الروح/المسألة السابعة/فصل عجائب الله في مخلوقاته
الأمر السابع: أن اللّه سبحانه وتعالى يحدث في هذه الدار ما هو أعجب من ذلك، فهذا جبريل كان ينزل على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، ويتمثل له رجلا فيكلمه بكلام يسمعه، ومن إلى جانب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لا يراه ولا يسمعه، وكذلك غيره من الأنبياء وأحيانا يأتيه الوحي في مثل صلصلة الجرس، ولا يسمعه غيره من الحاضرين، وهؤلاء الجن يتحدثون ويتكلمون بالأصوات المرتفعة، بيننا ونحن لا نسمعهم، وقد كانت الملائكة تضرب الكفار بالسياط، وتضرب رقابهم وتصيح بهم، والمسلمون معهم لا يرونهم ولا يسمعون كلامهم، واللّه سبحانه قد حجب بني آدم عن كثير مما يحدثه في الأرض وهو بينهم، وقد كان جبريل يقرئ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ويدارسه القرآن والحاضرون لا يسمعونه.
و كيف يستنكر من يعرف اللّه سبحانه ويقر بقدرته أن يحدث حوادث يصرف عنها أبصار بعض خلقه حكمة منه ورحمة بهم، لأنهم لا يطيقون رؤيتها وسماعها، والبعد أضعف بصرا وسمعا من أن يثبت لمشاهدة عذاب القبر، وكثيرا ممن أشهده اللّه ذلك صعق وغشي عليه ولم ينتفع بالعيش زمنا، وبعضهم كشف قناع قلبه فمات، فكيف ينكر في الحكمة الإلهية أسبال غطاء يحول بين المكلفين وبين مشاهدة ذلك، حتى إذا كشف الغطاء رأوه وشاهدوه عيانا.
ثم إن العبد قادر على أن يزيل الزئبق والخردل عن عين الميت وصدره ثم يرده بسرعة، فكيف يعجز عنه الملك، وكيف لا يقدر عليه من هو على كل شيء قدير، وكيف تعجز قدرته على إبقائه في عينيه وعلى صدره لا يسقط عنه، وهل قياس أمر البرزخ على ما يشاهده الناس في الدنيا إلا محض الجهل والضلال، وتكذيب أصدق الصادقين، وتعجيز رب العالمين وذلك غاية الجهل والظلم.
و إذا كان أحدنا يمكنه توسعة القبر عشرة أذرع ومائة ذراع وأكثر طولا وعرضا وعمقا، ويستر توسيعه عن الناس، ويطلع عليه من يشاء، فكيف يعجز رب العالمين أن يوسعه ما يشاء على من يشاء، ويستر ذلك على أعين بني آدم، فيراه بنو آدم عميقا، وهو أوسع شيء وأطيبه ريحا وأعظمه إضاءة ونورا، وهم لا يرون ذلك.
و سر المسألة: أن هذه السعة والضيق والإضاءة والخضرة والنار ليس من جنس المعهود في هذا العالم، واللّه سبحانه إنما أشهد بني آدم في هذه الدار ما كان فيها ومنها، فأما ما كان من أمر الآخرة فقد أسبل عليه الغطاء ليكون الإقرار والإيمان به سببا لسعادتهم، فإذا كان كشف عنهم الغطاء صار عيانا مشاهدا، فلو كان الميت بين الناس موضوعا لم يمتنع أن يأتيه الملكان ويسألانه من غير أن يشعر الحاضرون بذلك، ويجيبهما من غير أن يسمعوا كلامه، ويضربانه من غير أن يشاهد الحاضرون ضربه، وهذا الواحد منا ينام إلى جنب صاحبه فيعذب في النوم ويضرب ويألم، وليس عند المستيقظ خبر من ذلك البتة، وقد سرى أثر الضرب والألم إلى جسده.
و من أعظم الجهل استبعاد شق الملك الأرض والحجر وقد جعلهما اللّه سبحانه له كالهواء للطير، ولا يلزم من حجبها للأجسام الكثيفة أن تتولج حجبها للأرواح اللطيفة، وهل هذا إلا من أفسد القياس وبهذا وأمثله كذبت الرسل صلوات اللّه وسلامه عليهم.
هامش