مجموع الفتاوى/المجلد الأول/السؤال بحق فلان مبني على أصلين
السؤال بحق فلان مبني على أصلين
[عدل]وأما السؤال بحق فلان فهو مبني على أصلين:
أحدهما: ما له من الحق عند الله. والثاني: هل نسأل الله بذلك كما نسأل بالجاه والحرمة؟
أما الأول فمن الناس من يقول: للمخلوق على الخالق حق يعلم بالعقل، وقاس المخلوق على الخالق، كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة وغيرهم. ومن الناس من يقول: لا حق للمخلوق على الخالق بحال، لكن يعلم ما يفعله بحكم وعده وخبره، كما يقول ذلك من يقوله من أتباع جهم والأشعري وغيرهما، ممن ينتسب إلى السنة.
ومنهم من يقول: بل كتب الله على نفسه الرحمة، وأوجب على نفسه حقا لعباده المؤمنين كما حرم الظلم على نفسه، لم يوجب ذلك مخلوق عليه ولا يقاس بمخلوقاته، بل هو بحكم رحمته وحكمته وعدله كتب على نفسه الرحمة وحرم على نفسه الظلم، كما قال في الحديث الصحيح الإلهي: (يا عبدي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا). وقال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 1، وقال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} 2 وفي الصحيحين عن معاذ، عن النبي ﷺ أنه قال: (يا معاذ، أتدري ما حق الله على عباده؟) قلت: الله ورسوله أعلم. قال: (حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. يا معاذ، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟) قلت الله ورسوله أعلم، قال: (حقهم عليه ألا يعذبهم). فعلى هذا القول لأنبيائه وعباده الصالحين عليه سبحانه حق أوجبه على نفسه مع إخباره، وعلى الثاني يستحقون ما أخبر بوقوعه، وإن لم يكن ثَمَّ سبب يقتضيه.
فمن قال: ليس للمخلوق على الخالق حق يسأل به كما روى أن الله تعالى قال لداود: (وأي حق لآبائك عليّ؟) فهو صحيح إذا أريد بذلك أنه ليس للمخلوق عليه حق بالقياس والاعتبار على خلقه كما يجب للمخلوق على المخلوق، وهذا كما يظنه جهال العباد من أن لهم على الله سبحانه حقا بعبادتهم.
وذلك أن النفوس الجاهلية تتخيل أن الإنسان بعبادته وعلمه يصير له على الله حق من جنس ما يصير للمخلوق على المخلوق، كالذين يخدمون ملوكهم وملاكهم، فيجلبون لهم منفعة، ويدفعون عنهم مضرة ويبقى أحدهم يتقاضى العوض والمجازاة على ذلك، ويقول له عند جفاء أو إعراض يراه منه: ألم يفعل كذا؟ يمن عليه بما يفعله معه، وإن لم يقله بلسانه كان ذلك في نفسه.
وتخيل مثل هذا في حق الله تعالى من جهل الإنسان وظلمه، ولهذا بيّن سبحانه أن عمل الإنسان يعود نفعه عليه، وأن الله غني عن الخلق، كما في قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} 3، وقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} 4، وقوله تعالى: {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } 5 وقوله تعالى: {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} 6، وقال تعالى في قصة موسى عليه السلام: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} 7، وقال تعالى: {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئا} 8، وقال تعالى: {وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} 9.
وقد بين سبحانه أنه المانُّ بالعمل فقال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} 10، وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِّنَ الله وَنِعْمَةً وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 11.
وفي الحديث الصحيح الإلهي: (يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضرى فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم. يا عبدي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا. يا عبدي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكى شيئا. يا عبدي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلكم مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر).
وبين الخالق تعالى والمخلوق من الفروق ما لا يخفى على من له أدنى بصيرة.
منها: أن الرب تعالى غني بنفسه عما سواه، ويمتنع أن يكون مفتقرا إلى غيره بوجه من الوجوه. والملوك وسادة العبيد محتاجون إلى غيرهم حاجة ضرورية.
ومنها: أن الرب تعالى وإن كان يحب الأعمال الصالحة ويرضى ويفرح بتوبة التّائبين فهو الذي يخلق ذلك وييسره فلم يحصل ما يحبه ويرضاه إلا بقدرته ومشيئته. وهذا ظاهر على مذهب أهل السنة والجماعة الذين يقرون بأن الله هو المنعم على عباده بالإيمان بخلاف القدرية. والمخلوق قد يحصل له ما يحبه بفعل غيره.
ومنها: أن الرب تعالى أمر العباد بما يصلحهم ونهاهم عما يفسدهم، كما قال قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم، ولا ينهاهم عما نهاهم عنه بخلا عليهم، بل أمرهم بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم. بخلاف المخلوق الذي يأمر غيره بما يحتاج إليه وينهاه عما ينهاه بخلا عليه. وهذا أيضا ظاهر على مذهب السلف وأهل السنة الذين يثبتون حكمته ورحمته، ويقولون: إنه لم يأمر العباد إلا بخير ينفعهم، ولم ينههم إلا عن شر يضرهم، بخلاف المجبرة الذين يقولون: إنه قد يأمرهم بما يضرهم وينهاهم عما ينفعهم.
ومنها: أنه سبحانه هو المنعم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وهو المنعم بالقدرة والحواس وغير ذلك مما به يحصل العلم والعمل الصالح، وهو الهادي لعباده، فلا حول ولا قوة إلا به؛ ولهذا قال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لله الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} 12 وليس يقدر المخلوق على شيء من ذلك.
ومنها: أن نعمه على عباده أعظم من أن تحصى، فلو قدر أن العبادة جزاء النعمة لم لم تقم العبادة بشكر قليل منها، فكيف والعبادة من نعمته أيضا؟
ومنها أن العباد لا يزالون مقصرين محتاجين إلى عفوه ومغفرته، فلن يدخل أحد الجنة بعمله، وما من أحد إلا وله ذنوب يحتاج إلى مغفرة الله لها {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} 13، وقوله ﷺ: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله)، لا يناقض قوله تعالى: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 14.
فإن المنفي نفي بباء المقابلة والمعاوضة، كما يقال: بعت هذا بهذا، وما أثبت أثبت بباء السبب، فالعمل لا يقابل الجزاء وإن كان سببا للجزاء؛ ولهذا من ظن أنه قام بما يجب عليه وأنه لا يحتاج إلى مغفرة الرب تعالى وعفوه، فهو ضال، كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (لن يدخل أحد الجنة بعمله)، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) وروى (بمغفرته)، ومن هذا أيضا: الحديث الذي في السنن عن النبي ﷺ أنه قال: (إن الله لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم) الحديث.
ومن قال: بل للمخلوق على الله حق، فهو صحيح إذا أراد به الحق الذي أخبر الله بوقوعه، فإن الله صادق لا يخلف الميعاد، وهو الذي أوجبه على نفسه بحكمته وفضله ورحمته، وهذا المستحق لهذا الحق إذا سأل الله تعالى به يسأل الله تعالى إنجاز وعده، أو يسأله بالأسباب التي علق الله بها المسببات كالأعمال الصالحة، فهذا مناسب، وأما غير المستحق لهذا الحق إذا سأله بحق ذلك الشخص فهو كما لو سأله بجاه ذلك الشخص، وذلك سؤال بأمر أجنبي عن هذا السائل لم يسأله بسبب يناسب إجابة دعائه.
هامش
[عدل]- ↑ [الأنعام: 54]
- ↑ [الروم: 47]
- ↑ [الإسراء: 7]
- ↑ [فصلت: 46]
- ↑ [الزمر: 7]
- ↑ [النمل: 40]
- ↑ [إبراهيم: 7، 8]
- ↑ [آل عمران: 176]
- ↑ [آل عمران: 97]
- ↑ [الحجرات: 17]
- ↑ [الحجرات: 7، 8]
- ↑ [الأعراف: 43]
- ↑ [فاطر: 45]
- ↑ [الأحقاف: 14، الواقعة: 24]