الروح/المسألة التاسعة عشرة/فصل الروح والجسم والنفس والجسم
فإن قيل: قد ذكرتم الأدلة الدالة على جسميتها وتحيزها فما جوابكم من أدلة المنازعين لكم في ذلك؟ فإنهم استدلوا بوجوه:
أحدها: اتفاق العقلاء على قولهم الروح والجسم، والنفس والجسم، فيجعلونها شيئا غير الجسم، فلو كانت جسما لم يكن لهذا القول معنى.
الثاني: وهو أقوى ما يحتجون به أنه من المعلوم أن في الموجودات ما هو غير قابل للقسمة، كالنقطة والجوهر الفرد، بل ذات واجب الوجود، فوجب أن يكون العلم بذلك غير قابل للقسمة، فوجب أن يكون الموصول بذلك العلم وهو محله غير قابل للقسمة وهو النفس، فلو كانت جسما لكانت قابلة للقسمة، ويقرر هذا الدليل على وجه آخر، وهو أن محل العلوم الكلية لو كانت جسما أو جسمانيا لانقسمت تلك العلوم، لأن الحال في المنقسم، منقسم، وانقسام تلك العلوم مستحيل.
الثالث: أن الصور العقلية الكلية مجردة بلا شك، وتجردها إما أن يكون بسبب المأخوذ عنه أو بسبب الأخذ، والأول باطل، لأن هذه الصور إنما أخذت على الأشخاص الموصوفة بالمقادير المختلفة والأوضاع المعينة، فثبت أن تجردها إنما هو بسبب الأخذ لها والقوة العقلية المسماة بالنفس.
الرابع: أن القوة العاقلة تقوى على أفعال غير متناهية، فإنها تقوى على إدراكات لا تتناهى، والقوة الجسمانية لا تقوى على أفعال غير متناهية، لأن القوة الجسمانية تنقسم بانقسام محلها، فالذي يقوى عليه بعضها يجب أن يكون أقل من الذي يقوى عليه الكل، فالذي يقوى عليه الكل يزيد على الذي يقوى عليه البعض أضعافا متناهية، والزائد على المتناهي بمتناه متناه.
الخامس: أن القوة العاقلة لو كانت حالة في آلة جسمانية لوجب أن تكون القوة العاقلة دائمة الإدراك لتلك الآلة، أو ممتنعة الإدراك لها بالكلية، وكلاهما باطل، لأن إدراك القوة العاقلة لتلك الآلة إن كان عين وجودها فهو محال، وإن كانت صورة مساوية لوجودها وهي حالة في القوة العقلية الحالة في تلك الآلة لزم اجتماع صورتين متماثلتين وهو محال. وإذا بطل هذا ثبت أن القوة العاقلة لو أدركت آلتها لكان إدراكها عبارة عن نفس حصول تلك الآلة عند القوة العاقلة، فيجب حصول الإدراك دائما إن كفى هذا القدر في حصول الإدراك، وإن لم يكف امتنع حصول الإدراك في وقت من الأوقات، إذ لو حصل في وقت دون وقت لكان بسبب أمر زائد على مجرد حضور صورة الآلة.
السادس: إن كل واحد يدرك نفسه، وإدراك الشي ء عبارة عن حضور ماهية العلوم عند العالم، فإذا علمنا أنفسنا فهو إما أن يكون لأجل حضور ذواتنا لذواتنا أو لأجل حضور صورة مساوية لذواتنا في ذواتنا، والقسم الثاني باطل، وإلا لزم اجتماع المثلين، فثبت أنه لا معنى لعلمنا بذاتنا إلا حضور ذاتنا عند ذاتنا، وهذا إنما يكون إذا كانت ذاتا قائمة بالنفس غنية عن المحل، لأنها لو كانت حالة في محل كانت حاضرة عند ذلك المحل، فثبت أن هذا المعنى إنما يحصل إذا كانت النفس قائمة بنفسها غنية عن محل تحل فيه.
السابع: ما احتج به أبو البركات البغدادي وأبطل ما سواه فقال: لا نشك أن الواحد منا يمكنه أن يتخيل بحرا من زئبق، وجبلا من ياقوت، وشمسا وأقمارا فهذه الصور الخيالية لا تكون معدومة، لأن قوة المتخيل تشير إلى تلك الصور وتميز بين كل صورة وغيرها، وقد يقوى ذلك المتخيل إلى أن يصير كالمشاهد المحسوس، ومعلوم أن العدم المحض والنفي الصرف لا يثبت ذلك، ونحن نعلم بالضرورة أن هذه الصور ليست موجودة في الأعيان، فثبت أنها موجودة في الأذهان، فنقول محل هذه الصورة إما أن يكون جسما أو حالا في الجسم، أو لا جسما ولا حالا في الجسم، والقسمان الأولان باطلان، لأن صورة البحر والجبل صورة عظيمة، والدماغ والقلب جسم صغير، وانطباع العظيم في الصغير محال، فثبت أن محل هذه الصورة الخيالية ليس بجسم ولا جسماني.
الثامن: لو كانت القوة العقلية جسدانية لضعفت في زمان الشيخوخة دائما وليس كذلك.
التاسع: أن القوة العقلية غنية في أفعالها عن الجسم، وما كان غنيا في فعله عن الجسم وجب أن يكون غنيا في ذاته عن الجسم. بيان الأول: أن القوة العقلية تدرك نفسها، ومن المحال أن يحصل بينها وبين نفسها آلة متوسطة أيضا، وتدرك إدراكها لنفسها، وليس هذا الإدراك بآلة. وأيضا فإنها تدرك الجسم الذي هو آلتها وليس بينها وبين آلتها آلة أخرى.
و بيان الثاني من وجهين:
أحدهما: أن القوى الجسمانية كالنظرة والسامعة الخيال والوهم لما كانت جسما يقدر عليها إدراك ذوتها وإدراكها لكونها مدركة لذواتها وإدراكها لتلك الأجسام الحاملة لها، فلو كانت القوة العاقلة جسمانية لتعذر عليها هذه الأمور الثلاثة.
الثاني: أن مصدر الفعل هو النفس، فلو كانت النفس متعلقة في قوامها ووجودها بالجسم لم تحصل تلك الأفعال إلا بشركة من الجسم، ولما ثبت أنه ليس كذلك ثبت أن القوة العقلية غنية عن الجسم.
العاشر: أن القوة الجسمانية تكل بكثرة الأفعال، ولا تقوى على القوى بعد الضعف، وسببه ظاهر، فإن القوة الجسمانية بسبب مزاولة الأفعال تتعرض موادها للتحلل والذبول وهو يوجب الضعف، وأما القوة العقلية فإنها لا تضعف بسبب كثرة الأفعال وتقوى على القوى بعض الضعف فوجب أن لا تكون جسمانية.
الحادي عشر: أنا إذا حكمنا بأن السواد مضاد للبياض وجب أن يحصل في الذهن ماهية السواد والبياض، والبداهة حاكمة بأن اجتماع السواد والبياض والحرارة والبرودة في الأجسام محال، فلما حصل هذا الاجتماع في القوة العقلية وجب أن لا تكون قوة جسمانية.
الثاني عشر: أنه لو كان محل الإدراكات جسم، وكل جسم منقسم لا محالة، لم يمنع أن يقوم ببعض أجزاء الجسم علم بالشي ء، وبالبعض الآخر منه جهل، وحينئذ فيكون الإنسان في الحال الواحد عالما بالشي ء وجاهلا به.
الثالث عشر: أن المادة الجسمانية، إذا حصلت فيها نقوش [غير] 1 مخصوصة فإن وجود تلك النقوش فيها يمنع من حصول نقوش غيرها، وأما النقوش العقلية فبالضد من ذلك، لأن الأنفس إذا كانت خالية من جميع العلوم والإدراكات فإنه يصعب عليها التعلم، فإذا تعلمت شيئا صار حصول تلك العلوم معينا على مهولة غيرها، فالنقوش الجسمانية متغايرة متنافسة، والنقوش العقلية متعاونة متعاضدة.
الرابع عشر: إن النفس لو كانت جسما لكان بين إرادة العبد تحريك رجله و بين تحريكها زمان على قدر حركة الجسم وثقله، فإن النفس هي المحركة للجسد والممهد لحركته، فلو كان المحرك للرجل جسما فإما أن يكون حاصلا في هذه الأعضاء أو جائيا إليها، فإن كان جائيا احتاج إلى مدة ولا بدّ، وإن كان حاصلا فيها فنحن إذا قطعنا تلك العضلة التي تكون بها الحركة لم يبق منها في العضو المتحرك شي ء، فلو كان ذلك المتحرك حاصلا فيه لبقي منه شي ء في ذلك العضو.
الخامس عشر: لو كانت النفس جسما لكانت منقسمة، ولصح عليها أن يعلم بعضها كما يعلم كلها، فيكون الإنسان عالما ببعض نفسه جاهلا بالبعض الآخر وذلك محال.
السادس عشر: لو كانت النفس جسما لوجب أن يثقل البدن بدخولها فيه، لأن شأن الجسم الفارغ إذا ملأ غيره أن يثقل به كالزق الفارغ والأمر بالعكس، فأخف ما يكون البدن إذا كانت فيه النفس وأثقل ما يكون إذا فارقته.
السابع عشر: لو كانت النفس جسما لكانت على صفات سائر الأجسام التي لا يخلو شي ء منها من الخفة والثقل والحرارة والبرودة والنعومة والخشونة والسواد والبياض وغير ذلك من صفات الأجسام وكيفياتها، ومعلوم أن الكيفيات النفسانية إنما هي الفضائل والرذائل لا تلك الكيفيات الجسمانية، فالنفس ليست جسما.
الثامن عشر: أنها لو كانت جسما لوجب أن يقع تحت جميع الحواس أو تحت حاسة منها أو حاستين أو أكثر، فإنا نرى الأجسام كذلك، منها ما يدرك بجميع الحواس، ومنها ما يدرك بأكثرها، ومنها ما يدرك بحاستين منها أو واحدة، والنفس بريئة من ذلك كله، وهذه الحجة التي احتج بها جهم 2 على طائفة من الملاحدة حين أنكروا الخالق سبحانه وقالوا: لو كان موجودا لوجب أن يدرك بحاسة من الحواس، فعارضهم بالنفس وأنى تتم المعارضة إذا كانت جسما وإلا لو كانت جسما لجاز إدراكها ببعض الحواس.
التاسع عشر: لو كانت جسما لكانت ذات طول وعرض وعمق وسطح وشكل، وهذه المقادير والأبعاد لا تقوم إلا بمادة ومحل، فإن كانت مادتها ومحلها نفسا لزم اجتماع نفسين، وإن كان غير نفس كانت النفس مركبة من بدن وصورة، وهي في جسد مركب من بدن وصورة، فيكون الإنسان إنسانين.
العشرون: أن من [خواص] 3 الجسم أن يقبل التجزي، والجزء الصغير منه ليس كالكبير، ولو قبلت التجزي فكل جزء منها إن كان نفسا لزم أن يكون للإنسان نفوس كثيرة لا نفس واحدة، وإن كان نفسا لم يكن المجموع نفسا، كما أن جزء الماء إن لم يكن ماء لم يكن مجموعه ماء.
الحادي والعشرون: أن الجسم محتاج في قوامه وحفظه وبقائه إلى النفس، ولهذا يضمحل ويتلاشى لما تفارقه، فلو كانت جسما لكانت محتاجة إلى نفس أخرى وهلم جرا ويتسلسل الأمر، وهذا المحال إنما لزم من كون النفس جسما.
الثاني والعشرون: لو كانت جسما لكان اتصالها بالجسم إن كان على سبيل المداخلة تداخل الأجسام، وإن كان على سبيل الملاصقة والمجاورة كان للإنسان الواحد جسمين متلاصقين أحدهما يرى والآخر لا يرى.
فهذا كل ما موهت به هذه الطائفة المبطلة من منخنقة وموقوذة ومتردية ونحن نجيبهم عن ذلك كله فصلا بفصل بحول اللّه وقوته ومعونته.
هامش
المسألة التاسعة عشرة | |
---|---|
حقيقة النفس | فصل نفس المؤمن ونفس الكافر | فصل خروج نفس المؤمن | فصل حضور الملائكة عند خروج نفس المؤمن | فصل الأرواح جنود مجندة | فصل روح النائم | فصل فتح أبواب السماء لروح المؤمن | فصل | فصل الروح والجسم، والنفس والجسم | فصل النفس والجسم | فصل الوجود | فصل هل الصورة العقلية مجردة | فصل القوى العقلية والإدراكات | فصل الإدراك | فصل | فصل الخيالات | فصل حال البدن والقوة العقلية | فصل | فصل الرد على القول بأن القوة الجسمانية تتعب | فصل | فصل الرد على أن محل الإدراكات جسم | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل | فصل |