مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/قوله كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد
قوله كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد
وقوله ﷺ «كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد» وفي لفظ «كتبت نبيًا»، كقوله ﷺ: «إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لَمُنْجَدِلٌ في طِينَتِهِ» فإن الله بعد خَلْقِ جسد آدم وقبل نفخ الروح فيه كتب وأظهر ما سيكون من ذريته، فكتب نبوة محمد وأظهرها، كما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ قال: «يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه ملكا، فيُؤْمَرُ بأربع كلمات، فيقال: اكتب رزقه وأجله، وعمله، وشقي أوسعيد، ثم ينفخ فيه الروح»، فقد أخبر ﷺ أنه بعد أن يخلق بدن الجنين في بطن أمه - وقبل نفخ الروح فيه - يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد فهكذا كتب خبر سيد ولد آدم وآدم منجدل في طينته قبل أن ينفخ الروح فيه.
وأما قول بعضهم: «كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين» فهذا نقل باطل نقلا وعقلا؛ فإن آدم ليس بين الماء والطين، بل الطين ماء وتراب، ولكن كان بين الروح والجسد. فهذا ونحوه فيه علم الله بالأشياء قبل كونها، وكتابته إياها، وإخباره بها، وذلك غير وجود أعيانها؛ لأنها لا توجد أعيانها حتى تخلق، ومن لم يفرق بين ثبوت الشيء في العلم والكلام والكتاب، وبين حقيقته في الخارج، وكذلك بين الوجود العلمي والعيني عَظُمَ جهله وضلاله.
وأهل العلم قد أعظموا النكبة على من يقول: المعدوم شيء ثابت في الخارج، وإن كان لهؤلاء شبهة عقلية لكونهم ظنوا أن تميزه في العلم والإرادة يقتضي تمييزه في الخارج، فإنهم أخطؤوا في ذلك، والتحقيق الفرق بين الثبوت العلمي والعيني، وأما وجود الأشياء قبل خلقها فهذا أعظم في الجهل والضلال.
وأما دعواه أن الأولياء كلهم حتى الأنبياء يستفيدون من خاتم الأولياء فهذا مخالف للعقل والشرع؛ فإن الأنبياء أفضل من الأولياء، وخيار الأولياء أَتْبَعُهُم للأنبياء، كما كان أبو بكر أفضل مَنْ طلعت عليه الشمس بعد النبيين والمرسلين.
وكذلك دعواه أن خاتم الأولياء يأخذ العلم الظاهر من حيث يأخذه النبي، ويأخذ العلم الباطن من المعدن الذي يأخذ منه الملك ما يوحيه إلى النبي؛ فهذا من أعظم الكفر والضلال، وهو مبني على قول المتفلسفة الذين يجعلون النبوة فَيْضًا يفيض على عقل النبي، ويقولون: إن الملك هو ما يتمثل في نفس النبي من الأشكال النورانية، فيقولون: إن النبي يأخذ عن تلك الصور الخيالية وهي الملك عندهم، فمن أخذ المعاني العقلية عن العقل المجرد كان أعظم وأكمل ممن يأخذ عن الأمثلة الخيالية، فهؤلاء اعتقدوا أقوال هؤلاء الفلاسفة الملحدين وسلكوا مَسْلك الرياضة، فأخذوا يتكلمون بتلك الأمور الإلحادية الفلسفية، ويخرجونها في قالب المكاشفات والمخاطبات.
وما ذكروه من خاتم الأولياء لا حقيقة له، وإن كان قد ذكره الحكيم الترمذي في كتاب خاتم الأولياء فقد غلط في ذلك الكتاب غلطًا معروفا عند أهل المعرفة والعلم والإيمان. وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
فهذه الأحاديث، وأمثالها مما هو كذب وفِرْية عند أهل العلم، لاسيما إذا كانت معلومة البطلان بالعقل، بل متخلية في العقل، ليس لأحد أن يرويها ويحدث بها إلا على وجه البيان لكونها كذبا، كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «من رَوَى عني حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين».
وعلى ولاة الأمور أن يمنعوا من التحدث بها في كل مكان، ومن أصر على ذلك فإنه يعاقب العقوبة البليغة التي تزجره وأمثاله عن الكذب على النبي ﷺ وأصحابه وأهل بيته، وغيرهم من أهل العلم والدين، والله أعلم.
هامش