مجموع الفتاوى/المجلد الأول/السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين
السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين
[عدل]وأما السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين فلا يجب بالنذر عند أحد منهم لأنه ليس بطاعة، فكيف يكون من فعل هذا كواحد من أصحابه؟ وهذا مالك كره أن يقول الرجل: زرت قبر رسول الله ﷺ، واستعظمه. وقد قيل: إن ذلك ككراهية زيارة القبور، وقيل: لأن الزائر أفضل من المزور، وكلاهما ضعيف عند أصحاب مالك.
والصحيح أن ذلك لأن لفظ زيارة القبر مجمل يدخل فيها الزيارة البدعية التي هى من جنس الشرك، فإن زيارة قبور الأنبياء وسائر المؤمنين على وجهين كما تقدم ذكره: زيارة شرعية، وزيارة بدعية.
فالزيارة الشرعية يقصد بها السلام عليهم والدعاء لهم، كما يقصد الصلاة على أحدهم إذا مات فيصلى عليه صلاة الجنازة، فهذه الزيارة الشرعية.
والثاني: أن يزورها كزيارة المشركين وأهل البدع لدعاء الموتى وطلب الحاجات منهم، أو لاعتقاده أن الدعاء عند قبر أحدهم أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت، أو أن الإقسام بهم على الله وسؤاله سبحانه بهم أمر مشروع يقتضي إجابة الدعاء، فمثل هذه الزيارة بدعة منهى عنها.
فإذا كان لفظ الزيارة مجملا يحتمل حقا وباطلا، عدل عنه إلى لفظ لا لبس فيه كلفظ "السلام" عليه، ولم يكن لأحد أن يحتج على مالك بما روى في زيارة قبره أو زيارته بعد موته، فإن هذه كلها أحاديث ضعيفة بل موضوعة، لا يحتج بشيء منها في أحكام الشريعة.
والثابت عنه ﷺ أنه قال: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) هذا هو الثابت في الصحيح، ولكن بعضهم رواه بالمعنى فقال: قبري. وهو ﷺ حين قال هذا القول لم يكن قد قبر بعد صلوات الله وسلامه عليه ولهذا لم يحتج بهذا أحد من الصحابة، لما تنازعوا في موضع دفنه، ولو كان هذا عندهم لكان نصا في محل النزاع. ولكن دفن في حجرة عائشة في الموضع الذي مات فيه، بأبي هو وأمي صلوات الله عليه وسلامه.
ثم لما وسع المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك، وكان نائبه على المدينة عمر بن عبد العزيز أمره أن يشترى الحجر ويزيدها في المسجد، وكانت الحجر من جهة المشرق والقبلة فزيدت في المسجد ودخلت حجرة عائشة في المسجد من حينئذ، وبنوا الحائط البراني مُسَنَّما محرفا، فإنه ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي مرثد الغنوي أنه قال ﷺ لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها) لأن ذلك يشبه السجود لها، وإن كان المصلى إنما يقصد الصلاة لله تعالى. وكما نهى عن اتخاذها مساجد ونهى عن قصد الصلاة عندها، وإن كان المصلى إنما يقصد الصلاة لله سبحانه والدعاء له. فمن قصد قبور الأنبياء والصالحين لأجل الصلاة والدعاء عندها، فقد قصد نفس المحرم الذي سد الله ورسوله ذريعته، وهذا بخلاف السلام المشروع، حسبما تقدم.
وقد روى سفيان الثوري عن عبد الله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام) رواه النسائي وأبو حاتم في صحيحه، وروى نحوه عن أبي هريرة. فهذا فيه أن سلام البعيد تبلغه الملائكة.
وفي الحديث المشهور الذي رواه أبو الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس قال: قال رسول الله ﷺ: (أكثروا على من الصلاة في كل يوم جمعة، فإن صلاة أمتي تعرض على يومئذ، فمن كان أكثرهم على صلاة كان أقربهم مني منزلة).
وفي مسند الإمام أحمد: حدثنا شُرَيح، حدثنا عبد الله بن نافع عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: (لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تجعلوا بيوتكم قبورا، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني) ورواه أبو داود. قال القاضي عياض: وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: (من صلى علي عند قبري سمعته. ومن صلى علي نائيًا أبلغته).
وهذا قد رواه محمد بن مروان السدي عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، وهذا هو السدي الصغير وليس بثقة، وليس هذا من حديث الأعمش.
وروى أبو يعلى الموصلي في مسنده، عن موسى بن محمد بن حبان، عن أبي بكر الحنفي: حدثنا عبد الله بن نافع، حدثنا العلاء بن عبد الرحمن سمعت الحسن بن علي قال: قال رسول الله ﷺ: (صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا، ولا تتخذوا بيتي عيدا. صلوا على وسلموا فإن صلاتكم وسلامكم يبلغني).
وروى سعيد بن منصور في سننه أن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رأى رجلا يكثر الاختلاف إلى قبر النبي ﷺ قال له: يا هذا، إن رسول الله ﷺ قال: (لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا على حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني) فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء.
وروى هذا المعنى عن علي بن الحسين زين العابدين عن أبيه عن علي بن أبي طالب، ذكره أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسى الحافظ في مختاره الذي هو أصح من صحيح الحاكم. وذكر القاضي عياض عن الحسن بن علي قال: إذا دخلت فسلم على النبي ﷺ، فإن رسول الله ﷺ قال: (لا تتخذوا بيتي عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم قبورا، وصلوا على حيث كنتم، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم).
ومما يوهن هذه الحكاية أنه قال فيها: (ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة) إنما يدل على أنه يوم القيامة تتوسل الناس بشفاعته، وهذا حق كما تواترت به الأحاديث، لكن إذا كان الناس يتوسلون بدعائه وشفاعته يوم القيامة كما كان أصحابه يتوسلون بدعائه وشفاعته في حياته، فإنما ذاك طلب لدعائه وشفاعته، فنظير هذا لو كانت الحكاية صحيحة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة في الدنيا عند قبره.
ومعلوم أن هذا لم يأمر به النبي ﷺ ولا سنه لأمته، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين لا مالك ولا غيره من الأئمة، فكيف يجوز أن ينسب إلى مالك مثل هذا الكلام الذي لا يقوله إلا جاهل لا يعرف الأدلة الشرعية ولا الأحكام المعلومة أدلتها الشرعية، مع علو قدر مالك وعظم فضيلته وإمامته، وتمام رغبته في اتباع السنة وذم البدع وأهلها؟ وهل يأمر بهذا أو يشرعه إلا مبتدع؟ فلو لم يكن عن مالك قول يناقض هذا، لعلم أنه لا يقول مثل هذا.
ثم قال في الحكاية: [استقبله واستشفع به فيشفعك الله] والاستشفاع به معناه في اللغة: أن يطلب منه الشفاعة كما يستشفع الناس به يوم القيامة، وكما كان أصحابه يستشفعون به. ومنه الحديث الذي في السنن أن أعرابيا قال: يا رسول الله، جهدت الأنفس وجاع العيال، وهلك المال، فادع الله لنا، فإنا نستشفع بالله عليك، ونستشفع بك على الله. فسبح رسول الله ﷺ حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال: (ويحك أتدري ما تقول؟ شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه)، وذكر تمام الحديث.
فأنكر قوله: [نستشفع بالله عليك] ومعلوم أنه لا ينكر أن يسأل المخلوق بالله أو يقسم عليه بالله، وإنما أنكر أن يكون الله شافعا إلى المخلوق؛ ولهذا لم ينكر قوله: (نستشفع بك على الله) فإنه هو الشافع المشفع.
وهم لو كانت الحكاية صحيحة إنما يجيئون إليه لأجل طلب شفاعته ﷺ؛ ولهذا قال في تمام الحكاية: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } الآية 1، وهؤلاء إذا شرع لهم أن يطلبوا منه الشفاعة والاستغفار بعد موته، فإذا أجابهم فإنه يستغفر لهم، واستغفاره لهم دعاء منه وشفاعة أن يغفر الله لهم.
وإذا كان الاستشفاع منه طلب شفاعته فإنما يقال في ذلك: [استشفع به فيشفعه الله فيك] لا يقال: فيشفعك الله فيه. وهذا معروف الكلام ولغة النبي ﷺ وأصحابه وسائر العلماء يقال: شفع فلان في فلان فشفع فيه. فالمشفع الذي يشفعه المشفوع إليه هو الشفيع المستشفع به، لا السائل الطالب من غيره أن يشفع له، فإن هذا ليس هو الذي شفع، فمحمد ﷺ هو الشفيع المشفع، ليس المشفع الذي يستشفع به. ولهذا يقول في دعائه: يا رب شفعني، فيشفعه الله، فيطلب من الله سبحانه أن يشفعه لا أن يشفع طالبى شفاعته، فكيف يقول: واستشفع به فيشفعك الله؟ وأيضا فإن طلب شفاعته ودعائه واستغفاره بعد موته وعند قبره، ليس مشروعا عند أحد من أئمة المسلمين، ولا ذكر هذا أحد من الأئمة الأربعة وأصحابهم القدماء، وإنما ذكر هذا بعض المتأخرين؛ ذكروا حكاية عن العتبى أنه رأى أعرابيا أتى قبره وقرأ هذه الآية، وأنه رأى في المنام أن الله غفر له. وهذا لم يذكره أحد من المجتهدين من أهل المذاهب المتبوعين، الذين يفتى الناس بأقوالهم، ومن ذكرها لم يذكر عليها دليلا شرعيا.
ومعلوم أنه لو كان طلب دعائه وشفاعته واستغفاره عند قبره مشروعا، لكان الصحابة والتابعون لهم بإحسان أعلم بذلك وأسبق إليه من غيرهم، ولكان أئمة المسلمين يذكرون ذلك، وما أحسن ما قال مالك: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها) قال: ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك.
فمثل هذا الإمام كيف يشرع دينا لم ينقل عن أحد السلف، ويأمر الأمة أن يطلبوا الدعاء والشفاعة والاستغفار بعد موت الأنبياء والصالحين منهم عند قبورهم، وهو أمر لم يفعله أحد من سلف الأمة؟
ولكن هذا اللفظ الذي في الحكاية يشبه لفظ كثير من العامة الذين يستعملون لفظ الشفاعة في معنى التوسل، فيقول أحدهم: اللهم إنا نستشفع إليك بفلان وفلان أي نتوسل به. ويقولون لمن توسل في دعائه بنبي أو غيره: [قد تشفع به] من غير أن يكون المستشفع به شفع له ولا دعا له، بل وقد يكون غائبا لم يسمع كلامه ولا شفع له، وهذا ليس هو لغة النبي ﷺ وأصحابه وعلماء الأمة، بل ولا هو لغة العرب، فإن الاستشفاع طلب الشفاعة. والشافع هو الذي يشفع السائل فيطلب له ما يطلب من المسؤول المدعو المشفوع إليه.
وأما الاستشفاع بمن لم يشفع للسائل ولا طلب له حاجة بل وقد لا يعلم بسؤاله، فليس هذا استشفاعا لا في اللغة ولا في كلام من يدرى ما يقول: نعم هذا سؤال به ودعاؤه ليس هو استشفاعا به. ولكن هؤلاء لما غيروا اللغة كما غيروا الشريعة وسموا هذا استشفاعا أي سؤالا بالشافع صاروا يقولون: [استشفع به فيشفعك] أي يجيب سؤالك به، وهذا مما يبين أن هذه الحكاية وضعها جاهل بالشرع واللغة وليس لفظها من ألفاظ مالك.
نعم، قد يكون أصلها صحيحا، ويكون مالك قد نهى عن رفع الصوت في مسجد الرسول اتباعا للسنة، كما كان عمر ينهى عن رفع الصوت في مسجده، ويكون مالك أمر بما أمر الله به من تعزيره وتوقيره ونحو ذلك مما يليق بمالك أن يأمر به.
ومن لم يعرف لغة الصحابة التي كانوا يتخاطبون بها ويخاطبهم بها النبي ﷺ وعادتهم في الكلام، وإلا حرف الكلم عن مواضعه، فإن كثيرا من الناس ينشأ على اصطلاح قومه وعادتهم في الألفاظ، ثم يجد تلك الألفاظ في كلام الله أو رسوله أو الصحابة، فيظن أن مراد الله أو رسوله أو الصحابة بتلك الألفاظ ما يريده بذلك أهل عادته واصطلاحه، ويكون مراد الله ورسوله والصحابة خلاف ذلك.
وهذا واقع لطوائف من الناس من أهل الكلام والفقه والنحو والعامة وغيرهم، وآخرون يتعمدون وضع ألفاظ الأنبياء وأتباعهم على معان أخر مخالفة لمعانيهم، ثم ينطقون بتلك الألفاظ مريدين بها ما يعنونه هم، ويقولون: إنا موافقون للأنبياء! وهذا موجود في كلام كثير من الملاحدة المتفلسفة والإسماعيلية ومن ضاهاهم من ملاحدة المتكلمة والمتصوفة، مثل من وضع المحدث والمخلوق والمصنوع على ماهو معلول وإن كان عنده قديما أزليا، ويسمى ذلك الحدوث الذاتي ثم يقول: نحن نقول: إن العالم محدث، وهو مراده. ومعلوم أن لفظ المحدث بهذا الاعتبار ليس لغة أحد من الأمم، وإنما المحدث عندهم ما كانوا بعد أن لم يكن.
وكذلك يضعون لفظ الملائكة على ما يثبتونه من العقول والنفوس وقوى النفس. ولفظ الجن والشياطين على بعض قوى النفس، ثم يقولون: نحن نثبت ما أخبرت به الأنبياء وأقر به جمهور الناس من الملائكة والجن والشياطين. ومن عرف مراد الأنبياء ومرادهم علم بالاضطرار أن هذا ليس هو ذاك، مثل أن يعلم مرادهم بالعقل الأول، وأنه مقارن عندهم لرب العالمين أزلا وأبدا، وأنه مبدع لكل ما سواه، أو بتوسطه حصل كل ما سواه. والعقل الفعال عندهم عنه يصدر كل ما تحت فلك القمر، ويعلم بالاضطرار من دين الأنبياء أنه ليس من الملائكة عندهم من هو رب كل ما سوى الله، ولا رب كل ما تحت فلك القمر، ولا من هو قديم أزلى أبدى لم يزل ولا يزال.
هامش
[عدل]- ↑ [النساء: 64]