البداية والنهاية/الجزء العاشر/ذكر خروج إبراهيم بن عبد الله بن حسن بالبصرة
كان إبراهيم قد هرب إلى البصرة فنزل في بني ضبيعة من أهل البصرة، في دار الحارث بن عيسى، وكان لا يرى بالنهار، وكان قدومه إليها بعد أن طاف بلادا كثيرةً جدا، وجرت عليه وعلى أخيه خطوبٌ شديدةٌ هائلةٌ، وانعقد أسباب هلاكهما في أوقاتٍ متعددةٍ، ثم كان آخر ما استقر أمره بالبصرة في سنة ثلاث وأربعين ومائة، بعد منصرف الحجيج.
وقيل: إن قدومه إليها كان في مستهل رمضان سنة خمس وأربعين ومائة، بعثه أخوه إليها بعد ظهوره بالمدينة. قاله الواقدي.
قال: وكان يدعو في السر إلى أخيه، فلما قتل أخوه أظهر الدعوة إلى نفسه في شوال من هذه السنة، والمشهور أنه قدمها في حياة أخيه ودعا لنفسه كما تقدم، والله أعلم.
ولما قدم البصرة نزل عند يحيى بن زياد بن حسان النبطي، فاختفى عنده هذه المدة كلها، حتى ظهر في هذه السنة في دار أبي فروة، وكان أول من بايعه: نميلة بن مرة، وعبد الله بن سفيان، وعبد الواحد بن زياد، وعمر بن سلمة الهجيمي، وعبيد الله بن يحيى بن حصين الرقاشي.
وندبوا الناس إليه فاستجاب له خلقٌ كثيرٌ فتحول إلى دار أبي مروان في وسط البصرة، واستفحل أمره، وبايعه فئام من الناس، وتفاقم الخطب به، وبلغ خبره إلى المنصور فازداد غما إلى غمه بأخيه محمد، وذلك لأنه ظهر قبل مقتل أخيه وإنما كان سبب تعجيله الظهور كتاب أخيه إليه فامتثل أمره ودعا إلى نفسه، فانتظم أمره بالبصرة.
وكان نائبها من جهة المنصور سفيان بن معاوية وكان ممالئا لإبراهيم هذا في الباطن، ويبلغه أخباره فلا يكترث بها، ويكذب من أخبره ويود أن يتضح أمر إبراهيم، وقد أمده المنصور بأميرين من أهل خراسان معهما ألفا فارس، وراجل، فأنزلهما عنده ليتقوى بهما على محاربة إبراهيم، وتحول المنصور من بغداد - وكان قد شرع في عمارتها - إلى الكوفة، وجعل كلما اتهم رجلا من أهل الكوفة في أمر إبراهيم بعث إليه يقتله في الليل في منزله، وكان الفرافصة العجلي قد همَّ بالوثوب بالكوفة فلم يمكنه ذلك لمكان المنصور بها، وجعل الناس يقصدون البصرة من كل فج لمبايعة إبراهيم، ويفدون إليها جماعات وفرادى، وجعل المنصور يرصد لهم المسالح فيقتلونهم في الطريق ويأتونه برؤوسهم فيصلبها بالكوفة ليتعظ بها الناس.
وأرسل المنصور إلى حرب الراوندي - وكان مرابطا بالجزيرة في ألفي فارس لقتال الخوارج - يستدعيه إليه إلى الكوفة، فأقبل بمن معه فاجتاز ببلدة بها أنصار لإبراهيم فقالوا له: لا ندعك تجتاز، لأن المنصور إنما دعاك لقتال إبراهيم.
فقال: ويحكم ! دعوني.
فأبوا فقاتلهم فقتل منهم خمسمائة وأرسل برؤوسهم إلى المنصور.
فقال: هذا أول الفتح.
ولما كانت ليلة الاثنين مستهل رمضان من هذه السنة، خرج إبراهيم في الليل إلى مقبرة بني يشكر في بضعة عشر فارسا، وقدم في هذه الليلة أبو حماد الأبرص في ألفي فارس مدادا لسفيان بن معاوية، فأنزلهم الأمير في القصر، ومال إبراهيم وأصحابه على دواب أولئك الجيش وأسلحتهم فأخذوها جميعا، فتقووا بها، فكان هذا أول ما أصاب.
وما أصبح الصباح إلا وقد استظهر جدا، فصلى بالناس صلاة الصبح في المسجد الجامع، والتف الخلائق عليه ما بين ناظر وناصر، وتحصن سفيان بن معاوية نائب الخليفة بقصر الإمارة وحبس عنده الجنود فحاصرهم إبراهيم، فطلب سفيان بن معاوية من إبراهيم الأمان فأعطاه الأمان، ودخل إبراهيم قصر الإمارة فبسطت له حصير ليجلس عليها في مقدم إيوان القصر، فهبت الريح فقلبت الحصير ظهرا لبطن، فتطير الناس بذلك.
فقال إبراهيم: إنا لا نتطير.
وجلس على ظهر الحصير، وأمر بحبس سفيان بن معاوية مقيدا وأراد بذلك براءة ساحته عند المنصور، واستحوذ على ما كان في بيت المال فإذا فيه ستمائة ألف، وقيل: ألفا ألف. فقوي بذلك جدا.
وكان في البصرة جعفر ومحمد ابنا سليمان بن علي، وهما ابنا عم الخليفة المنصور، فركبا في ستمائة فارس إليه فهزمهما، وأركب إبراهيم المضاء بن القاسم في ثمانية عشر فارسا وثلاثين راجلا، فهزم ستمائة فارس كانت لهما، وأمن من بقي منهم.
وبعث إبراهيم إلى أهل الأهواز فبايعوه وأطاعوه، وأرسل إلى نائبها مائتي فارس عليهم المغيرة فخرج إليه محمد بن الحصين نائب البلاد في أربعة آلاف فارس فهزمه المغيرة واستحوذ على البلاد.
وبعث إبراهيم إلى بلاد فارس فأخذها، وكذلك واسط والمدائن والسواد، واستفحل أمره جدا، ولكن لما جاءه نعي أخيه محمد انكسر جدا، وصلى بالناس يوم العيد وهو مكسور.
قال بعضهم: والله لقد رأيت الموت في وجهه، وهو يخطب الناس فنعى إلى الناس أخاه محمدا، فازداد الناس حنقا على المنصور وأصبح فعسكر بالناس، واستناب على البصرة نميلة وخلف ابنه حسنا معه.
ولما بلغ المنصور خبره تحير في أمره وجعل يتأسف على ما فرق من جنده في الممالك، وكان قد بعث مع ابنه المهدي ثلاثين ألفا إلى الري، وبعث مع محمد بن الأشعث إلى إفريقية أربعين ألفا والباقون مع عيسى بن موسى بالحجاز، ولم يبق مع المنصور سوى ألفي فارس.
وكان يأمر بالنيران الكثيرة فتوقد ليلا، فيحسب الناظر إليها أن ثمَّ جندا كثيرا.
ثم كتب المنصور إلى عيسى بن موسى: إذا قرأت كتابي هذا فأقبل من فورك ودع كل ما أنت فيه.
فلم ينشب أن أقبل إليه فقال له: اذهب إلى إبراهيم بالبصرة ولا يهولنك كثرة من معه، فإنهم جملا بني هاشم المقتولان جميعا، فابسط يدك وثق بما عندك وستذكر ما أقول لك. فكان الأمر كما قال المنصور.
وكتب المنصور إلى ابنه المهدي أن يوجه خازم بن خزيمة في أربعة آلاف إلى الأهواز، فذهب إليها فأخرج منها نائب إبراهيم - وهو المغيرة - وأباحها ثلاثة أيام، ورجع المغيرة إلى البصرة، وكذلك بعث إلى كل كورة من هذه الكور التي نقضت بيعته جندا يردون أهلها إلى الطاعة.
قالوا: ولزم المنصور موضع مصلاه فلا يبرح منه ليلا ونهارا في ثيابٍ بذلةٍ قد اتسخت، فلم يزل مقيما هناك بضعا وخمسين يوما حتى فتح الله عليه.
وقد قيل له في غبون ذلك: إن نساءك قد خبثت نفسهن لغيبتك عنهن.
فانتهر القائل وقال: ويحك ! ليست هذه أيام نساء، حتى أرى رأس إبراهيم بين يدي، أو يحمل رأسي إليه.
وقال بعضهم: دخلت على المنصور وهو مهموم من كثرة ما وقع من الشرور، وهو لا يستطيع أن يتابع الكلام من كثرة همه، وما تفتق عليه من الفتوق والخروق، وهو مع ذلك قد أعد لكل أمر ما يسد خلله به، وقد خرجت عن يده البصرة والأهواز وأرض فارس والمدائن وأرض السواد، وفي الكوفة عنده مائة ألف مغمدة سيوفها تنتظر به صيحة واحدة، فيثبون مع إبراهيم، وهو مع ذلك يعرك النوائب ويمرسها ولم تقعد به نفسه وهو كما قال الشاعر:
نفس عصام سوّدت عصاما * وعلمته الكر والإقداما
فصيرته ملكا هماما *
وأقبل إبراهيم بعساكر من البصرة إلى الكوفة في مائة ألف مقاتل، فأرسل إليه المنصور عيسى بن موسى في خمسة عشر ألفا، وعلى مقدمته حميد بن قحطبة في ثلاثة آلاف.
وجاء إبراهيم فنزل في باخمرى في جحافل عظيمة، فقال له بعض الأمراء: إنك قد اقتربت من المنصور فلو أنك سرت إليه بطائفة من جيشك لأخذت بقفاه فإنه ليس عنده من الجيوش ما يردون عنه.
وقال آخرون: إن الأولى أن نناجز هؤلاء الذين بإزائنا، ثم هو في قبضتنا.
فثناهم ذلك عن الرأي الأول. ولو فعله لتم لهم الأمر.
ثم قال بعضهم: خندق حول الجيش.
وقال آخرون: إن هذا الجيش لا يحتاج إلى خندق حوله، فترك ذلك.
ثم أشار بعضهم أن يبيت جيش عيسى بن موسى فقال إبراهيم: أنا لا أرى ذلك، فتركه.
ثم أشار آخرون بأن يجعل جيشه كراديس فإن غلب كردوس ثبت الآخر.
وقال آخرون: الأولى أن نقاتل صفوفا لقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } [الصف: 4] .
والأمر لله وما شاء فعل ولو ساروا إلى الكوفة، وبيتوا الجيش أو جعل جيشه كراديس لتم له الأمر مع تقدير الله تعالى.
وأقبل الجيشان فتصافوا في باخمرى وهي على ستة عشر فرسخا من الكوفة، فاقتتلوا بها قتالا شديدا فانهزم حميد بن قحطبة بمن معه من المقدمة، فجعل عيسى يناشدهم الله في الرجوع والكرة فلا يلوي عليه أحد، وثبت عيسى بن موسى في مائة رجل من أهله، فقيل له: لو تنحيت من مكانك هذا لئلا يحطمك جيش إبراهيم.
فقال: والله لا أزول منه حتى يفتح الله لي، أو أقتل هاهنا.
وكان المنصور قد تقدم إليه بما أخبره بعض المنجمين أن الناس يكون لهم جولة عن عيسى بن موسى ثم يقومون إليه وتكون العاقبة له، فاستمر المنهزمون ذاهبين إلى نهر بين جبلين فلم يمكنهم خوضه فكروا راجعين بأجمعهم، وكان أول راجع حميد بن قحطبة الذي كان أول من انهزم.
ثم اجتلدوا هم وأصحاب إبراهيم فاقتتلوا قتالا شديدا، وقتل من كلا الفريقين خلقٌ كثيرٌ، ثم انهزم أصحاب إبراهيم وثبت هو في خمسمائة.
وقيل: في أربعمائة.
وقيل: في تسعين رجلا.
واستظهر عيسى بن موسى وأصحابه، وقتل إبراهيم في جملة من قتل واختلط رأسه مع رؤوس أصحابه، فجعل حميد يأتي بالرؤوس إلى عيسى بن موسى حتى عرفوا رأس إبراهيم فبعثوه مع البشير إلى المنصور، وكان نيبخت المنجم قد دخل على المنصور قبل مجيء الرأس فأخبره أن إبراهيم مقتول فلم يصدقه، فقال: يا أمير المؤمنين ! إن لم تصدقني فاحبسني فإن لم يكن الأمر كما ذكرت فاقتلني.
فبينا هو عنده إذ جاء البشير بهزيمة جيش إبراهيم، ولما جيء بالرأس تمثل المنصور ببيت معقر بن أوس بن حمار البارقي:
فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قرَّ عينا بالإياب المسافر
وقيل: إن المنصور لما رأى الرأس بكى حتى جعلت دموعه تسقط على الرأس، وقال: والله لقد كنت لهذا كارها، ولكنك ابتليت بي وابتليت بك.
ثم أمر بالرأس فنصب بالسوق.
وأقطع نيبخست المنجم الكذاب ألفي جريب، فهذا المنجم إن كان قد أصاب في قضية واحدة فقد أخطأ في أشياء كثيرة، فهم كذبة كفرة وقد كان المنصور في ضلال مع منجمه هذا، وقد ورث الملوك اعتقاد أقوال المنجمين وذلك ضلال لا يجوز.
وذكر صالح مولى المنصور قال: لما جيء برأس إبراهيم جلس المنصور مجلسا عاما وجعل الناس يدخلون عليه فيهنئونه وينالون من إبراهيم ويقبحون الكلام فيه ابتغاء مرضاة المنصور، والمنصور ساكت متغير اللون لا يتكلم، حتى دخل جعفر بن حنظلة البهراني فوقف فسلم ثم قال: أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك وغفر له ما فرط من حقك.
قال: فاصفر لون المنصور وأقبل عليه وقال له: يا أبا خالد ! مرحبا وأهلا ههنا فاجلس.
فعلم الناس أن ذلك وقع منه موقعا جيدا. فجعل كل من جاء يقول كما قال جعفر بن حنظلة.
قال أبو نعيم الفضل بن دكين: كان مقتل إبراهيم في يوم الخميس لخمس بقين من ذي الحجة من هذه السنة.
ذكر من توفي من الأعيان:
فمن أعيان أهل البيت عبد الله بن حسن وابناه: محمد وإبراهيم، وأخوه حسن بن حسن، وأخوه لأمه محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، الملقب: بالديباج. وقد تقدمت ترجمته.
وأما أخوه: