انتقل إلى المحتوى

مجموع الفتاوى/المجلد الثامن عشر/أن يقرأ على المحدث فيقر به

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


أن يقرأ على المحدث فيقر به

والنوع الثاني: أن يقرأ على المحدث فيقر به، كما يقرأ المتعلم القرآن على المعلم، ويسميه الحجازيون العرض؛ لأن المتحمل يعرض الحديث على المحمل كعرض القراءة، وعرض ما يشهد به من الإقرار، والحكم والعقود، والشهادة على المشهود عليه: من الحاكم، والشاهد، والمقر والعاقد، وعرض ضمام بن ثعلبة على النبي ما جاء به رسوله فيقول نعم! وهذا عند مالك وأحمد وجمهور السلف كاللفظ.

ولهذا قلنا: إذا قال الخاطب للولي: أزوجت؟ فقال: نعم. وللزوج: أقبلت؟ فقال: نعم. انعقد النكاح وكان ذلك صريحًا؛ فإن نعم تقوم مقام التكلم بالجملة المستفهم عنها، فإنه إذا قيل لهم: هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟ والله أمركم بذلك؟ وأحدثك فلان بكذا؟ وأزوجت فلانًا بكذا؟ فقال: نعم فهو بمنزلة قوله: وجدت ما وعدني ربي، والله أمرني بكذا وكذا، وحدثني فلان بكذا وكذا، وزوجت فلانًا كذا، لكن هذا جواب الاستفهام وذاك خبر مبتدأ، ونعم كلمة مختصرة تغني عن التفصيل.

وقد يقول العارض: حدثك بلا استفهام بل إخبار، فيقول: نعم. ثم من أهل المدينة وغيرهم من يرجح هذا العرض؛ لما فيه من كون المتحمل ضبط الحديث، وأن المحمل يرد عليه ويصححه له، ويذكر هذا عن مالك وغيره. ومنهم من يرجح السماع. وهو يشبه قول أبي حنيفة والشافعي. ومنهم من يجيز فيه أخبرنا وحدثنا، كقول الحجازيين. ومنهم من لا يقول فيه إلا أخبرنا، كقول جماعات، وعن أحمد روايتان. ثم منهم من قال: لا فرق في اللغة وإنما فرق من فرق اصطلاحًا؛ ولهذا يقال في الشهادة المعروضة من الحكم والإقرار والعقود أشهدني بكذا، وقد يقال: الخبر في الأصل عن الأمور الباطنة، ومنه الخبرة بالأشياء، وهو العلم ببواطنها، وفلان من أهل الخبرة بكذا، والخبير بالأمور المطلع على بواطنها، ومنه الخبير. وهو الفلاح الذي يجعل باطن الأرض ظاهرًا، والأرض الخَبَارُ اللينة التي تنقلب، والمخابرة من ذلك.

فقول المبلغ: نعم، لم يدل بمجرد ظاهر لفظه على الكلام المعروف وإنما دل بباطن معناه، وهو أن لفظها يدل على موافقة السائل والمخبر، فإذا قال: أحدثك؟ وأنكحت؟ فقال: نعم فهو موافق لقوله: حدثني وأنكحت، وهذه الدلالة حصلت من مجموع لفظ نعم وسؤال السائل، كما أن أسماء الإشارة والمضمرات إنما تعين المشار إليه والظاهر بلفظها، ولما اقترن بذلك من الدلالة على المشار إليه والظاهر المفسر للمضمر.

وأحسن من ذلك أن قوله: حدثني أن فلانًا قال وأخبرني أن فلانًا قال في العرض أحسن من أن يقول: أخبرنا فلان قال: أخبرنا وحدثنا فلان قال: حدثنا، كما أن هذا هو الذي يقال في الشهادة، فيقول: أشهد أن فلان ابن فلان أقر وأنه حكم وأنه وقف، كما فرق طائفة من الحفاظ بين الإجازة وغيرها، فيقولون فيها: أنا فلان أن فلانًا حدثهم، بخلاف السماع.

وقد اعتقد طائفة أنه لا فرق بينهما، بل ربما رجحوا أن ؛ لأنهم زعموا فيها توكيدًا، وليس كما توهموا، فإن أن المفتوحة وما في خبرها بمنزلة المصدر، فإذا قال: حدثني أنه قال فهو في التقدير حدثني بقوله؛ ولهذا اتفق النحاة على أن إن المكسورة تكون في موضع الجمل، والمفتوحة في موضع المفردات، فقوله: { فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصلي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ } 1 على قراءة الفتح في تقدير قوله: فنادته ببشارته، وهو ذكر لمعني ما نادته به وليس فيه ذكر اللفظ. ومن قرأ إن الله فقد حكي لفظه، وكذلك الفرق بين قوله أول ما أقول: أحمد الله، وأول ما أقول: إني أحمد الله.

وإذا كان مع الفتح هو مصدر فقولك: حدثني بقوله وبخبره لم تذكر فيه لفظ القول والخبر، وإنما عبرت عن جملة لفظه؛ فإنه قول وخبر، فهو مثل قولك: سمعت كلام فلان وخطبة فلان، لم تحك لفظها. وأما إذا قلت: قال: كذا فهو إخبار عن عين قوله؛ ولهذا لا ينبغي أن يوجب اللفظ في هذا أحد، بخلاف الأول فإنه إنما يسوغ على مذهب من يجوز الرواية بالمعني، فإذا سمعت لفظه وقلت: حدثني فلان، قال: حدثني فلان بكذا وكذا فقد أتيت باللفظ، فإنك سمعته يقول: حدثني فلان بكذا، وإذا عرضت عليه فقلت: حدثك فلان بكذا؟ فقال: نعم وقلت: حدثني أن فلانًا حدثه بكذا، فأنت صادق على المذهبين؛ لأنك ذكرت أنه حدثك بتحديث فلان إياه بكذا، والتحديث لفظ مجمل ينتظم لذلك، كما أن قوله: نعم لفظ مجمل ينتظم لذلك، فقوله: نعم تحديث لك بأنه حدثه.

وأما إذا قلت: حدثني قال: حدثني فأنت لم تسمعه يقول: حدثني وإنما سمعته يقول: نعم وهي معناها، لكن هذا من المعاني المتداولة. وهذا العرض إذا كان المحمل يدري ما يقرأه عليه العارض، كما يدري المقرئ، فأما إذا كان لا يدري فالسماع أجود بلا ريب، كما اتفق عليه المتأخرون؛ لغلبة الفعل على القارئ للحديث دون المقروء عليه، والتفصيل في العرض بين أن يقصد المحمل الإخبار أو لا يقصد، كما تقدم في التحديث والسماع.


هامش

  1. [آل عمران: 39]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الثامن عشر - الحديث
سئل ما حد الحديث النبوي | فصل تعريف الحديث الواحد | فصل إذا صح الحديث هل يكون صدقا | فصل تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف | فصل أنواع الرواية وأسماء الأنواع | أن يسمع من لفظ المحدث | أن يقرأ على المحدث فيقر به | المناولة والمكاتبة | الإجازة | معني قولهم حديث حسن أو مرسل أو غريب | شرط البخاري ومسلم | قولهم هذا حديث ضعيف أو ليس بصحيح | الخبر ينقسم ثلاثة أقسام | فصل الخطأ في الخبر يقع من الراوي إما عمدا أو سهوا | أسباب تعمد الكذب | فصل الراوي إما أن تقبل روايته مطلقا أو مقيدا | فصل كم من حديث صحيح الاتصال ثم يقع في أثنائه الزيادة والنقصان | فصل عدة الأحاديث المتواترة التي في الصحيحين | فصل أحاديث يحتج بها بعض الفقهاء وهي باطلة | فصل إذا جاء الحلال والحرام شددنا في الأسانيد | سئل عمن أنكر التواتر في الأحاديث | كلام الشيخ على كتاب الحلية لأبي نعيم | وسئل عمن نسخ بيده صحيح البخاري ومسلم والقرآن | أحاديث رواها شيخ الإسلام بن تيمية بأسانيد لنفسه | بعض الأخبار الموضوعة | وسئل عن وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن | سئل عن حديث ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي | فصل في قوله وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا | فصل في قوله كلكم ضال إلا من هديته | فصل في قوله يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته | فصل قوله يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار | فصل قوله يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني | فصل قوله لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم | فصل قوله يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم | فصل شرح حديث حديث عمران بن حصين | شرح حديث إنما الأعمال بالنيات | فصل مدار الإسلام على ثلاثة أحاديث وهذا منها | فصل في قوله وجلت قلوبهم | فصل في معنى حديث خطبة الحاجة | فصل حديث بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ | فصل حديث مثل أمتي كمثل الغيث | حديث سبعة لا تموت ولا تفنى ولا تذوق الفناء | فصل حديث أعطيت جوامع الكلم | حديث الكرب اللهم إني عبدك | فصل حديث المرء مع من أحب | وسئل عن المسكنة وقوله اللهم أحيني مسكينا | فصل حديث من يستغن يغنه الله | فصل في حديث إن أكبر الكبائر الكفر والكبر | فصل فيما يتعلق بالثلاث المهلكات | سئل عن أحاديث هل هي صحيحة | سئل عن بعض الأحاديث | سئل عمن سمع رجلا يقول لو كنت فعلت كذا لم يجر عليك شيء من هذا | وسئل عن قصة إبليس | بيان ما في كتاب تنقلات الأنوار | سئل عن أحاديث يرويها قصاص | قوله كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد | معنى حديث على كل مسلم صدقة | وسئل عن أحاديث يرويها القصاص