البداية والنهاية/الجزء الثالث/فصل في الأذان ومشروعيته
قال ابن إسحاق: فلما اطمأن رسول الله ﷺ بالمدينة واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين واجتمع كبائر الأنصار استحكم أمر الإسلام، فقامت الصلاة وفرضت الزكاة والصيام، وقامت الحدود وفرض الحلال والحرام وتبوأ الإسلام بين أظهرهم وكان هذا الحي من الأنصار هم الذين تبوؤا الدار والإيمان.
وقد كان رسول الله ﷺ حين قدمها إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها بغير دعوة، فهمَّ رسول الله ﷺ أن يجعل بوقا كبوق يهود الذي يدعون به لصلاتهم، ثم كرهه، ثم أمر بالناقوس فنحت ليضرب به المسلمين للصلاة، فبينا هم على ذلك رأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه أخو بلحارث بن الخزرج، النداء، فأتى رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله: إنه طاف بي هذه الليلة طائف، مرَّ بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا في يده، فقلت: يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس؟
فقال: وما تصنع به؟
قال: قلت: ندعو به إلى الصلاة.
قال: ألا أدلك على خير من ذلك؟
قلت: وما هو؟
قال: تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله.
فلما أخبر بها رسول الله ﷺ قال: «إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فالقها عليه، فليؤذن بها فإنه أندى صوتا منك».
فلما أذن بها بلال سمعه عمر بن الخطاب وهو في بيته، فخرج إلى رسول الله ﷺ وهو يجر رداءه وهو يقول: يا نبي الله والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى.
فقال رسول الله ﷺ: «فلله الحمد على ذلك».
قال ابن إسحاق: فحدثني بهذا الحديث محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن محمد بن عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه، عن أبيه.
وقد روى هذا الحديث أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة من طرق عن محمد بن إسحاق به، وصححه الترمذي وابن خزيمة وغيرهما.
وعند أبي داود أنه علَّمه الإقامة قال: ثم تقول إذا أقمت الصلاة:
الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله.
وقد روى ابن ماجه هذا الحديث: عن أبي عبيد محمد بن عبيد بن ميمون، عن محمد بن سلمة الحراني، عن ابن إسحاق كما تقدم.
ثم قال: قال أبو عبيد: وأخبرني أبو بكر الحكمي أن عبد الله بن زيد الأنصاري قال في ذلك:
الحمد لله ذي الجلال وذي الإ * كرام حمدا على الأذان كبيرا
إذ أتاني به البشير من اللـ * ـه فأكرم به لدي بشيرا
في ليال والى بهن ثلاث * كلما جاء زادني توقيرا
قلت: وهذا الشعر غريب وهو يقتضي أنه رأى ذلك ثلاث ليال حتى أخبر به رسول الله ﷺ فالله أعلم.
ورواه الإمام أحمد من حديث محمد بن إسحاق قال: وذكر الزهري عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن زيد به نحو رواية ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي ولم يذكر الشعر.
وقال ابن ماجه: حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله الواسطي، ثنا أبي عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أن رسول الله ﷺ استشار الناس لما يهمهم من الصلاة، فذكروا البوق فكرهه من أجل اليهود، ثم ذكروا الناقوس فكرهه من أجل النصارى.
فأري النداء تلك الليل رجل من الأنصار يقال له عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب، فطرق الأنصاري رسول الله ﷺ ليلا فأمر رسول الله ﷺ بلالا فأذن به.
قال الزهري: وزاد بلال في نداء صلاة الغداة، الصلاة خير من النوم مرتين، فأقرها رسول الله ﷺ.
فقال عمر: يا رسول الله رأيت مثل الذي رأى ولكنه سبقني، وسيأتي تحرير هذا الفصل في باب الأذان من كتاب (الأحكام الكبير) إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
فأما الحديث الذي أورده السهيلي بسنده من طريق البزار: حدثنا محمد بن عثمان بن مخلد، ثنا أبي عن زياد بن المنذر، عن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب فذكر حديث الإسراء.
وفيه: فخرج ملك من وراء الحجاب فأذن بهذا الأذان وكلما قال كلمة صدقه الله تعالى، ثم أخذ الملك بيد محمد ﷺ فقدمه فأمَّ بأهل السماء وفيهم آدم ونوح.
ثم قال السهيلي: وأخلق بهذا الحديث أن يكون صحيحا لما يعضده ويشاكله من حديث الإسراء.
فهذا الحديث ليس كما زعم السهيلي أنه صحيح بل هو منكر تفرد به زياد بن المنذر أبو الجارود الذي تنسب إليه الفرقة الجارودية وهو من المتهمين، ثم لو كان هذا قد سمعه رسول الله ﷺ ليلة الإسراء لأوشك أن يأمر به بعد الهجرة في الدعوة إلى الصلاة والله أعلم.
قال ابن هشام: وذكر ابن جريج قال: قال لي عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: ائتمر النبي ﷺ وأصحابه بالناقوس للاجتماع للصلاة، فبينا عمر بن الخطاب يريد أن يشتري خشبتين للناقوس إذ رأى عمر في المنام: لا تجعلوا الناقوس بل أذنوا للصلاة.
فذهب عمر إلى النبي ﷺ ليخبره بما رأى وقد جاء النبي ﷺ الوحي بذلك فما راع عمر إلا بلال يؤذن.
فقال رسول الله ﷺ حين أخبره بذلك: «قد سبقك بذلك الوحي».
وهذا يدل على أنه قد جاء الوحي بتقرير ما رآه عبد الله بن زيد بن عبد ربه كما صرح به بعضهم والله تعالى أعلم.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن امرأة من بني النجار قالت: كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، فكان بلال يؤذن عليه للفجر كل غداة، فيأتي بسحر، فيجلس على البيت ينتظر الفجر، فإذا رآه تمطى، ثم قال: اللهم أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك.
قالت: ثم يؤذن، قالت: والله ما علمته كان تركها ليلة واحدة - يعني: هذه الكلمات - ورواه أبو داود من حديثه منفردا به.