مجموع الفتاوى/المجلد العاشر/فصل في طريق العلم والعمل
فصل في طريق العلم والعمل
وكما أن الطريقة العلمية بصحة النظر في الأدلة والأسباب هي الموجبة للعلم، كتدبر القرآن والحديث، فالطريقة العملية بصحة الإرادة والأسباب هي الموجبة للعمل؛ ولهذا يسمون السالك في ذلك: المريد، كما يسميه أولئك: الطالب، والنظر جنس تحته حق وباطل، ومحمود ومذموم، وكذلك: الإرادة.
فكما أن طريق العلم لابد فيه من العلم النبوي الشرعي، بحيث يكون معلومك المعلومات الدينية النبوية، ويكون علمك بها مطابقًا لما أخبرت به الرسل، وإلا فلا ينفعك أي معلوم علمته، ولا أي شيء اعتقدته فيما أخبرت به الرسل، بل لابد من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فكذلك الإرادة لابد فيها من تعيين المراد، وهو الله والطريق إليه، وهو ما أمرت به الرسل. فلا بد أن تعبد الله وتكون عبادتك إياه بما شرع على ألسنة رسله، إذ لابد من تصديق الرسول فيما أخبر علمًا، ولابد من طاعته فيما أمر عملًا.
ولهذا كان الإيمان قولًا وعملًا مع موافقة السنة، فعلم الحق ما وافق علم الله، والإرادة الصالحة ما وافقت محبة الله ورضاه، وهو حكمه الشرعي، والله عليم حكيم.
فالأمور الخبرية لابد أن تطابق علم الله وخبره؛ والأمور العملية لابد أن تطابق حب الله وأمره، فهذا حكمه، وذاك علمه.
وأما من جعل حكمه مجرد القدر، كما فعل صاحب منازل السائرين وجعل مشاهدة العارف الحكم يمنعه أن يستحسن حسنة أو يستقبح سيئة فهذا فيه من الغلط العظيم ما قد نبهنا عليه في غير هذا الموضع. فلا ينفع المريد القاصد أن يعبد أي معبود كان، ولا أن يعبد الله بأي عبادة كانت، بل هذه طريقة المشركين المبتدعين الذين لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله، كالنصارى ومن أشبههم من أهل البدع الذين يعبدون غير الله بغير أمر الله، وأما أهل الإسلام والسنة فهم يعبدون الله وحده، ويعبدونه بما شرع. لا يعبدونه بالبدع إلا ما يقع من أحدهم خطأ.
فالسالكون طريق الإرادة قد يغلطون تارة في المراد، وتارة في الطريق إليه، وتارة يألهون غير الله بالخوف منه والرجاء له، والتعظيم والمحبة له وسؤاله والرغبة إليه، فهذا حقيقة الشرك المحرم، فإن حقيقة التوحيد ألا يعبد إلا الله.
والعبادة تتضمن كمال الحب، وكمال التعظيم، وكمال الرجاء، والخشية، والإجلال والإكرام. والفناء في هذا التوحيد فناء المرسلين واتباعهم، وهو أن تفنى بعبادته عن عبادة ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، وبسؤاله عن سؤال ما سواه، وبخوفه عن خوف ما سواه، وبرجائه عن رجاء ماسواه، وبحبه والحب فيه عن محبة ما سواه والحب فيه.
وأما الغالطون في الطريق فقد يريدون الله، لكن لا يتبعون الأمر الشرعي في إرادته، لكن تارة يعبده أحدهم بما يظنه يرضيه، ولا يكون كذلك، وتارة ينظرون القدر لكونه مراده، فيفنون في القدر الذي ليس لهم فيه غرض، وأما الفناء المطلق فيه فممتنع. وهؤلاء يفني أحدهم متبعًا لذوقه ووجده المخالف للأمر الشرعي، أو ناظرًا إلى القدر. وهذا يبتلى به كثير من خواصهم.
والشيخ عبد القادر، ونحوه من أعظم مشائخ زمانهم أمرًا بالتزام الشرع، والأمر والنهي، وتقديمه على الذوق والقدر، ومن أعظم المشائخ أمرًا بترك الهوى والإرادة النفسية. فإن الخطأ في الإرادة من حيث هي إرادة إنما تقع من هذه الجهة؛ فهو يأمر السالك ألا تكون له إرادة من جهة هواه أصلًا، بل يريد ما يريده الرب عز وجل: إما إرادة شرعية أن تبين له ذلك، وإلا جرى مع الإرادة القدرية، فهو إما مع أمر الرب، وإما مع خلقه، وهو سبحانه له الخلق والأمر.
وهذه طريقة شرعية صحيحة، إنما يخاف على صاحبها من ترك إرادة شرعية لا يعلم أنها شرعية، أو من تقديم إرادة قدرية على الشرعية فإنه إذا لم يعلم أنها شرعية فقد يتركها، وقد يريد ضدها، فيكون ترك مأمورًا أو فعل محظورًا وهو لا يعلم. فإن طريقة الإرادة: يخاف على صاحبها من ضعف العلم؛ وما يقترن بالعلم من العمل، والوقوع في الضلال، كما أن طريقة العلم يخاف على صاحبها من ضعف العمل، وضعف العلم الذي يقترن بالعمل، لكن لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها من هذا، وهذا. قال تعالى: { فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } 1، فإذا تفقه السالك، وتعلم الأمر والنهي بحسب اجتهاده، وكان علمه وإرادته بحسب ذاك، فهذا مستطاعه. وإذا أدى الطالب ما أمر به، وترك ما نهى عنه، وكان علمه مطابقًا لعمله، فهذا مستطاعه.
هامش
- ↑ [التغابن: 16]