المزهر/النوع التاسع
►معرفة المصنوع | معرفة الفصيح | معرفة الضعيف والمنكر والمتروك ◄ |
الكلام عليه في فصلين: أحدُهما بالنسبة إلى اللفظ والثاني بالنسبة إلى المتكلِّم به. والأول أخصُّ من الثاني لأن العربي الفصيح قد يتكلم بلفظةٍ لا تعدُّ فصيحة:
الفصل الأول في معرفة الفصيح من الألفاظ المفردة
قال الراغب في مفرداته: الفَصْحُ: خلوصُ الشيء مما يشوبهُ وأصله في اللَّبن، يقال: فَصَّح اللبنُ وأفْصَحَ فهو فِصِّيح ومُفْصِح إذا تعرَّى من الرَّغوة. قال الشاعر: "وتَحْتَ الرَّغْوَةِ اللَّبَنُ الفَصِيحُ". ومنه اسُتعير فصحُ الرجل: جادَتْ لغته، وأفْصح: تكلم بالعربية، وقيل بالعكس والأول أصح. انتهى.
وفي طبقات النحويين لأبي بكر الزبيدي: قال ابن نوفل: سمعتُ أبي يقول لأبي عمرو بن العلاء: أخبرني عما وضعت مما سميت عربية! أيدخلُ فيه كلامُ العرب كله؟ فقال: لا. فقلت: كيف تصنع فيما خالفتْك فيه العرب وهم حجة فقال: أحملُ على الأكثر وأُسَمِّي ما خَالَفني لغات.
والمفهومُ من كلام ثعلب أن مَدار الفصاحةِ في الكلمة على كَثْرَة استعمالِ العرب لها، فإنه قال في أول فصيحه: هذا كتابُ اخيتار الفصيح مما يجري في كلام الناس وكتبهم فمنه ما فيه لغةٌ واحدة والناس على خلافها فأخبرْنا بصواب ذلك ومنه ما فيه لغتان وثلاث وأكثر من ذلك فاخترنا أفصحهن ومنه ما فيه لغتان كثُرتا واستُعْمِلتا فلم تكن إحداهما أكثر من الأخرى فأخبرنا بهما. انتهى.
ولا شك في أن ذلك هو مدار الفصاحة.
ورأى المتأخرون من أرباب علوم البلاغة أن كل أحدٍ لا يمكُنه الاطلاع على ذلك لتَقَادُم العهد بزمان العرب فحرَّرُوا لذلك ضابطًا يعرف به ما أكثرت العرب من استعماله من غيره فقالوا: الفصاحةُ في المفرد خلوصه من تَنَافُرِ الحروف ومن الغَرَابة ومن مخالفة القياس اللغوي، فالتنافر منه ما تكونُ الكلمةُ بسببه مُتناهيةً في الثِّقَل على اللسان وعُسْر النُّطْق بها كما رُوي أن أعرابيًا سُئل عن ناقته فقال: تركتها تَرْعى الهُعْخُع، ومنه ما هو دون ذلك كلفظ مُسْتَشْزِر في قول امرئ القيس: "غَدَائرُه مُسْتَشْزِرَاتٌ إلى العُلا " وذلك لتوسُّط الشين وهي مَهْموسة رخوة بين التاء وهي مهموسة شديدة والزاي وهي مجهورة.
والغرابةُ أن تكون الكلمة وحْشِيَّة لا يظهر معناها فيحتاج في معرفتها إلى أن يُنَقّر عنها في كتب اللغة المبسوطة كما رُوي عن عيسى بن عمر النحوي أنه سقط عن حمار فاجتمع عليه الناس فقال: ما لكم تَكَأْكَأْتُمْ عليَّ تَكَأْكُؤَكم على ذي جنَّة، اِفْرَنْقِعوا عَنِّي. أي اجْتَمَعْتم، تَنحَّوا.
أو يخرج لها وجه بعيد، كما في قول العجاج: "وفَاحِمًا ومَرْسِنَا مُسَرَّجا" فإنه لم يعرف ما أراد بقوله: مسرجا حتى اختلف في تخريجه فقيل: هو من قولهم للسُّيوف سُرَيْجِيَّة منسوبة إلى قَيْن يقال له سُرَيج يريد أنه في الاستواء والدِّقة كالسيف السُّرَيْجَي وقيل من السِّراج يريد أنه في البريق كالسِّراج.
ومخالفة القياس كما في قول الشاعر: "الحمدُ لله العَلِيّ الأَجْلَل" فإن القياس الأجَلّ بالإدغام.
وزاد بعضُهم في شروط الفصاحة: خلوصُه من الكراهة في السَّمْع بأن يمجَّ الكلمةَ وينبو عن سماعها كما ينبو عن سماع الأصوات المُنْكَرة، فإن اللفظ من قبيل الأصوات والأصوات منها ما تستلذ النفسُ بسماعه ومنها ما تكره سماعَه كلفظ الجِرِشَّي في قول أبي الطيب: "كريمُ الجِرِشَّي شريفُ النَّسَب" أي كريم النفس وهو مردود لأن الكراهَة لِكَوْنِ اللفظ حُوشِيًّا فهو داخلٌ في الغرابة. هذا كله كلام القَزْويني في الإيضاح.
ثم قال عَقِبه: ثم علامةُ كون الكلمة فصيحةً أن يكون استعمالُ العربِ الموثوقِ بعربيتهم لها كثيرا أو أكثرَ من استعمالهم ما بمَعْنَاها.
وهذا ما قدَّمتُ تقريره في أول الكلام؛ فالمرادُ بالفصيح ما كَثُر استعمالهُ في أَلْسِنَة العرب.
وقال الجاربردي في شرح الشَّافية: فإن قلتَ: ما يُقْصَدُ بالفصيح وبأيِّ شيءٍ يُعْلَم أنه غيرُ فصيح وغيره فصيح قلت أن يكونَ اللفظُ على أَلْسِنَة الفصحاءِ الموثوقِ بعربيتهم أدْور واستعمالهم لها أكْثر.
فوائد
بعضها تقرير لما سبق وبعضها تعقب له وبعضها زيادة عليه.
الأولى
قال الشيخ بهاءُ الدين السبكي في عروس الأفراح: ينبغي أن يُحمَل قوله: " والغرابة " على الغَرَابةِ بالنسبة إلى العرب العَرْباء لا بالنسبة إلى استعمال الناس، وإلا لكان جميعُ ما في كُتُب الغريب غيرَ فصيح، والقَطعُ بخلافه. قال: والذي يقتضيه كلامُ المفتاح وغيرِه أن الغَرَابة قِلَّةُ الاستعمال، والمرادُ قلّةُ استعمالها لذلك المعنى لا لِغَيره.
الثانية
قال الشيخ بهاءُ الدين: قد يَرِد على قوله: ومخالفة القياس ما خالَف القياسَ وكَثُر استعماله فورد في القرآن فإنه فصيح مثل اسْتَحْوذ وقال الخطيبي في شرح التلخيص: أما إذا كانت مخالفةُ القياس لِدَليل فلا يخرج عن كونه فصيحًا كما في سُرر فإن قياس سَرير أنْ يجمع على أَفْعلة وفُعْلان مثل أرغفة ورُغْفان.
وقال الشيخ بهاءُ الدين: إن عَنَى بالدليل ورودَ السَّماع فذلك شرطٌ لجواز الاستعمال اللغوي لا الفَصَاحة، وإن عَنَى دليلًا يصيِّره فصيحًا وإن كان مخالفًا للقياس فلا دليلَ في سُرر على الفَصَاحة إلا وروده في القرآن فينبغي حينئذ أن يُقال: إن مخالفَة القياس إنما تُخِلُّ بالفصاحة حيث لم يقع في القرآن الكريم.
قال: ولقائل أن يقول حينئذ: لا نُسَلِّم أن مخالفةَ القياس تُخِلُّ بالفصاحة ويُسْنَد هذا المنع بكَثْرةِ ما وَرَدَ منه في القرآن بل مخالفةُ القياس مع قلَّةِ الاستعمال مجموعُهما هو المخلّ.
قلت: والتَّحقيقُ أن المُخِلّ هو قلةُ الاستعمال وحدَها فرجعت الغَرَابةُ ومخالفةُ القياس إلى اعتبارِ قلّة الاستعمال والتنافر كذلك وهذا كلَّه تقريرٌ لكَوْن مدَار الفصاحة على كثرة الاستعمال وعدمها على قلَّته.
الثالثة
قال الشيخ بهاء الدين: مُقْتَضى ذلك أيضا أن كلَّ ضرورة ارتكبها شاعر فقط أخرجت الكلمةَ عن الفَصَاحة. وقد قال حازم القرطاجني في مِنْهاج البُلَغَاء: الضَرائر الشائعة منها المُسْتَقْبَحُ وغيره وهو ما لا تستوحش منه النَّفس كصَرْف ما لا ينصرف، وقد تستوحش منه في البعض كالأَسْماء المَعْدُولة، وأشدّ ما تَسْتَوْحِشُه تنوينُ أفعل منه؛ ومما لا يُسْتَقْبَح قصرُ الجمع الممدود ومَدّ الجمع المقصور، وأقبحُ الضرائر الزيادةُ المؤدّيةُ لما ليس أصلًا في كلامهم كقوله: أدْنو فأنظُور أي أنظر. والزيادة المؤدّيةُ لما يقلَّ في الكلام كقوله: فاطأت شيمالي، أي شمالي وكذلك النقص المُجْحِف كقوله: * دَرَسَ المَنَا بمُتَالِعٍ فأَبانا * أي المنازل. وكذلك العدول عن صيغة إلى أخرى كقوله: * جَدْلاءُ محْكَمةٍ من نَسْج سلّام * أي سليمان انتهى.
وأطلق الخفاجيّ في سرِّ الفصاحة أن صرفَ غير المنصرف وعكْسَه في الضرورة مخلٌّ بالفصاحة.
الرابعة
قال الشيخ بهاءُ الدين: عدَّ بعضُهم من شروط الفصاحة ألا تكونَ الكلمةُ مُبتَذلة، إما لتغيير العامَّة لها إلى غير أصلِ الوضع كالصُّرْم للقَطْع وجعلته العامة للمحلِّ المخصوص، وإما لسخافتها في أصل الوضع كاللَّقَالق. ولهذا عدَل في التنزيل إلى قوله: { فأَوْقِدْ لِي يا هَامانُ على الطِّين } لسخافة لفظ الطوب وما رَادَفه كما قال الطيبي. ولاستثقال جَمع الأرض لم تُجْمَع في القرآن وجُمِعت السماء حيثُ أُريدَ جمعها قال تعالى: { ومن الأرض مثْلهنّ } ولاسْتثقال اللُّب لم يقع في القرآن ووقع فيه جمعُه وهو الألباب لخِفَّتِه.
وقد قسَّم حازم في المنهاج الابتذالَ والغَرَابةَ فقال: الكلمة على أقسام:
- الأول: ما استعملَتْهُ العربُ دون المحدثين، وكان استعمال العربِ له كثيرا في الأشعار وغيرها؛ فهذا حسنٌ فصيح.
- الثاني: ما استعملَتْه العربُ قليلًا ولم يحسن تأليفُه ولا صيغتُه؛ فهذا لا يَحْسُن إيراده.
- الثالث: ما استعملَتْهُ العربُ وخاصة المحدثين دون عامتهم؛ فهذا حسنٌ جدا لأنه خلص من حُوشيَّة العربِ وابتذالِ العامّة.
- الرابع: ما كثُر في كلام العرب وخاصة المحدَثين وعامتهم ولم يكثر في أَلْسِنة العامة؛ فلا بأس به.
- الخامس: ما كان كذلك ولكنه كثُرَ في ألْسِنة العامة وكان لذلك المعنى اسمٌ استغنتْ به الخاصة عن هذا؛ فهذا يَقْبَحُ استعماله لابتذاله.
- السادس: أن يكون ذلك الاسم كثيرا عند الخاصة والعامة وليس له اسمٌ آخر وليست العامة أحوج إلى ذِكْره من الخاصِة ولم يكن من الأشياء التي هي أنسب بأهل المِهَن؛ فهذا لا يَقْبُح ولا يُعَدُّ مُبْتَذَلًا مثل لفظ الرأس والعين.
- السابع: أن يكون كما ذكرناه إلا أن حاجةَ العامة له أكثر فهو كثير الدَّوَرَان بينهم كالصنائع؛ فهذا مُبتذل.
- الثامن: أن تكون الكلمةُ كثيرةَ الاستعمال عند العرب والمحدَثين لمَعنًى وقد استعملها بعضُ العرب نادرا لمعنى آخر؛ فيجب أن يُجْتَنَبْ هذا أيضا.
- التاسع: أن تكون العرب والعامة استعملوها دون الخاصة وكان استعمالُ العامَّة لها من غير تغيير؛ فاستعمالها على ما نطقت به العرب ليس مبتذلا، وعلى التغيير قبيح مبتذل.
ثم اعلم أن الابتذالَ في الألفاظ وما تدل عليه ليس وصفًا ذاتيا ولا عَرَضًا لازمًا، بل لاحِقًا من اللواحق المتعلِّقةِ بالاستعمال في زمان دون زمان وصُقْع دون صُقع. انتهى.
الخامسة
قال ابن دريد في الجمهرة: اعلم أن الحروفَ إذا تقاربت مخارجُها كانت أثقَل على اللِّسان منها إذا تباعدت لأنك إذا استعملتَ اللسانَ في حروف الحَلْق دون حروف الفم ودون حروف الذَّلاقة كلَّفته جَرْسًا واحدًا وحركاتٍ مختلفة ألا ترى أنك لو أَلَّفْتَ بين الهمزة والهاء والحاء فأمكن لوجدتَ الهمزةَ تتحوَّل هاء في بعض اللغات لقُرْبها منها نحو قولهم في [ أُمْ والله ]: هُم والله، وكما قالوا في أراق: هَرَاق [ الماء ]، ولوجَدْتَ الحاء في بعض الألسنة تتحول هاء. وإذا تباعدتْ مخارجُ الحروف حَسُنَ [ وجه ] التأليف.
قال: واعلم أنه لا يكاد يجيء في الكلام ثلاثةُ أحرف من جنسٍ واحد في كلمةٍ واحدة لصعوبة ذلك على ألسنتهم وأَصْعَبُها حروف الحَلْق فأما حرفان فقد اجتمعا مثل أح [ بلا فاصلة واجتمعا في مثل ] أحد وأهل وعَهد ونَخْعٍ غيرَ أنَّ من شأنهم إذا أرادوا هذا أن يبدءوا بالأقوى من الحرفين ويُؤَخّروا الألْين كما قالوا: وَرَل ووَتِدِ فبدءوا بالتاء مع الدَّال وبالراء مع اللام فذُق التاد والدال فإنك تجد التَّاء تنقطع بجَرْسٍ قويّ [ وتجد الدال تنقطع بجرس لين وكذلك الراء تنقطع بجرس قوي ] وكذلك اللام تنقطع بِغُنَّة، ويدلّك على ذلك أيضا أن اعْتِياص اللام على الألسن أقل من اعتياض الراء وذلك للين اللام، فافهم.
قال الخليل: ولولا بُحَّة في الحاء لأَشْبَهَت العينَ، فلذلك لم يأتلفا في كلمة واحدة وكذلك الهاء؛ ولكنهما يجتمعان في كلمتين لكلِّ واحدة منهما معنًى على حِدَة نحو قولهم: حيَّهَل وقول الآخر: حيهاوه وحَيّهلًا فحيّ كلمة معناها: هَلُمَّ وهَلًا: حثيثًا وفي الحديث: [ فحيّ هَلا بعُمَر ] وقال الخليل: سمعنا كلمةً شَنْعَاء " الهعخع " فأنكَرْنا تأليفها وسُئل أعرابيّ عن نَاقَتَه فقال: تركتُها تَرْعَى الهُعْخع فسألنا الثِّقات من علمائهم فأنكروا ذلك وقالوا: نعرف الخُعْخُع فهذا أقرب إلى التأليف. انتهى كلام الجمهرة.
وقال الشيخ بهاء الدين في عروس الأفراح: قالوا: التنافر يكون إما لِتَبَاعُد الحروف جدا أو لتقاربها فإنها كالطَّفْرَة والمَشْي في القَيْد نقله الخفاجي في " سرّ الفصاحة " عن الخليل بن أحمد وتعقّبه بأن لنا ألفاظًا حروفُها متقاربة ولا تنافرَ فيها كلَفْظ الشَّجَر والجيش والفم وقد يوجد البُعْدُ ولا تنافر كلفظ العلم والبعد ثم رأى الخفاجي أنه لا تنافر البُعْدِ وإن أفرط بل زاد فجعل تَبَاعد مخارج الحروف شَرْطًا للفصاحة.
قال الشيخ بهاء الدين: ويُشبه استواءَ تقاربِ الحروف وتباعدها في تحصيل التنافر اسْتواءُ المِثْلَين اللَّذَين هما في غاية الوِفاق، والضِّدَّين اللذين هما في غاية الخلافِ في كَون كلٍّ من الضِّدَّين والمِثلين لا يجتمع مع الآخر، فلا يجتمع المثلان لشدَّة تقاربهما ولا الضِّدَّين لشدة تباعدهما، وحيث دار الحال بين الحروف المتباعدة والمتقاربة فالمتباعدة أخف.
وقال ابن جني في سر الصناعة: التأليفُ ثلاثة أضرب:
أحدُها: تأليفُ الحروفِ المتباعدة وهو أَحْسَنُه وهو أغلب في كلام العرب.
والثاني: الحروفُ المتقاربة لضَعْفِ الحرْفِ نفسه وهو يلي الأول في الحسْن.
والثالث: الحروفُ المتقاربة فإما رُفض وإما قَلَّ استعماله؛ وإنما كان أقلَّ من المتماثلين وإن كان فيهما ما في المتقاربين وزيادة لأن المتماثلَين يخفَّان بالإدغام ولذلك لما أرادت بنو تميم إسكان عَيْن " مَعْهم " كرهوا ذلك فأبدلوا الحرفين حائين وقالوا: " مححم " فرأوا ذلك أسهلَ من الحرفين المتقاربين.
السادسة
قال ابن دريد: اعلم أن أحسن الأبنيةِ أن يبنوا بامتِزَاج الحروف المتباعدة ألا ترى أنك لا تجدُ بناء رباعيًا مُصْمَت الحروف لا مِزاج له من حروف الذلاقة إلا بناءً يجيئُك بالسين وهو قليلٌ جدًا مثل عَسْجد وذلك أن السينَ ليّنةٌ وجَرْسها من جَوْهر الغُنَّة فلذلك جاءت في هذا البناء.
فأما الخماسي مثل فَرَزْدَق وسَفَرْجَل وشَمَرْدل فإنك لست واجدَه إلا بحرف أو حرفين من حروف الذَّلاقة من مَخْرج الشفتين أو أَسَلة اللسان فإذا جاءك بناءٌ يُخَالف ما رسمْتُه لك مثل: دعشق وضغنج وحضافَج وضقعهج أو مثل عَقْجَش [ وشعفج ] فإنه ليس من كلام العرب فارْدُدْه؛ فإن قومًا يَفْتَعلون هذه الأسماءَ بالحروف المُصْمتة ولا يمزجونها بحروف الذَّلاقة، فلا نقبلْ ذلك كما لا نقبل من الشِّعْر المستقيمِ الأَجْزاء إلا ما وافَق ما بَنَتْه العرب [ من العروض الذي أسس على شعر الجاهلية ]، فأما الثُّلاثي من الأسماء والثنائي فقد يَجوز بالحروف المُصْمَتة بلا مِزاج من حروف الذَّلاقة، مثل خُدَع، وهو حَسَن لفَصْلِ ما بين الخاء والعين بالدال؛ فإن قَلَبْتَ الحروف قَبح فعلى هذا القياس فألِّف ما جاءَك منه وتدبَّره فإنه أكثرُ من أن يُحْصَى.
قال: واعلم أن أكثر الحروف استعمالًا عند العرب الواوُ والياءُ والهمزة وأقلّ ما يستعملون على ألسنتهم لِثقلها الظاء ثم الذال ثم الثاء ثم الشين ثم القاف ثم الخاء ثم العين ثم النون ثم اللام ثم الراء ثم الباء ثم الميم فأخفُّ هذه الحروف كلِّها ما استعملته العرب في أصول أبنيتهم من الزوائد لاخْتلاف المعنى.
قال: ومما يَدلّك على أنهم لا يؤلفون الحروفَ المُتَقَاربةَ المَخَارج أنه ربما لَزِمَهم ذلك من كلمتين أو من حَرْفٍ زائد، فيحوِّلون أحدَ الحرفين حتى يصيِّروا الأقوى منهما مبتدأ على الكره منهم وربما فعلوا ذلك في البناء الأصلي فأما ما فعلوه من بناءين فمثلُ قوله تعالى: { بَلْ رَانَ } لا يُبيّنون اللام ويُبْدِلونها راء لأنه ليس في كلامهم " لر "، فلما كان كذلك أَبْدَلوا اللام فصارت مثل الراء. ومثله { الرَّحمن الرَّحيم } لا تَسْتَبِين اللامُ عند الراء، وكذلك فعلُهم فيما أُدْخل عليه حرفٌ زائد وأُبْدِل؛ فتاءُ الافتعال عند الطاء والظاء والضاد والزاي وأخواتها تحوَّلُ إلى الحرْفِ الذي يَليه حتى يبدؤوا بالأقوى فيصيرا في لَفْظٍ واحد وقُوَّة واحدة وأما ما فعلوه في بناءٍ واحد فمثلُ السين عند القاف والطاء يُبْدلونها صادًا لأن السين من وسط الفم مطمئنَّة على ظَهْر اللسان والقافَ والظاءَ شاخصتان إلى الغار الأعلى فاستثقلوا أن يَقَع اللِّسانُ عليها ثم يرتفع إلى الطاءِ والقاف فأبْدَلوا السين صادًا لأنها أقربُ الحروف إليها لقُرْب المخرج ووجدوا الصاد أشدَّ ارتفاعًا وأقربَ إلى القاف والطاء وكان استعمالُهم اللسانَ في الصاد مع القاف أيسرَ من استعماله مع السين فمِن ثَمَّ قالوا: صَقر والسين الأَصل وقالوا: قَصَطَ وإنما هو قَسَط وكذلك إذا دخَل بين السين والطاء والقاف حرفٌ حاجز أو حرفان لم يَكْتَرثوا وتوهموا المجاورةَ في اللفظ فأَبْدلوا ألا تراهم قالوا: صَبْط وقالوا في السَّبْق صَبْق وفي السَّويق صَويق وكذلك إذا جاورت الصادُ الدال والصادُ متقدمة فإذا سكنتِ الصادُ ضَعُفَت فيحوِّلونها في بعض اللغات زايًا فإذا تحرّكت ردّوها إلى لفظها مثل قولهم: فلان يَزْدُق في كلامه فإذا قالوا: صدَق قالوها بالصاد لتحركها وقد قُرِئ " حتى يَزْدُر الرِّعاء " بالزاي، فما جاءك من الحروف في البناءِ مُغَيرًا عن لَفظِه فلا يخلو من أن تكون عِلَّتُه داخلةً في بعض ما فسرتُ لك من عِلل تقارُب المَخْرج.
السابعة
قال في عروس الأفراح: رُتَبُ الفَصَاحة مُتَفَاوتة فإن الكلمةُ تخفُّ وتَثْقُل بحَسَب الانتقال من حرف إلى حرف لا يلائمه قربا أو بعدا، فإن كانت الكلمة ثلاثية فتراكيبها اثنا عشر:
الأول - الانحدارُ من المخرج الأعلى إلى الأوْسط إلى الأدنى نحو " ع د ب ".
الثاني - الانتقالُ من الأعلى إلى الأدنى إلى الأوْسط نحو " ع ر د ".
الثالث - من الأعلى إلى الأدنى إلى الأعلى نحو " ع م ه ".
الرابع - من الأعلى إلى الأوْسط إلى الأعلى نحو " ع ل ن ".
الخامس - من الأدنى إلى الأوْسط إلى الأعلى نحو " ب د ع ".
السادس - من الأدنى إلى الأعلى إلى الأوسط نحو " ب ع د ".
السابع - من الأدنى إلى الأعلى إلى الأدنى نحو " ف ع م ".
الثامن - من الأدنى إلى الأوسط إلى الأدنى نحو " ف د م ".
التاسع - من الأوسط إلى الأعلى إلى الأدنى نحو " د ع م ".
العاشر - من الأوسط إلى الأدنى إلى الأعلى نحو " د م ع ".
الحادي عشر - من الأوسط إلى الأعلى إلى الأوسط نحو " ن ع ل ".
الثاني عشر - من الأوسط إلى الأدنى إلى الأوسط نحو " ن م ل ".
إذا تقرّر هذا فاعلم أن أحسنَ هذه التراكيب وأكثرَها استعمالًا ما انحدر فيه من الأعلى إلى الأوسط إلى الأدنى، ثم ما انتقل فيه من الأوسط إلى الأدنى إلى الأعلى، ثم من الأعلى إلى الأدنى إلى الأوسط. وأما ما انتقل فيه من الأدنى إلى الأوسط إلى الأعلى وما انْتُقل فيه من الأوسط إلى الأعلى إلى الأدنى فهما سِيَّان في الاستعمال، وإن كان القياس يقتضي أن يكون أرجَحَهما ما انتُقل فيه من الأوسط إلى الأعلى إلى الأدنى. وأقلُّ الجميع استعمالًا ما انتُقل فيه من الأدنى إلى الأعلى إلى الأوسط. هذا إذا لم ترجع إلى ما انتقلتَ عنه؛ فإن رجعت فإن كان الانتقالُ من الحرف الأول إلى الثاني في انحدارٍ من غير طَفْرة - والطَّفْرة الانتقال من الأعلى إلى الأدنى أو عكسه - كان التركيبُ أخفَّ وأكثر وإن فُقِد بأن يكون النقلُ من الأول في ارتفاع مع طفرة كان أثقلَ وأقلَّ استعمالًا.
وأحسنُ التراكيب ما تقدمت فيه نُقْلَة الانحدار من غير طَفْرة بأن ينتقل من الأعلى إلى الأوسط إلى الأعلى أو من الأوسط إلى الأدنى إلى الأوسط ودون هذين ما تقدمتْ فيه نقلةُ الارتفاع من غير طَفْرةٍ.
وأما الرباعي والخماسي فعلى نحو ما سبق في الثلاثي، ويخص ما فوق الثلاثي كثرةُ اشتماله على حروف الذلّاقة لتَجْبُر خفَّتُها ما فيه من الثِّقل وأكثرُ ما تقع الحروف الثقيلة فيما فوقَ الثلاثي مفصولًا بينها بحرفٍ خفيف وأكثرُ ما تقع أولًا وآخرًا وربما قُصِد بها تشنيع الكلمة لذمٍّ أو غيره. انتهى.
الثامنة
قال في عروس الأفراح: الحروف كلُّها ليس فيها تنافر حروف وكلُّها فصيحة.
التاسعة
قال ابن النفيس في كتاب الطريق إلى الفصاحة: قد تُنْقلُ الكلمةُ من صيغَةٍ لأُخرى أو من وزْنٍ إلى آخر أو من مُضِيّ إلى استقبال وبالعكس فَتَحْسُن بعد أن كانت قبيحةً وبالعكس فمِن ذلك خَوَّد بمعنى أَسْرع قبيحة فإذا جُعلَتْ اسمًا " خَوْدًا " وهي المرأةُ الناعمةُ قلَّ قُبْحُها وكذلك دَعْ تقبُح بصيغة الماضي لأنه لا يُسْتَعْمل وَدَع إلا قليلًا ويَحْسن فعلَ أمرٍ أو فعلًا مُضَارعًا ولفظُ اللُّب بمعنى العقل يقبح مُفردًا ولا يقبح مجموعًا كقوله تعالى: { لأُولي الألباب }.
قال: ولم يرد لفظُ اللب مفردًا إلا مُضافًا كقوله ﷺ: " ما رأيتُ من ناقِصاتِ عقلٍ ودين أذهبَ لِلُبِّ الرجلِ الحازمِ من إحْداكُنَّ " أو مضافًا إليه كقول جرير: * يَصْرَعْنَ ذَا اللُّبِّ حتى لا حَرَاكَ به * وكذلك الأرْجاء تحسن مجموعةً كقوله تعالى: { والمَلَكُ عَلَى أَرْجائها }، ولا تحسنُ مفردةً إلا مضافةً نحو رَجَا البئر، وكذلك الأصواف تحسن مجموعة كقوله تعالى: { ومِنْ أَصْوَافِها } ولا تحسن مفردةً كقول أبي تمام: * فكأنما لَبِسَ الزمانُ الصوفا *
ومما يحسن مفردًا ويقبح مجموعًا المصادرُ كلُّها وكذلك بُقْعَة وبقاع وإنما يحسن جمعها مضافًا مثل بِقَاع الأرض. انتهى.
العاشرة
قال في عروس الأفراح: الثلاثيُّ أحسنُ من الثُّنَائي والأحادي ومن الرباعي والخماسي فذكر حازم وغيرُه من شروطِ الفصاحة: أن تكونَ الكلمةُ متوسطةً بين قلَّةِ الحروف وكثرتها والمتوسطةُ ثلاثة أحرف فإن كانت الكلمةُ على حرف واحد مثل قِ فعل أمْر في الوصل قَبُحَتْ وإن كانت على حرفين لم تقبح إلا أن يليَها مثلُها وقال حازم أيضا: المُفْرِط في القِصَر ما كان على مقطع مقصور والذي لم يُفْرِط ما كان على سبب والمتوسط ما كان على وتد أو على سبب ومقطع مقصور أو على سببين والذي لم يُفْرط في الطول ما كان على وتد وسبب والمُفْرط في الطول ما كان على وتدين أو على وتد وسببين قال: ثم الطولُ تارة يكون بأصل الوضع وتارةً تكونُ الكلمةُ متوسطةً فتطيلها الصلة وغيرها كقول أبي الطَّيب:
خَلَت البلاد من الغَزَالةِ ليلَها ** فأعاضَهَاكُ اللهُ كي لا تحزنا
وقول أبي تمام: * ورفعت للمستنشدين لوائي *
قال في عروس الأفراح: فإن قلْتَ: زيادةُ الحروف لزيادة المعنى كما في اخْشَوْشَنَ ومقتدر وكَبْكَبُوا فكيفَ جعلتم كثرةَ الحروف مُخِلًّا بالفصاحةِ مع كثرةِ المعنى فيه قلت: لا مانع من أن تكون إحدى الكلمتين أقلَّ معنًى من الأخرى وهي أفصحُ منها إذ الأمور الثلاثة التي يشترط الخلوص عنها لا تعلق بالمعنى.
الحادية عشرة
قال في عروس الأفراح: ليس لكل معنى كلمتان: فصيحةٌ وغيرُها بل منه ما هو كذلك وربما لا يكون للمعنى إلا كلمةٌ واحدةٌ فصيحةٌ أو غير فصيحة فيضطرّ إلى استعمالها وحيثُ كان للمعنى الواحد كلمتان ثلاثية ورباعية ولا مُرَجِّح لإحداهما على الأخرى كان العدول إلى الرباعيّة عدولًا عن الأفصح ولم يوجد هذا في القرآن الكريم. انتهى.
الثانية عشرة
قال الإمام أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل المشهور بالراغب وهو من أئمة السنة والبلاغة في خطبة كتابه المفردات: فألفاظ القرآن هي لبُّ كلام العرب وزُبْدَتُه وواسطته وكرائمه وعليها اعتمادُ الفقهاءِ والحكماءِ في أحكامهم وحِكَمِهم وإليها مَفْزَعٌ حُذّاق الشعراء والبُلَغاء في نَظْمهم ونَثْرهم وما عداها وما عدا الألفاظ المتفرعات عنها والمشتَقاتِ منها هو بالإضافة إليها كالقشُور والنَّوَى بالإضافة إلى أطايب الثمرة وكالحُثالة والتِّبْن بالنسبة إلى لُبُوبِ الحِنْطة. انتهى.
الثالثة عشرة
ألَّف ثعلب كتابه الفصيح المشهور التزَم فيه الفصيحَ والأفصحَ مما يجري في كلام الناس وكُتُبهم وفيه يقول بعضهم:
كتاب الفصيح كتاب مفيد ** يقال لقاريه ما أَبْلَغَه
بنيّ عليك به إنه ** لُبابُ اللبيب وصِنْوُ اللغة
وقد عكفَ الناسُ عليه قديمًا وحديثًا واعْتَنَوْا به؛ فشرحه ابن دَرَسْتَويه وابن خالويه والمرزوقي وأبو بكر بن حيَّان وأبو محمد بن السيد البطليوسي وأبو عبد الله بن هشام اللخمي وأبو إسحاق إبراهيم بن علي الفهري وذيَّل عليه الموفق عبد اللطيف البغدادي بذيل يُقَاربُه في الحَجْم ونَظمه ومع ذلك ففيه مواضعُ تعقَّبها الحُذَّاق عليه.
قال أبو حفص الضرير: سمعت أبا الفتح ابن المراغي يقول: سمعتُ إبراهيم بن السَّرِيّ الزجاج يقول: دخلتُ على ثعلب في أيام المبرد وقد أملى شيئا من المُقْتَضَب فسلّمتُ عليه وعنده أبو موسى الحامِض وكان يَحْسُدني كثيرا ويُجَاهِرُني بالعدَاوة وكنتُ أَلِينُ له وأحْتَمِلُه لموضع الشَّيْخُوخَة فقال ثعلب: قد حَمل إليَّ بعضَ ما أَمْلاهُ هذا الخَلَدِيّ [ يعني المبرد ] فرأيتُه لا يَطُوعُ لسانُه بعبارة فقلت له: إنه لا يَشُكُّ في حُسْن عِبارته اثنان ولكنَّ سوءَ رأيك فيه يَعيبُه عندك فقال: ما رأيته إلا أَلْكَن متفلّقًا فقال أبو موسى: والله إن صاحبَكم ألكَنَُ يعني سيبويه فأحْفَظني ذلك ثم قال: بلغني عن الفراء أنه قال: دخلت البصرة فلقيتُ يونس وأصحابه [ فسمعتهم ] يذكرونه بالحِفْظِ والدّراية وحُسنِ الفِطْنة وأتيتُه فإذا هو [ أعجم ] لا يفْصِح، وسمعته يقول لجارية [ له ]: هاتي ذِيكِ الماءَ من ذلكِ الجرَّة، فخرجتُ عنه ولم أَعُد إليه؛ فقلت له: هذا لا يصحُّ عن الفراء وأنتَ غير مأمون عليه في هذه الحكاية ولا يعرفُ أصحاب سيبويه من هذا شيئا، وكيف يقول هذا مَنْ يقول في أول كتابه: هذا بابُ علم ما الكَلِم من العربية، وهذا يعجِز عن إدْراك فهمه كثيرٌ من الفُصَحاءِ فضلًا عن النُّطق به. فقال ثعلب: قد وجدتُ في كتابه نحو هذا. قلت: ما هو قال: يقول في كتابه في غير نُسْخَة: حاشا حرفٌ يخفِضُ ما بعدَه كما تَخْفِضُ حتّى وفيها مَعْنى الاستثناء، فقلتُ له: هذا هكذا وهو صحيح ذهب في التذكير إلى الحرْف وفي التأنيث إلى الكلمة قال: والأجود أن يُجْعلَ الكلام على وجْهٍ واحد قلت: كلٌّ جيد. قال الله تعالى: " وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لله ورسولهِ ويَعْمَل صالحًا " وقُرِئَ: { وتعمل صالحًا } وقال تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ } ذهب إلى المعنى ثم قال: { ومِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْكَ } ذهب إلى اللفظ، وليس لقائل أن يقول: لو حُمِل الكلامُ على وجْهٍ واحد في الآيتين كان أجوَدَ لأن كلًّا جيّد، وأما نحن فلا نذكرُ حدودَ الفراء لأن خَطَأَه فيها أكثرُ من صوابه ولكن هذا أنت عملتَ كتابَ الفصيح للمتعلم المبتدئ وهو عشرون ورقة أخطأتَ في عشرة مواضع منه فقال لي: اذكرها. قلت له: نعم قلتَ " وهو عِرق النَّسا " ولا يقال إلا النَّسا كما لا يقال: عِرْق الأكْحَل ولا عرق الأَبْهَر، قال امرؤ القَيْس:
فأَنْشَب أَظْفَاره في النَّسا ** فقلت: هُبِلْتَ ألا تنتصر
وقلتَ: حَلَمْتُ [ في النوم ] أحلُم حُلمًا، وحُلُم ليس بمَصْدَر إنما هو اسم، قال الله تعالى: { والَّذِين يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنْكُمْ } وإذا كان للشيء مصدر واسمٌ لم يوضع الاسمُ مَوضعَ المصدر، ألا ترى أنك تقول: حَسِبْتُ الشيءَ أحسِبه حَسْبًا وحُسْبَانًا والحَسْبُ المصدر والحِساب الاسم فلو قلت ما بلغَ الحَسْب إليّ أو رفعتُ الحَسْبَ إليك لم يَجُزْ وأنتَ تريد: ورفعَتَ الحَسْاب إليك. وقلتَ: رجلٌ عَزَب وامرأة عزبة وهذا خطأٌ وإنما يقال رجل عزب وامرأة عزب لأنه مصدر وُصِف به ولا يثنى ولا يجمع ولا يُؤنَّث كما تقول: رجل خَصْم ولا يقال امرأة خصمة، وقد أثبتَّ من هذا النوع في الكتاب وأفردتَ هذا منه قال الشاعر: * يا مَنْ يَدُلُّ عَزَبًا عَلَى عَزَبْ * وقلتُ: كِسْرى بكسر الكاف وهذا خطأٌ إنما هو كَسْرى بفتحها والدليل أنا وإياكم لا نختلفُ في أن النسَب إلى كسرى كَسْرَويّ بفتح الكاف وهذا ليس مما تُغَيِّرُه ياءُ الإضافة لبُعْدِه منها، ألا ترى أنك لو نسبتَ إلى مِعْزَى ودِرْهم لقلت مِعزي ودِرهمي ولم تقل مَعزي ولا دَرهمي. وقلت: وعدتُ الرجلَ خيرًا وشرًا فإذا لم تذكر الشرّ قلت: أوعدتُه بكذا وقولك كذا كنايةٌ عن الشر. والصوابُ أن يقال: وإذا لم تذكر الشر قلت أَوْعَدْته. وقلتَ: هم المُطَوَّعة وإنما هو المُطَّوِّعة بتشديد الطاء كما قال تعالى: { الذين يَلْمِزُون المُطَّوِّعين من المؤمنين } فقال: ما قلتُ إلا المُطَّوِّعة. فقلت له: هكذا قرأته عليك وقرأَه غيري وأنا حاضرٌ أسمعُ مِرارًا. وقلتَ: هو لِرشْدَةٍ وزِنْيَة كما قلتَ: هو لِغيّة، والبابُ فيهما واحد [ لأنه ] إنما يريدُ المرَّة الواحدة ومَصادِر الثلاثي إذا أردت المرّةَ الواحدة لم تختلفْ تقول: ضربتُه ضَربة وجلستُ جَلْسَة وركبتُ رَكْبة لا اخْتلاف [ في شيء ] من ذلك بين أحدٍ من النحويين وإنما كُسِر ما كان هيئةَ حال فتصفها بالحسن والقُبْح وغيرهما فتقول هو حَسنُ الجِلسة والسِّيرة والرِّكبة وليس هذا من ذاك. وقلتَ: هي أَسْنُمَة فِي البَلَد ورواه الأصمعي أسْنُمة بضم الهمزة فقال: ما رَوَى ابن الأعرابي وأصحابه إلا أَسْنُمَة بفَتْحِها فقلت له: قد علمتَ أن الأصمعي أضبط لما يحكيه وأوثَق فيما يُرويه. وقلت: إذا عزَّ أخوك فهُن، والكلام فهِن، وهو من هان يَهين [ إذا لان ]، ومنه قيل هَيِّنٌ لَيّنٌ لأن هُن من هانَ يَهون [ وهان يهون ] من الهوان؛ والعربُ لا تأمرُ بذلك ولا معنى هذا فصيح لو قلته؛ ومعنى عزَّ ليس من العِزَّة التي هي مَنَعَةٌ وقُدْرة وإنما هي من قولك عزَّ الشيءَ إذا اشتدَّ، ومعنى الكلام إذا صعب أخوك واشتدَّ فَذِلّ له من الذِّل ولا معنى للذُّلّ ههنا كما تقول: إذا صعُب أخوك فهِن له. قال أبو إسحاق: فما قُرِئ عليه كتابُ الفصيح بعد ذلك عِلْمِي، ثم سئم بعدُ فأنكر كتابه الفصيح. انتهى.
وذكر طائفة أن الفصيحَ ليس تأليف ثعلب وإنما هو تأليف الحسن بن داود الرقّي وقيل تأليف يعقوب بن السكيت.
الرابعة عشرة
قال ابن دَرَسْتَويه في شرح الفصيح: كلُّ ما كان ماضيه على فعَلت بفتح العين ولم يكن ثانيه ولا ثالثه من حُروف اللِّين ولا الحَلْق فإنه يجوزُ في مُستَقْبله يفعُل بضم العين ويفعِل بكسرها كضرب يضرِب وشكر يشكرُ وليس أحدُهما أولى به من الآخر ولا فيه عند العرب إلا الاستحسانُ والاستخفاف فمما جاء واسْتُعْمِلَ فيه الوجهان قولهم: نفر ينفِر وينفُر وشتم يشتِمُ ويشتُم فهذا يدلُّ على جواز الوجهين فيهما وأنهما شيء واحد لأنَّ الضمّة أختُ الكسرة في الثِّقل كما أن الواو نظيرةُ الياء في الثقل والإعلال ولأن هذا الحَرْفَ لا يتغيّرُ لفظه ولا خطُّه بتغيير حركته.
فأما اختيارُ مؤلِّف كتاب الفصيح في ينفِر ويشتِم فلا عِلَّة له ولا قياس بل هو نقضٌ لمذهب العرب والنحويين في هذا الباب فقد أخبرنا محمد بن يزيد عن المازني والزيادي والرباشي عن أبي زيد الأنصاري وأخبرنا به أيضا أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري عنهم وعن أبي حاتم وأخبرنا به الكسروي عن ابن مهدي عن أبي حاتم عن أبي زيد أنه قال: طُفْتُ في عُلْيا قيس وتميم مدةً طويلة أسألُ عن هذا الباب صغيرَهم وكبيرَهم لأعرف ما كان منه بالضم أوْلى وما كان بالكسر أولى فل أجدْ لذلك قياسًا وإنما يتكلّم به كلُّ امرئ منهم على ما يَسْتَحْسِن ويستخفُّ لا على غير ذلك ونظنُّ المختارُ لِلْكَسْرِ هُنَا وَجَدَ الكَسر أَكثرَ استعمالًا عند بعضهم فجعلَه أفصحَ مِنَ الذي قلَّ استعمالهُ عندهم وليست الفصاحة في كثرةِ الاستعمال ولا قِلَّته وإنما هاتان لغتان مُستَويتان في القياس والعلّة وإن كان ما كَثر استعماله أعرف وآنس لطول العادة له.
وقد يلتزمون أحدَ الوجهين للفَرْق بين المعاني في بعض ما يجوز فيه الوجهان كقولهم: ينفرُ بالضم من النِّفار والاشمئزاز وينفِر بالكسر من نَفْر الحُجاج من عرَفَات فهذا الضربُ من القياس يُبْطِل اختيارَ مؤلف الفصيح الكسر في ينفِر على كل حال.
ومعرفةُ مثل هذا أنْفع من حِفْظ الألفاظ المجرّدة وتقليدِ اللغة مَنْ لم يكن فقيهًا فيها وقد يلهج العربُ الفصحاء بالكلمة الشاذّة عن القياس البعيدة من الصواب حتى لا يتكلّموا بغيرها وَيَدَعوا المُنْقاس المطَّرِد المختار، ثم لا يَجِبُ لذلك أن يُقالَ: هذا أفصحُ من المتروك.
من ذلك قول عامة العرب: إيش صنعت. يريدون أي شيء، ولا بشانيك، يعنون لا أب لشانيك.
وقولهم: لا تبل، أي لا تبالي.
ومثل تركهم استعمال الماضي واسم الفاعل من: يَذَر ويَدَع واقتصارهم على: تَرَك وتارك، وليس ذلك لأن تَرك أفصحُ من وَدع ووذر وإنما الفصيح ما أَفْصَحَ عن المعنى واستقام لفظهُ على القياس لا ما كثُر استعمالهُ. انتهى.
ثم قال ابن دَرَسْتَويه: وليس كُلُّ ما ترك الفصحاءُ استعمالَه بخطأ فقد يتركون استعمالَ الفصيح لا ستغنائهم بفصيحٍ آخر أو لعلَّة غير ذلك. انتهى.
الفصل الثاني في معرفة الفصيح من العرب
أفصحُ الخلق على الإطلاق سيدُنا ومولانا رسول الله ﷺ حبيب رب العالمين جلَّ وعلا قال رسول الله ﷺ: أنا أفصحُ العرب. رواه أصحاب الغريب، ورووه أيضا بلفظ: أنا أفصَحُ من نَطق بالضاد بَيْدَ أني من قريش.
وتقدم حديث: أن عمر قال: يا رسول الله ما لَكَ أفْصحنا ولم تخرج من بين أظْهُرِنا، الحديث.
وروى البيهقي في شعب الإيمان عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: أن رجلًا قال: يا رسول الله ما أفْصَحَك فما رأينا الذي هو أعْرَبُ منك. قال: حقّ لي فإنما أُنزل القرآن عليّ بلسانٍ عربي مبين.
وقال الخطابي: اعلم أن الله لما وضعَ رسوله ﷺ موضع البلاغ من وَحْيه ونَصَبه مَنْصِب البيان لدينه اختار له من اللغات أعربَها ومن الألْسُن أفصحَها وأبينَها ثم أمدَّه بجوامع الكَلم.
قال: ومِنْ فصاحته أنه تكلّم بألفاظ اقْتَضَبَها لم تُسْمَع من العرب قبله ولم توجد في مُتقدّم كلامها كقوله: مات حَتْف أَنْفه، وحَمِيَ الوطيس، ولا يُلْدَغُ المؤمنُ من جُحرٍ مرَّتين. في ألفاظ عديدة تَجْري مَجْرى الأمثال. وقد يدخل في هذا إحْدَاثُه الأسماء الشرعية. انتهى.
وأفصح العرب قريش.
قال ابن فارس في فقه اللغة: باب القول في أفصح العرب، أخبرني أبو الحسن أحمد بن محمد مولى بني هاشم بقَزْوين قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن عباس الحشكي قال: حدثنا إسماعيل بن أبي عبيد الله قال: أَجْمَع علماؤنا بكلام العرب والرُّواة لأشعارهم والعلماءُ بلُغاتهم وأيامهم ومحالِّهم أن قُرَيْشًا أفصحُ العربِ أَلْسِنَةً وأَصْفَاهُمْ لَغةً؛ وذلك أن الله تعالى اختارَهم من جميع العرب واختارَ منهم محمدًا $، فجعلَ قريشًا قُطَّانَ حَرَمه ووُلاةَ بَيْته؛ فكانت وفودُ العرب من حجَّاجها وغيرهم يَفِدُونَ إلى مكة للحج ويتحاكمون إلى قريش [ في دارهم ]، وكانت قريشٌ مع فصاحتها وحسْن لُغاتها ورِقَّة أَلْسِنتها إذا أتتهم الوفود من العرب تخَيَّرُوا من كلامهم وأشعارهم أحسنَ لُغَاتهم وأصْفَى كلامهم، فاجتمعَ ما تخَيَّروا من تلك اللغات إلى سلائقِهم التي طُبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصحَ العرب. ألا ترى أنك لا تجدُ في كلامهم عَنْعَنة تميم ولا عَجْرفية قَيْس ولا كشْكَشَة أسد ولا كَسْكَسَة ربيعة ولا كسر أسد وقيس.
وروى أبو عبيد من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل القرآن على سبع لغات منها خمسٌ بلغة العَجُز من هوازن وهم الذين يقال لهم عُلْيا هوازن، وهم خمس قبائل أو أربع منها سعد بن بكر وجُشَم بن بكر ونَصْر بن معاوية وثقيف. قال أبو عبيد: وأحسب أفصحَ هؤلاء بني سعد بن بكر، وذلك لقول رسول الله ﷺ: أنا أفصح العرب بَيْدَ أني من قريش وأني نشأْتُ في بني سعد بن بكر. وكان مُسْتَرْضعًا فيهم، وهم الذين قال فيهم أبو عمرو بن العلاء: أفصحُ العرب عُلْيا هَوازن وسُفْلَى تميم.
وعن ابن مسعود: إنه كان يُسْتَحَبُّ أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مُضَر.
وقال عمر: لا يُمْلِيَنَّ في مصاحفنا إلا غِلْمان قريش وثقيف.
وقال عثمان: اجعلوا المُملِي من هُذَيل والكاتبَ من ثقيف.
قال أبو عبيدة: فهذا ما جاء في لغات مضر. وقد جاءت لغاتٌ لأهلِ اليمن في القرآن معروفةٌ. ويروى مرفوعًا: نزل القرآن على لغة الكَعْبَيْن، كعب بن لُؤَيّ وكعب بن عمرو وهو أبو خزاعة.
وقال ثعلب في أماليه: ارتفعت قريشٌ في الفصاحة عن عَنْعَنَةِ تميم وتَلْتَلةِ بَهْرَاء وكَسْكَسَة ربيعة وكَشْكَشَةِ هَوَازن وتضجع قريش وعجرفية ضبّة. وفسّر تَلْتَلَة بَهْرَاء بكسر أوائل الأفعال المُضَارعة.
وقال أبو نصر الفارابي في أول كتابه المسمّى بالألفاظ والحروف: كانت قريشٌ أجودَ العرب انتقادًا للأفصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النُّطْق وأحسنها مسموعًا وأبينها إبانَة عما في النفس؛ والذين عنهم نُقِلت اللغة العربية وبهم اقْتُدِي وعنهم أُخِذَ اللسانُ العربي من بين قبائل العرب هم: قيس وتميم وأسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثرُ ما أُخِذ ومعظمه وعليهم اتُّكل في الغريب وفي الإعراب والتَّصْريف، ثم هذيل وبعض كِنانة وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم. وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضَريٍّ قطّ ولا عن سكَّان البَرَاري ممن كان يسكنُ أطرافَ بلادِهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم فإنه لم يؤخذ لا مِنْ لَخْم ولا من جذَام لِمُجاوَرتهم أهل مصر والقِبْط ولا من قُضاعة وغَسَّان وإياد لمجاورتهم أهل الشام وأكثرهم نصارى يقرؤون بالعبرانية ولا من تغلب واليمن فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان ولا من بكر لمجاورتهم للقبط والفرس ولا من عبد القيس وأَزْدعُمَان لأنهم كانوا بالبحرين مُخالطين للهِند والفُرس ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة ولا من ثقيف وأهل الطائف لمخالطتهم تجّار اليمن المقيمين عندهم ولا من حاضرة الحجاز لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدؤوا ينقلون لغةَ العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت أَلسِنتهم والذي نقل اللغةَ واللسانَ العربي عن هؤلاء وأَثْبَتها في كتاب فصيَّرها عِلْمًا وصناعة هم أهلُ البصرة والكوفة فقط من بين أمصار العرب. انتهى.
فرع
رَُتَبُ الفصيح متفاوتةٌ ففيها فصيحٌ وأفصح ونظيرُ ذلك في علوم الحديث تفاوت رُتَبِ الصحيح ففيها صحيحٌ وأَصَحّ.
ومن أمثلة ذلك: قال في الجمهرة: البُرُّ أفصحُ من قولهم القَمْح والحنْطة. وأنصَبَه المرضُ أعْلى من نَصَبَه. وغلب غَلَبًا أفصح من غَلْبًَا. واللغوب أفصحُ من اللغب.
وفي الغريب المصنف: قَرَرت بالمكان أجود من قَرِرت.
وفي ديوان الأدب: الحِبْر: العالم وهو بالكسر أفصح لأنه يجمع على أفْعال والفَعل يجمع على فُعُول ويقال: هذا مَلْك يميني وهو أفصحُ من الكسر.
وفي أمالي القالي: الأَنملة والأُنملة لغتان: طرف الأصبع وأَنملة أفصح.
وفي الصحاح: ضَرْبة لازب أفصحُ من لازم وبُهِت أفصحُ من بَهُتَ وبَهِت.
وقال ابن خالويه في شرح الفصيح: قد أجمع الناس جميعًا أن اللغة إذا وَرَدت في القرآن فهي أفصح مما في غير القرآن لا خلافَ في ذلك.
فائدة
قال ابن خالويه في شرح الدريدية: فإن سأل سائل فقال: أوفى بعهده، أفصحُ اللغات وأكثرها، فلِمَ زعمت ذلك؟ وإنما النحوي الذي ينقِّر عن كلام العربِ ويحتجّ عنها ويَبِين عمّا أَوْدَع الله تعالى من هذه اللغة الشريفة هذا القبيل من الناس وهم قريش، فقل: لمَّا كان وفَى بعهده يجذبه أصلان: مِنْ وفَى الشيء إذا كَثُرَ ووفَى بعَهْدِهِ اختاروا أَوْفَى إذا كان لا يشكل ولا يكونُ إلا للعَهْدِ.