انتقل إلى المحتوى

مجموع الفتاوى/المجلد العاشر/التائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن تجنبها

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
مجموع فتاوى ابن تيمية المؤلف ابن تيمية
التائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن تجنبها


التائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن تجنبها

والتائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن لم يقع في الكفر والذنوب، وإذا كان قد يكون أفضل، فالأفضل أحق بالنبوة ممن ليس مثله في الفضيلة، وقد أخبر الله عن أخوة يوسف بما أخبر من ذنوبهم وهم الأسباط الذين نبأهم الله تعالى، وقد قال تعالى: { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي } 1. فآمن لوط لإبراهيم عليه السلام ثم أرسله الله تعالى إلى قوم لوط. وقد قال تعالى في قصة شعيب: { قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ. قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } 2، وقال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } 3.

وإذا عرف أن الاعتبار بكمال النهاية، وهذا الكمال إنما يحصل بالتوبة والاستغفار، ولابد لكل عبد من التوبة وهي واجبة على الأولين والآخرين. كما قال تعالى: { لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا } 4.

وقد أخبر الله سبحانه بتوبة آدم ونوح ومن بعدهما إلى خاتم المرسلين محمد وآخر ما نزل عليه أو من آخر ما نزل عليه قوله تعالى: { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا. ففَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } 5، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" يتأول القرآن».

وقد أنزل الله عليه قبل ذلك: { لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } 6، وفي صحيح البخاري عن النبي أنه كان يقول: «يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة»، وفي صحيح مسلم عن الأغر المزني عن النبي أنه قال: «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة»، وفي السنن عن ابن عمر أنه قال: كنا نعد لرسول الله في المجلس الواحد يقول: «رب اغفر لي وتب على إنك أنت التواب الغفور» مائة مرة.

وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي أنه كان يقول: «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني. أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير»، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال: «أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والبرد والماء البارد».

وفي صحيح مسلم وغيره أنه كان يقول نحو هذا إذا رفع رأسه من الركوع، وفي صحيح مسلم عن على رضى الله عنه عن النبي أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح: «اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي وعملت سوءًا فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت»، وفي صحيح مسلم عن النبي أنه كان يقول في سجوده: «اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله، علانيته وسره، أوله وآخره».

وفي السنن عن على، أن النبي أتى بدابة؛ ليركبها وأنه حمد الله وقال: « { سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ }» 7 ثم كبره وحمده ثم قال: «سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»، ثم ضحك ! وقال: «إن الرب يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، يقول علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنا».

وقد قال تعالى: { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } 8، وقال: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } 9، وثبت في الصحيحين في حديث الشفاعة: «أن المسيح يقول: اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر»، وفي الصحيح أن النبي كان يقوم حتى ترم قدماه، فيقال له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدًا شكورا».

ونصوص الكتاب والسنة في هذا الباب كثيرة متظاهرة والآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين كثيرة.

لكن المنازعون يتأولون هذه النصوص من جنس تأويلات الجهمية والباطنية كما فعل ذلك من صنف في هذا الباب. وتأويلاتهم تبين لمن تدبرها أنها فاسدة من باب تحريف الكلم عن مواضعه. كتأويلهم قوله: { لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } 10 المتقدم ذنب آدم والمتأخر ذنب أمته وهذا معلوم البطلان ويدل على ذلك وجوه:

أحدها: أن آدم قد تاب الله عليه قبل أن ينزل إلى الأرض فضلًا عن عام الحديبية الذي أنزل الله فيه هذه السورة، قال تعالى: { ِوَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى. ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى } 11، وقال: { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } 12، وقد ذكر أنه قال: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } 13.

والثاني: أن يقال: فآدم عندكم من جملة موارد النزاع ولا يحتاج أن يغفر له ذنبه عند المنازع فإنه نبي أيضا، ومن قال: إنه لم يصدر من الأنبياء ذنب يقول ذلك عن آدم ومحمد وغيرهما.

الوجه الثالث: أن الله لا يجعل الذنب ذنبًا لمن لم يفعله فإنه هو القائل: { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } 14. فمن الممتنع أن يضاف إلى محمد ذنب آدم أو أمته أو غيرهما. وقد قال تعالى: { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } 15 وقال تعالى: { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ } 16، ولو جاز هذا لجاز أن يضاف إلى محمد ذنوب الأنبياء كلهم، ويقال: إن قوله: { لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } 17 المراد: ذنوب الأنبياء وأممهم قبلك، فإنه يوم القيامة يشفع للخلائق كلهم، وهو سيد ولد آدم، وقال: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وآدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة. أنا خطيب الأنبياء إذا وفدوا، وإمامهم إذا اجتمعوا» وحينئذ فلا يختص آدم بإضافة ذنبه إلى محمد، بل تجعل ذنوب الأولين والآخرين على قول هؤلاء ذنوبًا له. فإن قال: إن الله لم يغفر ذنوب جميع الأمم، قيل: وهو أيضا لم يغفر ذنوب جميع أمته.

الوجه الرابع: أنه قد ميز بين ذنبه وذنوب المؤمنين بقوله: { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } 18 فكيف يكون ذنب المؤمنين ذنبًا له.

الوجه الخامس: أنه ثبت في الصحيح أن هذه الآية لما نزلت قال الصحابة يا رسول الله هذا لك فما لنا؟ فأنزل الله: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ } 19 فدل ذلك على أن الرسول والمؤمنين علموا أن قوله: { لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } مختص به دون أمته.

الوجه السادس: أن الله لم يغفر ذنوب جميع أمته، بل قد ثبت أن من أمته من يعاقب بذنوبه إما في الدنيا وإما في الآخرة، وهذا مما تواتر به النقل وأخبر به الصادق المصدوق واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وشوهد في الدنيا من ذلك ما لا يحصيه إلا الله، وقد قال الله تعالى: { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } 20 والاستغفار والتوبة قد يكونان من ترك الأفضل. فمن نقل إلى حال أفضل مما كان عليه قد يتوب من الحال الأول، لكن الذم والوعيد لا يكون إلا على ذنب.


هامش

  1. [العنكبوت: 26]
  2. [الأعراف: 88، 89]
  3. [إبراهيم: 13، 14]
  4. [الأحزاب: 73]
  5. [سورة النصر]
  6. [التوبة: 117]
  7. [الزخرف: 13، 14]
  8. [محمد: 19]
  9. [الفتح: 1، 2]
  10. [الفتح: 2]
  11. [طه: 121، 122]
  12. [البقرة: 37]
  13. [الأعراف: 23]
  14. [ الإسراء: 15]
  15. [النور: 54]
  16. [النساء: 84]
  17. [الفتح: 2]
  18. [محمد: 19]
  19. [الفتح: 4]
  20. [النساء: 123]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد العاشر - الآداب والتصوف
كلمات في أعمال القلوب | القائلون بتخليد العصاة | فصل في الأعمال الباطنة | فصل في محبة الله ورسوله | فصل في مرض القلوب وشفائها | فصل مرض القلب نوع فساد | فصل الحسد من أمراض القلوب | فصل أضرار البخل والحسد وغيرهما من أمراض القلوب | سئل الشيخ رحمه الله عن العبادة وفروعها | فصل التفاضل في حقيقة الإيمان | مخالفات السالكين في دعوى حب الله | معوقات تحقيق النفوس لمحبة الله | أكابر الأولياء لم يقعوا في الفناء | سئل شيخ الإسلام عن دعوة ذي النون | فصل الضر لا يكشفه إلا الله | التوحيد والإشراك يكون في أقوال القلب وأعماله | محبة أبي طالب للنبي محبة قرابة ورئاسة | غلط من فضل الملائكة على الأنبياء والصالحين | التائب من الكفر والذنوب قد يكون أفضل ممن تجنبها | فصل في موجبات المغفرة | هل الاعتراف بالذنب المعين يوجب دفع ما حصل بذنوب متعددة | ما السبب في أن الفرج يأتي عند انقطاع الرجاء عن الخلق | فصل في تفسير الفناء الصوفي | فصل في وقوع البدع في أواخر خلافة الخلفاء الراشدين | فصل في خلط متقدمي المتكلمين والمتصوفة كلامهم بأصول الكتاب والسنة | أصل النسبة في الصوفية | فصل في قولهم فلان يسلم إليه حاله | فصل في العبادات والفرق بين شرعيها وبدعيها | أصول العبادات الدينية | فصل في الخلوات | فصل علينا الإيمان بما أوتي الأنبياء والاقتداء بهم | فصل في أهل العبادات البدعية | سئل شيخ الإسلام ما عمل أهل الجنة وما عمل أهل النار | فصل في هل الأفضل للسالك العزلة أو الخلطة | من مستلزمات العقل والبلوغ | فصل في أحب الأعمال إلى الله | سئل عمن يقول الطرق إلى الله عدد أنفاس الخلائق | الرسل جميعا بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها | فصل في طريق العلم والعمل | فصل في كيف يكون السالك وعاء لعلم الله | فصل في شرح أمر الشيخ عبد القادر وشيخه الدباس | فصل في ضرورة مخالفة الهوى في حال الولاية | احتمال خفاء الأمر والنهي على السالك | فصل في العبادة والاستعانة والطاعة والمعصية | سئل عن إحياء علوم الدين وقوت القلوب | فصل في ذكر الله ودعائه | فصل في الصراط المستقيم | فصل في جاذبية الحب | فصل في جماع الزهد والورع | فصل في قول بعض الناس الثواب على قدر المشقة | فصل في تزكية النفس | سئل شيخ الإسلام عن رجل تفقه وعلم هل له أن يقطع الرحم ويسير في الأرض | سئل شيخ الإسلام عن مقامات اليقين | سئل شيخ الإسلام أن يوصي وصية جامعة لأبي القاسم المغربي | سئل شيخ الإسلام عن الصبر الجميل والصفح الجميل والهجر الجميل | سئل شيخ الإسلام عما ذكر القشيري في باب الرضا | سئل شيخ الإسلام فيمن عزم على فعل محرم هل يأثم بمجرد العزم | فصل في الأحاديث التي بها التفريق بين الهام والعامل | مسألة هل توبة العاجز عن الفعل تصح