مجموع الفتاوى/المجلد الرابع/سئل عن الروح هل هي قديمة أو مخلوقة
سئل عن الروح هل هي قديمة أو مخلوقة
[عدل]سُئِلَ شيخُ الإِسْلام أَبُو العَبَّاس ابن تَيْمِية قدس الله رُوحَهُ عن الروح، هل هي قديمة، أو مخلوقة؟ وهل يُبدَّع من يقول بقدمها أم لا؟ وما قول أهل السنة فيها، وما المراد بقوله عز وجل: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} 1. هل المفوض إلى الله تعالى أمر ذاتها، أوصفاتها، أو مجموعهما؟ بينوا ذلك من الكتاب والسنة.
فأجاب رضي الله عَنْهُ:
الحمد لله رب العالمين، روح الآدمي مخلوقة مبدعة باتفاق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة، وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غير واحد من أئمة المسلمين، مثل محمد بن نصر المروزي، الإمام المشهور، الذي هو أعلم أهل زمانه بالإجماع والاختلاف، أو من أعلمهم.
وكذلك أبو محمد بن قتيبة، قال في كتاب اللقط لما تكلم على خلق الروح قال: النَّسَم: الأرواح. قال: وأجمع الناس على أن الله خالق الجثة، وبارئ النسمة، أي: خالق الروح. وقال أبو إسحاق بن شاقلا فيما أجاب به في هذه المسألة: سألت رحمك الله عن الروح مخلوقة أو غير مخلوقة، قال: هذا مما لا يشك فيه من وفق للصواب، إلى أن قال: والروح من الأشياء المخلوقة، وقد تكلم في هذه المسألة طوائف من أكابر العلماء والمشائخ، وردوا على من يزعم أنها غير مخلوقة.
وصنف الحافظ أبو عبد الله بن مَنْدَه في ذلك كتابًا كبيرًا في الروح والنفس، وذكر فيه من الأحاديث والآثار شيئا كثيرًا، وقبله الإمام محمد بن نصر المروزي وغيره، والشيخ أبو يعقوب الخراز، وأبو يعقوب النهرجوري، والقاضي أبو يعلى، وغيرهم؛ وقد نص على ذلك الأئمة الكبار، واشتد نكيرهم على من يقول ذلك في روح عيسى ابن مريم، لا سيما في روح غيره، كما ذكره أحمد في كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية فقال في أوله:
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فَتْرَة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين؛ وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب، يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين، وتكلم على ما يقال: إنه متعارض من القرآن إلى أن قال:
وكذلك الجهم وشيعته، دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث، وأضلوا بشرًا كثيرًا، فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان من أهل الترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام، كان أكثر كلامه في الله، فلقى أناسًا من المشركين يقال لهم السمنية فعرفوا الجهم، فقالوا له: نكلمك، فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك.
فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا: ألست تزعم أن لك إلهًا؟ قال الجهم: بلى. فقالوا له: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا. قالوا: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا. قالوا: فهل شممت له رائحة؟ قال: لا. قالوا له: فوجدت له مَجَسا؟ قال: لا. قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال: فتحير الجهم، فلم يدر من يعبد أربعين يومًا، ثم إنه استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى، وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح الله، من ذاته، فإذا أراد أن يحدث أمرًا دخل في بعض خلقه، فتكلم على لسان خلقه، فيأمر بما شاء، وينهى عما شاء، وهو روح غائب عن الأبصار.
فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة، فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحًا ؟ قال بلى. قال: فهل رأيت روحك؟ قال: لا. قال: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا. قال: فوجدت له حسًا ومَجَسّا؟ قال: لا. قال: كذلك الله، لا يرى له وجه، ولا يسمع له صوت، ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان.
وساق الإمام أحمد الكلام في القرآن والرؤية وغير ذلك، إلى أن قال: ثم إن الجهم ادعى أمرًا، فقال: إنا وجدنا آية في كتاب الله تدل على القرآن أنه مخلوق، فقلنا: أي آية؟ قال: قول الله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} 2 وعيسى مخلوق.
فقلنا: إن الله منعك الفهم في القرآن، عيسى تجرى عليه ألفاظ لا تجرى على القرآن؛ لأنه يسميه مولودًا، وطفلًا، وصبيًا، وغلامًا، يأكل ويشرب، وهو مخاطب بالأمر والنهي، يجري عليه الوعد والوعيد، ثم هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم، ولا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى، هل سمعتم الله يقول في القرآن ما قال في عيسى ؟ ولكن المعنى في قول الله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} 3، فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له: كن، فكان عيسى بكن، وليس عيسى هو الكن، ولكن بالكن كان، فالكن من الله قول، وليس الكن مخلوقًا.
وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى، وذلك أن الجهمية قالوا: عيسى روح الله وكلمته، إلا أن الكلمة مخلوقة، وقالت النصارى: عيسى روح الله من ذات الله، وكلمة الله من ذات الله، كما يقال: إن هذه الخرقة من هذا الثوب.
وقلنا نحن: إن عيسى بالكلمة كان، وليس هو الكلمة. قال: وقول الله: {وَرُوحٌ مِّنْهُ} يقول من أمره كان الروح فيه، كقوله: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} 4، يقول: من أمره، وتفسير روح الله: أنها روح بكلمة الله، خلقها الله، كما يقال: عبد الله، وسماء الله، فقد ذكر الإمام أحمد أن زنادقة النصارى هم الذين يقولون: إن روح عيسى من ذات الله، وبين أن إضافة الروح إليه إضافة ملك وخلق، كقولك: عبد الله، وسماء الله، لا إضافة صفة إلى موصوف، فكيف بأرواح سائر الآدميين؟ وبين أن هؤلاء الزنادقة الحلولية يقولون بأن الله إذا أراد أن يحدث أمرًا دخل في بعض خلقه.
وقال الشيخ أبو سعيد الخراز أحد أكابر المشائخ الأئمة من أقران الجنيد، فيما صنفه في أن الأرواح مخلوقة، وقد احتج بأمور منها: لو لم تكن مخلوقة لما أقرت بالربوبية، وقد قال لهم حين أخذ الميثاق وهم أرواح في أشباح؛ كالذر : {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا} 5، وإنما خاطب الروح مع الجسد، وهل يكون الرب إلا لمربوب ؟ قال: ولأنها لو لم تكن مخلوقة ما كان على النصارى لوم في عبادتهم عيسى، ولا حين قالوا: إنه ابن الله، وقالوا: هو الله.
قال: ولأنه لو كان الروح غير مخلوق ما دخلت النار، ولأنها لو كانت غير مخلوقة لما حجبت عن الله، ولا غيبت في البدن، ولا ملكها ملك الموت، ولما كانت صورة توصف؛ ولأنها لو لم تكن مخلوقة لم تحاسب ولم تعذب، ولم تتعبد ولم تخف، ولم ترج. ولأن أرواح المؤمنين تتلألأ وأرواح الكفار سود مثل الحمم.
وقال ﷺ: «أرواح الشهداء في حواصل طير خضر ترتع في الجنة، وتأوى في فناء العرش»، وأرواح الكفار في برهوت 6.
وقال الشيخ أبو يعقوب النهرجوري: هذه الأرواح من أمر الله مخلوقة . خلقها الله من الملكوت، كما خلق آدم من التراب، وكل عبد نسب روحه إلى ذات الله أخرجه ذلك إلى التعطيل، والذين نسبوا الأرواح إلى ذات الله هم أهل الحلول الخارجون إلى الإباحة، وقالوا: إذا صفت أرواحنا من أكدار نفوسنا فقد اتصلنا، وصرنا أحرارًا، ووضعت عنا العبودية، وأبيح لنا كل شيء من اللذات من النساء، والأموال وغير ذلك. وهم زنادقة هذه الأمة وذكر عدة مقالات لها وللزنادقة .
قلت: واعلم أن القائلين بقدم الروح صنفان:
صنف من الصابئة الفلاسفة، يقولون: هي قديمة أزلية لكن ليست من ذات الرب، كما يقولون ذلك في العقول، والنفوس الفلكية، ويزعم من دخل من أهل الملل فيهم أنها هي الملائكة.
وصنف من زنادقة هذه الأمة وضلالها من المتصوفة والمتكلمة والمحدثة يزعمون أنها من ذات الله، وهؤلاء أشرُّ قولًا من أولئك، وهؤلاء جعلوا الآدمي نصفين: نصف لاهوت، وهو روحه، ونصف ناسوت، وهو جسده، نصفه رب ونصفه عبد.
وقد كفَّر الله النصارى بنحو من هذا القول في المسيح، فكيف بمن يعم ذلك في كل أحد ؟ حتى في فرعون، وهامان، وقارون، وكل ما دل على أن الإنسان عبد مخلوق مربوب، وأن الله ربه وخالقه ومالكه وإلهه، فهو يدل على أن روحه مخلوقة .
فإن الإنسان عبارة عن البدن والروح معًا، بل هو بالروح أخص منه بالبدن، وإنما البدن مطية للروح، كما قال أبو الدرداء: إنما بدني مطيتي، فإن رفقت بها بلغتني، وإن لم أرفق بها لم تبلغني. وقد رواه ابن منده وغيره عن ابن عباس قال: لا تزال الخصومة يوم القيامة بين الخلق حتى تختصم الروح والبدن، فتقول الروح للبدن: أنت عملت السيئات، فيقول البدن للروح: أنت أمرتني، فيبعث الله ملكًا يقضى بينهما، فيقول: إنما مثلكما كمثل مُقْعَد وأعمى دخلا بستانًا، فرأى المقعد فيه ثمرًا معلقًا، فقال للأعمى: إني أرى ثمرًا، ولكن لا أستطيع النهوض إليه، وقال الأعمى: لكني أستطيع النهوض إليه ولكني لا أراه. فقال له المقعد: تعال، فاحملني حتى أقطفه، فحمله وجعل يأمره فيسير به إلى حيث يشاء فقطع الثمر. قال: الملك: فعلى أيهما العقوبة؟ فقالا: عليهما جميعًا قال: فكذلك أنتما.
وأيضا، فقد استفاضت الأحاديث عن النبي ﷺ بأن الأرواح تقبض، وتنعم وتعذب، ويقال لها: اخرجي أيتها الروح الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي أيتها الروح الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، ويقال للأولى: أبشري بَروْح ورَيْحان، ويقال للثانية: أبشري بحَمِيم وغَسَّاق وآخر من شكله أزواج، وأن أرواح المؤمنين تعرج إلى السماء، وأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن شَقِيق عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها»، قال حماد: فذكر من طيب ريحها وذكر المسك؛ قال: «فيقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض صلى الله عليك، وعلى جسد كنت تعمرينه، فينطلق به إلى ربه، ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل»، قال: «وإن الكافر إذا خرجت روحه»، قال حماد: وذكر من نتنها وذكر لعنًا، «فيقول أهل السماء: روح خبيثة جاءت من قبل الأرض، قال: فيقال: انطلقوا به إلى آخر الأجل». قال أبو هريرة رضي الله عنه: فلما ذكر رسول الله ﷺ النتن رد على أنفه ريطة كانت عليه.
وفي حديث المعراج الصحيح أن النبي ﷺ رأى آدم، وأرواح بنيه عن يمينه وشماله، قال رسول الله ﷺ: «فلما علونا السماء فإذا رجل عن يمينه أسْوِدَة، وعن شماله أسودة»، قال: «فإذا نظر قِبَل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى»، قال: «مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح»، قال: «قلت: يا جبريل، من هذا ؟ قال: هذا آدم ﷺ، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه، فأهل اليمين أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى».
وقد ثبت أيضا أن أرواح المؤمنين والشهداء وغيرهم في الجنة، قال الإمام أحمد في رواية حنبل: أرواح الكفار في النار، وأرواح المؤمنين في الجنة، والا بدان في الدنيا، يعذب الله من يشاء، ويرحم بعفوه من يشاء. وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن أرواح الموتى: أتكون في أفنية قبورها؟ أم في حواصل طير؟ أم تموت كما تموت الأجساد؟ فقال: قد روى عن النبي ﷺ أنه قال: «نَسَمَة المؤمن إذا مات طائر تعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه».
وقد روى عن عبد الله بن عمرو أنه قال: أرواح المؤمنين في أجواف طير خضر كالزَّرَازِير، يتعارفون فيها ويرزقون من ثمرها، قال: وقال بعض الناس: أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، تأوى إلى قناديل في الجنة معلقة بالعرش.
وقد روى مسلم في صحيحه عن مسروق قال: سألنا عبد الله يعني ابن مسعود عن هذه الآية: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} 7، فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله ﷺ فقال: «إن أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح في الجنة حيث تشاء، ثم تأوى إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئا؟ فقالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح في الجنة حيث نشاء؟ ففعل بهم ذلك ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا؛ حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا».
وقد قال الله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} 8،
فخاطبها بالرجوع إلى ربها، وبالدخول في عباده ودخول جنته، وهذا تصريح بأنها مربوبة. والنفس هنا هي الروح التي تقبض، وإنما تتنوع صفاتها، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح لما ناموا عن صلاة الفجر في السفر قال: «إن الله قبض أرواحنا حيث شاء، وردها حيث شاء» وفي رواية: «قبض أنفسنا حيث شاء»، وقال تعالى: {الله يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} 9، والمقبوض المتوفى هي الروح، كما في صحيح مسلم عن أم سلمة قالت: دخل رسول الله ﷺ، على أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه، ثم قال: «إن الروح إذا قبض تبعه البصر»، فضج ناس من أهله فقال: «لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يُؤَمِّنُون على ما تقولون»، ثم قال: «اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين وأفسح له في قبره، ونور له فيه».
وروى مسلم أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «ألم تروا أن الإنسان إذا مات شَخَصَ بصره؟» قالوا: بلى. قال: «فكذلك حين يتبع بصره نفسه» فسماه تارة روحًا، وتارة نفسًا.
وروى أحمد بن حنبل، وابن ماجه عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر؛ فإن البصر يتبع الروح، وقولوا خيرًا، فإنه يُؤَمَّن على ما يقول أهل الميت».
ودلائل هذا الأصل وبيان مسمى الروح والنفس وما فيه من الاشتراك كثير لا يحتمله هذا الجواب، وقد بسطناه في غير هذا الموضع.
فقد بان بما ذكرناه أن من قال: إن أرواح بني آدم قديمة غير مخلوقة، فهو من أعظم أهل البدع الحلولية، الذين يجر قولهم إلى التعطيل، بجعل العبد هو الرب وغير ذلك من البدع الكاذبة المضلة.
وأما قوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} 10، فقد قيل: إن الروح هنا ليس هو روح الآدمي، وإنما هو ملك في قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} 11، وقوله}تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 12، وقوله: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} 13 وقيل: بل هو روح الآدمي، والقولان مشهوران، وسواء كانت الآية تعمهما، أو تتناول أحدهما، فليس فيها ما يدل على أن الروح غير مخلوقة لوجهين:
أحدهما: أن الأمر في القرآن يراد به المصدر تارة، ويراد به المفعول تارة أخرى وهو المأمور به، كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} 14، وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَرًا مَّقْدُورًا} 15 وهذا في لفظ غير الأمر، كلفظ الخلق والقدرة والرحمة والكلمة وغير ذلك. ولو قيل: إن الروح بعض أمر الله أو جزء من أمر الله، ونحو ذلك مما هو صريح في أنها بعض أمر الله، لم يكن المراد بلفظ الأمر إلا المأمور به لا المصدر؛ لأن الروح عين قائمة بنفسها، تذهب وتجيء وتنعم وتعذب، وهذا لا يتصور أن يكون مسمى مصدر: أمر يأمر أمرًا. وهذا قول سلف الأمة وأئمتها وجمهورها.
ومن قال من المتكلمين: إن الروح عرض قائم بالجسم، فليس عنده مصدر: أمر يأمر أمرًا .
والقرآن إذا سمى أمر الله، فالقرآن كلام الله، والكلام اسم مصدر: كَلَّم يُكَلِّم تكليمًا وكلامًا، وتَكَلَّم تَكَلمًا وكلامًا. فإذا سمى أمرًا بمعنى المصدر كان ذلك مطابقًا، لا سيما والكلام نوعان: أمر وخبر.
أما الأعيان القائمة بأنفسها فلا تسمى أمرًا لا بمعنى المفعول به وهو المأمور به كما سمى المسيح كلمة؛ لأنه مفعول بالكلمة، وكما يسمى المقدور قدرة والجنة رحمة، والمطر رحمة، في مثل قوله: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ الله كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} 16، وفي قول النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه أنه قال للجنة: «أنت رحمتي أرحم بك من شئت»، وقوله: «إن الله خلقَ الرحمة يوم خلقها مائة رحمة» ونظائر ذلك كثيرة، وهذا جواب أبي سعيد الخراز، قال: فإن قيل: قد قال تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} 17 وأمره منه قيل: أمره تعالى هو المأمور به المكون بتكوين المكون له .
وكذلك قال ابن قتيبة في كتاب المشكل: أقسام الروح، فقال: هي روح الأجسام التي يقبضها الله عند الممات، والروح جبريل، قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} 18، وقال: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} 19، أي: جبريل، والروح فيما ذكره المفسرون ملك عظيم من ملائكة الله تعالى يقوم وحده فيكون صفًا، وتقوم الملائكة صفًا، وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} 20، قال: ونسب الروح إلى الله؛ لأنه بأمره، أو لأنه بكلمته.
والوجه الثاني: أن لفظة من في اللغة قد تكون لبيان الجنس، كقولهم: باب من حديد. وقد تكون لابتداء الغاية، كقولهم: خرجت من مكة، فقوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ليس نصًا في أن الروح بعض الأمر، ومن جنسه، بل قد تكون لابتداء الغاية إذ كونت بالأمر، وصدرت عنه، وهذا معنى جواب الإمام أحمد في قوله: {وَرُوحٌ مِّنْهُ} 21 حيث قال: {وَرُوحٌ مِّنْهُ} يقول: من أمره كان الروح منه كقوله: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ{ 22، ونظير هذا أيضا قوله: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} 23.
فإذا كانت المسخرات والنعم من الله، ولم تكن بعض ذاته بل منه صدرت، لم يجب أن يكون معنى قوله في المسيح: {وَرُوحٌ مِّنْهُ}؛ أنها بعض ذات الله، ومعلوم أن قوله: {وَرُوحٌ مِّنْهُ} أبلغ من قوله: {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} فإذا كان قوله}وَرُوحٌ مِّنْهُ} لا يمنع أن يكون مخلوقًا، ولا يوجب أن يكون بعضًا له، فقوله: {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أولى بألا يمنع أن يكون مخلوقًا، ولا يوجب أن يكون ذلك بعضًا له بل ولا بعضًا من أمره.
وهذا الوجه يتوجه إذا كان الأمر هو الأمر الذي هو صفة من صفات الله، فهذان الجوابان كل منهما مستقل، ويمكن أن يجعل منهما جواب مركب، فيقال: قوله: {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} إما أن يراد بالأمر المأمور به، أو صفة لله تعالى وإن أريد به الأول أمكن أن تكون الروح بعض ذلك، فتكون مخلوقة، وإن أريد بالأمر صفة الله كان قوله: {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} كقوله: {وَرُوحٌ مِّنْهُ}، وقوله: {جَمِيعًا مِّنْهُ} ونحو ذلك .
وإنما نشأت الشبهة حيث ظن الظان أن الأمر صفة لله قديمة، وأن روح بني آدم بعض تلك الصفة، ولم تدل الآية على واحد من المقدمتين، والله سبحانه أعلم .
وقد يجيء اسم الروح في القرآن بمعنى آخر، كقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا} 24، وقوله: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} 25، ونحو ذلك. فالقرآن الذي أنزله الله كلامه، ولكن ليس الكلام في هذا مما يتعلق بالسؤال.
وأما قول السائل: هل المفوض إلى الله أمر ذاتها أو صفاتها أو مجموعهما؟ فليس هذا من خصائص الكلام في الروح، بل لا يجوز لأحد أن يقفو ما ليس له به علم، ولا يقول على الله ما لا يعلم، قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} 26، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 27، وقال تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الْحَقَّ} 28، وقد قالت الملائكة لما قال لهم: {أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 29، وقد قال موسى للخضر: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} 30، وقال الخضر لموسى لما نقر العصفور في البحر : ما نقص علمي وعلمك من علم الله، إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر.
وليس في الكتاب والسنة أن المسلمين نهوا أن يتكلموا في الروح بما دل عليه الكتاب والسنة، لا في ذاتها ولا في صفاتها، وأما الكلام بغير علم فذلك محرم في كل شيء، ولكن قد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أن النبي ﷺ كان في بعض سكك المدينة، فقال بعضهم: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه فيسمعكم ما تكرهون، قال: فسألوه وهو متكئ على العسيب، فأنزل الله هذه الآية.
فبين بذلك أن ملك الرب عظيم، وجنوده، وصفة ذلك، وقدرته أعظم من أن يحيط به الآدميون، وهم لم يؤتوا من العلم إلا قليلًا، فلا يظن من يدعى العلم أنه يمكنه أن يعلم كل ما سئل عنه ولا كل ما في الوجود، فما يعلم جنود ربك إلا هو.
هامش
- ↑ [الإسراء: 85]
- ↑ [النساء: 171]
- ↑ [النساء: 171]
- ↑ [الجاثية: 13]
- ↑ [الأعراف: 172]
- ↑ [بئر عميقة بحضرموت لا يستطاع النزول إلى قعرها]
- ↑ [آل عمران: 169]
- ↑ [الفجر: 2730]
- ↑ [الزمر: 42]
- ↑ [الإسراء: 85]
- ↑ [النبأ: 38]
- ↑ [المعارج: 4]
- ↑ [القدر: 4]
- ↑ [النحل: 1]
- ↑ [الأحزاب: 38]
- ↑ [الروم: 50]
- ↑ [الإسراء: 85]
- ↑ [الشعراء: 193]
- ↑ [البقرة: 87، 253]
- ↑ [الإسراء: 85]
- ↑ [النساء: 171]
- ↑ [الجاثية: 13]
- ↑ [النحل: 53]
- ↑ [الشورى: 52]
- ↑ [المجادلة: 22]
- ↑ [الإسراء: 36]
- ↑ [الأعراف: 33]
- ↑ [الأعراف: 169]
- ↑ [البقرة: 31، 32]
- ↑ [الكهف: 66]