاء الإمامية يدعون ثبوت إمامته بالنص وأنه كان معصوما هو وكثير من ذريته وأن القوم ظلموه وغصبوه

ودعوى العصمة تضاهي المشاركة في النبوة فإن المعصوم يجب اتباعه في كل ما يقول لا يجوز أن يخالف في شيء وهذه خاصة الأنبياء ولهذا أمرنا أن نؤمن بما أنزل اليهم فقال تعالى قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسي وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون سورة البقرة 136 فأمرنا أن نقول آمنا بما أوتي النبيون

وقال تعالى آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير سورة البقرة 38وقال تعالى ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبين سورة البقرة 17فالإيمان بما جاء به النبيون مما أمرنا أن نقوله ونؤمن به وهذا مما اتفق عليه المسلمون أنه يجب الإيمان بكل نبي ومن كفر بنبي واحد فهو كافر ومن سبه وجب قتله باتفاق العلماء

وليس كذلك من سوى الأنبياء سواء سموا أولياء أو أئمة أو حكماء أو علماء أو غير ذلك فمن جعل بعد الرسول معصوما يجب الإيمان بكل ما يقوله فقد أعطاه معنى النبوة وإن لم يعطه لفظها

ويقال لهذا ما الفرق بين هذا وبين أنبياء بني إسرائيل الذين كانوا مأمورين باتباع شريعة التوراة

وكثير من الغلاة في المشايخ يعتقد أحدهم في شيخه نحو ذلك ويقولون الشيخ محفوظ ويأمرون باتباع الشيخ في كل ما يفعل لا يخالف في شيء أصلا وهذا من جنس غلو الرافضة والنصارى والإسماعيلية تدعى في أئمتها أنهم كانوا معصومين

وأصحاب ابن تومرت الذي ادعى أنه المهدى يقولون إنه معصوم ويقولون في خطبة الجمعة الإمام المعصوم والمهدي المعلوم ويقال إنهم قتلوا بعض من أنكر أن يكون معصوما

ومعلوم أن كل هذه الأقوال مخالفة لدين الإسلام للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها فإن الله تعالى يقول أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية سورة النساء 59 فلم يأمرنا بالرد عند التنازع إلا إلى الله والرسول فمن أثبت شخصا معصوما غير الرسول أوجب رد ما تنازعوا فيه إليه لأنه لا يقول عنده إلا الحق كالرسول وهذا خلاف القرآن

وأيضا فإن المعصوم تجب طاعته مطلقا بلا قيد ومخالفة يستحق الوعيد والقرآن إنما أثبت هذا في حق الرسول خاصة قال تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا سورة النساء 69 وقال ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا سورة الجن 23 فدل القرآن في غير موضع على أن من أطاع الرسول كان من أهل السعادة ولم يشترط في ذلك طاعة معصوم آخر

ومن عصى الرسول كان من أهل الوعيد وإن قدر أنه أطاع من ظن أنه معصوم فالرسول هو الذي فرق الله به بين أهل الجنة وأهل النار وبين الأبرار والفجار وبين الحق والباطل وبين الغي والرشاد والهدى والضلال وجعله القسيم الذي قسم الله به عباده إلى شقى وسعيد فمن اتبعه فهو السعيد ومن خالفه فهو الشقى وليست هذه المرتبة لغيره

ولهذا اتفق أهل العلم أهل الكتاب والسنة على أن كل شخص سوى الرسول فإنه يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله فإنه يجب تصديقه في كل ما أخبر وطاعته في كل أمر فإنه المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وهو الذي يسأل الناس عنه يوم القيامة كما قال تعالى فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين سورة الأعراف وهو الذي يمتحن به الناس في قبورهم فيقال لأحدهم من ربك وما دينك ومن نبيك ويقال ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فيقول هو عبد الله ورسوله جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه ولو ذكر بدل الرسول من ذكره من الصحابة والأئمة والتابعين والعلماء لم ينفعه ذلك ولا يمتحن في قبره بشخص غير الرسول

والمقصود هنا أن ما يعتذر به عن علي فيما أنكر عليه يعتذر بأقوى منه عن عثمان فإن عليا قاتل على الولاية وقتل بسبب ذلك خلق كثير عظيم ولم يحصل في ولايته لا قتال للكفار ولا فتح لبلادهم ولا كان المسلمون في زيادة خير وقد ولى من أقاربه من ولاه فولاية الأقارب مشتركة ونواب عثمان كانوا أطوع من نواب على وأبعد عن الشر

وأما الأموال التي تأول فيها عثمان فكما تأول على في الدماء وأمر الدماء أخطر وأعظم

ويقال ثانيا هذا النص الذي تدعونه أنتم فيه مختلفون اختلافا يوجب العلم الضروري بأنه ليس عندكم ما يعتمد عليه فيه بل كل قوم منكم يفترون ما شاءوا

وأيضا فجماهير المسلمين يقولون إنا نعلم علما يقينا بل ضروريا كذب هذا النص بطرق كثيرة مبسوطة في مواضعها

ويقال فجماهير المسلمين يقولون إنا نعلم علما يقينا بل ضروريا كذب هذا النص بطرق كثيرة مبسوطة في مواضعها

ويقال ثالثا إذا كان كذلك ظهرت حجة عثمان فإن عثمان يقول إن بني أمية كان رسول الله يستعملهم في حياته واستعملهم بعده من لا يتهم بقرابة فيهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه ولا نعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمال لرسول الله أكثر من بني عبد شمس لأنهم كانوا كثيرين وكان فيهم شرف وسؤدد فاستعمل النبي في عزة الإسلام على أفضل الأرض مكة عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية واستعمل على نجران أبا سفيان بن حرب بن أمية واستعمل أيضا خالد بن سعيد بن العاص على صدقات بني مذحج وعلى صنعاء اليمن فلم يزل عليها حتى مات رسول الله واستعمل عثمان بن سعيد بن العاص على تيماء وخيبر وقرى عرينة واستعمل أبان بن سعيد بن العاص على بعض السرايا ثم استعمله على البحرين فلم يزل عليها بعد العلاء بن الحضرمي حتى توفي النبي واستعمل الوليد بن عقبة بن أبي معيط حتى أنزل الله فيه إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة الآية سورة الحجرات فيقول عثمان أنا لم استعمل إلا من استعمله النبي منهم ومن جنسهم ومن قبيلتهم وكذلك أبو بكر وعمر بعده فقد ولى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان بن حرب في فتوح الشام وأقره عمر ثم ولى عمر بعده أخاه معاوية

وهذا النقل عن النبي في استعمال هؤلاء ثابت مشهور عنه بل متواتر عند أهل العلم ومنه متواتر عند علماء الحديث ومنه ما يعرفه العلماء منهم ولا ينكره أحد منهم

فكان الاحتجاج على جواز الاستعمال من بني أمية بالنص الثابت عن النبي أظهر عند كل عاقل من دعوى كون الخلافة في واحد معين من بني هاشم بالنص لأن هذا كذب باتفاق أهل العلم بالنقل وذاك صدق باتفاق أهل العلم بالنقل

وأما بنو هاشم فلم يستعمل النبي منهم إلا على ابن أبي طالب رضي الله عنه على اليمن وولى أيضا على اليمن معاذ ابن جبل وأبا موسى الأشعري وولى جعفر بن أبي طالب على قتال مؤتة وولى قبل جعفر زيد بن حارثة مولاه وقيل عبد الله بن رواحة فهذا رسول الله يقدم في الولاية زيد بن حارثة مولاه وهو من كلب على جعفر بن أبي طالب وقد روى أن العباس سأله ولاية فلم يوله إياها

وليس في بني هاشم بعد علي أفضل من حمزة وجعفر وعبيدة بن الحارث بن المطلب الذي قتل يوم بدر فحمزة لم يتول شيئا فإنه قتل يوم أحد شهيدا رضي الله عنه

وما ينقله بعض الترك بل وشيوخهم من سيرة حمزة ويتداولونها بينهم ويذكرون له حروبا وحصارات وغير ذلك فكله كذب من جنس ما يذكره الذاكرون من الغزوات المكذوبة على علي بن أبي طالب بل وعلى النبي من جنس ما يذكره أبو الحسن البكري صاحب تنقلات الأنوار فيما وضعه من السيرة فإنه من جنس ما يفتريه الكذابون من سيرة داهمة والبطالين والعيارين ونحو ذلك

فإن مغازي رسول الله معروفة مضبوطة عند أهل العلم وكانت بضعا وعشرين غزوه لكن لم يكن القتال منها إلا في تسع مغاز بدر وأحد والخندق وبني المصطلق والغابة وفتح خيبر وفتح مكة وحنين والطائف وهي آخر غزوات القتال لكن لما حاصر الطائف وكان بعدها غزوة تبوك وهي آخر المغازي وأكثرها عددا وأشقها على الناس وفيها أنزل الله سورة براءة لكن لم يكن فيها قتال

وما يذكره جهال الحجاج من حصار تبوك كذب لا أصل له فلم يكن بتبوك حصن ولا مقاتلة وقد أقام بها رسول الله عشرين ليلة ثم رجع إلى المدينة النبوية

وإذا كان جعفر أفضل بني هاشم بعد على في حياته ثم مع هذا أمر النبي زيد بن حارثة وهو من كلب عليه علم أن التقديم بفضيلة الإيمان والتقوى وبحسب أمور أخر بحسب المصلحة لا بالنسب ولهذا قدم النبي أبا بكر وعمر على أقاربه لأن رسول الله يأمر بأمر الله ليس من الملوك الذين يقدمون بأهوائهم لأقاربهم ومواليهم وأصدقائهم وكذلك كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما حتى قال عمر من أمر رجلا لقرابة أو صداقة بينهما وهو يجد في المسلمين خيرا منهم فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين

فصل

والقاعدة الكلية في هذا أن لا نعتقد أن أحدا معصوم بعد النبي بل الخلفاء وغير الخلفاء يجوز عليهم الخطأ والذنوب التي تقع منهم قد يتوبون منها وقد تكفر عنهم بحسناتهم الكثيرة وقد يبتلون أيضا بمصائب يكفر الله عنهم بها وقد يكفر عنهم بغير ذلك

فكل ما ينقل عن عثمان غايته أن يكون ذنبا أو خطأ وعثمان رضي الله عنه قد حصلت له أسباب المغفرة من وجوه كثيرة منها سابقته وإيمانه وجهاده وغير ذلك من طاعاته

وقد ثبت أن النبي شهد له بل بشره بالجنة على بلوى تصيبه

ومنها أنه تاب من عامة ما أنكروه عليه وأنه ابتلى ببلاء عظيم فكفر الله به خطاياه وصبر حتى قتل شهيدا مظلوما وهذا من أعظم ما يكفر الله به الخطايا

وكذلك علي رضي الله عنه ما تنكره الخوارج وغيرهم عليه غايته أن يكون ذنبا أو خطأ وكان قد حصلت له أسباب المغفرة من وجوه كثيرة منها سابقته وإيمانه وجهاده وغير ذلك من طاعته وشهادة النبي له بالجنة ومنها أنه تاب من أمور كثيرة أنكرت عليه وندم عليها ومنها أنه قتل مظلوما شهيدا

فهذه القاعدة تغنينا أن نجعل كل ما فعل واحد منهم هو الواجب أو المستحب من غير حاجة بنا إلى ذلك والناس المنحرفون في هذا الباب صنفان القادحون الذين يقدحون في الشخص بما يغفره الله له والمادحون الذين يجعلون الأمور المغفورة من باب السعي المشكور فهذا يغلو في الشخص الواحد حتى يجعل سيئاته حسنات وذلك يجفو فيه حتى يجعل السيئة الواحدة منه محبطة للحسنات

وقد أجمع المسلمون كلهم حتى الخوارج على أن الذنوب تمحى بالتوبة وأن منها ما يمحى بالحسنات وما يمكن أحد أن يقول إن عثمان أو عليا أو غيرهما لم يتوبوا من ذنوبهم فهذه حجة على الخوارج الذين يكفرون عثمان وعليا وعلى الشيعة الذين يقدحون في عثمان وغيره وعلى الناصبة الذين يخصون عليا بالقدح

ولا ريب أن عثمان رضي الله عنه تقابلت فيه طائفتان شيعته من بني أمية وغيرهم ومبغضوه من الخوارج والزيدية والإمامية وغيرهم لكن شيعته أقل غلوا فيه من شيعة علي فما بلغنا أن أحدا منهم اعتقد فيه بخصوصه إلاهية ولا نبوة ولا بلغنا أن أحدا اعتقد ذلك في أبي بكر وعمر

لكن قد يكون بعض من يغلو في جنس المشايخ ويعتقد فيهم الحلول أو الأتحاد أو العصمة يقول ذلك في هؤلاء لكن لا يخصهم بذلك

ولكن شيعة عثمان الذين كان فيهم انحراف عن علي كان كثير منهم يعتقد أن الله إذا استخلف خليفة يقبل منه الحسنات ويتجاوز له عن السيئات وأنه يجب طاعته في كل ما يأمر به وهو مذهب كثير من شيوخ الشيعة العثمانية وعلمائها

ولهذا لما حج سليمان بن عبد الملك وتكلم مع أبي حازم في ذلك قال له أبو حازم يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب سورة ص 26 وموعظة أبي حازم لسليمان معروفة

ولما توفى عمر بن عبد العزيز أظهر من السنة والعدل ما كان قد خفى ثم مات فطلب يزيد بن عبد الملك أن يسير سيرته فجاء إليه عشرون شيخا من شيوخ الشيعة العثمانية فحلفوا له بالله الذي لا إله إلا هو أن الله إذا استخلف خليفة تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات حتى أمسك عن مثل طريقة عمر بن عبد العزيز

ولهذا كانت فيهم طاعة مطلقة لمتولي أمرهم فإنهم كانوا يرون أن الله أوجب عليهم طاعة ولي أمرهم مطلقا وأن الله لا يؤاخذه على سيئاته ولم يبلغنا أن أحدا منهم كان يعتقد فيهم أنهم معصومون بل يقولون إنهم لا يؤاخذون على ذنب كأنهم يرون أن سيئات الولاة مكفرة بحسناتهم كما تكفر الصغائر باجتناب الكبائر

فهؤلاء إذا كانوا لا يرون خلفاء بني أمية معاوية فمن بعده مؤاخذين بذنب فكيف يقولون في عثمان مع سابقته وفضله وحسن سيرته وعدله وأنه من الخلفاء الراشدين

وأما الخوارج فأولئك يكفرون عثمان وعليا جميعا ولم يكن لهم اختصاص بذم عثمان وأما شيعة علي فكثير منهم أو أكثرهم يذم عثمان حتي الزيدية اللذين يترحمون على أبي بكر وعمر فيهم من يسب عثمان ويذمه وخيارهم الذي يسكت عنه فلا يترحم عليه ولا يلعنه

وقد كان من شيعة عثمان من يسب عليا ويجهر بذلك على المنابر وغيرها لأجل القتال الذي كان بينهم وبينه وكان أهل السنة من جميع الطوائف تنكر ذلك عليهم وكان فيهم من يؤخر الصلاة عن وقتها فكان المتمسك بالسنة يظهر محبة علي وموالاته ويحافظ على الصلاة في مواقيتها حتى رئي عمرو بن مرة الجملي وهو من خيار أهل الكوفة شيخ الثوري وغيره بعد موته فقيل له ما فعل الله بك فقال فغر لي بحب علي بن أبي طالب ومحافظتي على الصلاة في مواقيتها

وغلت شيعة علي في الجانب الآخر حتى صاروا يصلون العصر مع الظهر دائما قبل وقتها الخاص ويصلون العشاء مع المغرب دائما قبل وقتها الخاص فيجمعون بين الصلاتين دائما في وقت الأولى وهذا خلاف المتواتر من سنة رسول الله فإن الجمع إنما كان يفعله لسبب لا سيما الجمع في وقت الأولى فإن الذي تواتر عند الأئمة أنه فعله بعرفة وأما ما فعله بغيرها ففيه نزاع ولا خلاف أنه لم يكن يفعله دائما لا في الحضر ولا في السفر بل في حجة الوداع لم يجمع إلا بعرفة ومزدلفة ولكن روى عنه الجمع في غزوة تبوك وروى أيضا أنه جمع بالمدينة لكن نادرا لسبب والغالب عليه ترك الجمع فكيف يجمع بين الصلاتين دائما

وأولئك إذا كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر فهو خير من تقديم العصر إلى وقت الظهر فإن جمع التأخير خير من جمع التقديم فإن الصلاة يفعلها النائم والناسي قضاء بعد الوقت وأما الظهر قبل الزوال فلا تصلى بحال

وهكذا تجد في غالب الأمور بدع هؤلاء أشنع من بدع أولئك ولم يكن أحد منهم يتعرض لأبي بكر وعمر إلا بالمحبة والثناء والتعظيم ولا بلغنا أن أحدا منهم كفر عليا كما كفرته الخوارج الذين خرجوا عليه من أصحابه وإنما غاية من يعتدى منهم على علي رضي الله عنه أن يقول كان ظالما ويقولون لم يكن من الخلفاء ويروون عنه أشياء من المعاونة على قتل عثمان والإشارة بقتله في الباطن والرضا بقتله

وكل ذلك كذب علي علي رضي الله عنه وقد حلف رضي الله عنه وهو الصادق بلا يمين أنه لم يقتل عثمان ولا مالا على قتله بل ولا رضي بقتله وكان يلعن قتله عثمان

وأهل السنة يعلمون ذلك منه بدون قوله فهو أتقى لله من أن يعين على قتل عثمان أو يرضى بذلك

فما قالته شيعه على في عثمان أعظم مما قالته شيعة عثمان في علي فإن كثيرا منهم يكفر عثمان وشيعة عثمان لم تكفر عليا ومن لم يكفره يسبه ويبغضه أعظم مما كانت شيعة عثمان تبغض عليا

وأهل السنة يتولون عثمان وعليا جميعا ويتبرؤون من التشيع والتفرق في الدين الذي يوجب موالاة أحدهما ومعاداة الآخر وقد استقر أمر أهل السنة على أن هؤلاء مشهود لهم بالجنة ولطلحة الزبير وغيرهما ممن شهد له الرسول بالجنة كما قد بسط في موضعه وكان طائفة من السلف يقولون لا نشهد بالجنة إلا الرسول خاصة وهذا قول محمد بن الحنفية والأوزاعي وطائفة أخرى من أهل الحديث كعلي بن المديني وغيره يقولون هم في الجنة ولا يقولون نشهد لهم بالجنة

والصواب أنا نشهد لهم بالجنة كما استقر على ذلك مذهب أهل السنة وقد ناظر أحمد بن حنبل لعلي بن المديني في هذه المسألة

وهذا معلوم عندنا بخبر الصادق وهذه المسألة لبسطها موضع آخر والكلام هنا فيما يذكر عنهم من أمور يراد بها الطعن عليهم

فطائفة تغلو فيهم فتريد أن تجعلهم معصومين أو كالمعصومين وطائفة تريد أن تسبهم وتذمهم بأمور إن كانت صدقا فهم مغفور لهم أو هم غير مؤاخذين بها فإنه ما ثم إلا ذنب أو خطأ في الاجتهاد والخطأ قد رفع الله المؤاخذة به عن هذه الأمة والذنب لمغفرته عدة أسباب كانت موجودة فيهم وهما أصلان عام وخاص أما العام فإن الشخص الواحد يجتمع فيه أسباب الثواب والعقاب عند عامة المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين

والنزاع في ذلك مع الخوارج والمعتزلة الذين يقولون ما ثم إلا مثاب في الآخرة أو معاقب ومن دخل النار لم يخرج منها لا بشفاعة ولا غيرها ويقولون إن الكبيرة تحبط جميع الحسنات ولا يبقى مع صاحبها من الإيمان شيء

وقد ثبت بالنصوص المستفيضة عن النبي إخراج قوم من النار بعد ما امتحشوا وثبت أيضا شفاعة النبي لأهل الكبائر من أمته والآثار بذلك متواترة عند أهل العلم بالحديث أعظم من تواتر الآثار بنصاب السرقة ورجم الزاني المحصن ونصب الزكاة ووجوب الشفعة وميراث الجدة وأمثال ذلك

لكن هذا الأصل لا يحتاج اليه في مثل عثمان وأمثاله ممن شهد له بالجنة وأن الله رضي عنه وأنه لا يعاقبه في الآخرة بل نشهد أن العشرة في الجنة وأن أهل بيعة الرضوان في الجنة وأن أهل بدر في الجنة كما ثبت الخبر بذلك عن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن إلهوى إن هو إلا وحي يوحى وقد دخل في الفتنة خلق من هؤلاء المشهود لهم بالجنة والذي قتل عمار بن ياسر هو أبو الغادية وقد قيل إنه من أهل بيعة الرضوان ذكر ذلك ابن حزم

فنحن نشهد لعمار بالجنة ولقاتله إن كان من أهل بيعة الرضوان بالجنة وأما عثمان وعلي وطلحة والزبير فهم أجل قدرا من غيرهم ولو كان منهم ما كان فنحن لا نشهد أن الواحد من هؤلاء لا يذنب بل الذي نشهد به أن الواحد من هؤلاء إذا أذنب فإن الله لا يعذبه في الآخرة ولا يدخله النار بل يدخله الجنة بلا ريب وعقوبة الآخر تزول عنه إما بتوبة منه وأما بحسناته الكثيرة وإما بمصائبه المكفرة وأما بغير ذلك كما قد بسطناه في موضعه

فإن الذنوب مطلقا من جميع المؤمنين هي سبب العذاب لكن العقوبة بها في الآخرة في جهنم تندفع بنحو عشرة أسباب السبب الأول التوبة فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له والتوبة مقبولة من جميع الذنوب الكفر والفسوق والعصيان قال الله تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف سورة الأنفال 38 وقال تعالى فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين سورة التوبة وقال تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا اله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم سورة المائدة 73 7وقال إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق سورة البروج 10 قال الحسن البصري انظروا إلى هذا الكرم والجود فتنوا أولياءه وعذبوهم بالنار ثم هو يدعوهم إلى التوبة

والتوبة عامة لكل عبد مؤمن كما قال تعالى وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما سورة الأحزاب 72 73

وقد أخبر الله في كتابه عن توبة أنبيائه ودعائهم بالتوبة كقوله فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم سورة البقرة 3 وقول إبراهيم وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمه مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم سورة البقرة 127 128

وقال موسى أنت ولينا فأغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك سورة الأعراف 155

وقوله رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم سورة القصص 16

وقوله تبت إليك وأنا أول المؤمنين سورة الأعراف 143

وكذلك ما ذكره في قصة داود وسليمان وغيرهما

وأما المأثور عن النبي من ذلك فكثير مشهور وأصحابه كانوا أفضل قرون الأمة فهم أعرف القرون بالله وأشدهم له خشية وكانوا أقوم الناس بالتوبة في حياته وبعد مماته

فمن ذكر ما عيب عليهم ولم يذكر توبتهم التي بها رفع الله درجتهم كان ظالما لهم كما جرى من بعضهم يوم الحديبية وقد تابوا منه مع أنه كان قصدهم الخير وكذلك قصة حاطب بن أبي بلتعة تاب منها بل زانيهم كان يتوب توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له كما تاب ماعز بن مالك وأتى إلى النبي حتى طهره بإقامة الحد عليه وكذلك الغامدية بعده وكذلك كانوا زمن عمر وغيره إذا شرب أحدهم الخمر أتى إلى أميره فقال طهرني وأقم على الحد فهذا فعل من يأتي الكبيرة منهم حين يعلمها حراما فكيف إذا أتى احدهم الصغيرة أو ذنبا تأول فيه ثم تبين له خطؤه

وعثمان بن عفان رضي الله عنه تاب توبة ظاهرة من الأمور التي صاروا ينكرونها ويظهر له أنها منكر وهذا مأثور مشهور عنه رضي الله عنه وأرضاه

وكذلك عائشة رضي الله عنها ندمت على مسيرها إلى البصرة وكانت إذا ذكرته تبكي حتى تبل خمارها

وكذلك طلحة ندم على ما ظن من تفريطه في نصر عثمان وعلي غير ذلك والزبير ندم على مسيره يوم الجمل

وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ندم على أمور فعلها من القتال وغيره وكان يقول

لقد عجزت عجزة لا أعتذر ... سوف أكيس بعدها وأستمر ... وأجمع الرأي الشتيت المنتشر

وكان يقول ليالي صفين لله در مقام قامه عبد الله بن عمر وسعد ابن مالك إن كان برا إن أجره لعظيم وإن كان إثما إن خطره ليسير وكان يقول يا حسن يا حسن ما ظن أبوك أن الأمر يبلغ إلى هذا ود أبوك لو مات قبل هذا بعشرين سنة

ولما رجع من صفين تغير كلامه وكان يقول لا تكرهوا إمارة معاوية فلو قد فقدتموه لرأيتم الرؤوس تتطاير عن كواهلها وقد روي هذا عن علي رضي الله عنه من وجهين أو ثلاثة وتواترت الاثار بكراهته الأحوال في آخر الأمر ورؤيته اختلاف الناس وتفرقهم وكثرة الشر الذي أوجب أنه لو استقبل من أمره ما استدبر ما فعل ما فعل

وبالجملة ليس علينا أن نعرف كل واحد تاب ولكن نحن نعلم أن التوبة مشروعة لكل عبد للأنبياء ولمن دونهم وأن الله سبحانه يرفع عبده بالتوبة وإذا ابتلاه بما يتوب منه فالمقصود كمال النهاية لا نقص البداية فإنه تعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين وهو يبدل بالتوبة السيئات حسنات

والذنب مع التوبة يوجب لصاحبه من العبودية والخشوع والتواضع والدعاء وغير ذلك مالم يكن يحصل قبل ذلك ولهذا قال طائفة من السلف إن العبد ليفعل الذنب فيدخل به الجنة ويفعل الحسنة فيدخل بها النار يفعل الذنب فلا يزال نصب عينيه إذا ذكره تاب إلى الله ودعاه وخشع له فيدخل به الجنة ويفعل الحسنة فيعجب بها فيدخل النار

وفي الأثر لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أعظم من الذنب وهو العجب وفي أثر آخر لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه

وفي أثر آخر يقول الله تعالى أهل ذكرى أهل مجالستي وأهل شكري أهل زيادتي وأهل طاعتي أهل كرامتي وأهل معصيتي لا اقنطهم من رحمتي إن تابوا فأنا حبيبهم فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب والتائب حبيب الله سواء كان شابا أو شيخا

السبب الثاني الاستغفار فإن الاستغفار هو طلب المغفرة وهو من جنس الدعاء والسؤال وهو مقرون بالتوبة في الغالب ومأمور به لكن قد يتوب الإنسان ولا يدعو وقد يدعو ولا يتوب وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال أذنب عبد ذنبا فقال اللهم اغفر لي ذنبي فقال الله تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال تعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب قد غفرت لعبدي وفي رواية لمسلم فليفعل ما شاء

والتوبة تمحو جميع السيئات وليس شىء يغفر جميع الذنوب إلا التوبة فإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وأما التوبة فإنه قال تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم سورة الزمر 53 وهذه لمن تاب ولهذا قال لا تقنطوا من رحمة الله بل توبوا إليه وقال بعدها وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون سورة الزمر 54 وأما الاستغفار بدون التوبة فهذا لا يستلزم المغفرة ولكن هو سبب من الأسباب

السبب الثالث الأعمال الصالحة فإن الله تعالى يقول إن الحسنات يذهبن السيئات سورة هود 114 وقال النبي لمعاذ بن جبل يوصيه يا معاذ اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن

وفي الصحيح عنه أنه قال الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر أخرجاه في الصحيحين

وفي الصحيح عن النبي من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وقال من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه

وقال أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهرا غمرا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل كان يبقى من دونه شىء قالوا لا قال كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا كما يمحو الماء الدرن وهذا كله في الصحيح

وقال الصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار رواه الترمذي وصححه

وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم سورة الصف 10 12

وفي الصحيح يغفر للشهيد كل شىء إلا الدين وما روى أن شهيد البحر يغفر له الدين فإسناده ضعيف والدين حق لآدمى فلابد من استيفائه

وفي الصحيح صوم يوم عرفة كفارة سنتين وصوم يوم عاشوراء كفارة سنة ومثل هذه النصوص كثير وشرح هذه الأحاديث يحتاج إلى بسط كثير

فإن الإنسان قد يقول إذا كفر عنى بالصلوات الخمس فأي شىء تكفر عني الجمعة أو رمضان وكذلك صوم يوم عرفة وعاشوراء وبعض الناس يجيب عن هذا بأنه يكتب لهم درجات إذا لم تجد ما تكفره من السيئات

فيقال أولا العمل الذي يمحو الله به الخطايا ويكفر به السيئات هو العمل المقبول

والله تعالى إنما يتقبل من المتقين

والناس لهم في هذه الآية وهي قوله تعالى إنما يتقبل الله من المتقين سورة المائدة 27 ثلاثة أقوال طرفان ووسط فالخوارج والمعتزلة يقولون لا يتقبل الله إلا ممن اتقى الكبائر وعندهم صاحب الكبيرة لا يقبل منه حسنة بحال والمرجئة يقولون من اتقى الشرك والسلف والأئمة يقولون لا يتقبل إلا ممن اتقاه في ذلك العمل ففعله كما أمر به خالصا لوجه الله تعالى

قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا سورة هود 7 قال أخلصه وأصوبه قيل يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه قال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة

فصاحب الكبائر إذا اتقى الله في عمل من الأعمال تقبل الله منه ومن هو أفضل منه إذا لم يتق الله في عمل لم يتقبله منه وإن تقبل منه عملا آخر

وإذا كان الله يتقبل ممن يعمل العمل على الوجه المأمور به ففي السنن عن عمار عن النبي أنه قال إن العبد لينصرف عن صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها حتى قال إلا عشرها

وقال ابن عباس ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها

وفي الحديث رب صائم حظه من صيامه العطش ورب قائم حظه من قيامه السهر وكذلك الحج والجهاد وغيرهما وفي حديث معاذ موقوفا ومرفوعا وهو في السنن الغزو غزوان فغزو يبتغى به وجه الله ويطاع فيه الأمير وتنفق فيه كرائم الأموال ويياسر فيه الشريك ويجتنب فيه الفساد ويتقى فيه الغلول فذلك الذيلا يعدله شىء وغزو لا يبتغى به وجه الله ولا يطاع فيه الأمير ولا تنفق فيه كرائم الأموال ولا يياسر فيه الشريك ولا يجتنب فيه الفساد ولا يتقى فيه الغلول فذاك حسب صاحبه أن يرجع كفافا

وقيل لبعض السلف الحاج كثير فقال الداج كثير والحاج قليل ومثل هذا كثير

فالمحو والتكفير يقع بما يتقبل من الأعمال وأكثر الناس يقصرون في الحسنات حتى في نفس صلاتهم فالسعيد منهم من يكتب له نصفها وهم يفعلون السيئات كثيرا فلهذا يكفر بما يقبل من الصلوات الخمس شيء وبما يقبل من الجمعة شيء وبما يقبل من صيام رمضان شيء آخر وكذلك سائر الأعمال وليس كل حسنة تمحو كل سيئة بل المحو يكون للصغائر تارة ويكون للكبائر تارة باعتبار الموازنة

والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله فيغفر الله له به كبائر كما في الترمذي وابن ماجه وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي أنه قال يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق فينشر عليه تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر فيقال هل تنكر من هذا شيئا فيقول لا يا رب فيقول لا ظلم عليك فتخرج له بطاقة قدر الكف فيها شهادة أن لا إله إلا الله فيقول أين تقع هذه البطاقة مع هذه السجلات فتوضع هذه البطاقة في كفيه والسجلات في كفة فثقلت البطاقة وطاشت السجلات

فهذه حال من قالها بإخلاص وصدق كما قالها هذا الشخص وإلا فأهل الكبائر الذين دخلواالنار كلهم كانوا يقولون لا إله إلا الله ولم يترجح قولهم على سيئاتهم كما ترجم قول صاحب البطاقة

وكذلك في الصحيحين عن النبي أنه قال بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه فيها العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له

وفي لفظ في الصحيحين إن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له موقها فسقته به فغفر لها وفي لفظ في الصحيحين أنها كانت بغيا من بغايا بني إسرائيل

وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله قال بينما رجل يمشي في طريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال دخلت أمرأة النار في هرة ربطتها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت

فهذه سقط الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها وإلا فليس كل ما بغى سقت كلبا يغفر لها وكذلك هذا الذي نحى غصن الشوك عن الطريق فعله إذ ذاك بإيمان خالص وإخلاص قائم بقلبه فغفر له بذلك فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدا وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض وليس كل من نحى غصن شوك عن الطريق يغفر له

قال الله تعالى لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم سورة الحج 37 فالناس يشتركون في الهدايا والضحايا والله لا يناله الدم المهراق ولا اللحم المأكول والتصدق به لكن يناله تقوى القلوب

وفي الأثر أن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدا وبين صلاتيهما كما بين المشرق والمغرب

فإذا عرف أن الأعمال الظاهرة يعظم قدرها ويصغر قدرها بما في القلوب وما في القلوب يتفاضل لا يعرف مقادير ما في القلوب من الإيمان إلا الله عرف الإنسان أن ما قاله الرسول كله حق ولم يضرب بعضه ببعض

وقد قال تعالى والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون سورة المؤمنون 6وفي الترمذي وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله أهو الرجل يزنى ويسرق ويشرب الخمر ويخاف أن يعاقب قال لا يا ابنة الصديق بل هو الرجل يصوم ويصلى ويتصدق ويخاف أن لا يتقبل منه

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو انفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه

وذلك أن الإيمان الذي كان في قلوبهم حين الإنفاق في أول الإسلام وقله أهله وكثرة الصوارف عنه وضعف الدواعي إليه لا يمكن أحدا أن يحصل له مثله ممن بعدهم وهذا يعرف بعضه من ذاق الأمور وعرف المحن والابتلاء الذي يحصل للناس وما يحصل للقلوب من الأحوال المختلفة

وهذا مما يعرف به أنا أبا بكر رضي الله عنه لن يكون أحد مثله فإن اليقين والإيمان الذي كان في قلبه لا يساويه فيه أحد قال أبو بكر بن عياش ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشىء وقر في قلبه

وهكذا سائر الصحابة حصل لهم بصحبتهم للرسول مؤمنين به مجاهدين معه إيمان ويقين لم يشركهم فيه من بعدهم

وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى عن النبي أنه رفع رأسه إلى السماء وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء فقال النجوم أمنه للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنه لأمتي فإذا ذهبت أصحابي أتى أمتي ما يوعدون

وفي الصحيح عنه أنه قال ليأتين على الناس زمان يغزو فيه فئام من الناس فيقال هل فيكم من صحب رسول الله فيقال نعم فيفتح لهم وفي لفظ هل فيكم من رأى رسول الله فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يأتي على الناس زمان يغزو فيه فئام من الناس فيقال هل فيكم من صحب من صحب ! أصحاب رسول الله فيقولون نعم فيفتح لهم هذا لفظ بعض الطرق والثلاث الطبقات متفق عليها في جميع الطرق وأما الطبقة الرابعة فهي مذكورة في بعضها

وقد ثبت ثناء النبي على القرون الثلاثة في عدة أحاديث صحيحة من حديث ابن مسعود وعمران بن حصين يقول فيها خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ويشك بعض الرواة هل ذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة

والمقصود أن فضل الأعمال وثوابها ليس لمجرد صورها الظاهرة بل لحقائقها التي في القلوب والناس يتفاضلون ذلك تفاضلا عظيما وهذا مما يحتج به من رجح كل واحد من الصحابة على كل واحد ممن بعدهم فإن العلماء متفقون على أن جملة الصحابة أفضل من جملة التابعين لكن هل يفضل كل واحد من الصحابة على كل واحد ممن بعدهم ويفضل معاوية على عمر بن عبد العزيز

ذكر القاضي عياض وغيره في ذلك قولين وأن الأكثرين يفضلون كل واحد من الصحابة وهذا مأثور عن ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما

ومن حجة هؤلاء أن أعمال التابعين وإن كانت أكثر وعدل عمر بن عبد العزيز أظهر من عدل معاوية وهو أزهد من معاوية لكن الفضائل عند الله بحقائق الإيمان الذي في القلوب وقد قال النبي لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه

قالوا فنحن قد نعلم أن أعمال بعض من بعدهم أكثر من أعمال بعضهم لكن من أين نعلم أن ما في قلبه من الإيمان أعظم مما في قلب ذلك والنبي يخبر أن جبل ذهب من الذين أسلموا بعد الحديبية لا يساوي نصف مد من السابقين ومعلوم فضل النفع المتعدي بعمر بن عبد العزيز أعطى الناس حقوقهم وعدل فيهم فلو قدر أن الذي أعطاهم ملكه وقد تصدق به عليهم لم يعدل ذلك مما أنفقه السابقون إلا شيئا يسيرا وأين مثل جبل أحد ذهبا حتى ينفقه الإنسان وهو لا يصير مثل نصف مد

ولهذا يقول من يقول من السلف غبار دخل في أنف معاوية مع رسول الله أفضل من عمل عمر بن عبد العزيز

وهذه المسألة تحتاج إلى بسط وتحقيق ليس هذا موضعه إذ المقصود هنا أن الله سبحانه مما يمحو به السيئات الحسنات وأن الحسنات تتفاضل بحسب ما في قلب صاحبها من الإيمان والتقوى وحينئذ فيعرف أن من هو دون الصحابة قد تكون له حسنات تمحو مثل ما يذم من أحدهم فكيف الصحابة

السبب الرابع الدعاء للمؤمنين فإن صلاة المسلمين على الميت ودعاءهم له من أسباب المغفرة وكذلك دعاؤهم واستغفارهم في غير صلاة الجنازة والصحابة ما زال المسلمون يدعون لهم

السبب الخامس دعاء النبي واستغفاره في حياته وبعد مماته كشفاعته يوم القيامة فإنهم أخص الناس بدعائه وشفاعته في محياه ومماته

السبب السادس ما يفعل بعد الموت من عمل صالح يهدي له مثل من يتصدق عنه ويحج عنه ويصوم عنه فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن ذلك يصل إلى الميت وينفعه وهذا غير دعاء ولده فإن ذلك من عمله

قال النبي إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له رواه مسلم فولده من كسبه ودعاؤه محسوب من عمله بخلاف دعاء غير الولد فإنه ليس محسوبا من عمله والله ينفعه به

السبب السابع المصائب الدنيوية التي يكفر الله بها الخطايا كما في الصحيح عن النبي أنه قال ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا غم ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه

وفي الصحيحين عن النبي أنه قال مثل المؤمن مثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح تقومها تارة وتميلها أخرى ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزة لا تزال ثابتة على أصلها حتى يكون انجعافها مرة واحدة

وهذا المعنى متواتر عن النبي في أحاديث كثيرة والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يبتلون بالمصائب الخاصة وابتلوا بمصائب مشتركة كالمصائب التي حصلت في الفتن ولو لم يكن إلا أن كثيرا منهم قتلوا والأحياء أصيبوا بأهليهم وأقاربهم وهذا أصيب في ماله وهذا أصيب بجراحته وهذا أصيب بذهاب ولايته وعزه إلى غير ذلك فهذه كلها مما يكفر الله بها ذنوب المؤمنين من غير الصحابة فكيف الصحابة وهذا مما لا بد منه

وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا يهلك أمتي بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لايسلط عليهم عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها

وفي الصحيح عن النبي إنه لما نزل قوله تعالى قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم سورة الأنعام 6قال النبي أعوذ بوجهك أو من تحت أرجلكم قال النبي أعوذ بوجهك أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض قال هذا أهون وأيسر

فهذا أمر لا بد منه للأمة عموما والصحابة رضي الله عنهم كانوا أقل فتنا من سائر من بعدهم فإنه كلما تأخر العصر عن النبوة كثر التفرق والخلاف

ولهذا لم تحدث في خلافة عثمان بدعة ظاهرة فلما قتل وتفرق الناس حدثت بدعتان متقابلتان بدعة الخوارج المكفرين لعلي وبدعة الرافضة المدعين لإمامته وعصمته أو نبوته أو الإهيته

ثم لما كان في آخر عصر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك حدثت بدعة المرجئة والقدر به ثم لما كان في أول عصر التابعين في أواخر الخلافة الأموية حدثت بدعة الجهمية المعطلة والمشبهة الممثلة ولم يكن على عهد الصحابة شيء من ذلك

وكذلك فتن السيف فإن الناس كانوا في ولاية معاوية رضي الله عنه متفقين يغزون العدو فلما مات معاوية قتل الحسين وحوصر ابن الزبير بمكة ثم جرت فتنة الحرة بالمدينة

ثم لما مات يزيد جرت فتنة بالشام بين مروان والضحاك بمرج راهط

ثم وثب المختار على ابن زياد فقتله وجرت فتنة

ثم جاء مصعب بن الزبير فقتل المختار وجرت فتنة

ثم ذهب عبد الملك إلى مصعب فقتله وجرت فتنة وأرسل الحجاج إلى ابن الزبير فحاصره مدة ثم قتله وجرت فتنة

ثم لما تولى الحجاج العراق خرج عليه ابن الأشعث مع خلق عظيم من العراق وكانت فتنة كبيرة فهذا كله بعد موت معاوية

ثم جرت فتنة ابن المهلب بخراسان وقتل زيد بن علي بالكوفة وقتل خلق كثير آخرون

ثم قام أبو مسلم وغيره بخراسان وجرت حروب وفتن يطول وصفها ثم هلم جرا

فلم يكن من ملوك المسلمين ملك خير من معاوية ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيرا منهم في زمن معاوية إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده وأما إذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل

وقد روى أبو بكر الأثرم ورواه ابن بطة من طريقه حدثنا محمد بن عمرو بن جبلة حدثنا محمد بن مروان عن يونس عن قتادة قال لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم هذا المهدي

وكذلك رواه ابن بطة بإسناده الثابت من وجهين عن الأعمش عن مجاهد قال لو أدركتم معاوية لقلتم هذا المهدي

ورواه الأثرم حدثنا محمد بن حواش حدثنا أبو هريرة المكتب قال كنا عند الأعمش فذكروا عمر بن عبد العزيز وعدله فقال الأعمش فكيف لو أدركتم معاوية قالوا في حلمة قال لا والله بل في عدله

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق قال لما قدم معاوية فرض للناس على أعطيه آبائهم حتى انتهى إلى فأعطاني ثلثمائة درهم

وقال عبد الله أخبرنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة ثنا الثقفي عن أبي إسحاق يعني السبيعي أنه ذكر معاوية

فقال لو أدركتموه أو أدركتم أيامه لقلتم كان المهدي

وروى الأثرم حدثنا محمد بن العلاء عن أبي بكر بن عياش عن ابي إسحاق قال ما رأيت بعده مثله يعني معاوية

وقال البغوي حدثنا سويد بن سعيد حدثنا ضمام بن إسماعيل عن ابي قيس قال كان معاوية قد جعل في كل قبيل رجلا وكان رجل منا يكنى أبا يحيى يصبح كل يوم فيدور على المجالس هل ولد فيكم الليلة ولد هل حدث الليلة حدث هل نزل اليوم بكم نازل قال فيقولون نعم نزل رجل من أهل اليمن بعياله يسمونه وعياله فإذا فرغ من القبيل كله أتى الديوان فأوقع أسماءهم في الديوان

وروى محمد بن عوف الطائي حدثنا أبو المغيرة حدثنا أبن أبي مريم عن عطية بن قيس قال سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطبنا يقول إن في بيت مالكم فضلا بعد أعطياتكم وإني قاسمه بينكم فإن كان يأتينا فضل عاما قابلا قسمناه عليكم وإلا فلا عتبة علي فإنه ليس بمالي وإنما هو مال الله الذي أفاء عليكم

وفضائل معاوية في حسن السيرة والعدل والإحسان كثيرة وفي الصحيح أن رجلا قال لابن عباس هل لك في أمير المؤمنين معاوية إنه أوتر بركعة قال أصاب إنه فقيه

وروى البغوي في معجمه بإسناده ورواه ابن بطة من وجه آخر كلاهما عن سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر عن قيس بن الحارث عن الصنابحي عن أبي الدرداء قال ما رأيت أحدا أشبه صلاة بصلاة رسول الله من إمامكم هذا يعني معاوية

فهذه شهادة الصحابة بفقهه ودينه والشاهد بالفقه ابن عباس وبحسن الصلاة أبو الدرداء وهما هما والآثار الموافقة لهذا كثيرة

هذا ومعاوية ليس من السابقين الأولين بل قد قيل إنه من مسلمة الفتح وقيل أسلم قبل ذلك وكان يعترف بأنه ليس من فضلاء الصحابة وهذه سيرته مع عموم ولايته فإنه كان في ولايته من خراسان إلى بلاد إفريقية بالمغرب ومن قبرص إلى اليمن

ومعلوم بإجماع المسلمين أنه ليس قريبا من عثمان وعلي فضلا عن أبي بكر وعمر فكيف يشبه غير الصحابة بهم وهل توجد سيرة أحد من الملوك مثل سيرة معاوية رضي الله عنه

والمقصود أن الفتن التي بين الأمة والذنوب التي لها بعد الصحابة أكثر وأعظم ومع هذا فمكفرات الذنوب موجودة لهم وأما الصحابة فجمهورهم وجمهور أفاضلهم ما دخلوا في فتنة

قال عبد الله بن الإمام أحمد حدثنا أبي حدثنا إسماعيل يعني ابن علية حدثنا أيوب يعني السختياني عن محمد بن سيرين قال هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله عشرة آلاف فما حضرها منهم مائة بل لم يبلغوا ثلاثين وهذا الإسناد من أصح إسناد على وجه الأرض ومحمد بن سيرين من أورع الناس في منطقة ومراسيله من أصح المراسيل

وقال عبد الله حدثنا أبي حدثنا اسماعيل حدثنا منصور بن عبد الرحمن قال قال الشعبي لم يشهد الجمل من أصحاب رسول الله غير علي وعمار وطلحة والزبير فإن جاءوا بخامس فأنا كذاب

وقال عبد الله بن أحمد حدثنا أبي حدثنا أمية بن خالد قال قيل لشعبة إن أبا شيبة روى عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال شهد صفين من أهل بدر سبعون رجلا فقال كذب والله لقد ذاكرت الحكم بذلك وذاكرناه في بيته فما وجدناه شهد صفين من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت

قلت هذا النفي يدل على قلة من حضرها وقد قيل إنه حضرها سهل بن حنيف وأبو أيوب وكلام ابن سيرين مقارب فما يكاد يذكر مائة واحد

وقد روى ابن بطة عن بكير بن الأشج قال إما إن رجالا من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم

السبب الثامن ما يبتلى به المؤمن في قبره من الضغطة وفتنة الملكين

السبب التاسع ما يحصل له في الآخرة من كرب أهوال يوم القيامة

السبب العاشر ما ثبت في الصحيحين أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض فإذا هذبوا ونقوا اذن لهم في دخول الجنة

فهذه الأسباب لا تفوت كلها من المؤمنين إلا القليل فكيف بالصحابة رضوان الله عليهم الذين هم خير قرون الأمة وهذا في الذنوب المحققة فكيف بما يكذب عليهم فكيف بما يجعل من سيئاتهم وهو من حسناتهم

وهذا كما ثبت في الصحيح أن رجلا أراد أن يطعن في عثمان عند ابن عمر فقال إنه قد فر يوم أحد ولم يشهد بدرا ولم يشهد بيعة الرضوان فقال ابن عمر أما يوم أحد فقد عفا الله عنه وفي لفظ فر يوم أحد فعفا الله عنه وأذنب عندكم ذنبا فلم تعفوا عنه وأما يوم بدر فإن النبي استخلفه على ابنته وضرب له بسهمه وأما بيعة الرضوان فإنما كانت بسبب عثمان فإن النبي بعثة إلى مكة وبايع عنه بيده ويد النبي خير من يعد عثمان

فقد أجاب ابن عمر بأن ما يجعلونه عيبا ما كان منه عيبا فقد عفا الله عنه والباقي ليس بعيب بل هو من الحسنات وهكذا عامة ما يعاب به على سائر الصحابة هو إما حسنة وإما معفو عنه

وحينئذ فقول الرافضي إن عثمان ولى من لا يصلح للولاية إما أن يكون هذا باطلا ولم يول إلا من يصلح وإما أن يكون ولى من لا يصلح في نفس الأمر لكنه كان مجتهدا في ذلك فظن أنه كان يصلح وأخطأ ظنه وهذا لا يقدح فيه

وهذا الوليد بن عقبة الذي أنكر عليه ولايته قد اشتهر في التفسير والحديث والسير أن النبي ولاه على صدقات ناس من العرب فلما قرب منهم خرجوا إليه فظن أنهم يحاربونه فأرسل إلى النبي يذكر محاربتهم له فأراد النبي أن يرسل إليهم جيشا فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين سورة الحجرات فإذا كان حال هذا خفي على النبي فكيف لا يخفى على عثمان

وإذا قيل إن عثمان ولاه بعد ذلك

فيقال باب التوبة مفتوح وقد كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح ارتد عن الإسلام ثم جاء تائبا وقبل النبي إسلامه وثبوته بعد أن كان أهدر دمه

وعلي رضي الله عنه تبين له من عماله مالم يكن يظنه فيهم فهذا لا يقدح في عثمان ولا غيره وغاية ما يقال إن عثمان ولي من يعلم أن غيره أصلح منه وهذا من موارد الاجتهاد

أو يقال إن محبته لأقاربه ميلته إليهم حتى صار يظنهم أحق من غيرهم أو أن ما فعله كان ذنبا وقد تقدم أن دنبه لا يعاقب عليه في الآخرة

وقوله حتى ظهر من بعضهم الفسق ومن بعضهم الخيانة

فيقال ظهور ذلك بعد الولاية لا يدل على كونه كان ثابتا حين الولاية ولا على أن المولى علم ذلك وعثمان رضي الله عنه لما علم أن الوليد بن عقبة شرب الخمر طلبه وأقام عليه الحد وكان يعزل من يراه مستحقا للعزل ويقيم الحد على من رآه لإقامة الحد عليه

وأما قوله وقسم المال بين أقاربه

فهذا غايته أن يكون ذنبا لا يعاقب عليه في الآخرة فكيف إذا كان من موارد الاجتهاد فإن الناس تنازعوا فيما كان للنبي في حياته هل يستحقه ولي الأمر بعده على قولين وكذلك تنازعوا في ولى اليتيم هل له أن يأخذ من مال اليتيم إذا كان غنيا أجرته مع غناه والترك أفضل أو الترك واجب على قولين ومن جوز الأخذ من مال اليتم مع الغني جوزه للعامل على بيت مال المسلمين وجوزه للقاضي وغيره من الولاة ومن قال لا يجوز ذلك من مال اليتيم فمنهم من يجوزه من مال بيت المال كما يجوز للعامل على الزكاة الأخذ مع الغني فإن العامل على الزكاة يجوز له أخذ جعالته مع غناه

وولي اليتيم قد قال تعالى فيه ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف سورة النساء وأيضا فقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن سهم ذوي القربى هو لقرابة الإمام كما قاله الحسن وأبو ثور وأن النبي كان يعطي أقاربه بحكم الولاية وسقط حق ذوي قرباه بموته كما يقول ذلك كثير من العلماء كأبي حنيفة وغيره ثم لما سقط حقه بموته فحقه الساقط قيل إنه يصرف في الكراع والسلاح والمصالح كما كان يفعل أبو بكر وعمر وقيل هو لمن ولى الأمر بعده وقيل إن هذا مما تأوله عثمان ونقل عن عثمان رضي الله عنه نفسه أنه ذكر هذا وأنه يأخذ بعمله وأن ذلك جائز وإن كان ما فعله أبو بكر وعمر أفضل فكان له الأخذ بهذا وهذا وكان يعطي أقرباءه مما يختص به فكان يعطيهم لكونهم ذوى قربى الإمام على قول من يقول ذلك

وبالجملة فعامة من تولى الأمر بعد عمر كان يخص بعض أقاربه إما بولاية وإما بمال وعلي ولي أقاربه أيضا

وأما قوله استعمل الوليد بن عقبة حتى ظهر منه شرب الخمر وصلى بالناس وهو سكران فيقال لا جرم طلبه وأقام عليه الحد بمشهد من علي بن أبي طالب وقال لعلي قم فاضربه فأمر علي الحسن بضربه فامتنع وقال لعبد الله بن جعفر قم فاضربه فضربه أربعين ثم قال إمسك ضرب رسول الله أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي رواه مسلم وغيره

فإذا أقام الحد برأي علي وأمره فقد فعل الواجب

وكذلك قوله إنه استعمل سعيد بن العاص على الكوفة وظهر منه ما أدى إلى أن أخرجه أهل الكوفة منها

فيقال مجرد إخراج أهل الكوفة لا يدل على ذنب يوجب ذاك فإن القوم كانوا يقومون على كل وال قد قاموا على سعد بن أبي وقاص وهو الذي فتح البلاد وكسر جنود كسرى وهو أحد أهل الشورى ولم يتول عليهم نائب مثله وقد شكوا غيره مثل عمار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص والمغيرة بن شعبة وغيرهم ودعا عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال اللهم إنهم قد لبسوا علي فلبس عليهم

وإذا قدر أنه أذنب ذنبا فمجرد ذلك لا يوجب أن يكون عثمان راضيا بذنبه ونواب علي قد أذنبوا ذنوبا كثيرة بل كان غير واحد من نواب النبي يذنبون ذنوبا كثيرة وإنما يكون الإمام مذنبا إذا ترك ما يجب عليه من إقامة حد أو استيفاء حق أو اعتداء ونحو ذلك

وإذا قدر أن هناك ذنبا فقد علم الكلام فيه

وأما قوله وولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر حتى تظلم منه أهلها وكاتبه أن يستمر على ولايته سرا خلاف ما كتب إليه جهرا

والجواب أن هذا كذب على عثمان وقد حلف عثمان أنه لم يكتب شيئا من ذلك وهو الصادق البار بلا يمين وغاية ما قيل إن مروان كتب بغير علمه وأنهم طلبوا أن يسلم إليهم مروان ليقتلوه فامتنع فإن كان قتل مروان لا يجوز فقد فعل الواجب وإن كان يجوز ولا يجب فقد فعل الجائز وإن كان قتله واجبا فذاك من موارد الاجتهاد فإنه لم يثبت لمروان ذنب يوجب قتله شرعا فإن مجرد التزوير لا يوجب القتل وبتقدير أن يكون ترك الواجب فقد قدمنا الجواب العام

وأما قوله أمر بقتل محمد بن أبي بكر

فهذا من الكذب المعلوم على عثمان وكل ذي علم بحال عثمان وإنصاف له يعلم أنه لم يكن ممن يأمر بقتل محمد بن أبي بكر ولا أمثاله ولا عرف منه قط أنه قتل أحدا من هذا الضرب وقد سعوا في قتله ودخل عليه محمد فيمن دخل وهو لا يأمر بقتالهم دفعا عن نفسه فكيف يبتدىء بقتل معصوم الدم

وإن ثبت أن عثمان أمر بقتل محمد بن أبي بكر لم يطعن على عثمان بل عثمان إن كان أمر بقتل محمد بن أبي بكر أولى بالطاعة ممن طلب قتل مروان لأن عثمان إمام هدى وخليفة راشد يجب علي سياسة رعيته وقتل من لا يدفع شره إلا بالقتل وأما الذين طلبوا قتل مروان فقوم خوارج مفسدون في الأرض ليس لهم قتل أحد ولا إقامة حد وغايتهم أن يكونوا ظلموا في بعض الأمور وليس لكل مظلوم أن يقتل بيده كل من ظلمه بل ولا يقيم الحد

وليس مروان أولى بالفتنة والشر من محمد بن أبي بكر ولا هو أشهر بالعلم والدين منه بل أخرج أهل الصحاح عدة أحاديث عن مروان وله قول مع أهل الفتيا واختلف في صحبته

ومحمد بن أبي بكر ليس بهذه المنزلة عند الناس ولم يدرك من حياة النبي إلا اشهرا قليلة من ذي القعدة إلى أول شهر ربيع الأول فإنه ولد بالشجرة لخمس بقين من ذي القعدة عام حجة الوداع ومروان من أقران ابن الزبير فهو قد أدرك حياة النبي ويمكن أنه رآه عام فتح مكة أو عام حجة الوداع والذين قالوا لم ير النبي قالوا إن أباه كان بالطائف فمات النبي وأبوه بالطائف وهو مع أبيه ومن الناس من يقول إن النبي نفى إباه إلى الطائف وكثير من أهل العلم ينكر ذلك ويقول إنه ذهب باختياره وإن نفيه ليس له إسناد

وهذا إنما يكون بعد فتح مكة فقد كان أبوه بمكة مع سائر الطلقاء وكان هو قد قارب سن التمييز

وأيضا فقد يكون أبوه حج مع الناس فرآه في حجة الوداع ولعله قدم إلى المدينة فلا يمكن الجزم بنفي رؤيته للنبي

وأما أقرانه كالمسور بن مخرمة وعبد الله بن الزبير فهؤلاء كانوا بالمدينة وقد ثبت أنهم سمعوا من النبي

منهاج السنة النبوية
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42 | 43 | 44 | 45 | 46 | 47 | 48 | 50 | 51 | 52 | 53 | 54 | 55 | 56 | 57