البداية والنهاية/الجزء الثالث/باب سرية عبد الله بن جحش
التي كان سببها لغزوة بدر العظمى وذلك يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير.
قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله ﷺ عبد الله ابن جحش بن رئاب الأسدي في رجب مقفله من بدر الأولى وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، وهم: أبو حذيفة بن عتبة، وعكاشة بن محصن بن حرثان حليف بني أسد بن خزيمة، وعتبة بن غزوان حليف بني نوفل، وسعد بن أبي وقاص الزهري، وعامر بن ربيعة الوائلي حليف بني عدي، وواقد بن عبد الله ابن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع التميمي حليف بني عدي أيضا، وخالد بن البكير أحد بني سعد بن ليث حليف بني عدي أيضا، وسهل بن بيضاء الفهري، فهؤلاء سبعة ثامنهم: أميرهم عبد الله بن جحش رضي الله عنه.
وقال يونس: عن ابن إسحاق: كانوا ثمانية وأميرهم التاسع فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحدا.
فلما سار بهم يومين فتح الكتاب فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم، فلما نظر في الكتاب قال: سمعا وطاعة وأخبر أصحابه بما في الكتاب.
وقال: قد نهاني أن أستكره أحدا منكم فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع فأما أنا فماض لأمر رسول الله ﷺ فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف منهم أحد.
وسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن، فوق الفرع يقال له: بحران، أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل نخلة، فمرت عير لقريش فيها عمرو بن الحضرمي.
قال ابن هشام: واسم الحضرمي عبد الله بن عباد أحد الصدف وعثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومي وأخوه نوفل والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة، فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبا منهم فأشرف لهم عكاشة بن محصن وكان قد حلق رأسه.
فلما رأوه أمنوا، وقال عمار: لا بأس عليكم منهم، وتشاور الصحابة فيهم وذلك في آخر يوم من رجب، فقالوا: والله لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن به منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام فتردد القوم، وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم.
فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان وأفلت القوم نوفل بن عبد الله فأعجزهم، وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله ﷺ.
وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش أن عبد الله قال لأصحابه: إن لرسول الله ﷺ فيما غنمتا الخمس فعزله، وقسم الباقي بين أصحابه وذلك قبل أن ينزل الخمس.
قال: لما نزلنا الخمس نزل كما قسمه عبد الله بن جحش كما قاله ابن إسحاق، فلما قدموا على رسول الله ﷺ قال: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام» فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا.
فلما قال ذلك رسول الله ﷺ أسقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال، فقال من يرد عليهم من المسلمين ممن كان بمكة: إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان، وقالت يهود: تفائل بذلك على رسول الله ﷺ عمرو ابن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله، عمرو عمرت الحرب، والحضرمي حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله وقدت الحرب، فجعل الله ذلك عليهم لا لهم.
فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله تعالى على رسوله ﷺ: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا } [البقرة: 217] .
أي: إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم والفتنة أكبر من القتل، أي: قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه، حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، فذلك أكبر عند الله من القتل، ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غير تائبين ولا نازعين، ولهذا قال الله تعالى: { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } الآية.
قال ابن إسحاق: فلما نزل القرآن بهذا الأمر، وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق، قبض رسول الله ﷺ العير والأسيرين، وبعثت قريش في فداء عثمان والحكم بن كيسان فقال رسول الله ﷺ: «لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا» - يعني: سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان - فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم.
فقدم سعد وعتبة فافداهما رسول الله ﷺ.
فأما الحكم بن كيسان فأسلم فحسن إسلامه وأقام عند رسول الله ﷺ حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافرا.
قال ابن إسحاق: فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن، طمعوا في الأجر، فقالوا يا رسول الله: أنطمع أن تكون لنا غزاة نعطى فيها أجر المجاهدين؟
فأنزل الله فيهم: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [البقرة: 218] فوصفهم الله من ذلك على أعظم الرجاء.
قال ابن إسحاق: والحديث في ذلك عن الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير.
وهكذا ذكر موسى بن عقبة في (مغازيه) عن الزهري وكذا روى شعيب عن الزهري عن عروة نحوا من هذا وفيه: وكان ابن الحضرمي أول قتيل قتل بين المسلمين والمشركين.
وقال عبد الملك بن هشام: هو أول قتيل قتله المسلمون، وهذه أول غنيمة غنمها المسلمون، وعثمان والحكم بن كيسان أول من أسره المسلمون.
قلت: وقد تقدم فيما رواه الإمام أحمد: عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: فكان عبد الله بن جحش أول أمير في الإسلام.
وقد ذكرنا في التفسير لما أورده ابن إسحاق شواهد مسندة فمن ذلك ما رواه الحافظ أبو محمد بن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، حدثني الحضرمي، عن أبي السوار، عن جندب بن عبد الله: أن رسول الله ﷺ بعث رهطا وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح، أو عبيدة بن الحارث، فلما ذهب بكى صبابة إلى رسول الله ﷺ فجلس، فبعث عليهم مكانه عبد الله بن جحش وكتب له كتابا وأمره أن لا يقرأه حتى يبلغ مكان كذا وكذا.
وقال: «لا تكرهن أحدا على المسير معك من أصحابك» فلما قرأ الكتاب استرجع وقال سمعا وطاعة لله ولرسوله، فخبرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب فرجع منهم رجلان وبقي بقيتهم فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو جمادى، فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام، فأنزل الله: { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير } الآية.
وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في (تفسيره): عن أبي مالك، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، عن جماعة من الصحابة { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير } وذلك أن رسول الله ﷺ بعث سرية وكانوا سبعة نفر عليهم عبد الله بن جحش وفيهم عمار بن ياسر، وأبو حذيفة بن عتبة، وسعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان، وسهل بن بيضاء، وعامر بن فهيرة، وواقد بن عبد الله اليربوعي حليف لعمر بن الخطاب، وكتب لابن جحش كتابا وأمره أن لا يقرأه حتى ينزل بطن ملل فلما نزل بطن ملل فتح الكتاب فإذا فيه: أن سر حتى تنزل بطم نخلة فقال لأصحابه: من كان يريد الموت فليمض وليوص فإنني موص وماض لأمر رسول الله ﷺ فسار وتخلف عنه سعد وعتبة أضلا راحلة لهما فأقاما يطلبانها، وسار هو وأصحابه حتى نزل بطن نخلة فإذا هو بالحكم بن كيسان، والمغيرة بن عثمان، وعبد الله بن المغيرة.
فذكر قتل واقد لعمرو بن الحضرمي ورجعوا بالغنيمة والأسيرين فكانت أول غنيمة غنمها المسلمون.
وقال المشركون: إن محمدا يزعم أنه يتبع طاعة الله وهو أول من استحل الشهر الحرام وقتل صاحبنا في رجب.
وقال المسلمون: إنما قتلناه في جمادى.
قال السدي: وكان قتلهم له أول ليلة من رجب وآخر ليلة من جمادى الآخرة.
قلت: لعل جمادى كان ناقصا فاعتقدوا بقاء الشهر ليلة الثلاثين، وقد كان الهلال رؤي تلك الليلة فالله أعلم.
وهكذا روى العوفي عن ابن عباس أن ذلك كان في آخر ليلة من جمادى، وكانت أول ليلة من رجب، ولم يشعروا وكذا تقدم في حديث جندب الذي رواه ابن أبى حاتم.
وقد تقدم في سياق ابن إسحاق أن ذلك كان في آخر ليلة من رجب وخافوا إن لم يتداركوا هذه الغنيمة وينتهزوا هذه الفرصة دخل أولئك في الحرم فيتعذر عليهم ذلك فأقدموا عليهم عالمين بذلك وكذا قال الزهري عن عروة رواه البيهقي فالله أعلم أي ذلك كان.
قال الزهري عن عروة فبلغنا أن رسول الله ﷺ عقل ابن الحضرمي وحرم الشهر الحرام كما كان يحرمه حتى أنزل الله براءة رواه البيهقي.
قال ابن إسحاق: فقال أبو بكر الصديق في غزوة عبد الله بن جحش جوابا للمشركين فيما قالوا من إحلال الشهر الحرام.
قال ابن هشام: هي لعبد الله بن جحش:
تعدون قتلا في الحرام عظيمة * وأعظم منه لو يرى الرشد راشد
صدودكم عما يقول محمد * وكفر به والله راء وشاهد
وإخراجكم من مسجد الله أهله * لئلا يرى لله في البيت ساجد
فإنا وإن عيرتمونا بقتله * وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا * بنخلة لما أوقد الحرب واقد
دما وابن عبد الله عثمان بيننا * ينازعه غلّ من القيد عاند