معالم السنن/الجزء الثالث/5
15/19م ومن باب العرايا
893- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حدثنا ابن وهب أخبرنا يونس عن ابن شهاب أخبرني خارجه بن زيد بن ثابت عن أبيه أن النبي ﷺ رخص في بيع العرايا بالتمر والرطب.
قال العرية فسرها محمد بن إسحاق بن يسار فقال هي النخلات يهبها الرجل للرجل فيشق عليه أن يقوم عليها فيبيعها قبل خرصها، وقد ذكر أبو داود هذا التفسير عنه.
وروى الشافعي خبرا فيه قلت لمحمود بن لبيد أو قال محمود بن لبيد لرجل من أصحاب رسول الله ﷺ إما زيد بن ثابت وإما غيره ما عراياكم فقال أو سمى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى النبي ﷺ أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطبا يأكلونه مع الناس وعندهم فضول من قوتهم من التمر فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا خرصا من التمر في أيديهم يأكلونها رطبا.
فأما أصلها في اللغة فإنهم ذكروا في معنى اشتقاقها قولين: أحدهما أنها مأخوذة من قول القائل: أعريت الرجل النخلة أي أطعمته ثمرها يعروها متى شاء أي يأتيها فيأكل رطبها، يقال عروت الرجل إذا أتيته تطلب معروفه كما يقال طلب إلي فأطلبته وسألني فأسألته.
والقول الآخر إنما سميت عرية لأن الرجل يعريها من جملة نخله أي يستثنيها لا يبيعها مع النخل فربما أكلها وربما وهبها لغيره أو فعل بها ما شاء.
قال الشيخ العرايا ما كاننت من هذه الوجوه فإنها مستثناة من جملة النهي عن المزابنة والمزابنة بيع الرطب بالتمر ألا تراه يقول رخص في بيع العرايا والرخصة إنما تقع بعد الحظر وورود الخصوص على العموم لا ينكر في أصول الدين وسبيل الحديثين إذا اختلفا في الظاهر وأمكن التوفيق بينهما وترتيب أحدهما على الآخر أن لا يحملا على المنافاة ولا يضرب بعضها ببعض لكن يستعمل كل واحد منهما في موضعه وبهذا جرت قضية العلماء في كثير من الحديث ألا ترى أنه لما نهى حكيما عن بيع ما ليس عنده ثم أباح السلم كان السلم عند جماعة العلماء مباحا في محله وبيع ما ليس عند المرء محظورا في محله وذلك أن أحدهما وهو السلم من بيوع الصفات والاخر من بيوع الأعيان، وكذلك سبيل ما يختلف إذا أمكن النوفيق فيه لم يحمل على النسخ ولم يبطل العمل به وإنما جاء تحريم المزابنة فيما كان من التمر موضوعا على وجه الأرض وجاءت الرخصة في بيع العرايا فيما كان منها على رؤوس الشجر في مقدار معلوم منه بكمية لا يزاد عليها وذلك من أجل ضرورة أو مصلحة فليس أحدهما مناقضا للآخر أو مبطلا له، وقد قال بهذه الجملة في معناها أكثرالفقهاء مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد، وامتنع من القول به أصحاب الرأي وذهبوا إلى جملة النهي الوارد في تحريم المزابنة وفسروا العرية تفسيرا لا يليق بمعنى الحديث وصورتها عندهم أن يعري الرجل من حائطه نخلات ثم يبدوله فيها فيبطلها ويعطيه مكانها تمرا فسمى هذا بيعا في التقدير على المجاز وحقيقة الهبة عندهم.
قال الشيخ والحديث إنما جاء بالرخصة في البيع كما ذكرناه عن زيد بن ثابت ويزيده بيانا حديث سهل بن أبي حثمة ذكره أبو داود في هذا الباب.
894-، قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع التمر بالتمر ورخص في العرية أن تباع بخرصها فيأكلها أهلها رطبا.
فهذا يبين لك أنه قل استثنى العرية من جملة ما اقتضاه تحريم النهي عن بيع التمر بالتمر، والظاهر أن المستثنى إنما هو من جنس المستثنى منه والرخصة إنما يلقى المحظور ؛ والمحظور ها هنا البيع المنهي عنه، ولو كان الأمر على ما تأولوه من الهبة ما كان للخرص معنى ولا لقوله رخص معنى ولا وجه لبيع ملكه في نفسه لأن الهبة يتعلق صحتها بالاقباض والاقباض لم يقع فلم يزل الملك، والاسم ما وجد له مساغ في الحقيقة لم يجز حمله على المجاز، وقد جاءت هذه الرخصة في غير رواية أبي داود مقرونا ذكرها بتحريم المزابنة باسمها الخاص وإن كان معناه معنى أبي داود لا فرق بينهما حدثناه محمد بن عبد الواحد،، قال: حدثنا الحارث بن أبي أسامة،، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: حدثنا محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن زيد بن ثابت قال نهى رسول الله ﷺ عن المحاقلة والمزابنة ورخص في العرايا فدل أن الرخصة إنما وقعت في نوع من المزابنة وإلا لم يكن لذكرها معنى والله أعلم.
16/20م ومن باب مقدار العرية
895- قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان مولى أبي أحمد، قال أبو داود وهذا اسمه قُزمان، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ رخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق شك داود.
وقال أبو داود حديث جابر إلى أربعة أوسق.
قال الشيخ هذا يبين لك أن معنى الرخصة في العرية هو البيع المعروف ولو كان غير ذلك لم يكن لتحديدها بأربعة أو خمسة لا يجاوزها معنى إذ لا حظر في شيء مما ذهبوا إليه، في تفسيرها فيحتاج إلى الرخصه في رفعه.
وأما جواز البيع في خمسة أوسق منها فقد أباحه مالك على الإطلاق في هذا القدر، وقال الشافعي لا أفسخ البيع في مقدار خمسة أوسق، وأفسخه فيما وراء ذلك.
قال ابن المنذر الرخصة في الخمسة الأوساق مشكوك فيها، والنهي عن المزابنة ثابت فالواجب أن لا يباح منها إلا القدر المتيقن إباحته، وقد شك الراوي وهو داود بن الحصين، وقد رواه جابر فانتهى به إلى أربعة أوساق فهو مباح وما زاد عليه محظور.
قال الشيخ هذا القول صحيح وقد ألزمه المزني الشافعي وهو لازم على أصله ومعناه.
17/22م ومن باب بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه
896- قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمشتري.
قال الشيخ الثمرة إذا بدا صلاحها أمنت العاهة غالبا وما دامت وهي رخوة رخصة أى رطبة قبل أن يشتد حبها أو يبدو صلاحها فإنها بعرض الآفات، وكان نهيه البائع عن ذلك لأحد وجهين أحدهما احتياطا له بأن يدعها حتى يتبين صلاحها فيزداد قيمتها ويكثر نفعه منها وهو إذا يعجل ثمنها لم يكن فيها طائل لقلته فكان ذلك نوعا من إضاعة المال.
والوجه الآخر أن يكون ذلك مناصحة لأخيه المسلم واحتياطا لمال المشتري لئلا ينالها الآفة فيبور ماله أو يطالبه برد الثمن من أجل الجائحة فيكون بينهما في ذلك الشر والخلاف، وقد لا يطلب للبائع مال أخيه منه في الورع إن كان لا قيمة له في الحال إذ لا يقع له قيمة فيصير كأنه نوع من أكل المال بالباطل.
وأما نهيه المشتري فمن أجل المخاطرة والتغرير بماله لأنها ربما تلفت بأن تنالها العاهة فيذهب ماله فنهى عن هذا البيع تحصينا للأموال وكراهة للتغرير.
ولم يختلف العلماء أنه إذا باعها أو شرط عليه القطع جاز بيعها وإن لم يبد صلاحها، وإنما انصرف النبي إلى البيع قبل بدو الصلاح من التبقية إلا أن الفقهاء اختلفوا فيما إذا باعها بعد بدو الصلاح، فقال أبو حنيفة البيع جائز على الإطلاق وعليه القطع فيكون في معنى من شرط القطع، وقال الشافعي البيع جائز وعلى البائع تركها على الشجر حتى تبلغ أناها وجعل العرف فيها كالشرط واستدل بما روي عن النبي ﷺ من طريق حميد عن أنس أنه نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وقال أرأيت ان منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه، ققال فدل ذلك على أن حكم الثمرة التبقية ولو كان حكمها القطع لم يكن يقع معه منع الثمرة.
897- قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، قال: حدثنا ابن علية عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع النخل حتى تزهو وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة نهى البائع والمشتري.
وقوله حتى يزهو هكذا يروى والصواب في العرية حتى تزهى الأزهار في الثمر أن يحمر أو يصفر وذلك أمارة الصلاح فيها ودليل خلاصها من الآفة.
وقوله عن السنبل حتى يبيض فإن ظاهره يوجب جواز بيع الحب في سنبله إذا اشتد وابيض لأنه حرمه إلى غاية فحكمه بعد بلوغ الغاية بخلاف حكمه قبلها وإليه ذهب أصحاب الرأي ومالك بن أنس وشبهوه بالجوز واللوز يباعان في قشرهما.
وقال الشافعي لا يجوز بيع الحب في السنبل لأنه غرر وقد نهى عن بيع الفرد والمقصود من السنبل حبه وهو مجهول بينك وبينه لا يدري هل هو سليم في باطنه أم لا فيفسد البيع من أجل الجهالة والغرر كبيع لحم المسلوخة في جلدها واحتج بأن النهي عن بيع الحب في السنبل معلول بعلتين: أن قبل أن يبيض ويشد فلأجل الآفات والجوائح، وأما بعد ذلك فلأجل الجهالة وعدم المعرفة به وقد يتوالى على الشيء علتان وموجبهما واحد فترتفع احداهما وهو بحاله غير منفك عنه وذلك كقوله تعالى {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} 1 وكان معلوما أن تحليلها للزوج الأول لا يقع بنفس نكاح الزوج الثاني وبعقده عليها حتى يدخل بها ويصيبها ثم يطلقها وتنقضي عدتها منه كقوله تعالى {ولا تقربوهن حتى يطهرن} 2 فكان ظاهره أن انقطاع الدم رافع للحظر ولم يمنع ذلك من ورود دليل المنع إلا بوجود شرط ثانٍ وذلك قوله {فإذا تطهرن} 3 يريد والله أعلم طهارة الاغتسال بالماء.
وأما بيع الجوز في قشره فإنه غرر معفو عنه لما فيه من الضرورة وذلك أنه لو نزع لبه عن قشره أسرع إليه الفساد والعفن، وليس كذلك البر والشعير وما في معناهما لأن هذه الحبوب تبقى بعد التذرية والتنقية المدة الطويلة من الأيام والسنين. فأما ما لا ضرورة فيه من بقاء قشره الأعلى فإن البيع غير جائز معه حتى ينزع فكذلك قياس الحب في السنبل والله أعلم.
898- قال أبو داود: حدثنا أبو بكر محمد بن خلاد الباهلي، قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن سليم بن حيان، قال: حدثنا سعيد بن مينا قال سمعت جاب بن عبد الله يقول نهى رسول الله ﷺ أن يباع التمر حتى تشقح، قيل وما تشقح، قال تحمار وتصفار ويؤكل منها.
قال الشيخ التشقيح تغير لونها إلى الصفرة والحمرة والشقحة لون غير خالص في الحمرة والصفرة وإنما هي تغير لونه في كموده ومنه قيل قبيح شقيح أي تغير اللون إلى السماجة والقبح.
وإنما قال يحمار ويصفار لأنه لم يرد به اللون الخالص وإنما يستعمل ذلك في اللون المتميل يقال ما زال يحمار وجهه ويصفار إذا كان يضرب مرة إلى الصفرة ومرة إلى الحمرة فإذا أرادوا أنه قد تمكن واستقر قالوا تحمرّ وتصفرَّ.
وفي قوله حتى تشقح دليل على أن الاعتبار في بدو الصلاح إنما هو بحدوث الحمرة في الثمرة دون إتيان الوقت الذي يكون فيه صلاح الثمار غالبا، فقد ذهب بعض أهل العلم إلى اعتباره بالزمان، واحتج بما روي في بعض الحديث أنه قيل متى يبدو صلاحها، ققال إذا طلع النجم، يَعني الثريا والذي في حديث جابر أولى لأن اعتباره بنفسه أولى من اعتباره بغيره. وفي هذا الباب حرف غريب من جهة اللغة في حديث زيد بن ثابت قال كان الناس يبتاعون الثمار قبل أن يبدو صلاحها فإذا جد الناس قال المبتاع أصاب الثمر الذمار وأصابه قشام هكذا هو في رواية ابن داسة.
وقال ابن الأعرابي في روايته، عن أبي داود الدمان بالنون، قال الأصمعي القشام أن ينتقص ثمر النخل قبل أن يصير بلحا، قال الدمان مفتوحة الدال أن تنشق النخلة أول ما يبدو قلبها عن عفن وسواد، فأما الذمار فليس بشيء.
18/23م ومن باب بيع السنين
899- قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا: حدثنا سفيان عن حميد عن الأعرج عن سليمان بن عتيق عن جابر بن عبد الله أن النبي ﷺ نهى عن بيع السنين ووضع الجوائح.
قال الشيخ بيع السنين هو أن يبيع الرجل ما تثمره النخلة أو النخلات بأعيانها سنين ثلاثا أو أربعا أو أكثر منها، وهذا غدر لأنه يبيع شيئاَ غير موجود ولا مخلوق حال العقد ولا يدري هل يكون ذلك أم لا وهل يتم النخل أم لا وهذا في بيوع الأعيان، فأما في بيوع الصفات فهوجائز مثل أن يسلف في الشيء إلى ثلاث سنين أو أربع أو أكثر ما دامت المدة معلومة إذا كان الشيء المسلف فيه غالبا وجوده عند وقت محل السلف.
وأما قوله وضع الجوائح هكذا رواه أبو داود ورواه الشافعي عن سفيان بإسناده فقال وأمره بوضع الجوائح والجوائح هى الآفات التي تصيب الثمار فتهلكها، يقال جاحهم الدهر يجوحهم واجتاحهم الزمان إذا أصابهم بمكروه عظيم.
قال الشيخ وأمره بوضع الجوائح عند أكثر الفقهاء أمر ندب واستحباب من طريق المعروف والإحسان لا على سبيل الوجوب والإلزام.
وقال أحمد بن حنبل وأبو عبيد في جماعة من أصحاب الحديث وضع الجائحة لازم للبيع إذا باع الثمرة فأصابته الآفة فهلكت، وقال مالك يوضع في الثلث فصاعدا ولا يوضع فيما هو أقل من الثلث، قال أصحابه ومعنى هذا الكلام أن الجائحة إذا كانت دون الثلث كان من مال المشترى وما كان أكثر من الثلث فهو من مال البائع.
واستدل من تأول الحديث على معنى الندب والاستحباب دون الإيجاب بأنه أمرحدث بعد استقرار ملك المشتري عليها فلو أراد أن يبيعها أو يهبها لصح ذلك منه فيها، وقد نهى رسول الله ﷺ عن ربح ما لم يضمن فإذا صح بيعها ثبت أنها من ضمانه ؛ وقد نهى رسول الله ﷺ عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها فلو كانت الجائحة بعد بدو الصلاح من مال البائع لم يكن لهذا النهي فائده.
19/25م ومن باب بيع المضطر
900- قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى، قال: حدثنا هشيم أخبرنا صالح بن عامر قال أبو داود قال محمد حدثنا شيخ من بني تميم قال خطبنا على بن أبي طالب رضي الله عنه أو قال: قال علي قال قال محمد هكذا حدثنا هشيم قال نهى رسول الله ﷺ عن بيع المضطر وبيع الغرر وبيع الثمرة قبل أن تدرك.
قال الشيخ بيع المضطر يكون من وجهين أحدهما أن يضطر إلى العقد من طريق الإكراه عليه فهذا فاسد لا ينعقد. والوجه الاخر أن يضطر إلى البيع لدين يركبه أو مؤنة ترهقه فيبيع ما في يده بالوكس من أجل الضرورة فهذا سبيله في حق الدين والمروءة أن لا يبايع على هذا الوجه وأن لا يفتات عليه بمثله ولكن يعان ويقرض ويستمهل له إلى الميسرة حتى يكون له في ذلك بلاغ فإن عقد البيع مع الضرورة على هذا الوجه جاز في الحكم ولم يفسخ. وفي إسناد الحديث رجل مجهول لا ندري من هو، إلا أن عامة أهل العلم قد كرهوا البيع على هذا الوجه.
901- قال أبو داود: حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة قالا: حدثنا ابن إدريس عن عبيد الله، عن أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة أن النبي ﷺ نهى عن بيع الغرر زاد عثمان والحصاة.
قال الشيخ أصل الغرر هو ما طوي عنك علمه وخفى عليك باطنه وسره وهو مأخوذ من قولك طويت الثوب على غره أي على كسره الأول وكل بيع كان المقصود منه مجهولا غير معلوم ومعجوزا عنه غير مقدور عليه فهو غرر وذلك مثل أن يبيعه سمكا في الماء أو طيرا في الهواء أو لؤلؤة في البحر أو عبدا آبقا أو جملا شاردا أو ثوبا في جراب لم يره ولم ينشره أو طعاما في بيت لم يفتحه أو ولد بهيمة لم تولد أو ثمر شجرة لم تثمر في نحوها من الأمور التي لا تعلم ولا يدري هل تكون أم لا فإن البيع فيها مفسوخ.
وإنما نهى ﷺ عن هذه البيوع تحصينا للأموال أن تضيع وقطعا للخصومة والنزاع أن يقعا بين الناس فيها.
وأبواب الغرر كثيرة وجماعها ما دخل في المقصود منه الجهل.
وأما بيع الحصاة فإنه يفسر على وجهين أحدهما أن يرمي بالحصاة ويجعل رميها إفادة للعقد فإذا سقطب وجب البيع ثم لا يكون للمشتري فيه الخيار.
والوجه الاخر أن يعترض الرجل القطيع من الغنم فيرمي فيها بحصاة فأية شاة منها أصابتها الحصاة فقد استحقها بالبيع، وهذا من جملة الغرر المنهي عنه.
902- قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد وأحمد بن عمرو بن السرح وهذا لفظه قالا: حدثنا سفيان عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ نهى عن بيعتين وعن لبستين، أما البيعتان فالملامسة والمنابذة، وأما اللبستان فاشتمال الصماء وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد كاشفا عن فرجه أو ليس على فرجه منه شيء.
قال الشيخ الملامسة أن تلمس الثوب الذي تريد شراءه أي يمسه بيده ولا ينشره ولا يتأمله ويقول إذا لمسته بيدي فقد وجب البيع ثم لا يكون له فيه خيار إن وجد فيه عيبا، وفي نهيه عن بيع الملامسة مستدل لمن أبطل بيع الأعمى وشراءه لأنه إنما يستدل ويتأمل باللمس فيما سبيله أن يستدرك بالعيان وحس البصيرة.
والمنابذة أن يقول إذا نبذت إليك الثوب فقد وجب البيع، وقد جاء بهذا التفسير في الحديث وقال أبو عبد الله المنابذة أن ينبذ الحجر ويقول إذا وقع الحجر فهو لك وهذا نظير بيع الحصاة.
وأما اشتمال الصماء فهو أن يشتمل في ثوب واحد يضع طرفي الثوب على عاتقه الأيسر ويسدل شقه الأيمن هكذا جاء تفسيره في الحديث.
وأما الاحتباء في الثوب الواحد ليس على فرجه منه شيء فهو أن يقعد على إليتيه، وقد نصب ساقيه وهوغير متزر ثم يحتبي بثوب يجمع بين طرفيه ويشدهما على ركبتيه وإذا فعل ذلك بقيت فرجة بينه وبين الهواء تنكشف منها عورته.
903- قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع حبل الحبلة.
قال الشيخ حبل الحبلة هو نتاج النتاج، وقد جاء تفسيره في الحديث هو أن ينتج الناقة بطنها ثم تحمل التي نتجت وهذه بيوع كانوا يتبايعونها في الجاهلية وهي كلها يدخلها الجهل والغرر فنهوا عنها وأرشدوا إلى الصواب حكم الإسلام فيها.
20/27م ومن باب المضارب إذا خالف
904- قال أبو داود: حدثنا مسدد قال أخبرنا سفيان عن شبيب بن غرقدة قال حدثني الحيّ عن عروة البارقي قال أعطاه النبي ﷺ دينارا يشتري به أضحية أو شاة فاشترى ثنتين فباع أحدهما بدينار فأتاه بشاة ودينار فدعا له النبي ﷺ بالبركة في بيعه فكان لو اشترى ترابا لربح فيه.
905- قال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير العبدي قال أخبرنا سفيان قال حدثني أبوحصين عن شيخ من أهل المدينة عن حكيم بن حزام أن رسول الله ﷺ بعث معه بدينار ليشتري له أضحية فاشتراها بدينار وباعها بدينارين فرجع فاشترى أضحية بدينار وجاء بدينار إلى النبي ﷺ فتصدق به النبي ﷺ ودعا له أن يبارك له في تجارته.
قال الشيخ هذا الحديث مما يحتج به أصحاب الرأي لأنهم يجيزون بيع مال زيد من عمرو بغير إذن منه أو توكيل ويتوقف البيع على إجازة المالك فإذا أجازه صح، إلا أنهم لم يجيزوا الشراء بغير إذنه وأجاز مالك بن أنس الشراء والبيع معا.
وكان الشافعي لا يجيز شيئا من ذلك لأنه غرر لا يدري هل يجيزه أم لا، وكذلك لا يجيز النكاح الموقوف على رضا المنكوحة أو إجازة الولي غير أن الخبرين معا غير متصلين لأن في أحدهما وهو خبر حكيم بن حزام رجلا مجهولا لا يدري من هو، وفي خبر عروة أن الحي حدثوه وما كان هذا سبيله من الرواية لم تقم به الحجة.
وقد ذهب بعض من لم يجز البيع الموقوف من تأويل هذا الحديث إلى أن وكالته كانت وكالة تفويض واطلاق وإذا كانت الوكالة مطلقة فقد حصل البيع والشراء عن إذن.
قال الشيخ وهذا لا يستقيم لأن في خبر حكيم أنه تصدق بالدينار فلو كانت الوكالة مطلقة طابت له الزيادة والله أعلم.
وقد جعل غير واحد من أهل العلم هذا أصلا في أن من وصل إليه مال من شبهة وهو لا يعرف له مستحقا فإنه يتصدق به.
واختلف الفقهاء في المضارب إذا خالف رب المال فروي عن ابن عمر أنه قال الربح لرب المال وعن أبي قلابة ونافع أنه ضامن والربح لرب المال وبه قال أحمد وإسحاق وكذلك الحكم عند أحمد في من استودع مالا فاتجر فيه بغير إذن صاحبه أن الربح لرب المال.
وقال أصحاب الرأي الربح للمضارب ويتصدق به والوضيعة عليه وهو ضامن لرأس المال في الوجهين معا.
وقال الأوزاعي إن خالف وربح فالربح له في القضاء ويتصدق به في الورع والفتيا ولا يصلح لواحد منهما.
وقال الشافعي إذا خالف المضارب نُظِرَ فإن اشترى السلعة التي لم يؤمر بها بغير المال فالبيع باطل وإن اشتراها بغير العين، فالسلعة ملك للمشتري وهو ضامن للمال.
21/28م ومن باب الرجل يتجر في مال الرجل بغير إذنه
906- قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا محمد بن حمزة قال أخبرنا سالم بن عبد الله عن أبيه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول من استطاع منكم أن يكون مثل صاحب فرق الأرز فليكن مثله، قالوا ومن صاحب الأرز يا رسول الله فذكر حديث الغار حين سقط عليهم الجبل فقال كل واحد منهم اذكروا أحسن عملكم إلى أن قال: وقال الثالث منهم اللهم تعلم أني استأجرت أجيرا بفرق أرز فلما أمسيت عرضت عليه حقه فأبى أن يأخذه وذهب فثَمَّرتُه له حتى جمعت له بقرا ورعاءها فلقيني فقال أعطني حقي فقلت اذهب إلى تلك البقر ورعاءها فخذها فذهب فاستاقها.
قال الشيخ قد احتج به أحمد بن حنبل لقوله الذي حكيناه عنه في الباب الأول، ويشبه على مذهبه أن يكون هذا الرجل إنما كان استأجره على فرق أرز معلوم بعينه حتى يكون التجارة وقعت بمال الأجير، فأما إذا كانت الأجرة في الذمة غير معينة فإنما وقعت التجارة في مال المستأجر لأنها من ضمانه فالربح له لأنه المالك والعامل المتصرف فيه، إلا أنه لا حجة له في واحد من الأمرين أيهما كان لأن هذا قول ثناء ومدح استحضه هذا الرجل في أمر تبرع به لم يكن يلزمه من جهة الحكم فحمد عليه، وإنما هو الترغيب في الإحسان والندب إليه وليس من باب ما يجب ويلزم في شيء.
22/29م ومن باب الشركة على غير رأس مال
907- قال أبو داود: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا يحيى، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة قال اشتركت أنا وعمار وسعد فيما يصيب يوم بدر قال فجاء سعد بأسيرين ولم أجىء أنا وعمار بشيء.
قال الشيخ شركة الأبدان صحيحة في مذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي وهذا الحديث حجة لهم، وقد احتج به أحمد بن حنبل وأثبت شركة الأبدان وهو أن يكونا خياطين وقصارين فيعملان أو يعمل كل واحد منهما منفردا أو يكون أحدهما خياطا والآخر خزَّازا أو حدادا سواء اتفقت الصناعات أو اختلفت فكل ما أصاب أحدهما من أجرة عن عمله كان صاحبه شريكه فيها، أو يشتركان على أن ما يكتسبه كل واحد منهما كان بينهما إن لم يكن العمل معلوما، إلا أن بعضهم قال لا يدخل فيها الاصطياد والاحتشاش.
وحكي عن أحمد أنه قال يدخل فيها الصيد والحشيش ونحوهما وقاسوها على المضاربة قالوا إذا كان العمل فيها أحد رأسي المال جاز أن يكون في الشقين مثل ذلك وأبطلها الشافعي وأبو ثور.
فأما شركة المفاوضة فهي عند الشافعي رضي اله عنه فاسدة ووافق في ذلك أحمد وإسحاق وأبو ثور وجوزها الثوري وأصحاب الرأي وهو قول الأوزاعي وابن أبي ليلى، وقال أبو حنيفة وسفيان وأبو يوسف لا يكون شركة مفاوضة حتى يكون رأس أمواهما سواء.
هامش