كتاب الأم/كتاب الرهن الكبير/جواز شرط الرهن
[قال الشافعي]: رحمه الله: أذن الله - تبارك وتعالى - في الرهن مع الدين، وكان الدين يكون من بيع وسلف وغيره من وجوه الحقوق، وكان الرهن جائزا مع كل الحقوق شرط في عقدة الحقوق أو ارتهن بعد ثبوت الحقوق، وكان معقولا أن الرهن زيادة وثيقة من الحق لصاحب الحق مع الحق مأذون فيها حلال، وأنه ليس بالحق نفسه، ولا جزء من عدده فلو أن رجلا باع رجلا شيئا بألف على أن يرهنه شيئا من ماله يعرفه الراهن والمرتهن كان البيع جائزا، ولم يكن الرهن تاما حتى يقبضه الراهن المرتهن أو من يتراضيان به معا، ومتى ما أقبضاه إياه قبل أن يرفعا إلى الحاكم فالبيع لازم له، وكذلك إن سلمه؛ ليقبضه فتركه البائع كان البيع تاما.
[قال الشافعي]: وإن ارتفعا إلى الحاكم وامتنع الراهن من أن يقبضه المرتهن لم يجبره الحاكم على أن يدفعه إليه؛ لأنه لا يكون رهنا إلا بأن يقبضه إياه. وكذلك لو وهب رجل لرجل هبة فلم يدفعها إليه لم يجبره الحاكم على دفعها إليه؛ لأنها لا تتم له إلا بالقبض، وإذا باع الرجل الرجل على أن يرهنه رهنا فلم يدفع الراهن الرهن إلى البائع المشترط له فللبائع الخيار في إتمام البيع بلا رهن أو رد البيع؛ لأنه لم يرض بذمة المشتري دون الرهن، وكذلك لو رهنه رهونا فأقبضه بعضها، ومنعه بعضها، وهكذا لو باعه على أن يعطيه حميلا بعينه فلم يحمل له بها الرجل الذي اشترط حمالته حتى مات كان له الخيار في إتمام البيع بلا حميل أو فسخه؛ لأنه لم يرض بذمته دون الحميل. ولو كانت المسألة بحالها فأراد المشتري فسخ البيع فمنعه الرهن أو الحميل لم يكن ذلك له؛ لأنه لم يدخل عليه هو نقص يكون له به الخيار؛ لأن البيع كان في ذمته وزيادة رهن أو ذمة غيره فيسقط ذلك عنه فلم يزد عليه في ذمته شيء لم يكن عليه، ولم يكن في هذا فساد للبيع؛ لأنه لم ينتقص من الثمن شيء يفسد به البيع إنما انتقص شيء غير الثمن وثيقة للمرتهن لا ملك، ولم يشترط شيئا فاسدا فيفسد به البيع. وهكذا هذا في كل حق كان لرجل على رجل فشرط له فيه رهنا أو حميلا فإن كان الحق بعوض أعطاه إياه فهو كالبيع، وله الخيار في أخذ العوض كما كان له في البيع، وإن كان الرهن في أن أسلفه سلفا بلا بيع أو كان له عليه حق قبل أن يرهنه بلا رهن ثم رهنه شيئا فلم يقبضه إياه فالحق بحاله، وله في السلف أخذه متى شاء به، وفي حقه غير السلف أخذه متى شاء إن كان حالا. ولو باعه شيئا بألف على أن يرهنه رهنا يرضيه حميلا ثقة أو يعطيه رضاه من رهن وحميل أو ما شاء المشتري والبائع أو ما شاء أحدهما من رهن وحميل بغير تسمية شيء بعينه كان البيع فاسدا لجهالة البائع والمشتري أو أحدهما بما تشارطا. ألا ترى أنه لو جاءه بحميل أو رهن فقال لا أرضاه لم يكن عليه حجة بأنه رضي رهنا بعينه أو حميلا بعينه فأعطاه، ولو كان باعه بيعا بألف على أن يعطيه عبدا له يعرفانه رهنا له فأعطاه إياه رهنا فلم يقبله لم يكن له نقض البيع؛ لأنه لم ينقصه شيئا من شرطه الذي عرفا معا. وهكذا لو باعه بيعا بألف على أن يرهنه ما أفاد في يومه أو من قدم عليه من غيبته من رقيقه أو ما أشبه هذا كان البيع مفسوخا بمثل معنى المسألة قبلها أو أكثر. وإذا اشترى منه شيئا على أن يرهنه شيئا بعينه ثم مات المشتري قبل أن يدفع الرهن إلى المرتهن لم يكن الرهن رهنا، ولم يكن على ورثته دفعه إليه، وإن تطوعوا، ولا وارث معهم، ولا صاحب وصية فدفعوه إليه فهو رهن، وله بيعه مكانه؛ لأن دينه قد حل، وإن لم يفعلوا فالبائع بالخيار في نقض البيع أو إتمامه، ولو كان البائع المشترط الرهن هو الميت كان دينه إلى أجله إن كان مؤجلا أو حالا إن كان حالا، وقام ورثته مقامه فإن دفع المشتري إليهم الرهن فالبيع تام، وإن لم يدفعه إليهم فلهم الخيار في نقض البيع كما كان لأبيهم فيه أو إتمامه إذا كان الرهن فائتا.
[قال الشافعي]: إذا كان الرهن فائتا أو السلعة المشتراة فائتة جعلت له الخيار بين أن يتمه فيأخذ ثمنه أو ينقضه فيأخذ قيمته كما أجعله له لو باعه عبدا فمات فقال المشتري اشتريته بخمسمائة، وقال البائع بعته بألف وجعلت له إن شاء أن يأخذ ما أقر له به المشتري، وإن شاء أن يأخذ قيمته بعد أن يحلف على ما ادعى المشتري، ولا أحلفه ها هنا؛ لأنه لا يدعي عليه المشتري براءة من شيء كما ادعى هناك المشتري براءة مما زاد على خمسمائة.
[قال الشافعي]: ولو باع رجل رجلا بيعا بثمن حال أو إلى أجل أو كان له عليه حق فلم يكن له رهن في واحد منهما، ولا شرط الرهن عند عقده واحدا منهما ثم تطوع له المشتري بأن يرهنه شيئا بعينه فرهنه إياه فقبضه ثم أراد الراهن إخراج الرهن من الرهن؛ لأنه كان متطوعا به لم يكن له ذلك إلا أن يشاء المرتهن كما لا يكون له لو كان الرهن بشرط، وكذا لو كان رهنه بشرط فأقبضه إياه ثم زاده رهنا آخر معه أو رهونا فأقبضه إياها ثم أراد إخراجها أو إخراج بعضها لم يكن ذلك له، ولو كانت الرهون تسوى أضعاف ما هي مرهونة به، ولو زاده رهونا أو رهنه رهونا مرة واحدة فأقبضه بعضها، ولم يقبضه بعضها كان ما أقبضه رهنا، وما لم يقبضه غير رهن، ولم ينتقض ما أقبضه بما لم يقبضه. وإذا باع الرجل الرجل البيع على أن يكون المبيع نفسه رهنا للبائع فالبيع مفسوخ من قبل أنه لم يملكه السلعة إلا بأن تكون محتبسة عن المشتري، وليس هذا كالسلعة لنفسه برهنه إياها ألا ترى أنه لو وهب له سلعة لنفسه جاز، وهو لو اشترى منه شيئا على أن يهبه له لم يجز وسواء تشارطا وضع الرهن على يدي البائع أو عدل غيره، وإذا مات المرتهن فالرهن بحاله فلورثته فيه ما كان له، وإذا مات الراهن فالرهن بحاله لا ينتقض بموته، ولا موتهما، ولا بموت واحد منهما قال ولورثة الراهن إذا مات فيه ما للراهن من أن يؤدوا ما فيه ويخرج من الرهن أو يباع عليهم بأن دين أبيهم قد حل، ولهم أن يأخذوا المرتهن ببيعه ويمنعوه من حبسه عن البيع؛ لأنه قد يتغير في حبسه ويتلف فلا تبرأ ذمة أبيهم، وقد يكون فيه الفضل عما رهن به فيكون ذلك لهم. ولو كان المرتهن غائبا أقام الحاكم من يبيع الرهن ويجعل حقه على يدي عدل إن لم يكن له وكيل يقوم بذلك. وإذا كان للرجل على الرجل الحق بلا رهن ثم رهنه رهنا فالرهن جائز كان الحق حالا أو إلى أجل فإن كان الحق حالا أو إلى أجل فقال الراهن: أرهنك على أن تزيدني في الأجل ففعل فالرهن مفسوخ والحق الحال كما كان والمؤجل إلى أجله الأول بحاله والأجل الآخر باطل وغرماء الراهن في الرهن الفاسد أسوة المرتهن، وكذلك لو لم يشترط عليه تأخير الأجل وشرط عليه أن يبيعه شيئا أو يسلفه إياه أو يعمله له بثمن على أن يرهنه، ولم يرهنه لم يجز الرهن، ولا يجوز الرهن في حق واجب قبله حتى يتطوع به الراهن بلا زيادة شيء على المرتهن، ولو قال له: بعني عبدك بمائة على أن أرهنك بالمائة وحقك الذي قبلها رهنا كان الرهن والبيع مفسوخا كله، ولو هلك العبد في يدي المشتري كان ضامنا لقيمته، ولو أقر المرتهن أن الموضوع على يديه الرهن قبضه جعلته رهنا، ولم أقبل قول العدل: لم أقبضه إذا قال المرتهن قد قبضه العدل.