كتاب الأم/كتاب الرهن الكبير/الجناية على العبد المرهون فيما فيه العقل
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا جنى أجنبي على عبد مرهون جناية لا قود فيها على الجاني بحال مثل أن يكون الجاني حرا فلا يقاد منه لمملوك أو يكون الجاني أب العبد المجني عليه أو جده أو أمه أو جدته أو يكون الجاني لم يبلغ أو معتوها أو تكون الجناية مما لا قود فيه بحال مثل المأمومة والجائفة أو تكون الجناية خطأ فمالك العبد المرهون الخصم في الجناية، وإن أحب المرتهن حضر الخصومة. وإذا قضي على الجاني بالأرش في العبد المرهون لم يكن لسيد العبد الراهن عفوها، ولا أخذ أرش الجناية دون المرتهن وخير الراهن بين أن يكون أرش الجناية قصاصا من الدين الذي في عنق العبد أو يكون موضوعا للمرتهن على يدي من كان الرهن على يديه إلى أن يحل الحق. ولا أحسب أحدا يعقل يختار أن يكون أرش الجناية موضوعا غير مضمون على أن يكون قصاصا وسواء أتت الجناية على نفس العبد المرهون أو لم تأت عليها إذا كانت جناية لها أرش لا قود فيها، وإن كان أرش الجناية ذهبا أو فضة فسأل الراهن أن يتركه والانتفاع بها كما يترك خدمة العبد وركوب الدابة المرهونة وسكنى الدار وكراءها لم يكن ذلك له؛ لأن العبد والدابة والدار عين قائمة معلومة لا تتغير والعبد والدابة ينفعان بلا ضرر عليهما ويردان إلى مرتهنهما والدار لا تحول، ولا ضرر في سكنها على مرتهنها والدنانير والدراهم لا مؤنة فيها على راهنها، ولا منفعة لها إلا بأن تصرف في غيرها. وليس للراهن صرف الرهن في غيره؛ لأن ذلك إبداله، ولا سبيل له إلى إبدالها، وهي تختلط وتسبك، ولا تعرف عينها. وإن كان صلحا برضا المرتهن كن أرش جنايته على إبل وهي موضوعة على يدي من الرهن على يديه، وعلى الراهن علفها وصلاحها، وله أن يكريها وينتفع بها كما يكون ذلك له في إبل له لو رهنها، وإن سأل المرتهن أن تباع الإبل فتجعل ذهبا أو ورقا لم يكن ذلك له؛ لأن ذلك كعين رهنه إذ رضي به، كما لو سأل الراهن إبدال الرهن لم يكن ذلك له.
وإن أراد الراهن مصالحة الجاني على عبده بشيء غير ما وجب له لم يكن ذلك له؛ لأن ما وجب له يقوم مقامه ومصالحته بغيره إبدال له كأن وجب له دنانير فأراد مصالحته بدراهم إلا أن يرضى بذلك المرتهن فإذا رضي به فما أخذ بسبب الجناية على رهنه فهو رهن له.
وإن أراد سيد العبد المرهون العفو عن أرش الجناية على عبده لم يكن ذلك له إلا أن يبرئه المرتهن أو يوفيه الراهن حقه متطوعا به، ولو كانت الجناية على العبد أكثر من حق المرتهن مرارا لم يكن له أن يضع شيئا من الجناية كما لو زاد العبد في يديه لم يكن له أن يخرج قيمة زيادته من رقبته إلا أن يتطوع مالك العبد الراهن بأن يدفع إلى المرتهن جميع حقه في العبد حالا، فإن فعل فذلك له فإن أراد المرتهن ترك الرهن وأن لا يأخذ حقه حالا لم يكن ذلك له وجبر على أخذه إلا أن يشاء إبطال حقه فيبطل إذا أبطله.
[قال]: والجناية على الأمة المرهونة كالجناية على العبد المرهون، لا تختلف في شيء إلا في الجناية عليها بما يقع على غيرها فإن ذلك في الأمة، وليس في العبد بحال وذلك مثل أن يضرب بطنها فتلقي جنينا فيؤخذ أرش الجنين ويكون لمالكه لا يكون مرهونا معها، وإن نقصها نقصا له قيمة بلا جرح له أرش يبقى أثره لم يكن على الجاني شيء سوى أرش الجنين؛ لأن الجنين المحكوم فيه، وإن جنى على الأمة جناية لها جرح له عقل معلوم أو فيه حكومة وألقت جنينا أخذ من الجاني أرش الجرح أو حكومته فكان رهنا مع الجارية؛ لأن حكمه بها دون الجنين، وكان عقل الجنين لمالكها الراهن؛ لأنه غير داخل في الرهن.
والجناية على كل رهن من الدواب كهي على كل رهن من الرقيق لا يختلف في شيء إلا أن في الدواب ما نقصها وجراح الرقيق في أثمانهم كجراح الأحرار في دياتهم، وفي خصلة واحدة أن من جنى على أنثى من البهائم فألقت جنينا ميتا فإنما يضمن الجاني عليها ما نقصتها الجناية عن قيمتها تقوم يوم جني عليها وحين ألقت الجنين فنقصت، ثم يغرم الجاني ما نقصها فيكون مرهونا معها، وإن جنى عليها فألقت جنينا حيا، ثم مات مكانه ففيها قولان. أحدهما: أن عليه قيمة الجنين حين سقط؛ لأنه جان عليه، ولا يضمن إن كان إلقاؤه نقص أمه شيئا أكثر من قيمة الجنين إلا أن يكون جرحا يلزم عيبه فيضمنه مع قيمة الجنين كما قيل في الأمة لا يختلفان. والثاني: أن عليه الأكثر من قيمة الجنين وما نقص أمه ويخالف بينها وبين الأمة يجني عليها فيختلفان في أنه لا قود بين البهائم بحال على جان عليها وللآدميين قود على بعض من يجنى عليهم.
وكل جناية على رهن غير آدمي، ولا حيوان لا تختلف سواء فيما جنى على الرهن ما نقصه لا يختلف ويكون رهنا مع ما بقي من المجني عليه إلا أن يشاء الراهن أن يجعله قصاصا، وقيمة ما جنى على الرهن غير الآدميين ذهب أو فضة إلا أن يكون كيل أو وزن يوجد مثله فيتلف منه شيء فيؤخذ بمثله وذلك مثل حنطة رهن يستهلكها رجل فيضمن مثلها، ومثل ما في معناها. وإن جنى على الحنطة المرهونة جناية تضر عينها بأن تعفن أو تحمر أو تسود ضمن ما نقص الحنطة تقوم صحيحة غير معيبة كما كانت قبل الجناية وبالحال التي صارت إليها بعد الجناية ثم يغرم الجاني ما نقصها من الدنانير أو الدراهم وأي نقد كان الأغلب بالبلد الذي جنى به جبر عليه، ولم يكن له الامتناع منه إن كان الأغلب بالبلد الذي جنى به دنانير بدنانير، وإن كان الأغلب دراهم فدراهم وكل قيمة فإنما هي بدنانير أو بدراهم.
والجناية على العبيد كلها دنانير أو دراهم لا إبل، ولا غير الدنانير والدراهم إلا أن يشاء ذلك الجاني، والراهن والمرتهن أخذ إبل وغيرها بما يصح فيكون ما أخذ رهنا مكان العبد المجني عليه إن تلف أو معه إن نقص ويكون ما غرم رهنا مع أصل الرهن إلا أن يشاء الراهن أن يجعله قصاصا كما وصفت.
وإذا جنى الراهن على عبده المرهون كانت جنايته كجناية الأجنبي لا تبطل عنه بأنه مالك له؛ لأن فيه حقا لغيره، ولا تترك بنقص حق غيره ويؤخذ بأرش الجناية على عبده وأمته كما يؤخذ بها الأجنبي فإن شاء أن يجعلها قصاصا من الحق بطل عن المرتهن بقدر أرش الجناية وهكذا لو جنى ابن الراهن أو أبوه أو امرأته على عبده المرهون.
ولو جنى عبد للراهن غير مرهون على عبده المرهون خير الراهن بين أن يفدي عبده بجميع أرش الجناية على عبده المرهون متطوعا أو يجعلها قصاصا من الحق أو يباع عبده فيؤدى أرش الجناية على المرهون فيكون رهنا معه، ولا تبطل الجناية على عبده عن عبده؛ لأن في ذلك نقصا للرهن على المرتهن إلا في أن يرهن الرجل الرجل الواحد العبدين فيجني أحدهما على الآخر والجناية خطأ أو عمد لا قود فيه. لأن الراهن المالك لا يستحق من ملك عبده المرهون إلا ما كان له قبل الجناية، وأن المرتهن لا يستحق من العبد الجاني المرهون بالرهن إلا ما كان له قبل الجناية فبهذا صارت الجناية هدرا. وهكذا لو أن رجلا رهن عبدا له بألف درهم ورهنه أيضا عبدا له آخر بمائة دينار أو بحنطة مكيلة فجنى أحدهما على الآخر كانت الجناية هدرا؛ لأن المرتهن مستحق لهما معا بالرهن والراهن مالك لهما معا فحالهما قبل الجناية وبعدها في الرهن والملك سواء.
ولو أن رجلا رهن عبدا له رجلا ورهن عبدا له آخر رجلا غيره فجنى أحدهما على الآخر كانت جنايته عليه كجناية عبد أجنبي مرهون ويخير السيد بين أن يفدي العبد الجاني بجميع رأس جناية المجني عليه فإن فعل فالعبد الجاني رهن بحاله، وإن لم يفعل بيع العبد الجاني فأديت الجناية، وكانت رهنا فإن فضل منها فضل كان رهنا لمرتهن الجاني، وإن كان في الجاني فضل عن أرش الجناية فشاء الراهن والمرتهن العبد الجاني بيعه معا بيع ورد فضله رهنا إلا أن يتطوع السيد أن يجعله قصاصا. وإن دعا أحدهما إلى بيعه وامتنع الآخر لم يجبر على بيعه كله إذا كان في ثمن بعضه ما يؤدي أرش الجناية وجناية المرتهن وأب المرتهن وابنه من كان منه بسبيل وعبده على الرهن كجناية الأجنبي لا فرق بينهما، وإن كان الحق حالا فشاء أن تكون جنايته قصاصا كانت، وإن كان إلى أجل فشاء الراهن أن يجعله قصاصا فعل، وإن لم يشأ الراهن أخرج المرتهن قيمة جنايته فكانت موضوعة على يدي العدل الموضوع على يديه الرهن، وإن كان الرهن على يدي المرتهن فشاء الراهن أن يخرج الرهن وأرش الجناية من يديه، وكانت الجناية عمدا فذلك له؛ لأن الجناية عمدا تغير من حال الموضوع على يديه الرهن. وإن كانت خطأ لم يكن له إخراجها من يديه إلا أن يتغير حاله عن حالة الأمانة إلى حال تخالفها، وإذا كان العبد مرهونا فجني عليه فسواء برئ الراهن مما في العبد من الرهن إلا درهما أو أقل، وكان في العبد فضل أو لم يبرأ من شيء منه، ولم يكن في العبد فضل؛ لأنه إذا كان مرهونا بكله فلا يخرجه من الرهن إلا أن لا يبقى فيه شيء من الرهن، وكذلك لا يخرج شيئا من أرش الجناية عليه؛ لأنها كهو، وكذلك لو كانوا عبيدا مرهونين معا لا يخرج شيء من الرهن إلا بالبراءة من آخر الحق.
ولو رهن رجل رجلا نصف عبده ثم جنى عليه الراهن ضمن نصف أرش جنايته للمرتهن كما وصفت وبطل عنه نصف جنايته؛ لأن الجناية على نصفين نصف له لا حق لأحد فيه فلا يلزمه لنفسه غرم ونصف للمرتهن فيه حق فلا يبطل عنه، وإن كان مالكه لحق المرتهن فيه، ولو جنى عليه أجنبي جناية كان نصفها رهنا ونصفها مسلما لمالك العبد، ولو عفا مالك العبد الجناية كلها كان عفوه في نصفها جائزا؛ لأنه مالك لنصفه، ولا حق لأحد معه فيه وعفوه في النصف الذي المرتهن فيه حق مردود. ولو عفا المرتهن عن الجناية دون الراهن كان عفوه باطلا؛ لأنه لا يملك الجناية إنما ملكها للراهن، وإنما ملك احتباسها بحقه حتى يستوفيه وسواء كان حق المرتهن حالا أو إلى أجل فإن كان إلى أجل فقال: أنا أجعل الجناية قصاصا من حقي لم يكن ذلك له؛ لأن حقه غير حال، وإن كان حالا كان ذلك له إن كان حقه دنانير، وقضي بالجناية دنانير أو دراهم فقضي بالجناية دراهم؛ لأن ما وجب لسيد العبد مثل ما للمرتهن، وإن قضي بأرش الجناية دراهم والحق على الغريم دنانير فقال: أجعل الجناية قصاصا من حقي لم يكن ذلك له؛ لأن الجناية غير حقه، وكذلك لو قضي بالجناية دراهم وحقه دنانير أو دنانير، وله دراهم لم يكن له أن يجعل الجناية قصاصا من حقه؛ لأن أرش الجناية غير حقه، وإنما يكون قصاصا ما كان مثلا فأما ما لم يكن مثلا فلا يكون قصاصا، ولو كان حقه أكثر من قيمة أرش الجناية إذا لم أكره أحدا على أن يبيع ماله بأكثر من قيمته لم أكره رب العبد أن يأخذ بدنانير طعاما، ولا بطعام دنانير.
وإذا جنى عبد على عبد مرهون فأراد سيد العبد الجاني أن يسلمه مسترقا بالجناية لم يكن ذلك على الراهن إلا أن يشاء، وإن يشاء الراهن ذلك، ولم يشأه المرتهن لم يجبر على ذلك المرتهن، وكذلك لو شاء ذلك المرتهن، ولم يشأه الراهن لم يجبر عليه؛ لأن حقهم في رقبته أرش لا رقبة عبد ورقبة العبد عرض، وكذلك لو شاء الراهن والمرتهن أن يأخذ العبد الجاني بالجناية، والجناية مثل قيمة العبد أو أكثر أضعافا وأبى ذلك رب العبد الجاني لم يكن ذلك لهما؛ لأن الحق في الجناية شيء غير رقبته، وإنما تباع رقبته فيصير الحق فيها كما يباع الرهن فيصير ثمنا يقضي منه الغريم حقه.