مجموع الفتاوى/المجلد العاشر/سئل الشيخ رحمه الله عن العبادة وفروعها
سئل الشيخ رحمه الله عن العبادة وفروعها
[عدل]سُئلَ الشيخ رَحمَهُ اللهُ عن قوله عز وجل: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ } 1، فما العبادة وفروعها؟ وهل مجموع الدين داخل فيها أم لا؟ وما حقيقة العبودية؟ وهل هي أعلى المقامات في الدنيا والآخرة أم فوقها شيء من المقامات؟ وليبسطوا لنا القول في ذلك.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، كالصلاة والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم، والمسكين وابن السبيل، والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة.
وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف لعذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله.
وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له والمرضية له، التي خلق الخلق لها، كما قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } 2، وبها أرسل جميع الرسل، كما قال نوح لقومه: { اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } 3، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم.
وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ } 4، وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } 5، وقال تعالى: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } 6، كما قال في الآية الأخرى: { يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } 7. وجعل ذلك لازما لرسوله إلى الموت كما قال: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } 8.
وبذلك وصف ملائكته وأنبياءه، فقال تعالى: { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَّ } 9، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } 10، وذم المستكبرين عنها بقوله: { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } 11.
ونعت صفوة خلقه بالعبودية له، فقال تعالى: { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا } 12، وقال: { وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } الآيات 13، ولما قال الشيطان: { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } 14، قال الله تعالى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ } 15.
وقال في وصف الملائكة بذلك: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } إلى قوله: { وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } 16، وقال تعالى: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا. تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا. وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا. إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا. لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } 17.
وقال تعالى عن المسيح الذي أدعيت فيه الأُلوهية والنبوة: { إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } 18 ؛ ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله».
وقد نعته الله بالعبودية في أكمل أحواله فقال في الإسراء: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا } 19، وقال في الإيحاء: { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } 20، وقال في الدعوة: { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } 21، وقال في التحدي: { وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ } 22، فالدين كله داخل في العبادة.
وقد ثبت في الصحيح: أن جبريل لما جاء إلى النبي ﷺ في صورة أعرابي وسأله عن الإسلام قال: «أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا». قال: فما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدرخيره وشره». قال: فما الإحسان؟ قال «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك«. ثم قال: في آخر الحديث: »هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم» فجعل هذا كله من الدين.
والدين يتضمن معنى الخضوع والذل. يقال: دنته فدان، أي: ذللته فذل، ويقال: يدين الله، ويدين لله أي: يعبد الله ويطيعه ويخضع له، فدين الله عبادته وطاعته والخضوع له.
والعبادة أصل معناها: الذل أيضا يقال: طريق معبد إذا كان مذللا قد وطئته الأقدام.
لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له، فإن آخر مراتب الحب هو التتيم، وأوله العلاقة لتعلق القلب بالمحبوب، ثم الصبابة لانصباب القلب إليه، ثم الغرام وهو الحب اللازم للقلب، ثم العشق وآخرها التتيم يقال: تيم الله، أي: عبد الله، فالمتيم المعبد لمحبوبه.
ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدا له، ولو أحب شيئًا ولم يخضع له لم يكن عابدا له، كما قد يحب ولده وصديقه؛ ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله.
وكل ما أحب لغير الله فمحبته فاسدة، وما عظم بغير أمر الله كان تعظيمه باطلا، قال الله تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ } 23، فجنس المحبة تكون لله ورسوله، كالطاعة، فإن الطاعة لله ورسوله والإرضاء لله ورسوله: { وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ } 24، والإيتاء لله ورسوله: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللهُ وَرَسُولُهُ } 25.
وأما العبادة وما يناسبها من التوكل، والخوف، ونحو ذلك فلا يكون إلا لله وحده، كما قال تعالى: { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } 26، وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ } 27، فالإيتاء لله والرسول كقوله: { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } 28، وأما الحسب وهو الكافي فهو الله وحده، كما قال تعالى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } 29، وقال تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } 30، أي: حسبك وحسب من اتبعك الله.
ومن ظن أن المعنى حسبك الله والمؤمنون معه، فقد غلط غلطًا فاحشا، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع، وقال تعالى: { أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } 31.
وتحرير ذلك: أن العبد يراد به المعبد الذي عبده الله فذلله ودبره وصرفه، وبهذا الاعتبار المخلوقون كلهم عباد الله، من الأبرار والفجار والمؤمنين والكفار وأهل الجنة وأهل النار، إذ هو ربهم كلهم ومليكهم، لا يخرجون عن مشيئته وقدرته، وكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، فما شاء كان وإن لم يشاؤوا. وما شاؤوا إن لم يشأه لم يكن، كما قال تعالى: { أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } 32.
فهو سبحانه رب العالمين وخالقهم، ورازقهم، ومحييهم، ومميتهم، ومقلب قلوبهم، ومصرف أمورهم، لا رب لهم غيره، ولا مالك لهم سواه، ولا خالق إلا هو سواء اعترفوا بذلك أو أنكروه، وسواء علموا ذلك أو جهلوه، لكن أهل الإيمان منهم عرفوا ذلك واعترفوا به، بخلاف من كان جاهلا بذلك، أو جاحدا له مستكبرا على ربه لا يقر ولا يخضع له، مع علمه بأن الله ربه وخالقه.
فالمعرفة بالحق إذا كانت مع الاستكبار عن قبوله والجحد له كان عذابا على صاحبه، كما قال تعالى: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } 33، وقال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } 34، وقال تعالى: { فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ } 35.
فإن اعترف العبد أن الله ربه وخالقه، وأنه مفتقر إليه محتاج إليه عرف العبودية المتعلقة بربوبية الله، وهذا العبد يسأل ربه، فيتضرع إليه ويتوكل عليه، لكن قد يطيع أمره، وقد يعصيه، وقد يعبده مع ذلك، وقد يعبد الشيطان والأصنام.
ومثل هذه العبودية لا تفرق بين أهل الجنة والنار، ولايصير بها الرجل مؤمنا. كما قال تعالى: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } 36، فإن المشركين كانوا يقرون أن الله خالقهم ورازقهم وهم يعبدون غيره، قال تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ } 37، وقال تعالى: { قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ }إلى قوله: { قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ } 38.
وكثير ممن يتكلم في الحقيقة ويشهدها، يشهد هذه الحقيقة وهي الحقيقة الكونية، التي يشترك فيها وفي شهودها ومعرفتها المؤمن، والكافر، والبر، والفاجر، وإبليس معترف بهذه الحقيقة، وأهل النار. قال إبليس: { قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } 39، وقال: { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } 40، وقال: { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } 41، وقال: { أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ } 42، وأمثال هذا من الخطاب الذي يقر فيه بأن الله ربه وخالقه وخالق غيره، وكذلك أهل النار قالوا: { قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ } 43، وقال تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا } 44.
فمن وقف عند هذه الحقيقة وعند شهودها، ولم يقم بما أمر به من الحقيقة الدينية التي هي عبادته المتعلقة بإلهيته، وطاعة أمره وأمر رسوله كان من جنس إبليس وأهل النار، وإن ظن مع ذلك أنه من خواص أولياء الله، وأهل المعرفة والتحقيق الذين يسقط عنهم الأمر والنهي الشرعيان، كان من أشر أهل الكفر والإلحاد.
ومن ظن أن الخضر وغيره سقط عنهم الأمر لمشاهدة الإرادة، ونحو ذلك كان قوله هذا من شر أقوال الكافرين بالله ورسوله. حتى يدخل في النوع الثاني، من معنى العبد وهو العبد بمعنى العابد فيكون عابدا لله لا يعبد إلا إياه، فيطيع أمره وأمر رسله، ويوالي أولياءه المؤمنين المتقين، ويعادي أعداءه، وهذه العبادة متعلقة بإلهيته؛ ولهذا كان عنوان التوحيد لا إله إلا الله بخلاف من يقر بربوبيته ولا يعبده، أو يعبد معه إلهًا آخر، فالإله الذي يألهه القلب بكمال الحب والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف والرجاء ونحو ذلك، وهذه العبادة هي التي يحبها الله ويرضاها، وبها وصف المصطفين من عباده، وبها بعث رسله.
وأما العبد، بمعنى المعبد، سواء أقر بذلك أو أنكره، فتلك يشترك فيها المؤمن والكافر. وبالفرق بين هذين النوعين يعرف الفرق بين الحقائق الدينية الداخلة في عبادة الله ودينه وأمره الشرعي، التي يحبها ويرضاها، ويوالى أهلها، ويكرمهم بجنته، وبين الحقائق الكونية التي يشترك فيها المؤمن والكافر، والبر والفاجر التي من اكتفى بها، ولم يتبع الحقائق الدينية كان من أتباع إبليس اللعين، والكافرين برب العالمين، ومن اكتفى بها في بعض الأمور دون بعض، أو في مقام أو حال نقص من إيمانه وولايته لله، بحسب ما نقص من الحقائق الدينية.
وهذا مقام عظيم فيه غلط الغالطون، وكثر فيه الاشتباه على السالكين، حتى زلق فيه من أكابر الشيوخ المدعين التحقيق، والتوحيد، والعرفان ما لا يحصيهم إلا الله الذي يعلم السر والإعلان، وإلى هذا أشار الشيخ عبد القادر رحمه الله فيما ذكر عنه، فبين أن كثيرا من الرجال، إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا إلا أنا فإني انفتحت لي فيه روزنة، فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والرجل من يكون منازعا للقدر، لا من يكون موافقا للقدر.
والذي ذكره الشيخ رحمه الله هو الذي أمر الله به ورسوله، لكن كثيرا من الرجال غلطوا، فإنهم قد يشهدون ما يقدر على أحدهم من المعاصي والذنوب، أو ما يقدر على الناس من ذلك، بل من الكفر، ويشهدون أن هذا جار بمشيئة الله، وقضائه وقدره داخل في حكم ربوبيته ومقتضى مشيئته، فيظنون الاستسلام لذلك وموافقته والرضا به، ونحو ذلك، دينا وطريقا وعبادة، فيضاهون المشركين الذين قالوا: { لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } 45، وقالوا: { أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ } 46، وقالوا: { لَوْ شَاءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } 47.
ولو هدوا؛ لعلموا أن القدر أمرنا أن نرضى به ونصبر على موجبه في المصائب، التي تصيبنا، كالفقر والمرض والخوف، قال تعالى: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } 48. وقال بعض السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، وقال تعالى: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ. لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } 49.
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «احتج آدم وموسى، فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، فهل وجدت ذلك مكتوبا علي قبل أن أخلق؟قال: نعم. قال: فحج آدم موسى».
وآدم عليه السلام لم يحتج على موسى بالقدر، ظنًا أن المذنب يحتج بالقدر، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل، ولو كان هذا عذرا لكان عذرا لإبليس، وقوم نوح، وقوم هود، وكل كافر، ولا موسى لام آدم أيضا؛ لأجل الذنب، فإن آدم قد تاب إلى ربه، فاجتباه وهدى، ولكن لامه؛ لأجل المصيبة التي لحقتهم بالخطيئة؛ ولهذا قال: فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فأجابه آدم أن هذا كان مكتوبًا قبل أن أخلق، فكان العمل والمصيبة المترتبة عليه مقدرا، وما قدر من المصائب يجب الاستسلام له، فإنه من تمام الرضا بالله ربا.
وأما الذنوب، فليس للعبد أن يذنب، وإذا أذنب، فعليه أن يستغفر ويتوب، فيتوب من المعائب ويصبر على المصائب. قال تعالى: { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } 50، وقال تعالى: { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } 51، وقال: { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } 52، وقال يوسف: { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } 53.
وكذلك ذنوب العباد، يجب على العبد فيها أن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر بحسب قدرته ويجاهد في سبيل الله الكفار والمنافقين، ويوالى أولياء الله، ويعادي أعداء الله، ويحب في الله، ويبغض في الله. كما قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } إلى قوله: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ } 54، وقال تعالى: { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ } إلى قوله: { أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } 55، وقال تعالى: { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } 56، وقال: { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } 57، وقال تعالى: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } 58، وقال تعالى: { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ. وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ. وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ } 59، وقال تعالى: { ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا } 60، وقال تعالى: { ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } إلى قوله: { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } إلى قوله: { وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } 61، وقال تعالى: { لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ } 62.
ونظائر ذلك، مما يفرق الله فيه بين أهل الحق، والباطل، وأهل الطاعة، وأهل المعصية، وأهل البر، وأهل الفجور، وأهل الهدى، والضلال، وأهل الغي، والرشاد، وأهل الصدق والكذب.
فمن شهد الحقيقة الكونية، دون الدينية سوى بين هذه الأجناس المختلفة التي فرق الله بينها غاية التفريق، حتى يؤول به الأمر إلى أن يسوى الله بالأصنام، كما قال تعالى عنهم: { تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } 63 بل قد آل الأمر بهؤلاء إلى أن سووا الله بكل موجود، وجعلوا ما يستحقه من العبادة والطاعة حقا لكل موجود، إذ جعلوه هو وجود المخلوقات، وهذا من أعظم الكفر والإلحاد برب العباد.
وهؤلاء يصل بهم الكفر إلى أنهم لا يشهدون أنهم عباد لا بمعنى أنهم معبدون، ولا بمعنى أنهم عابدون، إذ يشهدون أنفسهم هي الحق، كما صرح بذلك طواغيتهم كابن عربي صاحب الفصوص، وأمثاله من الملحدين المفترين، كابن سبعين وأمثاله، ويشهدون أنهم هم العابدون والمعبودون، وهذا ليس بشهود الحقيقة، لا كونية ولا دينية، بل هو ضلال وعمى عن شهود الحقيقة الكونية، حيث جعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق، وجعلوا كل وصف مذموم، وممدوح نعتًا للخالق والمخلوق، إذ وجود هذا، هو وجود هذا عندهم.
وأما المؤمنون بالله ورسوله، عوامهم وخواصهم، الذين هم أهل الكتاب، كما قال النبي ﷺ: «إن لله أهلين من الناس» قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: «أهل القرآن هم أهل الله، وخاصته». فهؤلاء يعلمون أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، وأن الخالق سبحانه مباين للمخلوق، ليس هو حالا فيه ولا متحدا به ولا وجوده وجوده.
والنصارى، كفرهم الله بأن قالوا بالحلول والاتحاد بالمسيح خاصة، فكيف من جعل ذلك عامًا في كل مخلوق؟.
ويعلمون مع ذلك أن الله أمر بطاعته، وطاعة رسوله، ونهى عن معصيته، ومعصية رسوله، وأنه لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، وإن على الخلق أن يعبدوه، فيطيعوا أمره ويستعينوا به على ذلك، كما قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }.
ومن عبادته وطاعته: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بحسب الإمكان والجهاد في سبيله، لأهل الكفر والنفاق. فيجتهدون في إقامة دينه، مستعينين به، دافعين مزيلين بذلك ما قدر من السيئات، دافعين بذلك ما قد يخاف من ذلك، كما يزيل الإنسان الجوع الحاضر بالأكل، ويدفع به الجوع المستقبل، وكذلك، إذا آن أوان البرد دفعه باللباس، وكذلك كل مطلوب يدفع به مكروه. كما قالوا للنبي ﷺ: يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقى بها وتقاة نتقي بها هل ترد من قدر الله شيئًا؟ فقال: «هي من قدر الله». وفي الحديث: «إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض». فهذا حال المؤمنين بالله ورسوله العابدين لله وكل ذلك من العبادة.
وهؤلاء الذين يشهدون الحقيقة الكونية، وهي ربوبيته تعالى لكل شيء، ويجعلون ذلك مانعا من اتباع أمره الديني الشرعي على مراتب في الضلال.
فغلاتهم يجعلون ذلك مطلقًا عاما، فيحتجون بالقدر في كل ما يخالفون فيه الشريعة، وقول هؤلاء شر من قول اليهود والنصارى، وهو من جنس قول المشركين الذين قالوا: { لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } 64، وقالوا: { لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } 65.
وهؤلاء من أعظم أهل الأرض تناقضا، بل كل من احتج بالقدر، فإنه متناقض، فإنه لا يمكن أن يقر كل آدمي على ما فعل، فلابد إذا ظلمه ظالم، أو ظلم الناس ظالم، وسعى في الأرض بالفساد وأخذ يسفك دماء الناس ويستحل الفروج ويهلك الحرث والنسل ونحو ذلك من أنواع الضرر التي لا قوام للناس بها أن يدفع هذا القدر، وأن يعاقب الظالم بما يكف عدوان أمثاله. فيقال له: إن كان القدر حجة فدع كل أحد يفعل ما يشاء بك وبغيرك، وإن لم يكن حجة بطل أصل قولك: حجة. وأصحاب هذا القول الذين يحتجون بالحقيقة الكونية لايطردون هذا القول ولا يلتزمونه، وإنما هم بحسب آرائهم وأهوائهم، كما قال فيهم بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به.
ومنهم صنف يدعون التحقيق والمعرفة، فيزعمون أن الأمر والنهي لازم لمن شهد لنفسه فعلا، وأثبت له صنعا، أما من شهد أن أفعاله مخلوقة، أو أنه مجبور على ذلك، وأن الله هو المتصرف فيه، كما تحرك سائر المتحركات، فإنه يرتفع عنه الأمر والنهي، والوعد والوعيد.
وقد يقولون: من شهد الإرادة، سقط عنه التكليف، ويزعم أحدهم أن الخضر سقط عنه التكليف؛ لشهوده الإرادة، فهؤلاء لا يفرقون بين العامة والخاصة الذين شهدوا الحقيقة الكونية، فشهدوا أن الله خالق أفعال العباد، وأنه يدبر جميع الكائنات، وقد يفرقون بين من يعلم ذلك علما، وبين من يراه شهودا، فلا يسقطون التكليف عمن يؤمن بذلك ويعلمه فقط، ولكن عمن يشهده، فلا يرى لنفسه فعلا أصلا، وهؤلاء لا يجعلون الجبر وإثبات القدر مانعا من التكليف على هذا الوجه.
وقد وقع في هذا طوائف من المنتسبين إلى التحقيق والمعرفة والتوحيد.
وسبب ذلك أنه ضاق نطاقهم، عن كون العبد يؤمر بما يقدر عليه خلافه، كما ضاق نطاق المعتزلة، ونحوهم من القدرية عن ذلك. ثم المعتزلة أثبتت الأمر والنهي الشرعيين دون القضاء والقدر الذي هو إرادة الله العامة وخلقه لأفعال العباد، وهؤلاء أثبتوا القضاء والقدر، ونفوا الأمر والنهي، في حق من شهد القدر، إذ لم يمكنهم نفي ذلك مطلقًا. وقول هؤلاء شر من قول المعتزلة؛ ولهذا لم يكن في السلف من هؤلاء أحد، وهؤلاء يجعلون الأمر والنهي للمحجوبين الذين لم يشهدوا هذه الحقيقة الكونية؛ ولهذا يجعلون من وصل إلى شهود هذه الحقيقة يسقط عنه الأمر والنهي، وصار من الخاصة.
وربما تأولوا على ذلك قوله تعالى: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } 66، وجعلوا اليقين هو معرفة هذه الحقيقة، وقول هؤلاء كفر صريح. وإن وقع فيه طوائف لم يعلموا أنه كفر، فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام، أن الأمر والنهي لازم لكل عبد ما دام عقله حاضرا إلى أن يموت، لا يسقط عنه الأمر والنهي، لا بشهوده القدر، ولا بغير ذلك، فمن لم يعرف ذلك عرفه، وبين له فإن أصر على اعتقاد سقوط الأمر والنهي فإنه يقتل. وقد كثرت مثل هذه المقالات في المستأخرين.
وأما المستقدمون من هذه الأمة، فلم تكن هذه المقالات معروفة فيهم.
وهذه المقالات هي محادة لله ورسوله، ومعاداة له، وصد عن سبيله، ومشاقة له، وتكذيب لرسله، ومضادة له في حكمه، وإن كان من يقول هذه المقالات قد يجهل ذلك ويعتقد أن هذا الذي هو عليه هو طريق الرسول، وطريق أولياء الله المحققين، فهو في ذلك بمنزلة من يعتقد أن الصلاة لا تجب عليه؛ لاستغنائه عنها بما حصل له من الأحوال القلبية، أو أن الخمر حلال له؛ لكونه من الخواص الذين لا يضرهم شرب الخمر، أو أن الفاحشة حلال له؛ لأنه صار كالبحر لا تكدره الذنوب، ونحو ذلك.
ولا ريب أن المشركين الذين كذبوا الرسل يترددون بين البدعة المخالفة لشرع الله، وبين الاحتجاج بالقدر على مخالفة أمر الله. فهؤلاء الأصناف فيهم شبه من المشركين، إما أن يبتدعوا، وإما أن يحتجوا بالقدر، وإما أن يجمعوا بين الأمرين. كما قال تعالى عن المشركين: { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } 67، وكما قال تعالى عنهم: { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } 68.
وقد ذكر عن المشركين ما ابتدعوه من الدين الذي فيه تحليل الحرام، والعبادة التي لم يشرعها الله بمثل قوله تعالى: { وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ } إلى آخر السورة 69، وكذلك في سورة الأعراف في قوله: { يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ } إلى قوله: { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ }إلى قوله: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } إلى قوله: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ } إلى قوله: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } 70.
وهؤلاء قد يسمون ما أحدثوه من البدع حقيقة، كما يسمون ما يشهدون من القدر حقيقة. وطريق الحقيقة عندهم هو السلوك الذي لا يتقيد صاحبه بأمر الشارع ونهيه، ولكن بما يراه ويذوقه ويجده، ونحو ذلك. وهؤلاء لا يحتجون بالقدر مطلقًا، بل عمدتهم اتباع آرائهم وأهوائهم، وجعلهم لما يرونه ويهوونه حقيقة، وأمرهم باتباعها، دون اتباع أمر الله ورسوله، نظير بدع أهل الكلام من الجهمية، وغيرهم، الذين يجعلون ما ابتدعوه من الأقوال المخالفة للكتاب والسنة حقائق عقلية يجب اعتقادها، دون ما دلت عليه السمعيات. ثم الكتاب والسنة، إما أن يحرفوه عن مواضعه، وإما أن يعرضوا عنه بالكلية، فلا يتدبرونه ولا يعقلونه، بل يقولون: نفوض معناه إلى الله، مع اعتقادهم نقيض مدلوله. وإذا حقق على هؤلاء ما يزعمونه من العقليات المخالفة للكتاب والسنة، وجدت جهليات واعتقادات فاسدة.
وكذلك أولئك إذا حقق عليهم ما يزعمونه من حقائق أولياء الله، المخالفة للكتاب والسنة، وجدت من الأهواء التي يتبعها أعداء الله لا أولياؤه.
وأصل ضلال من ضل، هو بتقديم قياسه على النص المنزل من عند الله، واختياره الهوي على اتباع أمر الله، فإن الذوق والوجد ونحو ذلك، هو بحسب ما يحبه العبد، فكل محب له ذوق، ووجد بحسب محبته. فأهل الإيمان لهم من الذوق والوجد مثل ما بينه النبي ﷺ بقوله في الحديث الصحيح: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار». وقال ﷺ في الحديث الصحيح: «ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا».
وأما أهل الكفر والبدع والشهوات، فكل بحسبه، قيل لسفيان بن عيينة: ما بال أهل الأهواء لهم محبة شديدة لأهوائهم؟ فقال: أنسيت قوله تعالى: { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } 71؟، أو نحو هذا من الكلام. فعباد الأصنام يحبون آلهتهم، كما قال تعالى: { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } 72، وقال: { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللهِ } 73، وقال: { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى } 74 ؛ ولهذا يميل هؤلاء إلى سماع الشعر والأصوات التي تهيج المحبة المطلقة، التي لا تختص بأهل الإيمان، بل يشترك فيها محب الرحمن، ومحب الأوثان، ومحب الصلبان، ومحب الأوطان، ومحب الإخوان، ومحب المردان، ومحب النسوان. وهؤلاء الذين يتبعون أذواقهم، ومواجيدهم من غير اعتبار لذلك بالكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة.
فالمخالف لما بعث به رسوله من عبادته وطاعته، وطاعة رسوله لا يكون متبعا لدين، شرعه الله، كما قال تعالى: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللهِ شَيْئًا } إلى قوله: { وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } 75، بل يكون متبعا لهواه بغير هدى من الله، قال تعالى: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ } 76، وهم في ذلك تارة يكونون على بدعة يسمونها حقيقة يقدمونها على ما شرعه الله، وتارة يحتجون بالقدر الكوني على الشريعة، كما أخبر الله به عن المشركين، كما تقدم.
ومن هؤلاء طائفة هم أعلاهم قدرا، وهم مستمسكون بالدين في أداء الفرائض المشهورة، واجتناب المحرمات المشهورة، لكن يغلطون في ترك ما أمروا به من الأسباب التي هي عبادة، ظانين أن العارف إذا شهد القدر أعرض عن ذلك، مثل من يجعل التوكل منهم أو الدعاء، ونحو ذلك من مقامات العامة دون الخاصة، بناء على أن من شهد القدر علم أن ما قدر سيكون، فلا حاجة إلى ذلك، وهذا غلط عظيم. فإن الله قدر الأشياء بأسبابها كما قدر السعادة والشقاوة بأسبابها، كما قال النبي ﷺ: «إن الله خلق للجنة أهلا، خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وبعمل أهل الجنة يعملون»، وكما قال النبي ﷺ لما أخبرهم بأن الله كتب المقادير فقالوا: يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال: «لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة، فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة، فسييسر لعمل أهل الشقاوة».
فما أمر الله به عباده من الأسباب فهو عبادة والتوكل مقرون بالعبادة كما في قوله تعالى: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } 77، وفي قوله: { قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } 78، وقول شعيب عليه السلام: { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } 79.
ومنهم طائفة قد تترك المستحبات من الأعمال دون الواجبات، فتنقص بقدر ذلك.
ومنهم طائفة يغترون بما يحصل لهم من خرق عادة مثل مكاشفة، أو استجابة دعوة مخالفة العادة العامة، ونحو ذلك، فيشتغل أحدهم عما أمر به من العبادة، والشكر، ونحو ذلك.
فهذه الأمور ونحوها كثيرا ما تعرض لأهل السلوك والتوجه، وإنما ينجو العبد منها بملازمة أمر الله الذي بعث به رسوله في كل وقت. كما قال الزهري: كان من مضى من سلفنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة. وذلك أن السنة كما قال مالك رحمه الله مثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق.
والعبادة، والطاعة، والاستقامة، ولزوم الصراط المستقيم، ونحو ذلك من الأسماء مقصودها واحد، ولها أصلان:
أحدهما: ألا يعبد إلا الله.
والثاني: أن يعبد بما أمر وشرع لا بغير ذلك من البدع. قال تعالى: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } 80، وقال تعالى: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } 81، وقال تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } 82، فالعمل الصالح هو الإحسان وهو فعل الحسنات. والحسنات، هي ما أحبه الله ورسوله، وهو ما أمر به أمر إىجاب، أو استحباب، فما كان من البدع في الدين التي ليست مشروعة، فإن الله لايحبها ولا رسوله، فلا تكون من الحسنات، ولا من العمل الصالح، كما أن من يعمل ما لايجوز كالفواحش، والظلم ليس من الحسنات، ولا من العمل الصالح.
وأما قوله: { وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } وقوله: { أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ }، فهو إخلاص الدين لله وحده، وكان عمر بن الخطاب يقول: اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا.
وقال الفضيل بن عياض في قوله: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } 83، قال: أخلصه، وأصوبه. قالوا: يا أبا على، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.
فإن قيل: فإذا كان جميع ما يحبه الله داخلا في اسم العبادة، فلماذا عطف عليها غيرها، كقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، وقوله: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } 84، وقال نوح: { أَنْ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِي } 85، وكذلك قول غيره من الرسل. قيل: هذا له نظائر، كما في قوله: { إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } 86، والفحشاء من المنكر، وكذلك قوله: { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ } 87، وإيتاء ذي القربى هو من العدل والإحسان، كما أن الفحشاء والبغي من المنكر، وكذلك قوله: { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } 88، وإقامة الصلاة من أعظم التمسك بالكتاب، وكذلك قوله: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } 89، ودعاؤهم رغبا ورهبا من الخيرات، وأمثال ذلك في القرآن كثير.
وهذا الباب يكون تارة مع كون أحدهما بعض الآخر، فيعطف عليه تخصيصًا له بالذكر ؛ لكونه مطلوبا بالمعنى العام، والمعنى الخاص، وتارة تكون دلالة الاسم تتنوع بحال الانفراد والاقتران، فإذا أفرد عم، وإذا قرن بغيره خص، كاسم الفقير، والمسكين لما أفرد أحدهما في مثل قوله: { لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ } 90، وقوله: { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } 91، دخل فيه الآخر، ولما قرن بينهما في قوله: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } 92 صارا نوعين.
وقد قيل: إن الخاص المعطوف على العام لايدخل في العام حال الاقتران، بل يكون من هذا الباب. والتحقيق أن هذا ليس لازما، قال تعالى: { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } 93، وقال تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } 94.
وذكر الخاص مع العام يكون، لأسباب متنوعة، تارة لكونه له خاصية ليست لسائر أفراد العام، كما في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وتارة؛ لكون العام فيه إطلاق قد لا يفهم منه العموم، كما في قوله: { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } 95، فقوله: يؤمنون بالغيب يتناول الغيب الذي يجب الإيمان به، لكن فيه إجمال، فليس فيه دلالة على أن من الغيب، ما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك. وقد يكون المقصود أنهم يؤمنون بالمخبر به وهو الغيب، وبالإخبار بالغيب، وهو ما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك.
ومن هذا الباب قوله تعالى: { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلَاةَ } 96، وقوله: { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } 97، وتلاوة الكتاب، هي اتباعه، كما قال ابن مسعود في قوله تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } 98، قال: يحللون حلاله ويحرمون حرامه، ويؤمنون بمتشابهه ويعملون بمحكمه، فاتباع الكتاب يتناول الصلاة وغيرها، لكن خصها بالذكر لمزيتها. وكذلك قوله لموسى: { إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } 99، وإقامة الصلاة لذكره من أجل عبادته، وكذلك قوله تعالى: { اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } 100، وقوله: { اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } 101، وقوله: { اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } 102، فإن هذه الأمور هي أيضا من تمام تقوى الله، وكذلك قوله: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } 103، فإن التوكل والاستعانة هي من عبادة الله، لكن خصت بالذكر، ليقصدها المتعبد بخصوصها، فإنها هي العون على سائر أنواع العبادة إذ هو سبحانه لا يعبد إلا بمعونته.
إذا تبين هذا، فكمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وكلما ازداد العبد تحقيقا للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه. أو أن الخروج عنها أكمل فهو من أجهل الخلق وأضلهم. قال تعالى: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } إلى قوله: { وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } 104، وقال تعالى: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا } إلى قوله: { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا. لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } 105، وقال تعالى في المسيح: { إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } 106، وقال تعالى: { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ } 107، وقال تعالى: { لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا } إلى قوله: { وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا } 108، وقال تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } 109، وقال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ. فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } 110، وقال تعالى: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } إلى قوله: { إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } 111.
وهذا ونحوه مما فيه وصف أكابر المخلوقات بالعبادة، وذم من خرج عن ذلك متعدد في القرآن، وقد أخبر أنه أرسل جميع الرسل بذلك. فقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِي } 112، وقال: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } 113، وقال تعالى لبني إسرائيل: { يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِي } 114، { وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِي } 115، وقال: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } 116، وقال: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي } 117، وقال تعالى: { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ. قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلْ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي. فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ } 118.
وكل رسول من الرسل افتتح دعوته بالدعاء إلى عبادة الله، كقول نوح ومن بعده عليهم السلام: { اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } 119، وفي المسند عن ابن عمر عن النبي ﷺ أنه قال: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري».
وقد بين أن عباده هم الذين ينجون من السيئات، قال الشيطان: { بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ّ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } 120، قال تعالى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ } 121، وقال: { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ } 122، وقال في حق يوسف: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } 123، وقال: { سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ } 124، وقال: { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } 125، وبها نعت كل من اصطفي من خلقه، كقوله: { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ. إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنْ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ } 126، وقوله: { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ } 127، وقال عن سليمان: { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } 128، وعن أيوب: { نِعْمَ الْعَبْدُ } 129، وقال: { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ } 130، وقال عن نوح عليه السلام: { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } 131، وقال: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } 132، وقال { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ } 133، وقال: { وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } 134، وقال: { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } 135، وقال: { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ } 136، وقال: { وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } 137، ومثل هذا كثير متعدد في القرآن.
هامش
- ↑ [البقرة: 21]
- ↑ [الذاريات: 56]
- ↑ [المؤمنون: 23]
- ↑ [النحل: 36]
- ↑ [الأنبياء: 25]
- ↑ [الأنبياء: 92]
- ↑ [المؤمنون: 51]
- ↑ [الحجر: 99]
- ↑ [الأنبياء: 19، 20]
- ↑ [الأعراف: 206]
- ↑ [غافر: 60]
- ↑ [الإنسان: 6]
- ↑ [الفرقان: 63]
- ↑ [الحجر: 39، 40]
- ↑ [الحجر: 42]
- ↑ [الأنبياء: 26 28]
- ↑ [مريم: 88 95]
- ↑ [الزخرف: 59]
- ↑ [الإسراء: 1]
- ↑ [النجم: 10]
- ↑ [الجن: 19]
- ↑ [البقرة: 23]
- ↑ [التوبة: 24]
- ↑ [التوبة: 62]
- ↑ [التوبة: 59]
- ↑ [آل عمران: 64 ]
- ↑ [التوبة: 59]
- ↑ [الحشر: 7]
- ↑ [آل عمران: 173]
- ↑ [الأنفال: 64]
- ↑ [الزمر: 36]
- ↑ [آل عمران: 83]
- ↑ [النمل: 14]
- ↑ [البقرة: 146]
- ↑ [الأنعام: 33]
- ↑ [يوسف: 106]
- ↑ [لقمان: 25، الزمر: 38]
- ↑ [المؤمنون: 84 89]
- ↑ [الحجر: 36]
- ↑ [الحجر: 39]
- ↑ [ص: 82]
- ↑ [الإسراء: 62]
- ↑ [المؤمنون: 106]
- ↑ [الأنعام: 30]
- ↑ [الأنعام: 148]
- ↑ [يس: 47]
- ↑ [الزخرف: 20]
- ↑ [التغابن: 11]
- ↑ [الحديد: 22، 23]
- ↑ [غافر: 55]
- ↑ [آل عمران: 120]
- ↑ [آل عمران: 186]
- ↑ [يوسف: 90]
- ↑ [الممتحنة: 1 4]
- ↑ [المجادلة: 22]
- ↑ [القلم: 53]
- ↑ [ص: 28]
- ↑ [الجاثية: 21]
- ↑ [فاطر: 1922]
- ↑ [الزمر: 29]
- ↑ [النحل: 75، 76]
- ↑ [الحشر: 20]
- ↑ [الشعراء: 97، 98]
- ↑ [الأنعام: 148]
- ↑ [الزخرف: 20]
- ↑ [الحجر: 99]
- ↑ [ الأعراف: 28 ]
- ↑ [ الأنعام: 148]
- ↑ [الأنعام: 138-165]
- ↑ [الأعراف: 2733]
- ↑ [البقرة: 93]
- ↑ [البقرة: 165]
- ↑ [القصص: 50]
- ↑ [النجم: 23]
- ↑ [ الجاثية: 17، 18]
- ↑ [الشورى: 21]
- ↑ [هود: 123]
- ↑ [الرعد: 30]
- ↑ [هود: 88]
- ↑ [الكهف: 110]
- ↑ [البقرة: 112]
- ↑ [النساء: 125]
- ↑ [هود: 7، الملك: 2]
- ↑ [هود: 123]
- ↑ [نوح: 3]
- ↑ [العنكبوت: 45]
- ↑ [النحل: 90]
- ↑ [الأعراف: 170]
- ↑ [الأنبياء: 90]
- ↑ [البقرة: 273]
- ↑ [المائدة: 89]
- ↑ [التوبة: 60]
- ↑ [البقرة: 98]
- ↑ [الأحزاب: 7]
- ↑ [البقرة: 24]
- ↑ [العنكبوت: 45]
- ↑ [الأعراف: 170]
- ↑ [البقرة: 121]
- ↑ [طه: 14]
- ↑ [الأحزاب: 70]
- ↑ [المائدة: 35]
- ↑ [التوبة: 119]
- ↑ [هود: 123]
- ↑ [الأنبياء: 26 28]
- ↑ [مريم: 88 95]
- ↑ [الزخرف: 59]
- ↑ [الأنبياء: 19، 20]
- ↑ [النساء: 172، 173]
- ↑ [غافر: 60]
- ↑ [فصلت: 37، 38]
- ↑ [الأعراف: 205، 206]
- ↑ [الأنبياء: 25]
- ↑ [النحل: 36]
- ↑ [العنكبوت: 56]
- ↑ [البقرة: 41]
- ↑ [البقرة: 21]
- ↑ [الذاريات: 56]
- ↑ [الزمر: 11 15]
- ↑ [المؤمنون: 23]
- ↑ [الحجر: 39، 40]
- ↑ [الحجر: 42]
- ↑ [ص: 82، 83]
- ↑ [يوسف: 24]
- ↑ [الصافات: 159، 160]
- ↑ [ النحل: 99، 100]
- ↑ [ ص47]
- ↑ [ص: 17]
- ↑ [ص: 30]
- ↑ [ص: 44]
- ↑ [ص: 41]
- ↑ [الإسراء: 3]
- ↑ [الإسراء: 1]
- ↑ [الجن: 19]
- ↑ [البقرة: 23]
- ↑ [النجم: 10]
- ↑ [الإنسان: 6]
- ↑ [الفرقان: 63]