انتقل إلى المحتوى

الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية/كتاب الجنايات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
علاء الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عباس البعلي الدمشقي الحنبلي
  ► كتاب النفقات كتاب الجنايات كتاب الديات ◄  


كتاب الجنايات


العقوبات الشرعية إنما شرعت رحمة من الله تعالى بعباده فهي صادرة عن رحمة الخلق وإرادة الإحسان إليهم ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهم كما يقصد الوالد تأديب ولده وكما يقصد الطبيب معالجة المريض. وتوبة القاتل للنفس عمدا مقبولة عند الجمهور، وقال ابن عباس لا تقبل، وعن الإمام أحمد روايتان وإذا اقتص منه في الدنيا فهل للمقتول أن يستوفي حقه في الآخرة فيه قولان في مذهب أحمد وغيره وليست التوبة بعد الجرح أو بعد الرمي قبل الإصابة مانعة من وجوب القصاص ذكر أصحابنا من صور القتل العمد الموجب للقود من شهدت عليه بينة بالردة فقتل بذلك ثم رجعوا وقالوا عمدنا قتله. وهذا فيه نظر لأن المرتد إنما يقتل إذا لم يتب فيمكن المشهود عليه التوبة كما يمكنه التخلص إذا ألقي في الغار. والدول على من يقتل بغير حق يلزمه القود والدية إذا تعمد، وإمساك الحيات جناية محرمة قال في " المحرر ": لو أمر به يعني القتل سلطان عادل أو جائر ظلما من لم يعرف ظلمه فيه فقتله فالقود والدية على الآمر خاصة. قال أبو العباس: هذا بناء على وجوب طاعة السلطان في القتل المجهول وفيه نظر بل لا يطاع حتى يعلم جواز قتله وحينئذ فتكون الطاعة له معصية لا سيما إذا كان معروفا بالظلم فهنا الجهل بعدم الحل كالعلم بالحرمة وقياس المذهب أنه إذا كان المأمور ممن يطيعه غالبا في ذلك أنه يجب القتل عليهما وهو أولى من الحاكم والشهود سبب يقتضي غالبا فهو أقوى من المكره ولا يقتل مسلم بذمي إلا أن يقتله غيلة لأخذ ماله وهو مذهب مالك قال أصحابنا ولا يقتل حر بعبد ولكن ليس في العبد نصوص صحيحة صريحة كما في الذمي بل أجود ما روي { من قتل عبده قتلناه }. وهذا لأنه إذا قتله ظلما كان الإمام ولي دمه. وأيضا فقد ثبت في السنة والآثار أنه إذا مثل بعبده عتق عليه وهو مذهب مالك وأحمد وغيرهما وقتله أعظم أنواع المثلة فلا يموت إلا حرا لكن حريته لم تثبت حال حياته حتى ترثه عصبته بل حريته ثبتت حكما وهو إذا عتق كان ولاؤه للمسلمين فيكون الإمام هو وليه فله قتل قاتل عبده وقد يحتج بهذا من يقول: إن قاتل عبد غيره لسيده قتله وإذا دل الحديث على هذا كان هذا القول هو الراجح وهذا قوي على قول أحمد فإنه يجوز شهادة العبد كالحر بخلاف الذمي فلماذا لا يقتل الحر بالعبد. وقد قال النبي: { المؤمنون تتكافأ دماؤهم } ومن قال لا يقتل حر بعبد يقول إنه لا يقتل الذمي الحر بالعبد المسلم والله سبحانه وتعالى يقول: { ولعبد مؤمن خير من مشرك }، فالعبد المؤمن خير من الذمي المشرك فكيف لا يقتل به والسنة إنما جاءت لا يقتل والد بولد فإلحاق الجد أبي الأم بذلك بعيد ويتوجه أن لا يرث القاتل دما من وارث كما لا يرث هو المقتول وهو يشبه حد القذف المطالب به إذا كان القاذف هو الوارث أو وارث الوارث فعلى هذا لو قتل أحد الابنين أباه والآخر أمه وهي في زوجية الأب فكل واحد منهما يستحق قتل الآخر فيتقاصان لا سيما إذا قيل إنه مستحق القود بملك نقله إلى غيره، إما بطريق التوكيل بلا ريب، وإما بالتمليك وليس ببعيد. وإذا كان المقتول رضي بالاستيفاء أو بالذمة فينبغي أن يتعين كما لو عفا وعليه تخرج قصة علي إذا لم تخرج على كونه مرتدا أو مفسدا في الأرض أو قاتل الأئمة، وإذا قال أنا قاتل غلام زيد فقياس المذهب إن كان نحويا لم يكن مقرا وإن كان غير نحوي كان مقرا كما لو قاله بالإضافة، ومن رأى رجلا يفجر بأهله جاز له قتلهما فيما بينه وبين الله تعالى وسواء كان الفاجر محصنا أو غير محصن معروفا بذلك أم لا كما دل عليه كلام الأصحاب وفتاوى الصحابة وليس هذا من باب دفع الصائل كما ظنه بعضهم بل هو من عقوبة المعتدين المؤذين. وأما إذا دخل الرجل ولم يفعل بعد فاحشة ولكن دخل لأجل ذلك فهذا فيه نزاع والأحوط لهذا أن يتوب من القتل في مثل هذه الصورة ومن طلب منه الفجور كان عليه أن يدفع الصائل عليه فإن لم يندفع إلا بالقتل كان له ذلك باتفاق الفقهاء. فإن ادعى القاتل أنه صال عليه وأنكر أولياء المقتول فإن كان المقتول معروفا بالبر وقتله في محل لا ريبة فيه لم يقبل قول القاتل، وإن كان معروفا بالفجور والقاتل معروفا بالبر فالقول قول القاتل مع يمينه لا سيما إذا كان معروفا بالتعرض له قبل ذلك.

باب استيفاء القود والعفو عنه

والجماعة المشتركون في استحقاق دم المقتول الواحد، إما أن يثبت لكل واحد بعض الاستيفاء فيكونون كالمشتركين في عقد أو خصومة وتعيين الإمام قوي كما يؤجر عليهم لنيابته عن الممتنع. والقرعة إنما شرعت في الأصل إذا كان كل واحد مستحقا أو كالمستحق ويتوجه أن يقدم الأكثر حقا أو الأفضل لقوله كبر وكالأولياء في النكاح وذلك أنهم قالوا -: هنا من تقدم بالقرعة قدمته ولم تسقط حقوقهم ويتوجه إذا قلنا ليس للولي أخذ الدية إلا برضا الجاني أن يسقط حقه بموته كما لو مات العبد الجاني أو المكفول به وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي ثواب وأبي القاسم وأبي طالب ويتوجه ذلك وإن قلنا لواجب القود عينا أو أحد شيئين ؛ لأن الدية عديل العفو. فأما الدية مع الهلاك فلا، والذي ينبغي أن لا يعاقب المجنون بقتل ولا قطع لكن يضرب على ما فعل ليزجر. وكذا الصبي المميز يعاقب على الفاحشة تعزيرا بليغا. قال أصحابنا: وإن وجب لعبد قصاص أو تعزير قذف فطلبه وإسقاطه إليه دون سيده ويتوجه أن لا يملك إسقاطه مجانا كالمفلس والورثة مع الديون المستغرقة على أحد الوجهين، وكذلك الأصل في الوصي والقياس أن لا يملك السيد تعزير القذف إذا مات العبد إلا إذا طالب كالوارث ويفعل بالجاني على النفس مثل ما فعل بالمجني عليه ما لم يكن محرما في نفسه أو يقتله بالسيف إن شاء، وهو رواية عن أحمد.

ولو كوى شخصا بمسمار كان للمجني عليه أن يكويه مثل ما كواه إن أمكن ويجري القصاص في اللطمة والضربة ونحو ذلك وهو مذهب الخلفاء الراشدين وغيرهم، ونص عليه أحمد في رواية إسماعيل بن سعد الشالنجي ولا يستوفى القود في الطرق إلا بحضرة السلطان ومن أبرأ جانيا حرا جنايته على عاقلته إن قلنا تجب الدية على العاقلة أو تحمل عنه ابتداء أو عبدا إن قلنا جنايته في ذمته مع أنه يتوجه الصحة مطلقا وهو وجه بناء على أن مفهوم هذا اللفظ في عرف الناس العفو مطلقا والتصرفات تحمل موجباتها على عرف الناس فتختلف باختلاف الاصطلاحات

وإذا عفا أولياء المقتول عن القاتل بشرط ألا يقيم في هذا البلد ولم يف بهذا الشرط لم يكن العفو لازما بل لهم أن يطالبوه بالدية في قول العلماء وبالدم في قول آخر. وسواء قيل هذا الشرط صحيح أم فاسد يفسد به العقد أم لا. ولا يصح العفو في قتل الغفلة لتعذر الاحتراز منه كالقتل في المحاربة وولاية القصاص والعفو عنه ليست عامة لجميع الورثة بل تختص بالعصبة وهو مذهب مالك. وتخرج رواية عن أحمد

وإذا اتفق الجماعة على قتل شخص فلأولياء الدم أن يقتلوهم ولهم أن يقتلوا بعضهم وإن لم يعلم عين القاتل فللأولياء أن يحلفوا على واحد بقتله أنه قتله ويحكم لهم بالدم انتهى.