مجموع الفتاوى/المجلد الرابع/سئل وهو بمصر عن عذاب القبر
سئل وهو بمصر عن عذاب القبر
[عدل]سُئِلَ شَيْخ الإسْلام قَدَّسَ الله رُوحَه وهو بمصر عن عذاب القبر: هل هو على النَّفْس والبَدن أو على النفس دون البدن؟ والميت يعذب في قبره حيًا أم ميتًا؟ وإن عادت الروح إلى الجسد أم لم تَعُدْ، فهل يتشاركان في العذاب والنعيم؟ أو يكون ذلك على أحدهما دون الآخر؟
فأَجَابَ رَضِىَ الله عَنْهُ، وجعل جنة الفردوس منقلبه ومثواه آمين:
الحمد لله رب العالمين. بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعًا باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن، وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعتين، كما يكون للروح منفردة عن البدن.
وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح؟
هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنة والكلام، وفي المسألة أقوال شاذة ليست من أقوال أهل السنة والحديث، قول من يقول: إن النعيم والعذاب لا يكون إلا على الروح؛ وأن البدن لا ينعم ولا يعذب. وهذا تقوله الفلاسفة المنكرون لمعاد الأبدان، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين.
ويقوله كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم، الذين يقولون: لا يكون ذلك في البرزخ، وإنما يكون عند القيام من القبور.
وقول من يقول: إن الروح بمفردها لا تنعم ولا تعذب، وإنما الروح هي الحياة، وهذا يقوله طوائف من أهل الكلام، من المعتزلة، وأصحاب أبي الحسن الأشعري، كالقاضي أبي بكر، وغيرهم، وينكرون أن الروح تبقى بعد فراق البدن، وهذا قول باطل، خالفه الأستاذ أبو المعالي الجويني وغيره، بل قد ثبت في الكتاب والسنة، واتفاق سلف الأمة، أن الروح تبقى بعد فراق البدن، وأنها منعمة أو معذبة.
من يعتقد أنه متمسك بدين الإسلام، بل من يظن أنه من أهل المعرفة والتصوف، والتحقيق والكلام.
والقول الثالث الشاذ: قول من يقول: إن البرزخ ليس فيه نعيم ولا عذاب، بل لا يكون ذلك حتى تقوم القيامة الكبرى، كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة، ونحوهم، الذين ينكرون عذاب القبر ونعيمه، بناء على أن الروح لا تبقى بعد فراق البدن، وأن البدن لا ينعم ولا يعذب.
فجميع هؤلاء الطائفتين ضلال في أمر البرزخ، لكنهم خير من الفلاسفة؛ لأنهم يقرون بالقيامة الكبرى.
فإذا عرفت هذه الأقوال الثلاثة الباطلة، فاعلم أن مذهب سلف الأمة وأئمتها: أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه ولبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحيانًا، فيحصل له معها النعيم والعذاب.
ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى أجسادها، وقاموا من قبورهم لرب العالمين.
ومعاد الأبدان متفق عليه عند المسلمين، واليهود، والنصارى. وهذا كله متفق عليه عند علماء الحديث والسنة.
وهل يكون للبدن دون الروح نعيم أو عذاب؟ أثبت ذلك طائفة منهم، وأنكره أكثرهم.
ونحن نذكر ما يبين ما ذكرناه. فأما أحاديث عذاب القبر ومسألة منكر ونكير: فكثيرة متواترة عن النبي ﷺ، مثل ما في الصحيحين: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ مرَّ بقبرين فقال: «إنهما ليُعَذَّبان وما يُعَذَّبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشى بالنَّمِيمة، وأما الآخر فكان لا يَسْتَتِر من بَوْله»، ثم دعا بجريدة رطبة فشقها نصفين، ثم غرز في كل قبر واحدة. فقالوا: يا رسول الله، لم فعلتَ هذا؟ قال: «لعله يُخفَّف عنهما ما لم يَيبَْسَا».
وفي صحيح مسلم عن زيد بن ثابت قال: بينا رسول الله ﷺ في حائط لبني النجار على بغلة ونحن معه إذ جالت به، فكادت تلقيه، فإذا أقبر ستة أو خمسة، أو أربعة. فقال: «من يعرف هذه القبور؟» فقال رجل: أنا. قال: «فمتى هؤلاء؟» قال: ماتوا في الإشراك. فقال: «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها؛ فلولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يُسِمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه»، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: «تَعوَّذوا بالله من عذاب القبر». قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر. قال: «تعوذوا بالله من عذاب النار». قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. قال: «تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن». قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قال: «تعوذوا بالله من فتنة الدجال». قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال.
وفي صحيح مسلم وسائر السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيﷺ قال: «إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليقل: أعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال».
وفي صحيح مسلم وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات».
وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي أيوب الأنصاري قال: خرج النبي ﷺ وقد وجَبَتِ الشمس، فقال: «يهود يعذبون في قبورهم». 1
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت عليّ عجوز من عجائز يهود المدينة، فقالت: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم. قالت: فكذبتها ولم أنْعَمْ أن أصدقها، قالت: فخرجت فدخل عليَّ رسول الله ﷺ، فقلت: يا رسول الله، عجوز من عجائز أهل المدينة دخلت علىّ، فزعمت أن أهل القبور يعذبون في قبورهم. فقال: «صَدَقَتْ، إنهم يعذبون عذابًا يسمعه البهائم كلها»، فما رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر.
وفي صحيح أبي حاتم البستي عن أم مُبَشِّر رضي الله عنها قالت: دخل عليّ رسول الله ﷺ وأنا في حائط وهو يقول: «تعوذوا بالله من عذابالقبر». فقلت: يا رسول الله، للقبر عذاب؟ فقال: «إنهم ليعذبون في قبورهم عذابًا تسمعه البهائم».
قال بعضهم: ولهذا السبب يذهب الناس بدوابهم إذا مغلت 2 إلى قبور اليهود، والنصارى والمنافقين، كالإسماعيلية والنصيرية، وسائر القرامطة: من بني عبيد وغيرهم، الذين بأرض مصر والشام وغيرهما؛ فإن أهل الخيل يقصدون قبورهم لذلك، كما يقصدون قبور اليهود والنصارى، والجهال تظن أنهم من ذرية فاطمة، وأنهم من أولياء الله، وإنما هو من هذا القبيل. فقد قيل: إن الخيل إذا سمعت عذاب القبر حصلت لها من الحرارة ما يذهب بالمغل. والحديث في هذا كثير لا يتسع له هذا السؤال.
وأحاديث المسألة كثيرة أيضا، كما في الصحيحين والسنن عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «المسلم إذا سئل في قبره شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله ؛ فذلك قول الله تعالى: {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} 3. وفي لفظ: «نزلت في عذاب القبر يقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، وذلك قول الله تعالى: {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ} 4.
وهذا الحديث قد رواه أهل السنن والمسانيد مطولًا، كما في سنن أبي داود وغيره عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس النبي ﷺ وجلسنا حوله، كأنما على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به الأرض، فرفع رأسه فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر» مرتين أو ثلاثا، وذكر صفة قبض الروح وعروجها إلى السماء، ثم عودها إليه. إلى أن قال: «وإنه ليسمع خَفْقَ نعالهم إذا وَلُّوا مدبرين حين يقال له: يا هذا، من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟» .
وفي لفظ: «فيأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان: ما هذا الرجل الذي أرسل فيكم؟» قال: «فيقول: هو رسول الله. فيقولان: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت به، وصدقت به، فذلك قول الله: {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاء} 5». قال: «فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فافرشوا له في الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة». قال: «فيأتيه من روحها وطيبها». قال: «ويفسح له مد بصره» . قال: «وإن الكافر» فذكر موته. وقال: «وتعاد روحه إلى جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول هاه، هاه، لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه. هاه. لا أدري، فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي، فافرشوا له من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار». قال: «ويأتيه من حَرّها وسُمومها». قال: «ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه» . قال: «ثم يقيض له أعمى أبكم معه مِرْزَبَة من حديد، لو ضرب بها جبل لصار ترابًا» . قال: «فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين، فيصير ترابًا، ثم تعاد فيه الروح».
فقد صرح الحديث بإعادة الروح إلى الجسد، وباختلاف أضلاعه، وهذا بين في أن العذاب على الروح والبدن مجتمعين.
وقد روى مثل حديث البراء في قبض الروح والمسألة، والنعيم والعذاب، رواه أبوهريرة، وحديثه في المسند وغيره، ورواه أبو حاتم ابن حِبَّان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «إن الميت إذا وضع في قبره يسمع خفق نعالهم، إذا ولوا عنه مدبرين، فإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الصدقة عن شماله، وكان فعل الخير من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان عند رجليه، فيأتيه الملكان من قبل رأسه، فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يمينه، ويقول الصيام: ما قِبَلي مدخل، ثم يؤتى عن يساره، فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من قبل رجليه، فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة، والمعروف والإحسان: ما قبلي مدخل! فيقول له: اجلس فيجلس قد مَثُلَتْ له الشمس، وقد أصغت للغروب. فيقول: دعوني حتى أصلي: فيقولون: إنك ستصلي، أخبرنا عما نسألك عنه، أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقولون فيه ؟ وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: محمد، نشهد أنه رسول الله، جاء بالحق من عند الله فيقال له: على ذلك حييت، وعلى ذلك تُبْعَث إن شاء الله، ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيقال: هذا مقعدك، وما أعد الله لك فيها، فيزداد غِبْطَةً وسرورًا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعًا، ويُنَوَّر له فيه، ويعاد الجسد لما بدئ منه، وتجعل روحه نَسَم طير يعلق في شجر الجنة». قال: «فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاء} 6 .
وذكر في الكافر ضد ذلك أنه قال: «يضيق عليه قبره إلى أن تختلف فيه أضلاعه» فتلك المعيشة الضنك، التي قال الله تعالى: {لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} 7. هذا الحديث أخصر.
وحديث البراء المتقدم أطول ما في السنن، فإنهم اختصروه لذكر ما فيه من عذاب القبر، وهو في المسند وغيره بطوله. وهو حديث حسن ثابت يقول النبي ﷺ فيه: «إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة، وانقطاع من الدنيا، نزلت إليه ملائكة بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحَنُوط من حنوط الجنة، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة ورضوان» . قال: «فتخرج تسيل كما تسيل القَطْرَة من في السِّقاء، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها. فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض». قال: «فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه في الدنيا، فينتهون به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له فيفتح له». قال: «فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهوا بها إلى السماء السابعة. فيقول: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى». قال: «فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه». وذكر المسألة كما تقدم، قال: «ويأتيه رجل حسن الوجه، طيب الريح، فيقول له: أبشر بالذي يسرك، فهذا يومك الذي قد كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ ! فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: رب، أقم الساعة، رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي». قال: «وإن العبد الكافر إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط الله وغضبه، فتفرق في أعضائه كلها، فينتزعها كما ينتزع السَّفُّود 8 من الصوف المبلول، فتتقطع معها العروق والعصب». قال: «فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في تلك المسوح». قال: «فيخرج منها كأنتن ما يكون من جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا؛ حتى ينتهوا إلى السماء الدنيا، فيستفتحون لها فلا يفتح لها»، ثم قرأ رسول الله ﷺ: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} 9، ثم يقول الله تعالى: «اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى» قال: «فتطرح روحه طرحًا». ثم قرأ رسول الله ﷺ: }أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} ]</ref>الحج: 31]</ref>. قال: «فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري». وساق الحديث كما تقدم إلى أن قال: «ويأتيه رجل قبيح الوجه مُنْتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك؛ هذا عملك الذي قد كنت توعد ؛ فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي لا يأتي بالخير؟ قال: أنا عملك السوء. فيقول: رب، لا تقم الساعة»، ثلاث مرات.
ففي هذا الحديث أنواع من العلم:
منها: أن الروح تبقى بعد مفارقة البدن، خلافًا لضلال المتكلمين، وأنها تصعد وتنزل خلافًا لضلال الفلاسفة، وأنها تعاد إلى البدن، وأن الميت يسأل، فينعم أو يعذب، كما سأل عنه أهل السؤال، وفيه أن عمله الصالح أو السيئ يأتيه في صورة حسنة أو قبيحة.
وفي الصحيحين عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع خَفْق نعالهم، أتاه ملكان فيقررانه. فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه محمد عبد الله ورسوله». قال: «فيقول: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة». قال رسول الله ﷺ: «فيراهما كليهما». قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعًا، ويملأ عليه خضرًا إلى يوم يبعثون. ثم نرجع إلى حديث أنس: «ويأتيان الكافر والمنافق فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول كما يقول الناس. فيقول: لا دريت ولا تليت. ثم يضرب بمطارق من حديد بين أذنيه، فيصيح صيحة فيسمعها من عليها غير الثقلين».
وروى الترمذي وأبو حاتم في صحيحه وأكثر اللفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا قبر أحدكم الإنسان، أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لهما: منكر والآخر نكير. فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ فهو قائل ما كان يقول، فإن كان مؤمنًا قال: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. فيقولان: إنا كنا لنعلم أنك تقول ذلك .
ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعًا، وينور له فيه، ويقال له: نم. فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم. فيقولان له: نم، كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك. وإن كان منافقًا قال: لا أدري، كنت أسمع الناس يقولون شيئا فقلته. فيقولان: إنا كنا نعلم أنك تقول ذلك. ثم يقال للأرض: التئمي عليه، فتلتئم عليه، حتى تختلف فيها أضلاعه، فلا يزال معذبًا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك» وهذا الحديث فيه اختلاف أضلاعه وغير ذلك، مما يبين أن البدن نفسه يعذب.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «إذا احتضر الميت أتته الملائكة بحريرة بيضاء. فيقولون: اخرجي كأطيب ريح المسك، حتى إنه ليناوله بعضهم بعضًا، حتى يأتوا به باب السماء، فيقولون: ما أطيب هذا الريح متى جاءتكم من الأرض؟ فيأتون به أرواح المؤمنين، فَلَهُمْ أشد فرحًا به من أحدكم بغائبه يقدم عليه، يسألونه: ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دعوه، فإنه في غم الدنيا، فإذا قال: إنه أتاكم. قالوا: ذهب إلى أمه الهاوية. وإن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح. فيقولون: اخرجي مسخوطًا عليك إلى عذاب الله، فتخرج كأنتن جيفة، حتى يأتوا به أرواح الكفار». رواه النسائي والبزار ورواه مسلم مختصرًا عن أبي هريرة رضي الله عنه. وعند الكافر ونتن رائحة روحه، فرد رسول الله ﷺ رِيطَة كانت عليه على أنفه هكذا. 10 .
وأخرجه أبو حاتم في صحيحه وقال: «إن المؤمن إذا حضره الموت حضرت ملائكة الرحمة، فإذا قبضت نفسه جُعِلت في حريرة بيضاء، فتنطلق بها إلى باب السماء، فيقولون: ما وجدنا ريحًا أطيب من هذه الرائحة، فيقال: دعوه يسترح، فإنه كان في غم الدنيا، فيقال: ما فعل فلان، ما فعلت فلانة؟ وأما الكافر إذا قبضت روحه ذهب بها إلى الأرض تقول خزنة الأرض: ما وجدنا ريحًا أنتن من هذه، فيبلغ بها في الأرض السفلى».
ففي هذه الأحاديث ونحوها اجتماع الروح والبدن في نعيم القبر وعذابه، وأما انفراد الروح وحدها فقد تقدم بعض ذلك.
وعن كعب بن مالك رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «إنما نَسَمَة المؤمن طائر يَعْلُقُ في شجر الجنة حتى يرجعه إلى جسده يوم يبعثه». رواه النسائي، ورواه مالك والشافعي كلاهما. وقد نقل هذا في غير هذا الحديث.
فقد أخبرت هذه النصوص أن الروح تنعم مع البدن الذي في القبر إذا شاء الله وإنما تنعم في الجنة وحدها، وكلاهما حق.
وقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب ذكر الموت عن مالك بن أنس قال: بلغني أن الروح مرسلة، تذهب حيث شاءت. وهذا يوافق ما روي: «أن الروح قد تكون على أفْنِيَة القبور» كما قال مجاهد: إن الأرواح تدوم على القبور سبعة أيام، يوم يدفن الميت، لا تفارق ذلك، وقد تعاد الروح إلى البدن في غير وقت المسألة، كما في الحديث الذي صححه ابن عبد البر عن النبي ﷺ أنه قال: «ما من رجل يمر بقبر الرجل الذي كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام».
وفي سنن أبي داود وغيره، عن أوس بن أوس الثقفي، عن النبي ﷺ أنه قال: «إن خير أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة، وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة عليَّ». قالوا: يا رسول الله، كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرِمْتَ؟ فقال: «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» .
وهذا الباب فيه من الأحاديث والآثار ما يضيق هذا الوقت عن استقصائه، مما يبين أن الأبدان التي في القبور تنعم وتعذب إذا شاء الله ذلك كما يشاء، وأن الأرواح باقية بعد مفارقة البدن، ومنعمة ومعذبة.
ولهذا أمر النبي ﷺ بالسلام على الموتى، كما ثبت في الصحيح والسنن أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية. اللهم لا تَحْرِمْنَا أجرهم ولا تَفْتِنا بعدهم، واغفر لنا ولهم» .
وقد انكشف لكثير من الناس ذلك حتى سمعوا صوت المعذبين في قبورهم، ورأوهم بعيونهم يعذبون في قبورهم في آثار كثيرة معروفة، ولكن لا يجب ذلك أن يكون دائمًا على البدن في كل وقت، بل يجوز أن يكون في حال دون حال.
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ﷺ ترك قتلى بدر ثلاثًا، ثم أتاهم فقام عليهم فقال: «يا أبا جهل بن هشام، يا أميَّة بن خَلف، يا عُتْبَة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا». فسمع عمر رضي الله عنه قول النبي ﷺ. فقال: يا رسول الله، كيف يسمعون وقد جيَّفُوا؟ فقال: «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا». ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قَلِيب بدر.
وقد أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ وقف على قَلىب بدر فقال: «هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا؟»، وقال: «إنهم ليسمعون الآن ما أقول»، فذكر ذلك لعائشة، فقالت: وَهِم َابن عمر، إنما قال رسول الله ﷺ: «إنهم ليعلمون الآن أن الذي قلتُ لهم هو الحق»، ثم قرأت قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} 11 حتى قرأت الآية.
وأهل العلم بالحديث والسنة اتفقوا على صحة ما رواه أنس وابن عمر، وإن كانا لم يشهدا بدرًا، فإن أنسًا روى ذلك عن أبي طلحة، وأبو طلحة شهد بدرًا. كما روى أبوحاتم في صحيحه عن أنس عن أبي طلحة رضي الله عنه أن النبي ﷺ أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلًا من صناديد قريش، فقذفوا في طَوِىِّ 12 من أطواء بدر، وكان إذا ظهر على قوم أحب أن يقيم في عَرْصَتِهم 13 ثلاث ليال.
فلما كان اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها فحركها، ثم مشى وتبعه أصحابه. وقالوا: ما نراه ينطلق إلا لبعض حاجته؛ حتى قام على شفاء الرَّكِي 14؛ فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، يافلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا. فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ً؟ قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، ما تكلم من أجساد ولا أرواح فيها؟ فقال النبي ﷺ: «والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» .
قال قتادة: أحياهم الله حتى سمعهم، توبيخًا وتصغيرًا، ونقمة وحسرة وتنديمًا. وعائشة تأولت فيما ذكرته كما تأولت أمثال ذلك.
والنص الصحيح عن النبي ﷺ مقدم على تأويل من تأول من أصحابه وغيره، وليس في القرآن ما ينفي ذلك فإن قوله: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} 15 إنما أراد به السماع المعتاد، الذي ينفع صاحبه، فإن هذا مَثَل ضُرِب للكفار، والكفار تسمع الصوت، لكن لا تسمع سماع قبول بفقه واتباع، كما قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء} 16.
فهكذا الموتى الذين ضرب لهم المثل، لا يجب أن ينفي عنهم جميعُ السماع المعتاد أنواعَ السماع، كما لم ينف ذلك عن الكفار، بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به، وأما سماع آخر فلا ينفى عنهم.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن الميت يسمع خَفْق نعالهم، إذا ولوا مدبرين، فهذا موافق لهذا، فكيف يدفع ذلك؟ ومن العلماء من قال: إن الميت في قبره لا يسمع ما دام ميتًا، كما قالت عائشة، واستدلت به من القرآن. وأما إذا أحياه الله فإنه يسمع كما قال قتادة: أحياهم الله له. وإن كانت تلك الحياة لا يسمعون بها، كما نحن لا نرى الملائكة والجن، ولا نعلم ما يحس به الميت في منامه، وكما لا يعلم الإنسان ما في قلب الآخر، وإن كان قد يعلم ذلك من أطلعه الله عليه.
وهذه جملة يحصل بها مقصود السائل، وإن كان لها من الشرح والتفصيل ما ليس هذا موضعه، فإن ما ذكرناه من الأدلة البينة على ما سأل عنه ما لا يكاد مجموعًا، والله أعلم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هامش
- ↑ [وجَبَت الشمس، أي غابت]
- ↑ [أي: أصابها وجع في بطنها بسبب أكلها التراب مع البَقْل]
- ↑ [إبراهيم: 27]
- ↑ [إبراهيم: 27]
- ↑ [إبراهيم: 27]
- ↑ [إبراهيم: 27]
- ↑ [طه: 124]
- ↑ [السَّفُّود بالفتح والضم مع التشديد: حديدة ذات شعب معقفة، يشوي بها اللحم]
- ↑ [الأعراف: 40]
- ↑ [والرِّيطةُ: ثوب رقيق لين مثل الملاءة]
- ↑ [النمل: 80]
- ↑ [أي: بئر مطوية]
- ↑ [العَرْصَة: كل بُقعة بين الدور واسعة، ليس فيها بناء]
- ↑ [أي: البئر]
- ↑ [النمل: 80]
- ↑ [البقرة: 171]