مجموع الفتاوى/المجلد الرابع/سئل عن إسلام معاوية بن أبي سفيان متى كان
سئل عن إسلام معاوية بن أبي سفيان متى كان
[عدل]سُئلَ الشيخ رَحمَهُ الله عن إسلام معاوية بن أبي سفيان، متى كان؟ وهل كان إيمانه كإيمان غيره أم لا ؟ وما قيل فيه غير ذلك؟
فَأَجَاب:
إيمان معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ثابت بالنقل المتواتر، وإجماع أهل العلم على ذلك، كإيمان أمثاله ممن آمن عام فتح مكة، مثل أخيه يزيد بن أبي سفيان، ومثل سُهَيْل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعِكْرِمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام، وأبي أسد بن أبي العاص بن أمية، وأمثال هؤلاء.
فإن هؤلاء يسمون: الطلقاء، فإنهم آمنوا عام فتح النبي ﷺ مكة قهرًا، وأطلقهم ومنَّ عليهم، وأعطاهم وتألفهم، وقد روى أن معاوية بن أبي سفيان أسلم قبل ذلك وهاجر، كما أسلم خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة الحَجَبِيّ قبل فتح مكة وهاجروا إلى المدينة، فإن كان هذا صحيحًا فهذا من المهاجرين.
وأما إسلامه عام الفتح مع من ذكر، فمتفق عليه بين العلماء، سواء كان أسلم قبل ذلك أو لم يكن إسلامه إلا عام فتح مكة، ولكن بعض الكذابين زعم أنه عيّر أباه بإسلامه، وهذا كذب بالاتفاق من أهل العلم بالحديث.
وكان هؤلاء المذكورون من أحسن الناس إسلامًا، وأحمدهم سيرة، لم يتهموا بسوء، ولم يتهمهم أحد من أهل العلم بنفاق، كما اتهم غيرهم، بل ظهر منهم من حسن الإسلام وطاعة الله ورسوله، وحب الله ورسوله، والجهاد في سبيل الله، وحفظ حدود الله، ما دل على حسن إيمانهم الباطن وحسن إسلامهم، ومنهم من أمَّره النبي ﷺ واستعمله نائبا له، كما استعمل عَتَّاب بن أُسَيْد أميرا على مكة نائبا عنه، وكان من خيار المسلمين، كان يقول: يا أهل مكة، والله لا يبلغني أن أحدًا منكم قد تخلف عن الصلاة إلا ضربت عنقه.
وقد استعمل النبي ﷺ أبا سفيان بن حرب أبا معاوية على نجران نائبا له، وتوفي النبي ﷺ، وأبو سفيان عامله على نجران.
وكان معاوية أحسن إسلامًا من أبيه باتفاق أهل العلم، كما أن أخاه يزيد بن أبي سفيان كان أفضل منه ومن أبيه؛ ولهذا استعمله أبو بكر الصديق رضي الله عنه على قتال النصارى حين فتح الشام، وكان هو أحد الأمراء الذين استعملهم أبو بكر الصديق، ووصاه بوصية معروفة نقلها أهل العلم، واعتمدوا عليها، وذكرها مالك في الموطأ وغيره، ومشى أبو بكر رضي اللهّ عنه في ركابه مشيعا له، فقال له: يا خليفة رسول الله، إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال: لستَ بنازل ولستُ براكب، أحتسب خُطَائي هذه في سبيل الله عز وجل.
وكان عمرو بن العاص أحد الأمراء، وأبو عبيدة بن الجراح أيضا وقدم عليهم خالد ابن الوليد لشجاعته ومنفعته في الجهاد.
فلما توفي أبو بكر، وَلَّى عمر بن الخطاب أبا عبيدة أميرا على الجميع؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان شديدًا في الله، فولى أبا عبيدة؛ لأنه كان لينًا. وكان أبوبكر رضي الله عنه لينًا، وخالد شديدًا على الكفار فولي اللينُ الشديد، وولي الشديدُ اللينَ؛ ليعتدل الأمر، وكلاهما فعل ما هو أحب إلى الله تعالى في حقه، فإن نبينا ﷺ أكمل الخلق، وكان شديدًا على الكفار والمنافقين، ونعته الله تعالى بأكمل الشرائع، كما قال الله تعالى في نعت أمته: {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} 1، وقال: فيهم: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} 2.
وقد ثبت في الصحيح، أن النبي ﷺ لما استشار أصحابه في أسارى بدر، وأشار عليه أبو بكر أن يأخذ الفدية منهم وإطلاقهم، وأشار عليه عمر بضرب أعناقهم، قال النبي ﷺ: «إن الله يلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من البَزَّ 3، ويشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الصَّخْر، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم الخليل إذ قال: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 4، ومثل عيسى ابن مريم إذ قال: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 5، ومثلك يا عمر مثل نوح عليه السلام إذ قال: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} 6، ومثل موسى بن عمران إذ قال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} 7 وكانا في حياة النبي ﷺ كما نعتهما رسول الله ﷺ، وكانا هما وزيريه من أهل الأرض.
وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن سرير عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما وضع وجاء الناس يصلون عليه، قال ابن عباس: فالتفت فإذا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: والله ما على وجه الأرض أحد، أحب إلى من أن ألقى الله تعالى بعمله من هذا الميت. والله، إني لأرجو أن يحشرك الله مع صاحبيك، فإني كثيرًا ما كنت أسمع النبي ﷺ يقول: «دخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر».
ثم ثبت في الصحيح أنه لما كان يوم أحد انهزم أكثر المسلمين، فإذا أبو سفيان، وكان القوم المرام إذ قال: أفي القوم محمد؟ أفي القوم محمد؟ أفي القوم محمد؟ فقال النبي ﷺ: «لا تجيبوه»، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال النبي ﷺ: «لا تجيبوه»، فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال النبي ﷺ: «لا تجيبوه»، الحديث بطوله، فهذا أبو سفيان قائد الأحزاب لم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة: عن النبي ﷺ وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما لعلمه بأن هؤلاء هم رؤوس عسكر المسلمين.
وقال الرشيد لمالك بن أنس: أخبرني عن منزلة أبي بكر وعمر من النبي ﷺ، فقال: منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما بعد وفاته، فقال: شفيتني يا مالك.
فلما توفي رسول الله ﷺ واستخلف أبو بكر، جعل الله تعالى فيه من الشدة ما لم يكن فيه قبل ذلك، حتى فاق عمر في ذلك، حتى قاتل أهل الردة بعد أن جَهَّزَ جيش أسامة، وكان ذلك تكميلًا له لكمال النبي ﷺ الذي صار خليفة له.
ولما استخلف عمر، جعل الله فيه من الرأفة والرحمة ما لم يكن فيه قبل ذلك تكميلًا له، حتى صار أمير المؤمنين ؛ ولهذا استعمل هذا خالدًا، وهذا أبا عبيدة.
وكان يزيد بن أبي سفيان على الشام، إلى أن ولي عمر؛ فمات يزيد بن أبي سفيان، فاستعمل عمر معاوية مكان أخيه يزيد بن أبي سفيان، وبقي معاوية على ولايته تمام خلافته، وعمر ورعيته تشكره، وتشكر سيرته فيهم، وتواليه وتحبه، لما رأوا من حلمه وعدله، حتى إنه لم يَشْكُه منهم مُشْتَكٍ، ولا تَظَلَّمَهُ منهم مُتَظلِّم، ويزيد بن معاوية ليس من أصحاب النبي ﷺ، وإنما ولد في خلافة عثمان، وإنما سماه يزيد باسم عمه من الصحابة.
وقد شهد معاوية، وأخوه يزيد، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام وغيرهم من مسلمة الفتح مع النبي ﷺ غزوة حنين، ودخلوا في قوله تعالى: {ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} 8، وكانوا من المؤمنين الذين أنزل الله سكينته عليهم مع النبي ﷺ. وغزوة الطائف لما حاصروا الطائف ورماها بالمنجنيق، وشهدوا النصارى بالشام، وأنزل الله فيها سورة براءة، وهي غزوة العُسْرَة، التي جهز فيها عثمان بن عفان رضي الله عنه جيش العسرة بألف بعير في سبيل الله تعالى فأعوزت، وكملها بخمسين بعيرًا، فقال النبي ﷺ: «ما ضَرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم»، وهذا آخر مغازي النبي ﷺ، ولم يكن فيها قتال.
وقد غزا النبي ﷺ أكثر من عشرين غَزَاة بنفسه، ولم يكن القتال إلا في تسع غزوات: بدر، وأحد، وبني المصطلق، والخندق، وذي قَرَدٍ، وغزوة الطائف، وأعظم جيش جمعه النبي ﷺ كان بحنين والطائف، وكانوا اثني عشر ألفًا، وأعظم جيش غزا مع النبي ﷺ جيش تبوك، فإنه كان كثيرًا لا يحصى، غير أنه لم يكن فيه قتال.
وهؤلاء المذكورون دخلوا في قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ الله الْحُسْنَى} 9، فإن هؤلاء الطلقاء، مسلمة الفتح، هم ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل، وقد وعدهم الله الحسنى، فإنهم أنفقوا بحنين والطائف، وقاتلوا فيهما رضي الله عنهم.
وهم أيضا داخلون فيمن رضى الله عنهم حيث قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} 10، فإن السابقين هم الذين أسلموا قبل الحديبية، كالذين بايعوه تحت الشجرة، الذين أنزل الله فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} 11، كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، وكلهم من أهل الجنة، كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة»، وكان فيهم حاطب بن أبي بَلْتَعة، وكانت له سيئات معروفة، مثل مكاتبته للمشركين بأخبار النبي ﷺ، وإساءته إلى مماليكه، وقد ثبت في الصحيح أن مملوكه جاء إلى النبي ﷺ فقال: والله يا رسول الله، لا بد أن يدخل حاطب النار. فقال له النبي ﷺ: «كذبت، إنه شهد بدرًا والحديبية».
وثبت في الصحيح: أنه لما كتب إلى المشركين يخبرهم بمسير النبي ﷺ إليهم، أرسل علي بن أبي طالب والزبير إلى المرأة التي كان معها الكتاب، فأتيا بها، فقال: «ما هذا يا حاطب؟». فقال: والله يا رسول الله ما فعلت ذلك ارتدادًا عن ديني، ولا رضيت بالكفر بعد الإسلام، ولكن كنت امرأ مُلْصَقًا في قريش 12، لم أكن من أنفسهم، وكان من معك من أصحابك لهم بمكة قرابات يحمون بها أهاليهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتَّخِذَ فيهم يدًا يحمون بها قرابتي، فقال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النبي ﷺ: «إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك أن الله قال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم».
وفي هذا الحديث بيان أن الله يغفر لهؤلاء السابقين كأهل بدر والحديبية من الذنوب العظيمة، بفضل سابقتهم، وإيمانهم، وجهادهم، ما لا يجوز لأحد أن يعاقبهم بها، كما لم تجب معاقبة حاطب مما كان منه.
وهذا مما يستدل به على أن ما جرى بين على وطلحة والزبير ونحوهم، فإنه إما أن يكون اجتهادًا لا ذنب فيه، فلا كلام. فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر».
وإن كان هناك ذنب، فقد ثبت أن هؤلاء رضي الله عنهم، وغفر لهم ما فعلوه؛ فلا يضرهم ما وقع منهم من الذنوب إن كان قد وقع ذنب، بل إن وقع من أحدهم ذنب كان الله محاه بسبب قد وقع، من الأسباب التي يُمَحِّصُ الله بها الذنوب، مثل أن يكون قد تاب فيتوب الله عليه، أو كان له حسنات تمحو السيئات، أو يكون قد كَفَّر عنه ببلاء ابتلاه به، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «ما يصيب المؤمن من نَصَبٍ، ولا وَصَبٍ، ولا هَمٍّ، ولا غَمٍّ، ولا حَزَن، ولا أذى، إلا كَفَّر الله من خطاياه».
وأما من بعد هؤلاء السابقين الأولين، وهم الذين أسلموا بعد الحديبية، فهؤلاء دخلوا في قوله تعالى: {وَكُلًّا وَعَدَ الله الْحُسْنَى} 13، وفي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} 14، وقد أسلم قبل فتح مكة خالد ابن الوليد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة الحَجَبي، وغيرهم. وأسلم بعد الطلقاء أهل الطائف وكانوا آخر الناس إسلاما، وكان منهم عثمان بن أبي العاص الثقفي الذي أمره النبي ﷺ على أهل الطائف، وكان من خيار الصحابة، مع تأخر إسلامه.
فقد يتأخر إسلام الرجل، ويكون أفضل من بعض من تقدمه بالإسلام، كما تأخر إسلام عمر، فإنه يقال: إنه أسلم تمام الأربعين، وكان ممن فضله الله على كثير ممن أسلم قبله، وكان عثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، أسلموا قبل عمر على يد أبي بكر، وتقدمهم عمر.
وأول من أسلم من الرجال الأحرار البالغين أبو بكر، ومن الأحرار الصبيان على، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن النساء خديجة أم المؤمنين، وهذا باتفاق أهل العلم.
وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 15 فهذه عامة، وقال تعالى:
{لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ الله وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} 16.
فهذه الآية والتي قبلها تتناول من دخل فيها بعد السابقين الأولين إلى يوم القيامة؛ فكيف لا يدخل فيها أصحاب رسول الله ﷺ، الذين آمنوا به وجاهدوا معه؟
وقد قال ﷺ في الحديث الصحيح: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه»، فمن كان قد أسلم من الطلقاء وهجر ما نهى الله عنه كان له معنى هذه الهجرة، فدخل في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ} 17، كما دخل في قوله تعالى: {وَكُلًّا وَعَدَ الله الْحُسْنَى} 18.
وقد قال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ الله وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} 19، فهذا يتناول الذين آمنوا مع الرسول مطلقًا.
وقد استفاض عن النبي ﷺ في الصحاح وغيرها من غير وجه أنه قال: «خير القرونِ القرنُ الذي بعثت فيهم، ثم الذين يَلُونهم، ثم الذين يلونهم».
وثبت عنه في الصحيح أنه كان بين عبد الرحمن وبين خالد كلام، فقال: «يا خالد، لا تَسُبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحُدٍ ذَهَبا ما بلغ مُدَّ أحدهم، ولا نَصِيفَه» قال ذلك لخالد ونحوه، ممن أسلم بعد الحديبية، بالنسبة إلى السابقين الأولين. يقول: إذا أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصف مده.
وهؤلاء الذين أسلموا بعد الحديبية دخلوا في قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ الله الْحُسْنَى} 20 بهذه المنزلة.
وكيف يكون بعد أصحابه؟ والصحبة اسم جنس تقع على من صحب النبي ﷺ قليلًا أو كثيرًا، لكن كل منهم له من الصحبة بقدر ذلك، فمن صحبه سنة أو شهرًا أو يوما أو ساعة أو رآه مؤمنا، فله من الصحبة بقدر ذلك، كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «يغزو فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من صحب النبي ﷺ؟». وفي لفظ: «هل فيكم من رأى رسول الله ﷺ؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من صحب من صحب رسول الله ﷺ؟ وفي لفظ: هل فيكم من رأى من رأى رسول الله ﷺ؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من رأى من رأى من رأى رسول الله ﷺ؟ وفي لفظ: من صحب من صحب من صحب رسول الله ﷺ؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم» وفي بعض الطرق فيذكر في الطبقة الرابعة كذلك.
فقد علق النبي ﷺ الحكم بصحبته وعلق برؤيته، وجعل فتح الله على المسلمين بسبب من رآه مؤمنا به.
وهذه الخاصية لا تثبت لأحد غير الصحابة ؛ ولو كانت أعمالهم أكثر من أعمال الواحد من أصحابه ﷺ.
هامش
- ↑ [الفتح: 29]
- ↑ [المائدة: 54]
- ↑ [البَزُّ: نوع من الثياب]
- ↑ [إبراهيم: 36]
- ↑ [المائدة: 118]
- ↑ [نوح: 26]
- ↑ [يونس: 88]
- ↑ [التوبة: 26]
- ↑ [الحديد: 10]
- ↑ [التوبة: 100]
- ↑ [الفتح: 18]
- ↑ [المُلْصَق: هو الرجل المقيم في الحي، وليس منهم بنسب]
- ↑ [الحديد: 10]
- ↑ [التوبة: 100]
- ↑ [الأنفال: 72-75]
- ↑ [الحشر: 8-10]
- ↑ [الأنفال: 75]
- ↑ [الحديد: 10]
- ↑ [الفتح: 29]
- ↑ [الحديد: 10]