البداية والنهاية/الجزء الثالث/غزوة بدر العظمى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان
قال الله تعالى: { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [آل عمران: 123] .
وقال الله تعالى: { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } [الأنفال: 5-8] وما بعدها إلى تمام القصة من سورة الأنفال وقد تكلمنا عليها هنالك وسنورد هاهنا في كل موضع ما يناسبه.
قال ابن إسحاق - رحمه الله - بعد ذكره سرية عبد الله بن جحش: ثم إن رسول الله ﷺ سمع بأبي سفيان صخر بن حرب مقبلا من الشام في عير لقريش عظيمة فيها أموال وتجارة، وفيها ثلاثون رجلا - أو أربعون - منهم: مخرمة بن نوفل، وعمرو بن العاص.
قال موسى بن عقبة: عن الزهري: كان ذلك بعد مقتل ابن الحضرمي بشهرين، قال: وكان في العير ألف بعير تحمل أموال قريش بأسرها إلا حويطب بن عبد العزى فلهذا تخلف عن بدر.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن مسلم بن شهاب، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا، عن ابن عباس، كل قد حدثني بعض الحديث فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر.
قالوا: لما سمع رسول الله ﷺ بأبي سفيان مقبلا من الشام ندب المسلمين إليهم وقال: «هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها»، فانتدب الناس فخفف بعضهم وثقل بعض، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله ﷺ يلقى حربا، وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسس من لقي من الركبان تخوفا على أموال الناس حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك.
فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة.
قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم عن عكرمة، عن ابن عباس، ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير.
قالا: وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم إلى مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له: يا أخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة فاكتم عليّ ما أحدثك، قال لها: وما رأيت؟
قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير له، حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلا صوته: ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث، فأرى الناس اجتمعوا إليه.
ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بمثلها: إلا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث.
ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار إلا دخلتها منها فلقة.
قال العباس: والله إن هذه لرؤيا، وأنت فاكتميها لا تذكريها لأحد، ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة - وكان له صديقا - فذكرها له واستكتمه إياها فذكرها الوليد لابنه عتبة ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش في أنديتها.
قال العباس: فغدوت لأطوف بالبيت وأبو جهل ابن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا، فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم فقال أبو جهل: يا بني عبد المطلب، متى حدثت فيكم هذه النبية؟
قال: قلت: وما ذاك؟
قال: تلك الرؤيا التي رأت عاتكة.
قال: قلت: وما رأت؟
قال: يا بني عبد المطلب، أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم! قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه
قال: انفروا في ثلاث، فسنتربص بكم هذه الثلاث فإن يك حقا ما تقول فسيكون، وإن تمض ثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب.
قال العباس: فوالله ما كان مني إليه كبير شيء إلا أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئا.
قال: ثم تفرقنا فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني، فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع، ثم لم يكن عندك غيرة لشيء مما سمعت؟
قال: قلت: قد والله فعلت ما كان مني إليه من كبير، وأيم الله لأتعرضن له، فإذا عاد لأكفيكنه.
قال: فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب أرى أني قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه.
قال: فدخلت المسجد فرأيته فوالله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به، وكان رجلا خفيفا حديد الوجه، حديد اللسان، حديد النظر، قال: إذ خرج نحو باب المسجد يشتد، قال:
قلت في نفسي: ماله - لعنه الله - أكل هذا فرق مني أن أشاتمه؟!
وإذا هو قد سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره قد جدع بعيره، وحول رحله وشق قميصه وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها الغوث الغوث.
قال: فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر فتجهز الناس سراعا وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟ كلا والله ليعلمن غير ذلك.
وذكر موسى بن عقبة رؤيا عاتكة كنحو من سياق ابن إسحاق.
قال: فلما جاء ضمضم بن عمرو على تلك الصفة خافوا من رؤيا عاتكة فخرجوا على الصعب والذلول.
قال ابن إسحاق: فكانوا بين رجلين إما خارج وإما باعث مكانه رجلا، وأوعبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد إلا أن أبا لهب ابن عبد المطلب بعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة استأجره بأربعة آلاف درهم كانت له عليه قد أفلس بها.
قال ابن إسحاق: وحدثني ابن أبي نجيح: أن أمية بن خلف كان قد أجمع القعود وكان شيخا جليلا جسيما ثقيلا، فأتاه عقبة بن أبي معيط وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه بمجمرة يحملها، فيها نار ومجمر، حتى وضعها بين يديه ثم قال: يا أبا علي، استجمر فإنما أنت من النساء.
قال: قبحك الله وقبح ما جئت به.
قال: ثم تجهز وخرج مع الناس هكذا قال ابن إسحاق في هذه القصة.
وقد رواها البخاري على نحو آخر فقال: حدثني أحمد بن عثمان، حدثنا شريح بن مسلمة، ثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق، حدثني عمرو بن ميمون: أنه سمع عبد الله بن مسعود حدث عن سعد بن معاذ: أنه كان صديقا لأمية بن خلف وكان أمية إذا مرَّ بالمدينة نزل على سعد بن معاذ، وكان سعد إذا مرَّ بمكة نزل على أمية، فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة انطلق سعد بن معاذ معتمرا فنزل على أمية بمكة.
قال سعد لأمية: أنظر لي ساعة خلوة لعلي أطوف بالبيت، فخرج به قريبا من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل، فقال: يا أبا صفوان، من هذا معك؟
قال: هذا سعد.
قال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمنا وقد أويتم الصباة وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما.
فقال له سعد - ورفع صوته عليه -: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه طريقك على المدينة.
فقال له أمية: لا ترفع صوتك يا سعد على أبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي.
قال سعد: دعنا عنك يا أمية فوالله لقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنهم قاتلوك».
قال: بمكة؟
قال: لا أدري.
ففزع لذلك أمية فزعا شديدا فلما رجع إلى أهله قال: يا أم صفوان، ألم تري ما قال لي سعد؟
قالت: وما قال لك؟
قال: زعم أن محمدا أخبرهم أنهم قاتلي.
فقلت له: بمكة؟
قال: لا أدري.
فقال أمية: والله لا أخرج من مكة.
فلما كان يوم بدر استنفر أبو جهل الناس فقال: أدركوا عيركم، فكره أمية أن يخرج فأتاه أبو جهل فقال: يا أبا صفوان، إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد أهل الوادي تخلفوا معك، فلم يزل به أبو جهل حتى قال: أما إذ عبتني فوالله لأشترين أجود بعير بمكة.
ثم قال أمية: يا أم صفوان، جهزيني.
فقالت له: يا أبا صفوان وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي؟
قال: لا، وما أريد أن أجوز معهم إلا قريبا.
فلما خرج أمية أخذ لا ينزل منزلا إلا عقل بعيره فلم يزل كذلك حتى قتله الله ببدر.
وقد رواه البخاري في موضع آخر، عن محمد بن إسحاق، عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق به نحوه.
تفرد به البخاري.
وقد رواه الإمام أحمد: عن خلف بن الوليد، وعن أبي سعيد، كلاهما عن إسرائيل.
وفي رواية إسرائيل قالت له امرأته: والله إن محمدا لا يكذب.
قال ابن إسحاق: ولما فرغوا من جهازهم وأجمعوا المسير، ذكروا ما كانوا بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة من الحرب.
فقالوا: إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا، وكانت الحرب التي كانت بين قريش وبين بني بكر في ابن لحفص بن الأخيف من بني عامر بن لؤي قتله رجل من بني بكر بإشارة عامر بن يزيد بن عامر بن الملوح.
ثم أخذ بثأره أخوه مكرز بن حفص فقتل عامرا وخاض بسيفه في بطنه، ثم جاء الليل فعلقه بأستار الكعبة فخافوهم بسبب ذلك الذي وقع بينهم.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر فكاد ذلك أن يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي وكان من أشراف بني كنانة.
فقال: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه، فخرجوا سراعا.
قلت: وهذا معنى قوله تعالى: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [الأنفال:47-48] .
غرَّهم - لعنه الله - حتى ساروا وسار معهم منزلة منزلة ومعه جنوده وراياته كما قاله غير واحد منهم، فأسلمهم لمصارعهم.
فلما رأى الجد والملائكة تنزل للنصر وعاين جبريل نكص على عقبيه وقال: إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله.
وهذا كقوله تعالى: { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } [الحشر:16] .
وقد قال الله تعالى: { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقا } [الإسراء:81] .
فإبليس - لعنه الله - لما عاين الملائكة يومئذٍ تنزل للنصر فرَّ ذاهبا، فكان أول من هزم يومئذٍ بعد أن كان هو المشجع لهم المجير لهم كما غرهم ووعدهم ومناهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا.
وقال يونس: عن ابن إسحاق: خرجت قريش على الصعب والذلول في تسعمائة وخمسين مقاتلا، معهم مائتا فرس يقودونها، ومعهم القيان يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين.
وذكر المطعمين لقريش يوما يوما، وذكر الأموي: أن أول من نحر لهم حين خرجوا من مكة أبو جهل نحر لهم عشرا، ثم نحر لهم أمية بن خلف بعسفان تسعا، ونحر لهم سهيل بن عمرو بقديد عشرا، ومالوا من قديد إلى مياه نحو البحر فظلوا فيها وأقاموا بها يوما فنحر لهم شيبة بن ربيعة تسعا.
ثم أصبحوا بالجحفة فنحر لهم يومئذٍ عتبة بن ربيعة عشرا، ثم أصبحوا بالأبواء فنحر لهم نبيه ومنبه ابنا الحجاج عشرا، ونحر لهم العباس بن عبد المطلب عشرا، ونحر لهم الحارث بم عامر بن نوفل تسعا، ونحر لهم على ماء بدر أبو البختري عشرا، ونحر لهم مقبس الجمحي على ماء بدر تسعا، ثم أكلوا من أزوادهم.
قال الأموي: حدثنا أبي، حدثنا أبو بكر الهذلي قال: كان مع المشركين ستون فرسا وستمائة درع، وكان مع رسول الله ﷺ فرسان وستون درعا.
هذا ما كان من أمر هؤلاء في نفيرهم من مكة ومسيرهم إلى بدر.
وأما رسول الله ﷺ فقال ابن إسحاق: وخرج رسول الله ﷺ في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس، ورد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير وكان أبيض، وبين يدي رسول الله ﷺ رايتان سوداوان:
إحداهما مع علي بن أبي طالب يقال لها: العقاب، والأخرى مع بعض الأنصار.
قال ابن هشام: كانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ.
وقال الأموي: كانت مع الحباب بن المنذر.
قال ابن إسحاق: وجعل رسول الله ﷺ على الساقة قيس بن أبي صعصعة أخا بني مازن بن النجار.
وقال الأموي: وكان معهم فرسان:
على إحداهما مصعب بن عمير، وعلى الأخرى الزبير بن العوام، ومن سعد بن خيثمة ومن المقداد بن الأسود.
وقد روى الإمام أحمد: من حديث أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد.
وروى البيهقي: من طريق ابن وهب، عن أبي صخر، عن أبي معاوية البلخي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن عليا قال له: ما كان معنا إلا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد ابن الأسود - يعني: يوم بدر -.
وقال الأموي: حدثنا أبي، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن التيمي قال: كان مع رسول الله ﷺ يوم بدر فارسان: الزبير بن العوام على الميمنة، والمقداد بن الأسود على الميسرة.
قال ابن إسحاق: وكان معهم سبعون بعيرا يعتقبونها، فكان رسول الله ﷺ وعلي ومرثد بن أبي مرثد يعتقبون بعيرا، وكان حمزة وزيد بن حارثة وأبو كبشة وأنسة يعتقبون بعيرا.
كذا قال ابن إسحاق رحمه الله تعالى.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، عن حماد بن سلمة، حدثنا عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود.
قال: كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، كان أبو لبابة وعلي زميل رسول الله ﷺ.
قال: فكانت عقبة رسول الله ﷺ فقالا: نحن نمشي عنك.
فقال: «ما أنتما بأقوى مني ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما».
وقد رواه النسائي، عن الفلاس، عن ابن مهدي، عن حماد بن سلمة به.
قلت: ولعل هذا كان قبل أن يرد أبا لبابة من الروحاء، ثم كان زميلاه على مرثد بدل أبي لبابة والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن زرارة بن أبي أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة: أن رسول الله ﷺ أمر بالأجراس أن تقطع من أعناق الإبل يوم بدر، وهذا على شرط الصحيحين.
وإنما رواه النسائي، عن أبي الأشعث، عن خالد بن الحارث، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة به.
قال شيخنا الحافظ المزي في (الأطراف): وتابعه سعيد بن بشر، عن قتادة.
وقد رواه هشام، عن زرارة، عن أبي هريرة فالله أعلم.
وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك: أن عبد الله بن كعب قال: سمعت كعب بن مالك يقول: لم أتخلف عن رسول الله ﷺ في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني تخلفت عن غزوة بدر ولم يعاتب الله أحدا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله ﷺ يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، تفرد به.
قال ابن إسحاق: فسلك رسول الله ﷺ طريقه من المدينة إلى مكة، على نقب المدينة، ثم على العقيق، ثم على ذي الحليفة، ثم على أولات الجيش، ثم مرَّ على تربان، ثم على ملل، ثم على غميس الحمام، ثم على صخيرات اليمامة، ثم على السيالة، ثم على فج الروحاء، ثم على شنوكة، وهي الطريق المعتدلة حتى إذا كان بعرق الظبية لقي رجلا من الأعراب، فسألوه عن الناس، فلم يجدوا عنده خبرا.
فقال له الناس: سلِّم على رسول الله ﷺ.
قال: أوفيكم رسول الله ﷺ؟
قالوا: نعم!
فسلَّم عليه ثم قال: لئن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه.
قال له سلمة بن سلامة بن وقش: لا تسأل رسول الله، وأقبل علي فأنا أخبرك عن ذلك نزوت عليها ففي بطنها منك سخلة.
فقال رسول الله ﷺ: «مه، أفخشت على الرجل».
ثم أعرض عن سلمة، ونزل رسول الله سجسج، وهي بئر الروحاء، ثم ارتحل منها حتى إذا كان منها بالمنصرف ترك طريق مكة بيسار، وسلك ذات اليمين على النازية يريد بدرا، فسلك في ناحية منها حتى إذا جزع واديا يقال له: وحقان بين النازية وبين مضيق الصفراء ثم على المضيق ثم انصب منه حتى إذا كان قريبا من الصفراء بعث بسبس بن عمرو الجهني حليف بني ساعدة، وعدي ابن أبي الزغباء حليف بني النجار إلى بدر يتجسسان الأخبار عن أبي سفيان صخر بن حرب وعيره.
وقال موسى بن عقبة: بعثهما قبل أن يخرج من المدينة فلما رجعا فأخبراه بخبر العير استنفر الناس إليها فإن كان ما ذكره موسى بن عقبة وابن إسحاق محفوظا فقد بعثهما مرتين والله أعلم.
قال ابن إسحاق - رحمه الله -: ثم ارتحل رسول الله ﷺ وقد قدمهما فلما استقبل الصفراء وهي قرية بين جبلين سأل عن جبليها ما أسماؤهما؟
فقالوا: يقال لأحدهما: مسلح، وللآخر: مخرئ، وسأل عن أهلهما؟
فقيل: بنو النار، وبنو حراق، بطنان من غفار.
فكرههما رسول الله ﷺ والمرور بينهما وتفاءل بأسمائهما وأسماء أهلهما فتركهما والصفراء بيسار وسلك ذات اليمين على واد، يقال له: ذفران فجزع فيه، ثم نزل وأتاه الخبر عن قريش ومسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس، وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن.
ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.
فقال له رسول الله ﷺ خير ودعا له.
ثم قال رسول الله ﷺ: «أشيروا علي أيها الناس».
وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله، إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا.
فكان رسول الله ﷺ يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم.
فلما قال ذلك رسول الله ﷺ، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟
قال: «أجل».
قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء.
لعل الله يريك منا ما تقرُّ به عينك، فسر على بركة الله.
قال: فسرَّ رسول الله ﷺ بقول سعد ونشطه ثم قال: «سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم».
هكذا رواه ابن إسحاق - رحمه الله - وله شواهد من وجوه كثيرة فمن ذلك ما رواه البخاري في (صحيحه):حدثنا أبو نعيم، حدثنا إسرائيل، عن مخارق، عن طارق بن شهاب قال: سمعت ابن مسعود يقول: شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا لأن أكون صاحبه كان أحب إلي مما عدل به، أتى النبي ﷺ وهو يدعو على المشركين فقال: لا نقول كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك.
قال: فرأيت النبي ﷺ أشرق وجهه لذلك وسره.
انفرد به البخاري دون مسلم فرواه في مواضع من (صحيحه) من حديث مخارق به.
ورواه النسائي من حديثه وعنده: وجاء المقداد بن الأسود يوم بدر على فرس فذكره.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبيدة - هو ابن حميد - عن حميد الطويل، عن أنس قال: استشار النبي ﷺ مخرجه إلى بدر فأشار عليه أبو بكر، ثم استشارهم فأشار عليه عمر، ثم استشارهم فقال بعض الأنصار: إياكم يريد رسول الله يا معشر الأنصار.
فقال بعض الأنصار: يا رسول الله، إذا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن والذي بعثك بالحق لو ضربت أكبادها إلى برك الغماد لاتبعناك.
وهذا إسناد ثلاثي صحيح على شرط الصحيح.
وقال أحمد أيضا: حدثنا عفان، ثنا حماد، عن ثابت، عن أنس بن مالك: أن رسول الله ﷺ شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقال: سعد بن عبادة إيانا يريد رسول الله ﷺ والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحار لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا.
فندب رسول الله ﷺ الناس.
قال: «فانطلقوا حتى نزلوا بدرا»، ووردت عليهم روايا قريش وفيهم غلام أسود لبني الحجاج فأخذوه وكان أصحاب رسول الله ﷺ يسألونه عن أبي سفيان وأصحابه فيقول: ما لي علم بأبي سفيان ولكن هذا أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف فإذا قال ذلك ضربوه فإذا ضربوه.
قال: نعم! أنا أخبركم هذا أبو سفيان فإذا تركوه فسألوه قال: مالي بأبي سفيان علم ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية، فإذا قال هذا أيضا ضربوه ورسول الله ﷺ قائم يصلي، فلما رأى ذلك انصرف فقال: «والذي نفسي بيده إنكم لتضربونه إذا صدق وتتركونه إذا كذبكم».
قال: وقال رسول الله ﷺ: «هذا مصرع فلان يضع يده على الأرض ههنا وههنا»، فما أماط أحدهم عن موضع يد رسول الله ﷺ.
ورواه مسلم عن أبي بكر عن عفان به نحوه.
وقد روى ابن أبي حاتم في تفسيره وابن مردويه - واللفظ له - من طريق عبد الله بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم عن أبي عمران أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول:
قال رسول الله ﷺ ونحن بالمدينة: «إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله يغنمناها؟».
فقلنا: نعم!
فخرج وخرجنا فلما سرنا يوما أو يومين قال لنا: «ما ترون في القوم فإنهم قد أخبروا بمخرجكم؟».
فقلنا: لا والله ما لنا طاقة بقتال القوم ولكنا أردنا العير
ثم قال: «ما ترون في قتال القوم؟».
فقلنا مثل ذلك.
فقام المقداد بن عمرو فقال: إذا لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون.
قال: فتمنينا معشر الأنصار لو أنا قلنا مثل ما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم فأنزل الله عز وجل على رسوله: { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } [الأنفال: 5] وذكر تمام الحديث.
وروى ابن مردويه أيضا من طريق محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، عن أبيه، عن جده.
قال: خرج رسول الله ﷺ إلى بدر حتى إذا كان بالروحاء خطب الناس فقال: «كيف ترون؟».
فقال أبو بكر: يا رسول الله بلغنا أنهم بكذا وكذا.
قال: ثم خطب الناس فقال: «كيف ترون؟».
فقال عمر مثل قول أبي بكر.
ثم خطب الناس فقال: «كيف ترون؟».
فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله إيانا تريد؟ فو الذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط ولا لي بها علم، ولئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن لنسيرن معك ولا نكون كالذين قالوا لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم متبعون، ولعل أن تكون خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره فانظر الذي أحدث الله إليك فامض فصل حبال من شئت واقطع حبال من شئت وعاد من شئت وسالم من شئت وخذ من أموالنا ما شئت.
فنزل القرآن على قول سعد: { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } [الأنفال: 5] الآيات.
وذكره الأموي في (مغازيه) وزاد بعد قوله: وخذ من أموالنا ما شئت وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت به من أمر فأمرنا تبع لأمرك فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك..
قال ابن إسحاق: ثم ارتحل رسول الله ﷺ من ذفران فسلك على ثنايا يقال لها الأصافر، ثم انحط منها إلى بلد يقال له الدية وترك الحنان بيمين وهو كثيب عظيم كالجبل العظيم، ثم نزل قريبا من بدر فركب هو ورجل من أصحابه.
قال ابن هشام: هو أبو بكر.
قال ابن إسحاق: - كما حدثني محمد بن يحيى بن حبان - حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش، وعن محمد وأصحابه، وما بلغه عنهم.
فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟
فقال له رسول الله ﷺ: «إذا أخبرتنا أخبرناك».
فقال: أو ذاك بذاك؟
قال: «نعم!».
قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به رسول الله ﷺ وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي به قريش، فلما فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟
فقال له رسول الله ﷺ: «نحن من ماء» ثم انصرف عنه.
قال: يقول الشيخ: ما من ماء أمن ماء العراق؟
قال ابن هشام: يقال لهذا الشيخ: سفيان الضمري.
قال ابن إسحاق: ثم رجع رسول الله ﷺ إلى أصحابه فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له كما حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير فأصابوا راوية لقريش فيها أسلم غلامي بني الحجاج وعريض أبو يسار غلام بني العاص ابن سعيد، فأتوا بهما فسألوهما، ورسول الله ﷺ قائم يصلي.
فقالوا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما، فلما أذلقوهما قالا: نحن لأبي سفيان فتركوهما، وركع رسول الله ﷺ وسجد سجدتيه وسلم.
وقال: «إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا والله إنهما لقريش، أخبراني عن قريش؟».
قالا: هم والله وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى، والكثيب العقنقل.
فقال لهما رسول الله ﷺ: «كم القوم؟».
قالا: كثير.
قال: «ما عدتهم؟».
قالا: لا ندري.
قال: «كم ينحرون كل يوم؟».
قالا: يوما تسعا ويوما عشرا.
فقال رسول الله ﷺ: «القوم ما بين التسعمائة إلى الألف».
ثم قال لهما: «فمن فيهم من أشراف قريش؟».
قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبدود.
قال: فأقبل رسول الله ﷺ على الناس
فقال: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها».
قال ابن إسحاق: وكان بسبس بن عمرو، وعدي بن أبي الزغباء قد مضيا حتى نزلا بدرا فأناخا إلى تل قريب من الماء، ثم أخذا شنا لهما يستقيان فيه.
ومجدي بن عمرو الجهني على الماء، فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري الحاضر وهما يتلازمان على الماء والملزومة تقول لصاحبتها: إنما تأتي العير غدا أو بعد غد فاعمل لهم، ثم أقضيك الذي لك.
قال مجدي: صدقت ثم خلص بينهما.
وسمع ذلك عدي وبسبس فجلسا على بعيريهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله ﷺ وأخبراه بما سمعا، وأقبل أبو سفيان حتى تقدم العير حذرا حتى ورد الماء.
فقال لمجدي بن عمرو: هل أحسست أحدا؟
قال: ما رأيت أحدا أنكره، إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما، ثم انطلقا.
فأتى أبو سفيان مناخهما فأخذ من أبعار بعيريهما ففته فإذا فيه النوى.
فقال: هذه والله علائف يثرب فرجع إلى أصحابه سريعا فضرب وجه عيره عن الطريق فساحل بها وترك بدرا بيسار وانطلق حتى أسرع.
وأقبلت قريش، فلما نزلوا الجحفة رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة ابن المطلب بن عبد مناف رؤيا.
فقال: إني رأيت فيما يرى النائم، وإني لبين النائم واليقظان إذ نظرت إلى رجل قد أقبل على فرس حتى وقف، ومعه بعير له.
ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وفلان وفلان فعد رجالا ممن قتل يوم بدر من أشراف قريش، ثم رأيته ضرب في لبة بعيره، ثم أرسله في العسكر فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه فبلغت أبا جهل - لعنه الله - فقال: هذا أيضا نبي آخر من بني المطلب سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا.
قال ابن إسحاق: ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره، أرسل إلى قريش: أنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم فقد نجاها الله فارجعوا.
فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرا وكان بدر موسما من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كل عام فنقيم عليه ثلاثا، فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا فامضوا.
وقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي - وكان حليفا لبني زهرة - وهم بالجحفة: يا بني زهرة قد نجى الله لكم أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بها جبنها وارجعوا فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة لا ما يقول هذا.
قال: فرجعوا فلم يشهدها زهري واحد، أطاعوه وكان فيهم مطاعا ولم يكن بقي بطن من قريش إلا وقد نفر منهم ناس إلا بني عدي لم يخرج منهم رجل واحد، فرجعت بنو زهرة مع الأخنس فلم يشهد بدرا من هاتين القبيلتين أحد.
قال: ومضى القوم وكان بين طالب بن أبي طالب - وكان في القوم - وبين بعض قريش محاورة.
فقالوا: والله قد عرفنا يا بني هاشم - وإن خرجتم معنا - أن هواكم مع محمد، فرجع طالب إلى مكة مع من رجع، وقال في ذلك:
لا هُمَّ إما يغزوَنَّ طالب * في عصبة محالفٍ محارب
في مقنبٍ من هذا المقانب * فليكن المسلوب غير السالب
وليكن المغلوب غير الغالب
قال ابن إسحاق: ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي، خلف العقنقل وبطن الوادي وهو يليل، بين بدر وبين العقنقل، الكثيب الذي خلفه قريش، والقليب ببدر في العدوة الدنيا من بطن يليل إلى المدينة.
قلت: وفي هذا
قال تعالى: { إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ } أي: من ناحية الساحل { وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرا كَانَ مَفْعُولا } الآيات [الأنفال: 42] .
وبعث الله السماء وكان الوادي دهسا، فأصاب رسول الله ﷺ وأصحابه منها ماء لبَّد لهم الأرض ولم يمنعهم من السير، وأصاب قريشا منها ماء لم يقدروا على أن يرتحلوا معه.
قلت: وفي هذا قوله تعالى: { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ } [الأنفال: 11] .
فذكر أنه طهرهم ظاهرا وباطنا، وأنه ثبَّت أقدامهم وشجع قلوبهم وأذهب عنهم تخذيل الشيطان وتخويفه للنفوس ووسوسته الخواطر، وهذا تثبيت الباطن والظاهر وأنزل النصر عليهم من فوقهم في قوله: { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ } [الأنفال: 12] أي: على الرؤوس { وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } أي: لئلا يستمسك منهم السلاح { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [الأنفال: 13] .
قال ابن جرير: حدثني هارون بن إسحاق، ثنا مصعب بن المقدام، ثنا إسرائيل، ثنا إسحاق، عن حارثة، عن علي بن أبي طالب.
قال: أصابنا من الليل طش من المطر - يعني: الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر - فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله ﷺ - يعني: قائما يصلي - وحرض على القتال.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي.
قال: ما كان فينا فارس يوم بدر إلا المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله ﷺ تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح، وسيأتي هذا الحديث مطولا.
ورواه النسائي، عن بندار، عن غندر، عن شعبة به: وقال مجاهد: أنزل عليهم المطر فأطفأ به الغبار وتلبدت به الأرض وطابت به أنفسهم وثبتت به أقدامهم.
قلت: وكانت ليلة بدر ليلة الجمعة السابعة عشر من شهر رمضان سنة ثنتين من الهجرة، وقد بات رسول الله ﷺ تلك الليلة يصلي إلى جذم شجرة هناك، ويكثر في سجوده أن يقول: «يا حي يا قيوم» يكرر ذلك ويلظ به عليه السلام.
قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله ﷺ يبادرهم إلى الماء حتى جاء أدنى ماء من بدر نزل به.
قال ابن إسحاق: فحدثت عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب بن منذر بن الجموح.
قال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟
قال: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة».
قال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل فأمض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.
فقال رسول الله ﷺ: «لقد أشرت بالرأي».
قال الأموي: حدثنا أبي قال: وزعم الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس.
قال: بينا رسول الله ﷺ يجمع الأقماص وجبريل عن يمينه إذ أتاه ملك من الملائكة.
فقال: يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام.
فقال رسول الله ﷺ: «هو السلام ومنه السلام وإليه السلام».
فقال الملك: إن الله يقول لك أن الأمر هو الذي أمرك به الحباب ابن المنذر.
فقال رسول الله ﷺ: «يا جبريل هل تعرف هذا؟».
فقال: ما كل أهل السماء أعرف وإنه لصادق وما هو بشيطان.
فنهض رسول الله ﷺ ومن معه من الناس فسار حتى أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب فعورت، وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه فملئ ماء ثم قذفوا فيه الآنية.
وذكر بعضهم: أن الحباب بن المنذر لما أشار بما أشار به على رسول الله ﷺ نزل ملك من السماء وجبريل عند النبي ﷺ.
فقال الملك: يا محمد ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك إن الرأي ما أشار به الحباب، فنظر رسول الله ﷺ إلى جبريل.
فقال: «ليس كل الملائكة أعرفهم وأنه ملك وليس بشيطان».
وذكر الأموي: أنهم نزلوا على القليب الذي يلي المشركين نصف الليل وأنهم نزلوا فيه واستقوا منه وملؤا الحياض حتى أصبحت ملاء وليس للمشركين ماء.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث: أن سعد ابن معاذ.
قال: يا نبي الله ألا نبني لك عريشا تكون فيه ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حبا لك منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم ويناصحونك ويجاهدون معك.
فأثنى عليه رسول الله ﷺ خيرا ودعا له بخير، ثم بني لرسول الله ﷺ عريش كان فيه.
قال ابن إسحاق: وقد ارتحلت قريش حين أصبحت فأقبلت، فلما رآها رسول الله ﷺ تصوب من العقنقل - وهو الكثيب الذي جاؤا منه إلى الوادي - قال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني اللهم أحنهم الغداة».
وقد قال: رسول الله ﷺ - وقد رأى عتبة بن ربيعة في القوم وهو على جمل له أحمر- «إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر» إن يطيعوه يرشدوا قال: وقد كان خفاف بن إيماء بن رحضة أو أبوه إيماء بن رحضة الغفاري، بعث إلى قريش ابنا له بجزائر أهداها لهم.
وقال: إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا.
قال: فأرسلوا إليه مع ابنه أن وصلتك رحم، وقد قضيت الذي عليك، فلعمري إن كنا إنما نقاتل الناس ما بنا ضعف عنهم، وإن كنا إنما نقاتل الله، كما يزعم محمد فما لأحد بالله من طاقة.
قال: فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله ﷺ فيهم حكيم بن حزام.
فقال رسول الله ﷺ: «دعوهم»، فما شرب منه رجل يومئذٍ إلا قتل، إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل، ثم أسلم بعد ذلك فحسن إسلامه فكان إذا اجتهد في يمينه قال: لا والذي نجاني يوم بدر.
قلت: وقد كان أصحاب رسول الله ﷺ يومئذٍ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا كما سيأتي بيان ذلك في فصل نعقده بعد الوقعة، ونذكر أسماءهم على حروف المعجم إن شاء الله.
ففي (صحيح البخاري) عن البراء.
قال: كنا نتحدث أن أصحاب بدر ثلثمائة وبضع عشرة على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، وما جاوزه معه إلا مؤمن.
وللبخاري أيضا عنه.
قال: استصغرت أنا وابن عمر يوم بدر وكان المهاجرون يوم بدر نيفا على ستين، والأنصار نيفا وأربعون ومائتان.
وروى الإمام أحمد عن نصر بن رئاب، عن حجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أنه قال: كان أهل بدر ثلثمائة وثلاثة عشر، وكان المهاجرون ستة وسبعين، وكان هزيمة أهل بدر لسبع عشرة مضين من شهر رمضان يوم الجمعة.
وقال الله تعالى: { إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ } [الأنفال: 43] الآية.
وكان ذلك في منامه تلك الليلة وقيل: إنه نام في العريش وأمر الناس أن لا يقاتلوا حتى يأذن لهم، فدنا القوم منهم فجعل الصديق يوقظه ويقول: يا رسول الله دنوا منا فاستيقظ، وقد أراه الله إياهم في منامه قليلا.
ذكره الأموي وهو غريب جدا.
وقال تعالى: { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرا كَانَ مَفْعُولا } [الأنفال: 44] .
فعند ما تقابل الفريقان قلل الله كلا منهما في أعين الآخرين ليجترئ هؤلاء على هؤلاء، وهؤلاء على هؤلاء لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وليس هذا معارض لقوله تعالى في سورة آل عمران: { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ } [آل عمران: 13] .
فإن المعنى في ذلك على أصح القولين: أن الفرقة الكافرة ترى الفرقة المؤمنة مثلي عدد الكافرة على الصحيح أيضا، وذلك عند التحام الحرب والمسابقة أوقع الله الوهن والرعب في قلوب الذين كفروا فاستدرجهم أولا بأن أراهم إياهم عند المواجهة قليلا، ثم أيد المؤمنين بنصره فجعلهم في أعين الكافرين على الضعف منهم، حتى وهنوا وضعفوا وغلبوا.
ولهذا قال: { وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ }.
قال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيد وعبد الله قال: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى أني لأقول لرجل إلى جنبي أتراهم سبعين؟
فقال: أراهم مائة.
قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم، عن أشياخ من الأنصار قالوا: لما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي فقالوا: أحزر لنا القوم أصحاب محمد، قال: فاستجال بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم.
فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا، أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد.
قال: فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا، فرجع إليهم فقال: ما رأيت شيئا، ولكن قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم، حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك فروا رأيكم يا معشر قريش؟
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس، فأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها، والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟
قال: وما ذاك يا حكيم؟
قال: ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي.
قال: قد فعلت.
أنت عليَّ بذلك، إنما هو حليفي فعليَّ عقله وما أصيب من ماله.
فأت ابن الحنطلية - يعني: أبا جهل - فإني لا أخشى أن يسجر أمر الناس غيره.
ثم قام عتبة خطيبا فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر إلى وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه - أو ابن خاله - أو رجلا من عشيرته فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذلك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون.
قال حكيم: فانطلقت حتى جئت أبا جهل، فوجدته قد نثل درعا فهو يهنئها.
فقلت له يا أبا الحكم: إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا.
فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه، فلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ما قال، ولكنه رأى محمدا وأصحابه أكلة جزور، وفيهم ابنه فقد تخوفكم عليه، ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي.
فقال: هذا حليفك يريد أن يرجع الناس، وقد رأيت ثأرك بعينك فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك.
فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ: واعمراه واعمراه.
قال: فحميت الحرب وحقب أمر الناس واستوثقوا على ما هم عليه من الشر وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة.
فلما بلغ عتبة قول أبي جهل انتفخ والله سحره.
قال: سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره أنا أم هو.
ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها في رأسه فما وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم رأسه فلما رأى ذلك اعتجر على رأسه ببرد له.
وقد روى ابن جرير: من طريق مسور بن عبد الملك اليربوعي، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب.
قال: بينا نحن عند مروان بن الحكم إذ دخل حاجبه فقال: حكيم بن حزام يستأذن، قال: ائذن له.
فلما دخل قال: مرحبا يا أبا خالد أدن، فحال عن صدر المجلس حتى جلس بينه وبين الوسادة، ثم استقبله.
فقال: حدثنا حديث بدر.
فقال: خرجنا حتى إذا كنا بالجحفة رجعت قبيلة من قبائل قريش بأسرها فلم يشهد أحد من مشركيهم بدرا، ثم خرجنا حتى نزلنا العدوة التي قال الله تعالى، فجئت عتبة بن ربيعة.
فقلت: يا أبا الوليد هل لك في أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت؟
قال: أفعل ماذا؟
قلت: إنكم لا تطلبون من محمد إلا دم ابن الحضرمي وهو حليفك، فتحمل بديته ويرجع الناس.
فقال: أنت علي بذلك وأذهب إلى ابن الحنظلية - يعني أبا جهل - فقل له: هل لك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمك؟
فجئته فإذا هو في جماعة من بين يديه ومن خلفه، وإذا ابن الحضرمي واقف على رأسه وهو يقول: فسخت عقدي من عبد شمس، وعقدي اليوم إلى بني مخزوم.
فقلت له: يقول لك عتبة بن ربيعة هل لك أن ترجع اليوم بمن معك؟
قال: أما وجد رسولا غيرك؟
قلت: لا، ولم أكن لأكون رسولا لغيره.
قال حكيم: فخرجت مبادرا إلى عتبة لئلا يفوتني من الخبر شيء وعتبة متكئ على إيماء بن رحضة الغفاري، وقد أهدى إلى المشركين عشرة جزائر، فطلع أبو جهل الشر في وجهه.
فقال لعتبة: انتفخ سحرك؟
فقال له عتبة: ستعلم.
فسلَّ أبو جهل سيفه فضرب به متن فرسه، فقال إيماء بن رحضة: بئس الفأل هذا، فعند ذلك قامت الحرب.
وقد صف رسول الله ﷺ أصحابه وعباهم أحسن تعبية، فروى الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف.
قال: صفنا رسول الله ﷺ يوم بدر ليلا.
وروى الإمام أحمد من حديث ابن لهيعة، حدثني يزيد بن أبي حبيب أن أسلم أبا عمران حدثه أنه سمع أبا أيوب يقول: صفنا رسول الله ﷺ يوم بدر فبدرت منا بادرة أمام الصف، فنظر إليهم النبي ﷺ فقال: «معي معي».
تفرد به أحمد وهذا إسناد حسن.
وقال ابن إسحاق: وحدثني حبان بن واسع بن حبان عن أشياخ من قومه: أن رسول الله ﷺ عدل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدح يعدل به القوم، فمرَّ بسواد بن غزية حليف بني عدي ابن النجار وهو مستنتل من الصف، فطعن في بطنه بالقدح وقال: «استو يا سواد».
فقال: يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل، فأقدني فكشف رسول الله ﷺ عن بطنه.
فقال: «استقد».
قال: فاعتنقه فقبل بطنه.
فقال: «ما حملك على هذا يا سواد؟».
قال: يا رسول الله، حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمسَّ جلدي جلدك، فدعا له رسول الله ﷺ بخير وقاله.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عوف بن الحارث - وهو ابن عفراء - قال: يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده؟
قال: «غمسه يده في العدو حاسرا».
فنزع درعا كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل حتى قتل رضي الله عنه.
قال ابن إسحاق: ثم عدل رسول الله ﷺ الصفوف ورجع إلى العريش فدخله ومعه أبو بكر ليس معه فيه غيره.
وقال ابن إسحاق: وغيره وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه واقفا على باب العريش متقلدا بالسيف، ومعه رجال من الأنصار يحرسون رسول الله ﷺ خوفا عليه من أن يدهمه العدو من المشركين والجنائب النجائب، مهيأة لرسول الله ﷺ إن احتاج إليها ركبها ورجع إلى المدينة كما أشار به سعد بن معاذ.
وقد روى البزار في (مسنده) من حديث محمد بن عقيل عن علي أنه خطبهم.
فقال: يا أيها الناس من أشجع الناس؟
فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين.
فقال: أما إني ما بارزني أحد إلا انتصفت منه، ولكن هو أبو بكر، إنا جعلنا لرسول الله ﷺ عريشا فقلنا من يكون مع رسول الله ﷺ لئلا يهوي إليه أحد من المشركين، فوالله ما دنا أحد إلا أبو بكر شاهرا بالسيف على رأس رسول الله ﷺ لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه فهذا أشجع الناس.
قال: ولقد رأيت رسول الله ﷺ وأخذته قريش فهذا يحاده، وهذا يتلتله ويقولون: أنت جعلت الآلهة إلها واحدا، فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب ويجاهد ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله.
ثم رفع علي بردة كانت عليه فبكى حتى أخضلت لحيته.
ثم قال: أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم هو؟
فسكت القوم، فقال علي: فوالله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه وهذا رجل أعلن إيمانه.
ثم قال البزار: لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه.
فهذه خصوصية للصديق حيث هو مع الرسول في العريش كما كان معه في الغار رضي الله عنه وأرضاه.
ورسول الله ﷺ يكثر الابتهال والتضرع والدعاء ويقول فيما يدعو به: «اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض» وجعل يهتف بربه عز وجل.
ويقول: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم نصرك» ويرفع يديه إلى السماء حتى سقط الرداء عن منكبيه.
وجعل أبو بكر رضي الله عنه يلتزمه من ورائه ويسوي عليه رداءه ويقول مشفقا عليه من كثرة الابتهال: يا رسول الله بعض مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك.
هكذا حكى السهيلي عن قاسم بن ثابت: أن الصديق إنما قال بعض مناشدتك ربك من باب الإشفاق لما رأى من نصبه في الدعاء والتضرع حتى سقط الرداء عن منكبيه فقال: بعض هذا يا رسول الله أي: لم تتعب نفسك هذا التعب والله قد وعدك بالنصر.
وكان رضي الله عنه رقيق القلب شديد الإشفاق على رسول الله ﷺ.
وحكى السهيلي عن شيخه أبي بكر بن العربي بأنه قال: كان رسول الله ﷺ في مقام الخوف والصديق في مقام الرجاء وكان مقام الخوف في هذا الوقت - يعني: أكمل - قال: لأن لله أن يفعل ما يشاء فخاف أن لا يعبد في الأرض بعدها، فخوفه ذلك عبادة.
قلت: وأما قول بعض الصوفية إن هذا المقام في مقابلة ما كان يوم الغار فهو قول مردود على قائله إذ لم يتذكر هذا القائل عور ما قال، ولا لازمه ولا ما يترتب عليه والله أعلم.
هذا وقد تواجه الفئتان وتقابل الفريقان، وحضر الخصمان بين يدي الرحمن، واستغاث بربه سيد الأنبياء، وضج الصحابة بصنوف الدعاء إلى رب الأرض والسماء سامع الدعاء وكاشف البلاء، فكان أول من قتل من المشركين الأسود بن عبد الأسد المخزومي.
قال ابن إسحاق: وكان رجلا شرسا سيء الخلق فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه.
فلما خرج خرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فاطن قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد - زعم - أن تبر يمينه واتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض.
قال الأموي: فحمى عند ذلك عتبة بن ربيعة وأراد أن يظهر شجاعته، فبرز بين أخيه شيبة وابنه الوليد، فلما توسطوا بين الصفين دعوا إلى البراز فخرج إليهم فتية من الأنصار ثلاثة هم: عوف ومعاذ ابنا الحارث، وأمهما عفراء، والثالث عبد الله بن رواحة - فيما قيل -.
فقالوا: من أنتم؟
قالوا: رهط من الأنصار.
فقالوا: ما لنا بكم من حاجة.
وفي رواية فقالوا: أكفاء كرام ولكن أخرجوا إلينا من بني عمنا، ونادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا.
فقال النبي ﷺ: «قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي».
وعند الأموي أن النفر من الأنصار لما خرجوا كره ذلك رسول الله ﷺ لأنه أول موقف واجه فيه رسول الله ﷺ أعداءه فأحب أن يكون أولئك من عشيرته فأمرهم بالرجوع وأمر أولئك الثلاثة بالخروج.
قال ابن إسحاق: فلما دنوا منهم.
قالوا: من أنتم؟ - وفي هذا دليل أنهم كانوا ملبسين لا يعرفون من السلاح -.
فقال عبيدة: عبيدة.
وقال حمزة: حمزة.
وقال علي: علي.
قالوا: نعم!! أكفاء كرام.
فبارز عبيدة وكان أسن القوم، عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد بن عتبة.
فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما بضربتين كلاهما أثبت صاحبه، وكرَّ حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه، واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابهما رضي الله عنه.
وقد ثبت في (الصحيحين): من حديث أبي مجلز، عن قيس بن عباد، عن أبي ذر: أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية: { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } [الحج: 19] نزلت في حمزة وصاحبه، وعتبة وصاحبه يوم برزوا في بدر.
هذا لفظ البخاري في تفسيرها.
وقال البخاري: حدثنا حجاج بن منهال حدثنا المعتمر بن سليمان سمعت أبي، ثنا أبو مجلز، عن قيس بن عباد، عن علي بن أبي طالب.
أنه قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن عز وجل في الخصومة يوم القيامة.
قال قيس: وفيهم نزلت: { هذان خصمان اختصموا في ربهم } قال هم الذين بارزوا يوم بدر علي، وحمزة، وعبيدة، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، تفرد به البخاري.
وقد أوسعنا الكلام عليها في التفسير بما فيه كفاية ولله الحمد والمنة.
وقال الأموي: حدثنا معاوية بن عمرو، عن أبي إسحاق، عن ابن المبارك، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله البهي.
قال: برز عتبة، وشيبة، والوليد، وبرز إليهم حمزة، وعبيدة، وعلي.
فقالوا: تكلموا نعرفكم.
فقال حمزة: أنا أسد الله وأسد رسول الله أنا حمزة بن عبد المطلب.
فقال: كفؤ كريم.
وقال علي: أنا عبد الله وأخو رسول الله.
وقال عبيدة: أنا الذي في الحلفاء.
فقام كل رجل إلى رجل فقاتلوهم فقتلهم الله.
فقالت هند في ذلك:
أعيني جودي بدمع سرب * على خير خندف لم ينقلب
تداعى له رهطه غدوة * بنو هاشم وبنو المطلب
يذيقونه حد أسيافهم * يعلونه بعد ما قد عطب
ولهذا نذرت هند أن تأكل من كبد حمزة.
قلت: وعبيدة هذا هو ابن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، ولما جاؤا به إلى رسول الله ﷺ أضجعوه إلى جانب موقف رسول الله ﷺ فأشرفه رسول الله ﷺ قدمه، فوضع خده على قدمه الشريفة وقال يا رسول الله: لو رآني أبو طالب لعلم أني أحق بقوله:
ونسلمه حتى نصرع دونه * ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ثم مات رضي الله عنه.
فقال رسول الله ﷺ: «أشهد أنك شهيد» رواه الشافعي رحمه الله.
وكان أول قتيل من المسلمين في المعركة: مهجع مولى عمر بن الخطاب رمي بسهم فقتله.
قال ابن إسحاق: فكان أول من قتل، ثم رمي بعده حارثة بن سراقة أحد بني عدي بن النجار وهو يشرب من الحوض بسهم فأصاب نحره فمات.
وثبت في (الصحيحين) عن أنس أن حارثة بن سراقة قتل يوم بدر وكان في النظارة أصابه سهم غرب فقتله، فجاءت أمه فقالت يا رسول الله: أخبرني عن حارثة فإن كان في الجنة صبرت وإلا فليرين الله ما أصنع - يعني: من النياح - وكانت لم تحرم بعد.
فقال لها رسول الله ﷺ: «ويحك أهبلت، إنها جنان ثمان وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى».
قال ابن إسحاق: ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض.
وقال: أمر رسول الله ﷺ أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم.
وقال: «إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل».
وفي (صحيح البخاري) عن أبي أسيد.
قال: قال لنا رسول الله ﷺ يوم بدر: «إذا أكثبوكم - يعني: المشركين - فارموهم واستبقوا نبلكم».
وقال البيهقي، أخبرنا الحاكم، أخبرنا الأصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن أبي إسحاق، حدثني عبد الله بن الزبير.
قال: جعل رسول الله ﷺ شعار المهاجرين يوم بدر: يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج: يا بني عبد الله، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله، وسمى خيله: خيل الله.
وقال ابن هشام: وكان شعار الصحابة يوم بدر: أحد أحد.
قال ابن إسحاق: ورسول الله ﷺ في العريش معه أبو بكر رضي الله عنه - يعني: وهو يستغيث الله عز وجل - كما قال تعالى: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [الأنفال: 9-10] .
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نوح قراد، ثنا عكرمة بن عمار، ثنا سماك الحنفي أبو زميل، حدثني ابن عباس، حدثني عمر بن الخطاب.
قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله ﷺ إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي ﷺ القبلة وعليه رداؤه وإزاره ثم قال: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد بعد في الأرض أبدا».
فما زال يستغيث بربه ويدعوه حتى سقط رداؤه.
فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرده، ثم التزمه من ورائه ثم قال يا رسول الله: كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله: { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين } وذكر تمام الحديث كما سيأتي.
وقد رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير وغيرهم من حديث عكرمة بن عمار اليماني وصححه علي ابن المديني والترمذي، وهكذا قال غير واحد عن ابن عباس والسدي وابن جرير وغيرهم أن هذه الآية نزلت في دعاء النبي ﷺ يوم بدر، وقد ذكر الأموي وغيره أن المسلمين عجوا إلى الله عز وجل في الاستغاثة بجنابه والاستعانة به وقوله تعالى: { بألف من الملائكة مردفين } أي: ردفا لكم ومددا لفئتكم رواه العوفي عن ابن عباس.
وقاله مجاهد وابن كثير، وعبد الرحمن ابن زيد وغيرهم.
وقال أبو كدينة، عن قابوس، عن ابن عباس: { مردفين } وراء كل ملك ملك.
وفي رواية عنه بهذا الإسناد: { مردفين } بعضهم على أثر بعض وكذا قال أبو ظبيان والضحاك وقتادة.
وقد روى علي بن أبي طلحة الوالبي، عن ابن عباس قال: وأمد الله نبيه والمؤمنين بألف من الملائكة، وكان جبريل في خمسمائة مجنبة، وميكائيل في خمسمائة مجنبة، وهذا هو المشهور.
ولكن قال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا إسحاق، ثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثني عبد العزيز بن عمران، عن الربعي، عن أبي الحويرث، عن محمد بن جبير، عن علي.
قال: نزل جبريل في ألف من الملائكة على ميمنة النبي ﷺ وفيهما أبو بكر، ونزل ميكائيل في ألف من الملائكة على ميسرة النبي ﷺ وأنا في الميسرة.
ورواه البيهقي في (الدلائل) من حديث محمد بن جبير عن علي فزاد: ونزل إسرافيل في ألف من الملائكة، وذكر أنه طعن يومئذٍ بالحربة حتى أختضبت إبطه من الدماء، فذكر أنه نزلت ثلاثة آلاف من الملائكة، وهذا غريب وفي إسناده ضعف ولو صح لكان فيه تقوية لما تقدم من الأقوال ويؤيدها قراءة من قرأ: { بألف من الملائكة مردفين } بفتح الدال والله أعلم.
وقال البيهقي: أخبرنا الحاكم، أخبرنا الأصم، ثنا محمد بن سنان القزاز، ثنا عبيد الله بن عبد المجيد أبو علي الحنفي، حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، أخبرني إسماعيل بن عوف بن عبد الله بن أبي رافع، عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال: لما كان يوم بدر قاتلت شيئا من قتال، ثم جئت مسرعا لأنظر إلى رسول الله ﷺ ما فعل.
قال: فجئت فإذا هو ساجد يقول: «يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم».
لا يزيد عليها فرجعت إلى القتال، ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك أيضا، فذهبت إلى القتال، ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك أيضا، حتى فتح الله على يده.
وقد رواه النسائي في (اليوم والليلة) عن بندار، عن عبيد الله بن عبد المجيد أبي علي الحنفي.
وقال الأعمش: عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله ابن مسعود.
قال: ما سمعت مناشدا ينشد حقا له أشد من مناشدة محمد ﷺ يوم بدر.
جعل يقول: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد»، ثم التفت وكأن شق وجهه القمر.
وقال: «كأني أنظر إلى مصارع القوم عشية».
رواه النسائي من حديث الأعمش به.
وقال: لما التقينا يوم بدر قام رسول الله ﷺ فما رأيت مناشدا ينشد حقا له أشد مناشدة من رسول الله ﷺ وذكره.
وقد ثبت إخباره عليه السلام بمواضع مصارع رؤس المشركين يوم بدر في (صحيح مسلم) عن أنس بن مالك كما تقدم، وسيأتي في (صحيح مسلم) أيضا عن عمر بن الخطاب.
ومقتضى حديث ابن مسعود أنه أخبر بذلك يوم الوقعة وهو مناسب، وفي الحديثين الآخرين عن أنس وعمر ما يدل على أنه أخبر بذلك قبل ذلك بيوم ولا مانع من الجمع بين ذلك بأن يخبر به قبل بيوم وأكثر، وأن يخبر به قبل ذلك بساعة يوم الوقعة والله أعلم.
وقد روى البخاري: من طرق عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال وهو في قبة له يوم بدر: «اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا».
فأخذ أبو بكر بيده وقال: حسبك يا رسول الله ألححت على ربك فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول: { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } [القمر: 45-46] وهذه الآية مكية.
وقد جاء تصديقها يوم بدر كما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، ثنا أبو الربيع الزهراني، ثنا حماد، عن أيوب، عن عكرمة.
قال: لما نزلت { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }.
قال عمر: أي جمع يهزم وأي جمع يغلب؟
قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله ﷺ يثب في الدرع وهو يقول: { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } فعرفت تأويلها يومئذٍ.
وروى البخاري من طريق ابن جريج، عن يوسف بن ماهان سمع عائشة تقول: نزل على محمد بمكة - وإني لجارية ألعب -: { بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر }.
قال ابن إسحاق: وجعل رسول الله ﷺ يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول فيما يقول: «اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد».
وأبو بكر يقول: يا نبي الله بعض مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما وعدك، وقد خفق النبي ﷺ خفقةً وهو في العريش، ثم انتبه فقال: «أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع» يعني: الغبار.
قال: ثم خرج رسول الله ﷺ إلى الناس فحرضهم.
وقال: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة».
قال عمير بن الحمام أخو بني سلمة وفي يده تمرات يأكلهن: بخٍ بخٍ أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟
قال: ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل رحمه الله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن سليمان، عن ثابت، عن أنس.
قال: بعث رسول الله ﷺ بسبسا عينا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان، فجاء وما في البيت أحد غيري وغير النبي ﷺ.
قال: لا أدري ما استثني من بعض نسائه.
قال: فحدثه الحديث.
قال: فخرج رسول الله فتكلم.
فقال: «إن لنا طلبة فمن كان ظهره حاضر فليركب معنا» فجعل رجال يستأذنونه في ظهورهم في علو المدينة.
قال: «لا إلا من كان ظهره حاضرا».
وانطلق رسول الله ﷺ وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون.
فقال رسول الله ﷺ: «لا يتقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه»، فدنا المشركون.
فقال رسول الله ﷺ: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض».
قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟
قال: «نعم!».
قال: بخٍ بخٍ؟
فقال رسول الله: «ما يحملك على قول بخٍ بخٍ؟».
قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها.
قال: «فإنك من أهلها».
قال: فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن.
ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها حياة طويلة.
قال: فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل رحمه الله.
ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وجماعة عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن سليمان بن المغيرة به، وقد ذكر ابن جرير أن عميرا قاتل وهو يقول رضي الله عنه:
ركضا إلى الله بغير زاد * إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد * وكل زاد عرضة النفاد
غير التقى والبر والرشاد
وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي.
قال: لما قدمنا المدينة أصبنا من ثمارها فاجتويناها وأصابنا بها وعك، وكان رسول الله ﷺ يتحيز عن بدر.
فلما بلغنا أن المشركين قد أقبلوا سار رسول الله ﷺ إلى بدر - وبدر بئر - فسبقنا المشركين إليها فوجدنا فيها رجلين: رجلا من قريش، ومولى لعقبة بن أبي معيط فأما القرشي فانفلت، وأما المولى فوجدناه فجعلنا نقول له كم القوم؟
فيقول: هم والله كثير عددهم شديد بأسهم.
فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه حتى انتهوا به إلى رسول الله ﷺ.
فقال له: «كم القوم؟».
قال: هم والله كثير عددهم شديد بأسهم.
فجهد النبي ﷺ أن يخبره كم هم فأبى ثم أن النبي ﷺ سأله «كم ينحرون من الجزر؟».
فقال: عشرا كل يوم.
فقال النبي ﷺ: «القوم ألف، كل جزور لمائة وتبعها».
ثم إنه أصابنا من الليل طش من مطر فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله ﷺ يدعو ربه ويقول: «اللهم إنك إن تهلك هذه الفئة لا تعبد».
فلما طلع الفجر نادى الصلاة عباد الله، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف فصلى بنا رسول الله ﷺ وحرَّض على القتال.
ثم قال: «إن جمع قريش تحت هذه الضلع الحمراء من الجبل».
فلما دنا القوم منا وصاففناهم إذا رجل منهم على جمل له أحمر يسير في القوم.
فقال رسول الله ﷺ: «يا علي ناد حمزة».
وكان أقربهم من المشركين من صاحب الجمل الأحمر فجاء حمزة، فقال: هو عتبة بن ربيعة وهو ينهى عن القتال ويقول لهم: يا قوم أعصبوها برأسي وقولوا جبن عتبة بن ربيعة، وقد علمتم أني لست بأجبنكم.
فسمع بذلك أبو جهل فقال: أنت تقول ذلك والله لو غيرك يقوله لأعضضته قد ملأت رئتك جوفك رعبا.
فقال: إياي تعير يا مصفر استه سيعلم اليوم أينا الجبان فبرز عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد حمية.
فقالوا: من يبارز؟
فخرج فتية من الأنصار مشببة.
فقال عتبة: لا نريد هؤلاء، ولكن نبارز من بني عمنا من بني عبد المطلب.
فقال رسول الله ﷺ: «قم يا حمزة، وقم يا علي، وقم يا عبيدة بن الحارث بن المطلب».
فقتل الله عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة، وجرح عبيدة فقتلنا منهم سبعين وأسرنا سبعين، وجاء رجل من الأنصار بالعباس بن عبد المطلب أسيرا.
فقال العباس: يا رسول الله والله إن هذا ما أسرني لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس أبلق ما أراه في القوم.
فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله.
فقال: «اسكت، فقد أيدك الله بملك كريم».
قال: فأسرنا من بني عبد المطلب العباس وعقيلا ونوفل بن الحارث، هذا سياق حسن وفيه شواهد لما تقدم ولما سيأتي.
وقد تفرد بطوله الإمام أحمد
وروى أبو داود بعضه من حديث إسرائيل به.
ولما نزل رسول الله ﷺ من العريش وحرَّض الناس على القتال والناس على مصافهم صابرين ذاكرين الله كثيرا كما قال الله تعالى آمرا لهم: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرا } الآية [الأنفال: 45] .
وقال الأموي: حدثنا معاوية بن عمرو، عن أبي إسحاق.
قال: قال الأوزاعي: كان يقال: قلما ثبت قوم قياما، فمن استطاع عند ذلك أن يجلس أو يغض طرفه ويذكر الله رجوت أن يسلم من الرياء.
وقال عتبة بن ربيعة يوم بدر لأصحابه: ألا ترونهم - يعني أصحاب النبي ﷺ - جثيا على الركب كأنهم حرس يتلمظون كما تتلمظ الحيات - أو قال: الأفاعي -.
قال الأموي في (مغازيه): وقد كان النبي ﷺ حين حرَّض المسلمين على القتال قد نفل كل امرئ ما أصاب.
وقال: «والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة».
وذكر قصة عمير بن الحمام كما تقدم، وقد قاتل بنفسه الكريمة قتالا شديدا ببدنه، وكذلك أبو بكر الصديق كما كانا في العريش يجاهدان بالدعاء والتضرع، ثم نزلا فحرضا وحثا على القتال وقاتلا بالأبدان جمعا بين المقامين الشريفين.
قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي.
قال: لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله ﷺ وهو أقربنا من العدو، وكان من أشد الناس يومئذٍ بأسا.
ورواه النسائي من حديث أبي إسحاق، عن حارثة، عن علي.
قال: كنا إذا حمي البأس ولقي القوم اتقينا برسول الله ﷺ.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم، حدثنا مسعر، عن أبي عون، عن أبي صالح الحنفي، عن علي.
قال: قيل لعلي ولأبي بكر رضي الله عنهما يوم بدر: مع أحدكما جبريل ومع الآخر ميكائيل، وإسرافيل ملك عظيم يشهد القتال ولا يقاتل - أو يشهد الصف - وهذا يشبه ما تقدم من الحديث أن أبا بكر كان في الميمنة ولما تنزل الملائكة يوم بدر تنزيلا كان جبريل على أحد المجنبتين في خمسمائة من الملائكة، فكان في الميمنة من ناحية أبي بكر الصديق، وكان ميكائيل على المجنبة الأخرى في خمسمائة من الملائكة فوقفوا في الميسرة وكان علي بن أبي طالب فيها.
وفي حديث رواه أبو يعلى من طريق محمد بن جبير بن مطعم، عن علي.
قال: كنت أسبح على القليب يوم بدر فجاءت ريح شديدة، ثم أخرى ثم أخرى، فنزل ميكائيل في ألف من الملائكة فوقف على يمين رسول الله ﷺ وهناك أبو بكر، وإسرافيل في ألف في الميسرة وأنا فيها، وجبريل في ألف.
قال: ولقد طفت يومئذٍ حتى بلغ إبطي.
وقد ذكر صاحب العقد وغيره أن أفخر بيت قالته العرب قول حسان بن ثابت:
وببئر بدر إذ يكف مطيهم * جبريل تحت لوائنا ومحمد
وقد قال البخاري: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا جرير، عن يحيى ابن سعيد، عن معاذ بن رفاعة ابن رافع الزرقي، عن أبيه - وكان أبوه من أهل بدر -.
قال: جاء جبريل إلى رسول الله ﷺ فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟
قال: «من أفضل المسلمين - أو كلمة نحوها -».
قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة.
انفرد به البخاري.
وقد قال الله تعالى: { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ } - يعني: الرؤس - { وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [الأنفال: 12] .
وفي (صحيح مسلم) من طريق عكرمة بن عمار، عن أبي زميل، حدثني ابن عباس.
قال: بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم إذ نظر إلى المشرك أمامه قد خرَّ مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو حطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط واخضر ذلك أجمع فجاء الأنصاري فحدث ذاك رسول الله ﷺ.
فقال: «صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة» فقتلوا يومئذٍ سبعين، وأسروا سبعين.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عمن حدثه، عن ابن عباس، عن رجل من بني غفار.
قال: حضرت أنا وابن عم لي بدرا ونحن على شركنا، وإنا لفي جبل ننتظر الوقعة على من تكون الدائرة، فأقبلت سحابة، فلما دنت من الجبل سمعنا منها حمحمة الخيل، وسمعنا قائلا يقول: أقدم حيزوم، فأما صاحبي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه، وأما أنا لكدت أن أهلك ثم انتعشت بعد ذلك.
وقال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر عن بعض بني ساعدة، عن أبي أسيد مالك بن ربيعة - وكان شهد بدرا - قال: - بعد أن ذهب بصره - لو كنت اليوم ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك فيه ولا أتمارى.
فلما نزلت الملائكة ورآها إبليس وأوحى الله إليهم: { أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا }، وتثبتهم أن الملائكة كانت تأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه فيقول له: أبشروا فإنهم ليسوا بشيء والله معكم كروا عليهم.
وقال الواقدي: حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس.
قال: كان الملك يتصور في صورة من يعرفون من الناس يثبتونهم فيقول: إني قد دنوت منهم، وسمعتهم يقولون: لو حملوا علينا ما ثبتنا، ليسوا بشيء، إلى غير ذلك من القول فذلك قوله: { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } الآية [الأنفال: 12] .
ولما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه وقال: إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون وهو في صورة سراقة.
وأقبل أبو جهل يحرِّض أصحابه ويقول: لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم، فإنه كان على موعد من محمد وأصحابه ثم قال: واللات والعزى لا نرجع حتى نفرق محمدا وأصحابه في الجبال، فلا تقتلوهم وخذوهم أخذا.
وروى البيهقي من طريق سلامة، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال:
قال أبو أسيد - بعد ما ذهب بصره -: يا ابن أخي والله لو كنت أنا وأنت ببدر ثم أطلق الله بصري لأريتك الشعب الذي خرجت علينا منه الملائكة من غير شك ولا تمار.
وروى البخاري عن إبراهيم بن موسى، عن عبد الوهاب، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال يوم بدر: «هذا جبريل آخذ برأس فرسه وعليه أداة الحرب».
وقال الواقدي: حدثنا ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، وأخبرني موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه.
وحدثني عابد بن يحيى، عن أبي الحويرث، عن عمارة بن أكيمة الليثي، عن عكرمة، عن حكيم بن حزام قالوا: لما حضر القتال ورسول الله ﷺ رافع يديه يسأل الله النصر وما وعده يقول: «اللهم إن ظهروا على هذه العصابة ظهر الشرك ولا يقوم لك دين».
وأبو بكر يقول: والله لينصرنك الله وليبيضن وجهك، فأنزل الله ألفا من الملائكة مردفين عند اكتناف العدو.
قال رسول الله ﷺ: «أبشر يا أبا بكر هذا جبريل معتجر بعمامة صفراء آخذ بعنان فرسه بين السماء والأرض»، فلما نزل إلى الأرض تغيَّب عني ساعة، ثم طلع وعلى ثناياه النقع يقول: أتاك نصر الله إذ دعوته. وروى البيهقي عن أبي أمامة بن سهل، عن أبيه.
قال: يا بني لقد رأيتنا يوم بدر وأن أحدنا ليشير إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف.
وقال ابن إسحاق: حدثني والدي، حدثني رجال من بني مازن، عن أبي واقد الليثي قال: إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه فوقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أن غيري قد قتله.
وقال يونس بن بكير، عن عيسى بن عبد الله التيمي، عن الربيع بن أنس قال: كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار وقد أحرق به.
وقال ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم عن مقسم، عن ابن عباس.
قال: كانت سيماء الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرخوها على ظهورهم إلا جبريل فإنه كانت عليه عمامة صفراء.
وقد قال ابن عباس: لم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر من الأيام، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا لا يضربون.
وقال الواقدي: حدثني عبد الله بن موسى بن عبد الله بن أبي أمية، عن مصعب بن عبد الله، عن مولى لسهيل بن عمرو سمعت سهيل بن عمرو يقول: لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض معلمين يقتلون ويأسرون.
وكان أبو أسيد يحدث بعد أن ذهب بصره.
قال: لو كنت معكم الآن ببدر ومعي بصري، لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك ولا أمتري.
قال: وحدثني خارجة بن إبراهيم، عن أبيه.
قال: قال رسول الله ﷺ لجبريل: «من القائل يوم بدر من الملائكة أقدم حيزوم؟».
فقال جبريل: يا محمد ما كل أهل السماء أعرف.
قلت: وهذا الأثر مرسل، وهو يرد قول من زعم أن حيزوم اسم فرس جبريل كما قاله السهيلي وغيره والله أعلم.
وقال الواقدي: حدثني إسحاق بن يحيى، عن حمزة بن صهيب، عن أبيه قال: فما أدري كم يد مقطوعة وضربة جائفة لم يدم كلمها وقد رأيتها يوم بدر.
وحدثني محمد بن يحيى، عن أبي عقيل، عن رافع بن خديج، عن أبي بردة بن نيار قال: جئت يوم بدر بثلاثة رؤس فوضعتهن بين يدي رسول الله ﷺ فقلت: أما رأسان فقتلتهما، وأما الثالث فإني رأيت رجلا طويلا ضربه فتدهدى أمامه فأخذت رأسه.
فقال رسول الله ﷺ: «ذاك فلان من الملائكة».
وحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه.
قال: كان السائب بن أبي حبيش يحدث في زمن عمر يقول: والله ما أسرني أحد من الناس.
فيقال: فمن؟
يقول: لما انهزمت قريش انهزمت معها فأدركني رجل أشعر طويل على فرس أبيض فأوثقني رباطا وجاء عبد الرحمن بن عوف فوجدني مربوطا فنادى في العسكر من أسر هذا؟ حتى انتهى بي إلى رسول الله ﷺ.
فقال: «من أسرك؟».
قلت: لا أعرفه وكرهت أن أخبره بالذي رأيت.
فقال رسول الله ﷺ: «أسرك ملك من الملائكة، اذهب يا ابن عوف بأسيرك».
وقال الواقدي: حدثني عابد بن يحيى، حدثنا أبو الحويرث، عن عمارة بن أكيمة، عن حكيم بن حزام.
قال: لقد رأيتنا يوم بدر وقد وقع بجاد من السماء قد سدَّ الأفق فإذا الوادي يسيل نهلا فوقع في نفسي أن هذا شيء من السماء أيد به محمد، فما كانت إلا الهزيمة ولقي الملائكة.
وقال إسحاق بن راهويه: حدثنا وهب بن جرير بن حازم، حدثني أبي، عن محمد بن إسحاق، حدثني أبي، عن جبير بن مطعم.
قال: رأيت قبل هزيمة القوم - والناس يقتتلون - مثل البجاد الأسود قد نزل من السماء مثل النمل الأسود، فلم أشك أنها الملائكة، فلم يكن إلا هزيمة القوم، ولما تنزلت الملائكة للنصر ورآهم رسول الله ﷺ حين أغفى إغفاءة، ثم استيقظ وبشَّر بذلك أبا بكر وقال: «أبشر يا أبا بكر هذا جبريل يقود فرسه على ثناياه النقع» يعني: من المعركة.
ثم خرج رسول الله ﷺ من العريش في الدرع فجعل يحرض على القتال ويبشر الناس بالجنة ويشجعهم بنزول الملائكة والناس بعد على مصافهم لم يحملوا على عدوهم حصل لهم السكينة والطمأنينة، وقد حصل النعاس الذي هو دليل على الطمأنينة والثبات والإيمان، كما قال: { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ } [الأنفال: 11] .
وهذا كما حصل لهم بعد ذلك يوم أحد بنص القرآن، ولهذا قال ابن مسعود: النعاس في المصاف من الإيمان، والنعاس في الصلاة من النفاق.
وقال الله تعالى: { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } [الأنفال: 19] .
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، ثنا محمد بن إسحاق، حدثني الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة أن أبا جهل قال - حين التقى القوم -: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة.
فكان هو المستفتح وكذا ذكره ابن إسحاق في السيرة ورواه النسائي من طريق صالح بن كيسان، عن الزهري، ورواه الحاكم من حديث الزهري أيضا، ثم قال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقال الأموي: حدثنا أسباط بن محمد القرشي، عن عطية، عن مطرف في قوله: { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءكُمُ }.
قال: قال أبو جهل: اللهم أعن أعز الفئتين، وأكرم القبيلتين، وأكثر الفريقين.
فنزلت: { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح }.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ } [الأنفال: 7] .
قال: أقبلت عير أهل مكة تريد الشام فبلغ ذلك أهل المدينة فخرجوا ومعهم رسول الله ﷺ يريدون العير، فبلغ ذلك أهل مكة فأسرعوا إليها لكيلا يغلب عليها النبي ﷺ وأصحابه فسبقت العير رسول الله ﷺ، وكان الله قد وعدهم إحدى الطائفتين، وكانوا يحبون أن يلقوا العير، وسار رسول الله ﷺ بالمسلمين يريد القوم، وكره القوم مسيرهم لشوكة القوم.
فنزل النبي ﷺ والمسلمون، وبينهم وبين الماء رملة دعصة فأصاب المسلمون ضعف شديد وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ يوسوسهم تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم كذا! فأمطر الله عليهم مطرا شديدا فشرب المسلمون وتطهروا فأذهب الله عنهم رجز الشيطان، فصار الرمل لبدا ومشى الناس عليه والدواب، فساروا إلى القوم وأيد الله نبيه والمؤمنين بألف من الملائكة.
فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنبة وميكائيل في خمسمائة من الملائكة مجنبة وجاء إبليس في جند الشياطين ومعه ذريته وهم في صورة رجال من بني مدلج والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، وقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جار لكم.
فلما اصطف الناس قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره.
ورفع رسول الله ﷺ يديه فقال: «يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا».
فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب، فأخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم، فما المشركين من أحد إلا وأصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة، فولوا مدبرين.
وأقبل جبريل إلى إبليس فلما رآه - وكانت يده في يد رجل من المشركين - انتزع إبليس يده ثم ولى مدبرا وشيعته.
فقال الرجل: يا سراقة أما زعمت أنك لنا جار؟
قال: { إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [الأنفال: 48] وذلك حين رأى الملائكة رواه البيهقي في (الدلائل).
وقال الطبراني حدثنا مسعدة بن سعد العطار، ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، ثنا عبد العزيز بن عمران، ثنا هشام بن سعد، عن عبد ربه ابن سعيد بن قيس الأنصاري، عن رفاعة بن رافع.
قال: لما رأى إبليس ما فعل الملائكة بالمشركين يوم بدر أشفق أن يخلص إليه، فتشبث به الحارث بن هشام وهو يظن أنه سراقة بن مالك، فوكز في صدر الحارث ثم خرج هاربا حتى ألقى نفسه في البحر ورفع يديه فقال: اللهم إني أسألك نظرتك إياي وخاف أن يخلص القتل إليه.
وأقبل أبو جهل فقال: يا معشر الناس لا يهولنكم خذلان سراقة بن مالك فإنه كان على ميعاد من محمد، ولا يهولنكم قتل شيبة وعتبة والوليد فإنهم قد عجلوا، فواللات والعزى لا نرجع حتى نفرقهم بالجبال، فلا ألفين رجلا منكم قتل رجل ولكن خذوهم أخذا حتى تعرفوهم سوء صنيعهم من مفارقتهم إياكم ورغبتهم عن اللات والعزى.
ثم قال أبو جهل متمثلا:
ما تنقم الحرب الشموس مني * بازل عامين حديث سني
لمثل هذا ولدتني أمي
وروى الواقدي عن موسى بن يعقوب الزمعي، عن عمه، عن أبي بكر بن أبي سليمان، عن أبي حتمة سمعت مروان بن الحكم يسأل حكيم بن حزام عن يوم بدر فجعل الشيخ يكره ذلك، فألح عليه فقال حكيم: التقينا فاقتتلنا فسمعت صوتا وقع من السماء إلى الأرض مثل وقعة الحصاة في الطست، وقبض النبي ﷺ القبضة التراب فرمى بها فانهزمنا.
قال الواقدي: وحدثنا أبو إسحاق بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير، سمعت نوفل بن معاوية الديلي يقول: انهزمنا يوم بدر ونحن نسمع صوتا كوقع الحصى في الطاس في أفئدتنا ومن خلفنا، وكان ذلك من أشد الرعب علينا.
وقال الأموي: حدثنا أبي، ثنا ابن أبي إسحاق، حدثني الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير، أن أبا جهل حين التقى القوم قال: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة، فكان هو المستفتح.
فبينما هم على تلك الحال وقد شجع الله المسلمين على لقاء عدوهم وقللهم في أعينهم حتى طمعوا فيهم، خفق رسول الله ﷺ خفقة في العريش، ثم انتبه فقال: «أبشر يا أبا بكر هذا جبريل معتجر بعمامته آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع أتاك نصر الله وعدته».
وأمر رسول الله ﷺ فأخذ كفا من الحصى بيده ثم خرج فاستقبل القوم.
فقال: «شاهت الوجوه».
ثم نفحهم بها ثم قال لأصحابه: «احملوا فلم تكن إلا الهزيمة» فقتل الله من قتل من صناديدهم، وأسر من أسر منهم.
وقال زياد عن ابن إسحاق ثم أن رسول الله ﷺ أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا، ثم قال: «شاهت الوجوه»، ثم نفحهم بها وأمر أصحابه فقال: «شدوا».
فكانت الهزيمة، فقتل الله من قتل من صناديد قريش، وأسر من أسر من أشرافهم.
وقال السدي الكبير: قال رسول الله ﷺ لعلي يوم بدر: «أعطني حصباء من الأرض» فناوله حصباء عليها تراب فرمى به وجوه القوم فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شيء، ثم ردفهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم وأنزل الله في ذلك: { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } [الأنفال: 17] .
وهكذا قال عروة، وعكرمة، ومجاهد، ومحمد بن كعب، ومحمد بن قيس، وقتادة، وابن زيد، وغيرهم أن هذه الآية نزلت في ذلك يوم بدر، وقد فعل عليه السلام مثل ذلك في غزوة حنين كما سيأتي في موضعه إذا انتهينا إليه إن شاء الله وبه الثقة.
وذكر ابن إسحاق أن رسول الله ﷺ لما حرض أصحابه على القتال ورمى المشركين بما رماهم به من التراب وهزمهم الله تعالى صعد إلى العريش أيضا ومعه أبو بكر، ووقف سعد بن معاذ ومن معه من الأنصار على باب العريش ومعهم السيوف خيفة أن تكر راجعة من المشركين إلى النبي ﷺ.
قال ابن إسحاق: ولما وضع القوم أيديهم يأسرون رأى رسول الله ﷺ - فيما ذكر لي - في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس.
فقال له: «كأني بك يا سعد تكره ما يصنع القوم؟».
قال: أجل والله يا رسول الله كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك.
فكان الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال.
قال ابن إسحاق: وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله، عن عبد الله بن عباس، أن النبي ﷺ قال لأصحابه يومئذٍ: «إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله ومن لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب عم رسول الله ﷺ فلا يقتله فإنه إنما خرج مستكرها».
فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا ونترك العباس، والله لئن لقيته لأحمنه بالسيف.
فبلغت رسول الله ﷺ فقال لعمر: «يا أبا حفص».
قال عمر: والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله ﷺ بأبي حفص، «أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف».
فقال عمر: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه بالسيف فوالله لقد نافق.
فقال أبو حذيفة: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذٍ، ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة فقتل يوم اليمامة شهيدا رضي الله عنه.