مقدمة فتح الباري/الفصل الثاني
الفصل الثاني في بيان موضوعه والكشف عن مغزاه فيه
تقرر أنه التزم فيه الصحة وأنه لا يورد فيه إلا حديثا صحيحا هذا أصل موضوعه وهو مستفاد من تسميته إياه الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله ﷺ وسننه وايامه ومما نقلناه عنه من رواية الأئمة عنه صريحا ثم رأى أن لا يخليه من الفوائد الفقهية والنكت الحكمية فاستخرج بفهمه من المتون معاني كثيرة فرقها في أبواب الكتاب بحسب تناسبها واعتنى فيه بآيات الأحكام فانتزع منها الدلالات البديعة وسلك في الإشارة إلى تفسيرها السبل الوسيعة قال الشيخ محيي الدين نفع الله به ليس مقصود البخاري الاقتصار على الأحاديث فقط بل مراده الاستنباط منها والاستدلال لأبواب ارادها ولهذا المعنى اخلى كثيرا من الأبواب عن إسناد الحديث واقتصر فيه على قوله فيه فلان عن النبي ﷺ أو نحو ذلك وقد يذكر المتن بغير إسناد وقد يورده معلقا وإنما يفعل هذا لأنه أراد الاحتجاج للمسئلة التي ترجم لها وأشار إلى الحديث لكونه معلوما وقد يكون مما تقدم وربما تقدم قريبا ويقع في كثير من أبوابه الأحاديث الكثيرة وفي بعضها ما فيه حديث واحد وفي بعضها ما فيه آية من كتاب الله وبعضها لا شيء فيه البتة وقد ادعى بعضهم أنه صنع ذلك عمدا وغرضه أن يبين أنه لم يثبت عنده حديث بشرطه في المعنى الذي ترجم عليه ومن ثمة وقع من بعض من نسخ الكتاب ضم باب لم يذكر فيه حديث إلى حديث لم يذكر فيه باب فأشكل فهمه على الناظر فيه وقد أوضح السبب في ذلك الإمام أبو الوليد الباجي المالكي في مقدمة كتابه في أسماء رجال البخاري فقال أخبرني الحافظ أبو ذر عبد الرحيم بن أحمد الهروي قال حدثنا الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملى قال انتسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفربري فرأيت فيه أشياء لم تتم وأشياء مبيضة منها تراجم لم يثبت بعدها شيئا ومنها أحاديث لم يترجم لها فأضفنا بعض ذلك إلى بعض قال أبو الوليد الباجي ومما يدل على صحة هذا القول أن رواية أبي إسحاق المستملى ورواية أبي محمد السرخسي ورواية أبي الهيثم الكشمهينى ورواية أبي زيد المروزي مختلفة بالتقديم والتأخير مع إنهم انتسخوا من أصل واحد وإنما ذلك بحسب ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طرة أو رقعة مضافة أنه من موضع ما فأضافه إليه ويبين ذلك انك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلة ليس بينها أحاديث قال الباجى وانما أوردت هذا هنا لما عنى به أهل بلدنا من طلب معنى يجمع بين الترجمة والحديث الذي يليها وتكلفهم من ذلك من تعسف التأويل ما لا يسوغ انتهى قلت وهذه قاعدة حسنة يفزع إليها حيث يتعسر وجه الجمع بين الترجمة والحديث وهي مواضع قليلة جدا ستظهر كما سيأتي ذلك إن شاء الله تعالى ثم ظهر لي أن البخاري مع ذلك فيما يورده من تراجم الأبواب على اطوار أن وجد حديثا يناسب ذلك الباب ولو على وجه خفي ووافق شرطه أورده فيه بالصيغة التي جعلها مصطلحة لموضوع كتابه وهي حدثنا وما قام مقام ذلك والعنعنة بشرطها عنده وإن لم يجد فيه إلا حديثا لا يوافق شرطه مع صلاحيته للحجة كتبه في الباب مغايرا للصيغة التي يسوق بها ما هو من شرطه ومن ثمة أورد التعاليق كما سيأتي في فصل حكم التعليق وإن لم يجد فيه حديثا صحيحا لا على شرطه ولا على شرط غيره وكان بما يستأنس به وقدمه قوم على القياس استعمل لفظ ذلك الحديث أو معناه ترجمة باب ثم أورد في ذلك اما اية من كتاب الله تشهد له أو حديثا يؤيد عموم ما دل عليه ذلك الخبر وعلى هذا فالاحاديث التي فيه على ثلاثة أقسام وسيأتي تفاصيل ذلك مشروحا إن شاء الله تعالى ولنشرع الآن في تحقيق شرطه فيه وتقرير كونه أصح الكتب المصنفة في الحديث النبوي قال الحافظ أبو الفضل بن طاهر فيما قرأت على الثقة أبي الفرج بن حماد أن يونس بن إبراهيم بن عبد القوي أخبره عن أبي الحسن بن المقير عن أبي المعمر المبارك بن أحمد عنه شرط البخاري أن يخرج الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور من غير اختلاف بين الثقات الاثبات ويكون إسناده متصلا غير مقطوع وإن كان للصحابي راويان فصاعدا فحسن وإن لم يكن إلا راو واحد وصح الطريق إليه كفى قال وما ادعاه الحاكم أبو عبد الله أن شرط البخاري ومسلم أن يكون للصحابي راويان فصاعدا ثم يكون للتابعى المشهور راويان ثقتان إلى آخر كلامه فمنتقض عليه بأنهما أخرجا أحاديث جماعة من الصحابة ليس لهم إلا راو واحد انتهى والشرط الذي ذكره الحاكم وإن كان منتقضا في حق بعض الصحابة الذين أخرج لهم فإنه معتبر في حق من بعدهم فليس في الكتاب حديث أصل من رواية من ليس له إلا راو واحد قط وقال الحافظ أبو بكر الحازمي رحمه الله هذا الذي قاله الحاكم قول من لم يمعن الغوص في خبايا الصحيح ولو استقرأ الكتاب حق استقرائه لوجد جملة من الكتاب ناقضة دعواه ثم قال ما حاصله أن شرط الصحيح أن يكون إسناده متصلا وأن يكون راوية مسلما صادقا غير مدلس ولا مختلط متصفا بصفات العدالة ضابطا متحفظا سليم الذهن قليل الوهم سليم الاعتقاد قال ومذهب من يخرج الصحيح أن يعتبر حال الراوي العدل في مشايخه العدول فبعضهم حديثه صحيح ثابت وبعضهم حديثه مدخول قال وهذا باب فيه غموض وطريق إيضاحه معرفة طبقات الرواة عن راوي الأصل ومراتب مداركهم فلنوضح ذلك بمثال وهو أن تعلم أن أصحاب الزهري مثلا على خمس طبقات ولكل طبقة منها مزية على التي تليها فمن كان في الطبقة الأولى فهو الغاية في الصحة وهو مقصد البخاري والطبقة الثانية شاركت الأولى في التثبت إلا أن الأولى جمعت بين الحفظ والإتقان وبين طول الملازمة للزهري حتى كان فيهم من يزامله في السفر ويلازمه في الحضر والطبقة الثانية لم تلازم الزهري إلا مدة يسيرة فلم تمارس حديثه فكانوا في الإتقان دون الأولى وهم شرط مسلم ثم مثل الطبقة الأولى بيونس بن يزيد وعقيل بن خالد الايليين ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة وشعيب بن أبي حمزة والثانية بالأوزاعي والليث بن سعد وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر وابن أبي ذئب قال والطبقة الثالثة نحو جعفر بن برقان وسفيان بن حسين وإسحاق بن يحيى الكلبي والرابعة نحو زمعة بن صالح ومعاوية بن يحيى الصدفي والمثنى بن الصباح والخامسة نحو عبد القدوس بن حبيب والحكم بن عبد الله الأيلي ومحمد بن سعيد المصلوب فأما الطبقة الأولى فهم شرط البخاري وقد يخرج من حديث أهل الطبقة الثانية ما يعتمده من غير استيعاب وأما مسلم فيخرج أحاديث الطبقتين على سبيل الاستيعاب ويخرج أحاديث أهل الطبقة الثالثة على النحو الذي يصنعه البخاري في الثانية وأما الرابعة والخامسة فلا يعرجان عليهما قلت وأكثر ما يخرج البخاري حديث الطبقة الثانية تعليقا وربما أخرج اليسير من حديث الطبقة الثالثة تعليقا أيضا وهذا المثال الذي ذكرناه هو في حق المكثرين فيقاس على هذا أصحاب نافع وأصحاب الأعمش وأصحاب قتادة وغيرهم فأما غير المكثرين فإنما اعتمد الشيخان في تخريج أحاديثهم على الثقة والعدالة وقلة الخطا لكن منهم من قوي الاعتماد عليه فأخرجا ما تفرد به كيحيى بن سعيد الأنصاري ومنهم من لم يقو الاعتماد عليه فأخرجا له ما شاركه فيه غيره وهو الأكثر وقال الإمام أبو عمرو بن الصلاح في كتابه في علوم الحديث فيما أخبرنا به أبو الحسن بن الجوزي عن محمد بن يوسف الشافعي عنه سماعا قال أول من صنف في الصحيح البخاري أبو عبد الله محمد بن إسماعيل وتلاه أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري ومسلم مع أنه أخذ عن البخاري واستفاد منه فإنه يشارك البخاري في كثير من شيوخه وكتاباهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز وأما ما رويناه عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال ما أعلم في الأرض كتابا في العلم أكثر صوابا من كتاب مالك قال ومنهم من رواه بغير هذا اللفظ يعني بلفظ أصح من الموطأ فإنما قال ذلك قبل وجود كتابي البخاري وسلم ثم أن كتاب البخاري أصح الكتابين صحيحا وأكثرهما فوائد وأما ما رويناه عن أبي على الحافظ النيسابوري أستاذ الحاكم أبي عبد الله الحافظ من أنه قال ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج فهذا وقول من فضل من شيوخ المغرب كتاب مسلم على كتاب البخاري إن كان المراد به أن كتاب مسلم يترجح بأنه لم يمازجه غير الصحيح فإنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث الصحيح مسرودا غير ممزوج بمثل ما في كتاب البخاري في تراجم أبوابه من الأشياء التي لم يسندها على الوصف المشروط في الصحيح فهذا لا بأس به وليس يلزم منه أن كتاب مسلم أرجح فيما يرجع إلى نفس الصحيح على كتاب البخاري وإن كان المراد به أن كتاب مسلم أصح صحيحا فهذا مردود على من يقوله والله أعلم انتهى كلامه وفيه أشياء تحتاج إلى أدلة وبيان فقد استشكل بعض الأئمة إطلاق اصحية كتاب البخاري على كتاب مالك مع اشتراكهما في اشتراط الصحة والمبالغة في التحري والتثبت وكون البخاري أكثر حديثا لا يلزم منه أفضلية الصحة والجواب عن ذلك أن ذلك محمول على أصل اشتراط الصحة فمالك لا يرى الانقطاع في الإسناد قادحا فلذلك يخرج المراسيل والمنقطعات والبلاغات في أصل موضوع كتابه والبخاري يرى أن الانقطاع علة فلا يخرج ما هذا سبيله إلا في غير أصل موضوع كتابه كالتعليقات والتراجم ولا شك أن المنقطع وإن كان عند قوم من قبيل ما يحتج به فالمتصل أقوى منه إذا اشترك كل من رواتهما في العدالة والحفظ فبان بذلك شفوف كتاب البخاري وعلم أن الشافعي إنما أطلق على الموطأ أفضلية الصحة بالنسبة إلى الجوامع الموجودة في زمنه كجامع سفيان الثوري ومصنف حماد بن سلمة وغير ذلك وهو تفضيل مسلم لا نزاع فيه واقتضى كلام بن الصلاح أن العلماء متفقون على القول بأفضلية البخاري في الصحة على كتاب مسلم إلا ما حكاه عن أبي على النيسابوري من قوله المتقدم وعن بعض شيوخ المغاربة أن كتاب مسلم أفضل من كتاب البخاري من غير تعرض للصحة فنقول روينا بالإسناد الصحيح عن أبي عبد الرحمن النسائي وهو شيخ أبي على النيسابوري أنه قال ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب محمد بن إسماعيل والنسائي لا يعني بالجودة إلا جودة الأسانيد كما هو المتبادر إلى الفهم من اصطلاح أهل الحديث ومثل هذا من مثل النسائي غاية في الوصف مع شدة تحريه وتوقيه وتثبته في نقد الرجال وتقدمه في ذلك على أهل عصره حتى قدمه فوم من الحذاق في معرفة ذلك على مسلم بن الحجاج وقدمه الدارقطني وغيره في ذلك وغيره على إمام الأئمة أبي بكر بن خزيمة صاحب الصحيح وقال الإسماعيلي في المدخل له أما بعد فإني نظرت في كتاب الجامع الذي ألفه أبو عبد الله البخاري فرأيته جامعا كما سمي لكثير من السنن الصحيحة ودالا على جمل من المعاني الحسنة المستنبطة التي لا يكمل لمثلها إلا من جمع إلى معرفة الحديث نقلته والعلم بالروايات وعللها علما بالفقه واللغة وتمكنا منها كلها وتبحرا فيها وكان يرحمه الله الرجل الذي قصر زمانه على ذلك فبرع وبلغ الغاية فحاز السبق وجمع إلى ذلك حسن النية والقصد للخير فنفعه الله ونفع به قال وقد نحا نحوه في التصنيف جماعة منهم الحسن بن علي الحلواني لكنه اقتصر على السنن ومنهم أبو داود السجستاني وكان في عصر أبي عبد الله البخاري فسلك فيما سماه سنن أذكر ما روى في الشيء وإن كان في السند ضعف إذا لم يجد في الباب غيره ومنهم مسلم بن الحجاج وكان يقاربه في العصر فرام مرامه وكان يأخذ عنه أو عن كتبه إلا أنه لم يضايق نفسه مضايقة أبي عبد الله وروى عن جماعة كثيرة يتعرض أبو عبد الله الرواية عنهم وكل قصد الخير غير أن أحدا منهم لم يبلغ من التشدد مبلغ أبي عبد الله ولا تسبب إلى استنباط المعاني واستخراج لطائف فقه الحديث وتراجم الأبواب الدالة على ما له وصلة بالحديث المروي فيه تسببه ولله الفضل يختص به من يشاء وقال الحاكم أبو أحمد النيسابوري وهو عصرى أبي على النيسابوري ومقدم عليه في معرفة الرجال فيما حكاه أبو يعلى الخليلي الحافظ في الإرشاد ما ملخصه رحم الله محمد بن إسماعيل فإنه ألف الأصول يعني أصول الأحكام من الأحاديث وبين للناس وكل من عمل بعده فإنما أخذه من كتابه كمسلم بن الحجاج وقال الدارقطني لما ذكر عنده الصحيحان لولا البخاري لما ذهب مسلم ولا جاء وقال مرة أخرى وأي شيء صنع مسلم إنما أخذ كتاب البخاري فعمل عليه مستخرجا وزاد فيه زيادات وهذا الذي حكيناه عن الدارقطني جزم به أبو العباس القرطبي في أول كتابه المفهم في شرح صحيح مسلم والكلام في نقل كلام الأئمة في تفضيله كثير ويكفى منه اتفاقهم على أنه كان أعلم بهذا الفن من مسلم وإن مسلما كان يشهد له بالتقدم في ذلك والامامة فيه والتفرد بمعرفة ذلك في عصره حتى هجر من أجله شيخه محمد بن يحيى الذهلي في قصة مشهورة سنذكرها مبسوطة إن شاء الله تعالى في ترجمة البخاري فهذا من حيث الجملة وأما من حيث التفصيل فقد قررنا أن مدار الحديث الصحيح على الاتصال وإتقان الرجال وعدم العلل وعند التامل يظهر أن كتاب البخاري أتقن رجالا وأشد اتصالا وبيان ذلك من أوجه أحدها أن الذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم أربعمائة وبضع وثلاثون رجلا المتكلم فيه بالضعف منهم ثمانون رجلا والذين انفرد مسلم بالإخراج لهم دون البخاري ستمائة وعشرون رجلا المتكلم فيه بالضعف منهم مائة وستون رجلا ولا شك أن التخريج عمن لم يتكلم فيه أصلا أولى من التخريج عمن تكلم فيه وإن لم يكن ذلك الكلام قادحا
ثانيها أن الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه لم يكثر من تخريج أحاديثهم وليس لواحد منهم نسخة كبيرة أخرجها كلها أو أكثرها إلا ترجمة عكرمة عن بن عباس بخلاف مسلم فإنه أخرج أكثر تلك النسخ كأبي الزبير عن جابر وسهيل عن أبيه والعلاء بن عبد الرحمن عن أبيه وحماد بن سلمة عن ثابت وغير ذلك
ثالثها أن الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه أكثرهم من شيوخه الذين لقيهم وجالسهم وعرف أحوالهم واطلع على أحاديثهم وميز جيدها من موهومها بخلاف مسلم فإن أكثر من تفرد بتخريج حديثه ممن تكلم فيه ممن تقدم عن عصره من التابعين ومن بعدهم ولا شك أن المحدث أعرف بحديث شيوخه ممن تقدم منهم
رابعها أن البخاري يخرج من أحاديث أهل الطبقة الثانية انتقاء ومسلم يخرجها أصولا كما تقدم ذلك من تقرير الحافظ أبي بكر الحازمي
فهذه الأوجه الأربعة تتعلق باتقان الرواة وبقي ما يتعلق بالاتصال وهو الوجه الخامس وذلك أن مسلما كان مذهبه على ما صرح به في مقدمة صحيحه وبالغ في الرد على من خالفه أن الإسناد المعنعن له حكم الاتصال إذا تعاصر المعنعن ومن عنعن عنه وإن لم يثبت اجتماعهما إلا إن كان المعنعن مدلسا والبخاري لا يحمل ذلك على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة وقد أظهر البخاري هذا المذهب في تاريخه وجرى عليه في صحيحه وأكثر منه حتى أنه ربما خرج الحديث الذي لا تعلق له بالباب جملة إلا ليبين سماع راو من شيخه لكونه قد أخرج له قبل ذلك شيئا معنعنا وسترى ذلك واضحا في أماكنه إن شاء الله تعالى وهذا مما ترجح به كتابه لأنا وإن سلمنا ما ذكره مسلم من الحكم بالاتصال فلا يخفى أن شرط البخاري أوضح في الاتصال والله أعلم
وأما ما يتعلق بعدم العلة وهو الوجه السادس فإن الأحاديث التي انتقدت عليهما بلغت مائتي حديث وعشرة أحاديث كما سيأتي ذكر ذلك مفصلا في فصل مفرد اختص البخاري منها بأقل من ثمانين وباقي ذلك يختص بمسلم ولا شك أن ما قل الانتقاد فيه أرجح مما كثر والله أعلم وأما قول أبي على النيسابوري فلم نقف فقط على تصريحه بان كتاب مسلم أصح من كتاب البخاري بخلاف ما يقتضيه إطلاق الشيخ محيي الدين في مختصره في علوم الحديث وفي مقدمة شرح البخاري أيضا حيث يقول اتفق الجمهور على أن صحيح البخاري أصحهما صحيحا وأكثرهما فوائد وقال أبو على النيسابوري وبعض علماء المغرب صحيح مسلم أصح انتهى ومقتضى كلام أبي على نفى الاصحيه عن غير كتاب مسلم عليه أما إثباتها له فلا لأن إطلاقه يحتمل أن يريد ذلك ويحتمل أن يريد المساواة والله أعلم والذي يظهر لي من كلام أبي على أنه إنما قدم صحيح مسلم لمعنى غير ما يرجع إلى ما نحن بصدده من الشرائط المطلوبة في الصحة بل ذلك لأن مسلما صنف كتابه في بلده بحضور أصوله في حياة كثير من مشايخه فكان يتحرز في الألفاظ ويتحرى في السياق ولا يتصدى لما تصدى له البخاري من استنباط الاحكام ليبوب عليها ولزم من ذلك تقطيعه للحديث في أبوابه بل جمع مسلم الطرق كلها في مكان واحد واقتصر على الأحاديث دون الموقوفات فلم يعرج عليها إلا في بعض المواضع على سبيل الندور تبعا لا مقصودا فلهذا قال أبو على ما قال مع أني رأيت بعض أئمتنا يجوز أن يكون أبو على ما رأى صحيح البخاري وعندي في ذلك بعد والاقرب ما ذكرته وأبو على لو صرح بما نسب إليه لكان محجوبا بما قدمناه مجملا ومفصلا والله الموفق وأما بعض شيوخ المغاربة فلا يحفظ عن أحد منهم تقييد الأفضلية بالأصحية بل أطلق بعضهم الأفضلية وذلك فيما حكاه القاضي أبو الفضل عياض في الالماع عن أبي مروان الطبني بضم الطاء المهملة ثم إسكان الباء الموحدة بعدها نون قال كان بعض شيوخى يفضل صحيح مسلم على صحيح البخاري انتهى وقد وجدت تفسير هذا التفضيل عن بعض المغاربة فقرأت في فهرسة أبي محمد القاسم بن القاسم النجيبي قال كان أبو محمد بن حزم يفضل كتاب مسلم على كتاب البخاري لأنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث السرد اه وعندي أن بن حزم هذا هو شيخ أبي مروان الطبني الذي أبهمه القاضي عياض ويجوز أن يكون غيره ومحل تفضيلهما واحد ومن ذلك قول مسلم بن قاسم القرطبي وهو من أقران الدارقطني لما ذكر في تاريخه صحيح مسلم قال لم يضع أحد مثله فهذا محمول على حسن الوضع وجودة الترتيب وقد رأيت كثيرا من المغاربة ممن صنف في الأحكام بحذف الأسانيد كعبد الحق في احكامه وجمعه يعتمدون على كتاب مسلم في نقل المتون وسياقها دون البخاري لوجودها عند مسلم تامة وتقطيع البخاري لها فهذه جهة أخرى من التفضيل لا ترجع إلى ما يتعلق بنفس الصحيح والله أعلم وإذا تقرر ذلك فليقابل هذا التفضيل بحهة أخرى من وجوه التفضيل غير ما يرجع إلى نفس الصحيح وهي ما ذكره الإمام القدوة أبو محمد بن جمرة في اختصاره للبخاري قال قال لي من لقيته من العارفين عمن لقي من السادة المقر لهم بالفضل أن صحيح البخاري ما قرئ في شدة إلا فرجت ولا ركب به في مركب فغرق قال وكان مجاب الدعوة وقد دعا لقارئه رحمة الله تعالى وكذلك الجهة العظمى الموجبة لتقديمه وهي ما مضنه أبوابه من التراجم التي حيرت الأفكار وادهشت العقول والابصار وإنما بلغت هذه الرتبة وفازت بهذه الخطوة لسبب عظيم أوجب عظمها وهو ما رواه أبو أحمد بن عدي عن عبد القدوس بن همام قال شهدت عدة مشايخ يقولون حول البخاري تراجم جامعه يعني بيضها بين قبر النبي ﷺ ومنبره وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين
ولنشرع الآن في الكلام عليها ونبين ما خفي على بعض من لم يمعن النظر فاعترض عليه اعترض شاب غر على شيخ مجرب أو مكتهل وأوردها إيراد سعد وسعد مشتمل ما هكذا تورد يا سعد الإبل وأول شيء وقع الكلام معه فيه من هذه المادة أول حديث بدا به كتابه واستفتح به خطابه فرد كثير من هؤلاء نحوه سهام اللوم وانتصر بعض وبعض لزم من التسليم طريق القوم ولنذكر ضابطا يشتمل على بيان أنواع التراجم فيه وهي ظاهرة وخفية أما الظاهرة فليس ذكرها من غرضنا هنا وهي أن تكون الترجمة دالة بالمطابقة لما يورد في مضمنها وإنما فادتها الاعلام بما ورد في ذلك الباب من غير اعتبار لمقدار تلك الفائدة كأنه يقول هذا الباب الذي فيه كيت وكيت أو باب ذكر الدليل على الحكم الفلاني مثلا وقد تكون الترجمة بلفظ المترجم له أو بعضه أو بمعناه وهذا في الغالب قد يأتى من ذلك ما يكون في لفظ الترجمة احتمال لأكثر من معنى واحد فيعين أحد الاحتمالين بما يذكر تحتهما من الحديث وقد يوجد فيه ما هو بالعكس من ذلك بأن يكون الاحتمال في الحديث وتعيين في الترجمة وترجمة هنا بيان لتأويل ذلك الحديث نائبة مناب قول الفقيه مثلا المراد بهذا الحديث العام الخصوص أو بهذا الحديث الخاص العموم أشعارا بالقياس لوجود العلة الجامعة أو أن ذلك الخاص المراد به ما هو أعم مما يدل عليه ظاهره بطريق الأعلى أو الأدنى ويأتي في المطلق والمقيد نظير ما ذكرنا في الخاص والعام وكذا في شرح المشكل وتفسير الغامض وتاويل الظاهر وتفصيل المجمل وهذا الموضع هو معظم ما يشكل من تراجم هذا الكتاب ولهذا اشتهر من قول جمع من الفضلاء فقه البخاري في تراجمه وأكثر ما يفعل البخاري ذلك إذا لم يجد حديثا على شرطه في الباب ظاهر المعنى في المقصد الذي ترجم به ويستنبط الفقه منه وقد يفعل ذلك لغرض شحذ الأذهان في إظهار مضمره واستخراج خبيئه وكثيرا ما يفعل ذلك أي هذا الأخير حيث يذكر الحديث المفسر لذلك في موضع آخر متقدما أو متاخرا فكأنه يحيل عليه ويومئ بالرمز والإشارة إليه وكثيرا ما يترجم بلفظ الاستفهام كقوله باب هل يكون كذا أو من قال كذا ونحو ذلك وذلك حيث لا يتجه له الجزم بأحد الاحتمالين وغرضه بيان هل يثبت ذلك الحكم أو لم يثبت فيترجم على الحكم ومراده ما يتفسر بعد من إثباته أو نفيه أو أنه محتمل لهما وربما كان أحد المحتملين أظهر وغرضه أن يبقى النظر مجالا وينبه على أن هناك احتمالا أو تعارضا يوجب التوقف حيث يعتقد أن فيه إجمالا أو يكون المدرك مختلفا في الاستدلال به وكثيرا ما يترجم بأمره ظاهره قليل الجدوي لكنه إذا حققه المتامل أجدى كقوله باب قول الرجل ما صلينا فإنه أشار به إلى الرد على من كره ذلك ومنه قوله باب قول الرجل فاتتنا الصلاة وأشار بذلك إلى الرد على من كره إطلاق هذا اللفظ وكثيرا ما يترجم بأمر مختص ببعض الوقائع لا يظهر في بادىء الرأي كقوله باب استياك الإمام بحضرة رعيته فإنه لما كان الاستياك قد يظن أنه من افعال المهنة فلعل بعض الناس يتوهم أن اخفاءه أولي مراعاة للمروءة فلما وقع في الحديث أن النبي ﷺ استاك بحضرة الناس دل على أنه من باب التطيب لا من الباب الآخر نبه على ذلك بن دقيق العيد وكثيرا ما يترجم بلفظ يومئ إلى معنى حديث لم يصح على شرطه أو يأتي بلفظ الحديث الذي لم يصح على شرطه صريحا في الترجمة ويورد في الباب ما يؤدي معناه تارة بأمر ظاهر وتارة بأمر خفي من ذلك قوله باب الأمراء من قريش وهذا لفظ حديث يروي عن على رضي الله عنه وليس على شرط البخاري وأورد فيه حديث لا يزال وآل من قريش ومنها قوله باب اثنان فما فوقهما جماعة وهذا حديث يروي عن أبي موسى الأشعري وليس على شرط البخاري وأورد فيه فأذن وأقيما وليؤمكما أحدكما وربما اكتفى أحيانا بلفظ الترجمة التي هي لفظ حديث لم يصح على شرطه وأورد معها أثر أو آية فكأنه يقول لم يصح في الباب شيء على شرطى وللغفلة عن هذه المقاصد الدقيقة اعتقد من لم يمعن النظر أنه ترك الكتاب بلا تبييض ومن تامل ظفر ومن جد وجد وقد جمع العلامة ناصر الدين أحمد بن المنير خطيب الإسكندرية من ذلك أربعمائة ترجمة وتكلم عليها ولخصها القاضي بدر الدين بن جماعة وزاد عليها أشياء وتكلم على ذلك أيضا بعض المغاربة وهو محمد بن منصور بن حمامة السجلماسي ولم يكثر من ذلك بل جملة ما في كتابه نحو مائة ترجمة وسماه فك اغراض البخاري المبهمة في الجمع بين الحديث والترجمة وتكلم أيضا على ذلك زين الدين على بن المنير أخو العلامة ناصر الدين في شرحه على البخاري وامعن في ذلك ووقفت على مجلد من كتاب اسمه ترجمان التراجم لأبي عبد الله بن رشيد السبتي يشتمل على هذا المقصد وصل فيه إلى كتاب الصيام ولو تم لكان في غاية الإفادة وأنه لكثير الفائدة مع نقصه والله تعالى الموفق