انتقل إلى المحتوى

الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية/كتاب البيع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
علاء الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عباس البعلي الدمشقي الحنبلي
  ► كتاب الحج كتاب البيع كتاب السبق ◄  


كتاب البيع


وكل ما عده الناس بيعا أو هبة من متعاقب أو متراخ من قول أو فعل انعقد به البيع والهبة ويجوز بيع الطير لقصد صوته إذا جاز حبسه، وفيه احتمالان لابن عقيل، واختار أبو العباس صحة البيع بغير صفة وهو بالخيار إذا رآه وهو رواية عن أحمد ومذهب الحنفية وضعفه في موضع آخر، والبيع بالصفة السليمة صحيح، وهو مذهب أحمد. وإن باعه لبنا موصوفا في الذمة واشترط كونه من هذه الشاة أو البقرة صح ويجوز بيع الكلإ ونحوه الموجود في أرضه إذا قصد استنباته، ويصح بيع ما فتح عنوة أو لم يقسم من أرض الشام ومصر والعراق، ويكون في يد مشتريه بخراجه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد وأحد قولي الشافعي، وجوز أحمد أصداقها وقاله أبو البركات وتأوله القاضي على نفعها والمؤثر بها أحق بلا خلاف، وإذا جعلها الإمام فيئا صار ذلك حكما باقيا فيهما دائما. ولا تعود إلى الغانمين وليس غيرهم مختصا بها ومكة المشرفة فتحت عنوة ويجوز بيعها لا إجارتها، فإن استأجرها فالأجرة ساقطة يحرم بذلها، ويصح بيع الحيوان المذبوح مع جلده وهو قول جمهور العلماء، وكذا لو أفرد أحدهما بالبيع، ويصح بيع المغروس في الأرض الذي يظهر ورقه كالقت والجوز والقلقاس والفجل والبصل وشبيه ذلك، وقاله بعض أصحابنا ويصح البيع بالرقم ونص عليه أحمد وتأوله القاضي وبما ينقطع به السعر، وكما يبيع الناس وهو أحد القولين في مذهب أحمد. ولو باع ولم يسم الثمن صح بثمن المثل كالنكاح، ولا يصح بيع ما قصده به الحرام كعصير يتخذه خمرا إذا علم ذلك كمذهب أحمد وغيره، أو ظن وهو أحد القولين يؤيده أن الأصحاب قالوا لو ظن الآجر أن المستأجر يستأجر الدار لمعصية كبيع الخمر ونحوها لم يجز له أن يؤجره تلك الدار، ولم تصح الإجارة، والبيع والإجارة سواء.

وإذا جمع البائع بين عقدين مختلفي الحكم بعوضين متميزين لم يكن للمشتري أن يقبل أحدهما بعوضه، ويحرم الشراء على شراء أخيه، وإذا فعل ذلك كان للمشتري الأول مطالبة البائع بالسلعة وأخذ السلعة أو عوضها. ومن استولى على ملك إنسان بلا حق ومنعه إياه حتى يبيعه إياه فهو كبيع المكره بغير عوض ويكره أن يتمنى الغلاء. قال أحمد لا ينبغي أن يتمنى الغلاء، ومن قال لآخر: اشترني من زيد فإني عبده فاشتراه فبان حرا، فإنه يؤاخذ البائع والمقر بالثمن فإن مات أحدهما أو غاب آخذ الآخر بالثمن ونقله ابن الحكم عن أحمد.

وبيع الأمانة باطل ويجب المعاوضة بثمن المثل لأنها مصلحة عامة لحق الله تعالى، ولا يربح على المسترسل أكثر من غيره، وكذا المضطر الذي لا يجد حاجته إلا عند شخص ينبغي أن يربح عليه مثل ما يربح على غيره، وله أن يأخذ منه بالقيمة المعروفة بغير اختياره، قال أبو طالب قيل لأحمد إن ربح الرجل في العشرة خمسة يكره ذلك، قال إذا كان أجله إلى سنة أو أقل بقدر الربح فلا بأس به، وقال أبو جعفر بن محمد سمعت أبا عبد الله يقول بيع النسيئة إذا كان مقاربا فلا بأس، وهذا يقتضي كراهة الربح الكثير الذي يزيد على قدر الأجل لأنه شبه بيع المضطر، وهذا يعم بيع المرابحة والمساومة. ومن ضمن مكانا للبيع ويشتري فيه وحده كره الشراء منه بلا حق، ويحرم عليه أخذ زيادة بلا حق. اتفق أهل السوق على أن لا يتزايدوا في السلعة وهم محتاجون إليها ليبيعها صاحبها بدون قيمتها فإن ذلك فيه من غش الناس ما لا يخفى، وإن ثم من بد فلا بأس، ومن ملك ماء نابعا كبئر محفورة في ملكه أو عين ماء في أرضه فله بيع البئر والعين جميعا، ويجوز بيع بعضها مشاعا كأصبع أو أصبعين من قناة، وإن كان أصل القناة في أرض مباحة فكيف إذا كان أصلها في أرضه.

قال أبو العباس: وهذا لا أعلم فيه نزاعا، وإن كانت العين ينبع ماؤها شيئا فشيئا فإنه ليس من شرط المبيع أن يرى جميعه، بل ما جرت به العادة برؤيته وأما ما يتجدد ومثل المنابع ونقع البئر فلا يشترط أحد رؤيته في بيع ولا إجارة وإنما تنازعوا لو باع الماء دون القرار ؛ وفي الصحة قولان بناء على أنه هل يملك وتنازعوا إذا باع الأرض ولم يذكر الماء هل يدخل أم لا ؟

فصل ولو قال البائع: بعتك لو جئتني بكذا أو إن رضي زيد صح البيع، والشرط وهو إحدى الروايتين عن أحمد وتصح الشروط التي لم تخالف الشرع في جميع العقود، فلو باع جارية وشرط على المشتري إن باعها فهو أحق بها بالثمن صح البيع والشرط، ونقل عن ابن مسعود وعن أحمد نحو العشرين نصا على صحة الشروط. وأنه يحرم الوطء لنقص الملك. سأل أبو طالب الإمام أحمد عمن اشترى أمة يشترط أن يتسرى بها لا للخدمة قال لا بأس به، وهذا من أحمد يقتضي أنه إذا شرط على البائع فعلا أو تركا في البيع مما هو مقصود للبائع أو للبيع نفسه صح البيع والشرط كاشتراط العتق، وكما اشترط عثمان لصهيب وقف داره عليه، ومثل هذا أن يبيعه بشرط أن يعلمه أو لا يخرجه من ذلك البلد أو لا يستعمله في العمل الفلاني، أو أن يزوجه أو يساويه في المطعم، أو لا يبيعه أو لا يهبه. فإذا امتنع المشتري من الوفاء فهل يجبر عليه أو ينفسخ، على وجهين وهو قياس قولنا إذا شرط في النكاح أن لا يسافر بها أو لا يتزوج إذ لا فرق في الحقيقة بين الزوجة والمملوك، وإذا شرط البائع نفع المبيع لغيره مدة معلومة، فمقتضى كلام أصحابنا جوازه، فإنهم احتجوا بحديث أم سلمة أنها أعتقت سفينة وشرطت عليه أنه يخدم النبي ما عاش واستثناء خدمة غيره في العتق كاستثنائها في البيع، وشرط البراءة من كل عيب باطل، وعلله جماعة من أصحابنا بأنه خيار يثبت بعد البيع فلا يسقط قبله كالشفعة، ومقتضى هذا التعليل صحة البراءة من العيوب بعد عقد البيع. وقال المخالف في صحة البراءة إسقاط حق وصح في المجهول كالطلاق والعتاق قيل له والجواب أنا نقول بوجوبه، وأنه يصح في المجهول لكن بعد وجوبه والصحيح في مسألة البيع بشرط البراءة من كل عيب، والذي قضى به الصحابة وعليه أكثر أهل العلم أن البائع إذا لم يكن علم بذلك العيب فلا رد للمشتري، لكن إذا ادعى أن البائع علم بذلك فأنكر البائع حلف أنه لم يعلم فإن نكل قضي عليه.

فصل ويثبت خيار المجلس في البيع، ويثبت خيار الشرط في كل العقود ولو طالت المدة، فإن أطلقا الخيار ولم يوقتاه بمدة توجه أن يثبت ثلاثا لخبر حبان بن منقذ. وللبائع الفسخ في مدة الخيار إذا رد الثمن وإلا فلا، ونقل أبو طالب عن أحمد وكذا التملكات القهرية لإزالة الضرر كالأخذ بالشفعة وأخذ الغراس والبناء من المستعير والمستأجر، والزرع من الغاصب، ويثبت خيار الغبن المسترسل إلى البائع لم يماكسه، وهو مذهب أحمد وإن علق عتق عبده ببيعه وكان قصده بالتعليق اليمين دون التبرر بعتقه أجزأه كفارة يمين، وإن قصد به التقرب كان عتقه مستحقا كالنذر فلا يصح بيعه، ويكون العتق مطلقا على صورة البيع. وطرد أبو العباس قوله: هذا في تعليق الطلاق على الفسخ والخلع، فجعله معلقا على صورة الفسخ والخلع المعلق عليه فلا يمتنع وقوع الطلاق معه، على رأي ابن حامد، حيث أوقعه مع البينونة بانقضاء العدة، فكذا بالفسخ، ويحرم كتم العيب في السلعة. وكذا لو أعلمه به ولم يعلمه قدر عيبه ويجوز عقابه بإتلافه أو التصدق به، وقد أفتى به طائفة من أصحابنا، ويحرم تغرير مشتر بأن يسومه كثيرا ليبذل قريبا منه.

والنماء المتصل في الأعيان المملوكة العائدة إلى من انتقل الملك عنه لا يتبع الأعيان، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي طالب، حيث قال إذا اشترى غنما فنمت ثم استحقت فالنماء له، وهذا يعم المتصل والمنفصل، وإذا اشترى شيئا فظهر به عيب على عيب فله أرشه إن تعذر رده وإلا فلا، وهو رواية عن أحمد، ومذهب أبي حنيفة والشافعي. وكذا في نظائره كالصفقة إذا تفرقت، والمذهب يخير المشتري بين الرد وأخذ الثمن وإمساكه وأخذ الأرش، فعليه يجبر المشتري على الرد وأخذ الأرش لتضرر البائع بالتأخير، وإذا أبقت الجارية عند المشتري وكانت معروفة بذلك قبل البيع، وكتمه البائع رجع المشتري بالثمن في الأصح. والجار السوء عيب، وإذا ظهر عسر المشتري أو مطله فللبائع الفسخ، ويملك المشتري المبيع بالعقد ويصح عتقه قبل القبض إجماعا فيهما، ومن اشترى شيئا لم يبعه قبل قبضه سواء المكيل والموزون وغيرهما. وهو رواية عن أحمد اختارها ابن عقيل ومذهب الشافعي، وروي عن ابن العباس رضي الله عنهما وسواء كان المبيع من ضمان المشتري أو لا وعلى ذلك تدل أصول أحمد كتصرف المشتري في الثمرة قبل جدها في أصح الروايتين وهي مضمونة على البائع وكصحة تصرف المستأجر في العين المؤجرة بالإجارة وهي مضمونة على المؤجر، ويمتنع التصرف في صبرة الطعام المشتراة جزافا على إحدى الروايتين، وهي اختيار الخرقي مع أنها من ضمان المشتري. وهذه طريقة الأكثرين وعلة النهي عن البيع قبل القبض ليست توالي الضمانين بل عجز المشتري عن تسليمه ؛ لأن البائع قد يسلمه وقد لا يسلمه، لا سيما إذا رأى المشتري قد ربح فيسعى في رد البيع إما بجحد أو باحتيال في الفسخ، وعلى هذه العلة تجوز التولية في المبيع قبل قبضه، وهو مخرج من جواز بيع الدين. ويجوز التصرف فيه بغير البيع ويجوز بيعه لبائعه والشركة فيه، وكل ما ملك بعقد سوى البيع فإنه يجوز التصرف فيه بغير البيع فإنه يجوز التصرف فيه قبل قبضه بالبيع وغيره لعدم قصد الربح، وإذا تعين ملك إنسان في موروث أو وصية أو غنيمة لم يعتبر لصحة تصرفه قبضه بلا خلاف، وينتقل الضمان إلى المشتري بتمكنه من القبض، وظاهر مذهب أحمد الفرق بين تمكن قبضه وغيره ليس هو الفرق بين المقبوض وغيره.

باب الربا

والعلة في تحريم ربا الفضل الكيل أو الوزن مع الطعم، وهو رواية عن أحمد، ويجوز بيع المصوغ من الذهب والفضة بجنسه من غير اشتراط التماثل، ويجعل الزائد في مقابلة الصيغة ليس بربا ولا بجنس بنفسه، فيباع خبز بهريسة وزيت بزيتون، وسمسم بشيرج. والمعمول من النحاس والحديد إذا قلنا يجري الربا فيه يجري في معموله إذا كان يقصد وزنه بعد الصنعة كثياب الحرير والأسطال ونحوها وإلا فلا، وهو ثالث أقوال أهل العلم، ويحرم بيع اللحم بحيوان من جنسه مقصودا للحم. ويجوز بيع الموزونات الربوية بالتحري، وقاله مالك، وما لا يختلف فيه الكيل والوزن مثل الأدهان يجوز بيع بعضه ببعض كيلا ووزنا، وعن أحمد ما يدل عليه، ويجوز العرايا في جميع العرايا والزروع، ويجوز مسألة من عجوة، وهو رواية عن أحمد ومذهب أبي حنيفة، وظاهر مذهب أحمد جواز بيع السيف المحلى بجنس حليته لأن الحلية ليست بمقصودة. ويجوز بيع فضة لا يقصد غشها بخالصة مثلا بمثل، ولا يشترط الحلول والتقابض في صرف الفلوس النافقة بأحد النقدين، وهو رواية عن أحمد نقلها أبو منصور واختارها ابن عقيل، وما جاز التفاضل فيه كالثياب والحيوان يجوز النساء فيه إن كان متساويا وإلا فلا، وهو رواية عن أحمد، وإن اصطرفا دينا في ذمتهما جاز. وحكاه ابن عبد البر عن أبي حنيفة ومالك خلافا لما نص عليه أحمد، ويحرم مسألة التورق وهو رواية عن أحمد ومن باع ربويا نسيئة حرم أخذه عن ثمن ما لا يباع نسيئة ما لم تكن حاجة. وهو توسط بين الإمام أحمد في تحريمه والشيخ أبي محمد المقدسي في حله، والتحقيق في عقود الربا إذا لم يحصل فيها القبض أن لا عقد، وإن كان بعض الفقهاء يقول بطل العقد فهو بطلان ما لم يتم بطلان ما تم، والكيمياء باطلة محرمة وتحريمها أشد من تحريم الربا، ولا يجوز بيع الكتب التي تشتمل على معرفة صناعتها وأفتى بعض ولاة الأمور بإتلافها.

فصل والصحيح أنه لا يجوز بيع المقاثي جملة بعروقها سواء بدا صلاحها أو لا، وهذا القول له مأخذان: أحدهما: أن العروق كأصول الشجر، فبيع الخضراوات قبل بدو صلاحها كبيع الشجر بثمره قبل بدو صلاحه يجوز تبعا. والمأخذ الثاني وهو الصحيح أن هذه لم تدخل في نهي النبي بل يصح العقد على اللقطة الموجودة واللقطة المعدومة إلى أن تيبس المقثأة ؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك. ويجوز بيع المقاثي دون أصولها وقاله بعض أصحابنا، وإذا بدا صلاح بعض شجرة جاز بيعها وبيع ذلك الجنس وهو رواية عن أحمد، وقول الليث بن سعد. وبقية الأجناس التي ساء حمله فإن أصحاب ذلك أو الزرع الذي بجائحة ولو من جراد أو جيش لا يمكن تضمينه فمن ضمان بائعه إن لم يفرط المشتري، وثبتت الجائحة في المزارع، كما إذا اكترى الأرض بألف مثلا وكانت تساوي بالجائحة سبعمائة، وبعض الناس يظن أن هذا خلاف ما في المعنى أن نفسه إذا تلف يكون من ضمان المستأجر من صاحب الزرع لا يكون كالثمرة المشتراة، فهذا ما فيه خلاف، وإنما الخلاف في نفس أجرة الأرض ونقص قيمتها فيكون كما لو انقطع الماء عن الرحا ونبتت الجائحة في المزارع.

ولو قال في الإجارة: إنه أجره إياها مقيلا أو مضيفا أو مراحا أو مزروعا، وثبتت الجائحة في حانوت أو حمام نقص نفعه، وحكم بذلك أبو الفضل سليمان بن جعفر المقدسي. قال أبو العباس: لكنه بخلاف ما رأيته عن الإمام أحمد وقياس أصول أحمد ونصوصه إذا عطل نفع الأرض بآفة انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة كاستهدام الدار. ولو يبست الكروم بجراد أو غيره سقط من الخراج حسب ما يعطل من النفع، وإذا لم يمكن النفع به ببيع أو إجارة أو عمارة أو غير ذلك لم يجز المطالبة بالخراج.

باب السلم

ولو أسلم مقدارا معلوما إلى أجل معلوم في شيء، يحكم أنه إذا حل يأخذه بأنقص مما يساوي بقدر معلوم صح كالبيع بالسعر، ويصح السلم حالا إن كان المسلم فيه موجودا في ملكه وإلا فلا، ويجوز بيع الدين في الذمة من الغريم وغيره ولا فرق بين دين السلم وغيره وهو رواية عن أحمد، وقال ابن عباس لكن بقدر القيمة فقط ؛ لئلا يربح فيما لم يضمن، ويصح تعليق البراءة على شرط، وهو عن أحمد. وما قبضه أحد الشريكين من دين مشترك بعقد، أو ميراث أو إتلاف أو ضريبة وسبب استحقاقها واحد، فلشريكه الأخذ من الغريم ويحاصه فيما قبضه وهو مذهب الإمام، وكذا لو تلف ولو تبارآه ولأحدهما على الآخر دين مكتوب فادعى استثناءه بقلبه، وأنه لم يبرئه منه قبل ولخصمه تحليفه.

باب القرض

ويجوز قرض الخبز ورد مثله عددا بلا وزن من غير قصد الزيادة، وهو مذهب أحمد، ولو أقرضه في بلد آخر جاز على الصحيح، ويجوز قرض المنافع مثل أن يحصد معه يوما ويحصد معه الآخر يوما أو يسكنه دارا ليسكنه الآخر بدلها، لكن الغالب على المنافع أنها ليست من ذوات الأمثال حتى يجب رد المثل بتراضيهما.

وإذا ظهر المقترض مفلسا ووجد المقرض عين ماله فله الرجوع بعين ماله بلا ريب، والدين الحال يتأجل بتأجيله سواء كان الدين قرضا أو غيره، وهو قول مالك ووجه في مذهب أحمد. ويتخرج رواية عن أحمد من إحدى الروايتين في صحة إلحاق الأجل بعد لزوم العقد، ولو أقرض إكاره بذرا أو أمره ببذره وأنه في ذمته كما يفعله الناس فهو فاسد، وله نصيب المثل، ولو تلف لم يضمنه لأنه أمانة، ولو اقترض من رجل قروضا متفرقة، ووكل المقرض في ضبطها أو ابتاع منه شيئا ووكل البائع في ضبط المبيع حفظا أو كتابة فينبغي أن يكون قول هذا المؤتمن هاهنا مقبولا، ويجب على المقترض أن يوفي المقرض في بلد القرض ولا يكلفه مئونة السفر والحمل.

باب الضمان

وقياس المذهب أنه يصح بكل لفظ يفهم منه الضمان عرفا، مثل زوجه وأنا أؤدي الصداق، أو بعه وأنا أعطيك الثمن، أو اتركه لا تطالبه وأنا أعطيك الثمن، ولو تغيب مضمون عنه قادر فأمسك الضامن وغرم شيئا أو أنفقه في الحبس رجع به على المضمون عنه، ويصح ضمان المجهول، ومنه ضمان السوق وهو أن يضمن ما يلزم التاجر من دين وما يقبضه من عين مضمونة، وتجوز كتابته، والشهادة به لم ير جوازها.

وكذلك تجوز الشهادة على المزارعة لمن لم ير جوازها لأن ذلك محل اجتهاد وأما الشهادة على العقود المحرمة على وجه الإعانة عليها فحرام، ويصح ضمان حارس ونحوه وتجار حرب بما يذهب من البلد أو البحر وغايته ضمان مجهول، وما لم يجب وهو جائز عند أكثر أهل العلم، مالك وأبي حنيفة وأحمد. ومن كفل إنسانا فسلمه إلى المكفول له ولا ضرر في تسليمه برئ ولو في حبس الشرع ولا يلزمه اختياره منه إليه عند أحد الأئمة، والسجان ونحوه ممن هو وكيل على بدن الغريم كالكفيل للوجه عليه إحضار الخصم، فإن تعذر إحضاره كان كما لو لم يحضر المكفول به يضمن ما عليه عندنا وعند مالك، وإذا لم يكن الوالد ضامنا لولده ولا له عنده مال يجب له على الوالد معاونة صاحب الحق على إحضار ولده ونحوه ولزمه ذلك.

فصل والحوالة على ماله في الدين، إن أذن في الاستيفاء فقط والمختار الرجوع ومطالبته، وليس للابن أن يحيل على الأب ولا يبيح دينه إذا جوزنا بيع ما على الغريم إلا برضاء الأب، وكره الإمام أحمد أن يتزوج الرجل أو يقترض أو يشتري إذا لم يعلم الآخر بعسرته أولا ؛ لأن ظاهر الحال أن الرجل إنما يعامل من كان قادرا على الوفاء ؛ فإذا كتم ذلك كان غارا.

فصل ويجوز رهن العبد المسلم من كافر بشرط كونه في يد مسلم، واختاره طائفة من أصحابنا، ويجوز أن يرهن الإنسان مال نفسه على دم غيره كما يجوز أن يضمنه وأولى وهو نظير إعارته للمرهن، وإذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الدين فالقول قول المرتهن ما لم يدع أكثر من قيمة الرهن وهو مذهب مالك، ولا ينفك شيء من الرهن حتى يقضي جميع الدين وهو مذهب أحمد وغيره، وإذا لم يكن للمديون وفاء غير الرهن وجب على رب الدين إمهاله حتى يبيعه، فمتى لم يمكن بيعه إلا بخروجه من الحبس، أو كان في بيعه وهو في الحبس ضرر عليه وجب إخراجه ويضمن عليه أو يمشي معه هو أو وكيله.

باب الصلح وحكم الجوار

ويصح الصلح عن المؤجل ببعضه حالا، وهو رواية عن أحمد، وحكي قولا للشافعي، ويصح عن دية الخطإ وعن قيمة المتلف غير المثل بأكثر منها من جنسها، وهو قياس قول أحمد، والغبن والمنفعة التي لا قيمة لها عادة كالاستظلال بجدار الغير والنظر في سراجه لا يصح أن يرد عليها عقد بيع أو إجارة اتفاقا، ولو اتفقا على بناء حائط بستان فبنى أحدهما فما تلف من الثمرة بسبب إهمال الآخر ضمن لشريكه نصيبه، وإذا احتاج الملك المشترك إلى عمارة لا بد منها فعلى أحد الشريكين أن يعمر مع شريكه إذا طلب ذلك منه في أصح قولي العلماء، ويلزم إلا على التستر بما يمنع مشارفة الأسفل.

وإن استويا وطلب أحدهما بناء السترة أجبر الآخر معه مع الحاجة إلى السترة وهو مذهب أحمد، وليس للإنسان أن يتصرف في ملكه بما يؤذي به جاره من بناء حمام وحانوت طباخ ودقاق، وهو مذهب أحمد، ومن لم يسد بئره سدا يمنع من التضرر بها ضمن ما تلف بها وله تعلية بنائه، ولو أفضى إلى سد الفضاء عن جاره. قلت: وفيه على قاعدة أبي العباس نظر، والله أعلم. وليس له منعه خوفا من نقص أجرة ملكه بلا نزاع، والمضارة مبناها على القصد والإرادة، أو على فعل ضرر عليه فمتى قصد الإضرار ولو بالمناخ أو فعل الإضرار من غير استحقاق فهو مضار. وأما إذا فعل الضرر المستحق للحاجة إليه والانتفاع به لا لقصد الأضرار فليس بمضار، ومن ذلك قول النبي في حديث النخلة التي كانت تضر صاحب الحديقة لما طلب من صاحبها المعاوضة عنها بعدة طرق فلم يفعل، فقال إنما أنت مضار ثم أمر بقلعها، فدل على أن الضرار محرم لا يجوز تمكين صاحبه منه، ومن كانت له ساحة تلقى فيها التراب والحيوانات ويتضرر الجيران بذلك، فإنه يجب على صاحبها أن يدفع ضرر الجيران إما بعمارتها أو إعطائها لمن يعمرها، أو يمنع أن يلقى فيها ما يضر بالجيران، وإذا كان المسجد معدا للصلاة ففي جواز البناء عليه نزاع بين العلماء، وليس لأحد أن يبني فوق الوقف ما يضر به اتفاقا، وكذا إن لم يضر به عند الجمهور، وإذا كان الجدار مختصا بشخص لم يكن له أن يمنع جاره من الانتفاع بما يحتاج إليه الجار، ولا يضر بصاحب الجدار، ويجب على الجار تمكين جاره من إجراء مائه في أرضه إذا احتاج إلى ذلك، ولم يكن على صاحب الأرض ضرر في أصح القولين في مذهب أحمد، وحكم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فالساباط الذي يضر بالمارة مثل أن يحتاج الراكب أن يحني رأسه إذا مر هناك، وإن غفل عن نفسه رمى عمامته أو شج رأسه، ولا يمكن أن يمر هناك جمل عال إلا كسرت رقبته، والجمل المحمل لا يمر هناك فمثل هذا الساباط لا يجوز إحداثه على طريق المارة باتفاق المسلمين بل يجب على صاحبه إزالته، فإن لم يفعل كان على ولاة الأمور إلزامه بإزالته حتى يزول الضرر، حتى لو كان الطريق منخفضا ثم ارتفع على طور الزمان وجب إزالته إذا كان الأمر على ما ذكر، والله أعلم.

باب الحجر

وإذا لزم الإنسان الدين بغير معاوضة كالضمان ونحوه، ولم يعرف له مال فالقول قوله مع يمينه في الإعسار وهو مذهب أحمد وغيره، ومن أراد سفرا وهو عاجز عن وفاء دينه فلغريمه منعه حتى يقيم كفيلا بدينه. ومن طولب بأداء دين عليه فطلب إمهالا أمهل بقدر ذلك اتفاقا، لكن إذا خاف غريمه منه احتاط عليه بملازمته أو بكفيل أو برسم عليه، ومن كان قادرا على وفاء دينه وامتنع أجبر على وفائه بالضرب والحبس، ونص على ذلك الأئمة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. قال أبو العباس: ولا أعلم فيه نزاعا، لكن لا يزاد كل يوم على أكثر من التعزير إن قيل يقتدر وللحاكم أن يبيع عليه ماله ويقضي دينه ولا يلزمه، وإذا كان الذي عليه الحق قادرا على الوفاء ومطل صاحب الحق حتى أخرجه إلى الشكاية فما غرمه بسبب ذلك فهو على الظالم المبطل إذا كان غرمه على الوجه المعتاد وممن عرف بالقدرة فادعى إعسارا وأمكن عادة قبل وليس له إثبات إعساره عند غيره من حبسه بلا إذنه ويقضي دينه من مال له فيه شبهة لأنه لا يبقى شبهة بترك واجب، ولو ادعت امرأة على زوجها بحقها وحبسته لم يسقط من حقوقه عليها شيء قبل الحبس، بل يستحقها عليها بعد الحبس كحبسه في دين غيرها فله إلزامها ملازمة بيته، ولا يدخل عليها أحد بلا إذنه ولو خاف خروجها من منزله بلا إذنه أسكنها حيث شاء، ولا يجب حبسه بمكان معين فيجوز حبسه في دار نفسه، بحيث لا يمكن من الخروج، ولو كان قادرا على أداء الدين وامتنع ورأى الحاكم منعه من فضول الأكل والنكاح فله ذلك، إذ التعزير لا يختص بنوع معين، وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم في نوعه وقدره إذا لم يتعد حدود الله. ومن ضاق ماله عن ديونه صار محجورا عليه بغير حكم حاكم بالحجر وهو رواية عن أحمد، ومن عليه نفقة واجبة فلا يملك التبرع بما يخل بالنفقة الواجبة، وكلام أحمد يدل عليه، وإن نوزع المحجور عليه لحظر في الرشد فشهد شاهدان برشده قبل لأنه قد يعلم بالاستفاضة، ومع عدم البينة له على وليه أنه لا يعلم رشده، والإسراف ما صرفه في الحرام أو كان صرفه في مباح قدرا زائدا على المصلحة، ولو وصى من فسقه ظاهر أو لا وجب إنفاذه كحاكم فاسق حكم بالعدل. والولاية على الصبي والمجنون والسفيه تكون لسائر الأقارب، ومع الاستقامة لا يحتاج إلى الحاكم إلا إذا امتنع من طاعة الولي، وتكون الولاية لغير الأب والجد والحاكم وهو مذهب أبي حنيفة ومنصوص أحمد في الأم.

وأما تخصيص الولاية بالأب والجد والحاكم فضعيف جدا، والحاكم العاجز كالعدم، ولو مات من يتجر لنفسه وليتيمه بماله وقد اشترى شيئا ولم يعرف لمن هو لم يقسم ولم يوقف الأمر حتى يصطلحا كما يقوله الشافعي، بل مذهب أحمد أنه يفرغ فمن فرغ خلف واحد ولو مات الوصي وجهل بقاء مال وليه كان دينا في تركته، ولوصي اليتيم أقل الأمرين من أجرة مثله أو كفايته ولا يجوز أن يولي على مال اليتيم إلا من كان قويا خبيرا بما ولي عليه أمينا عليه والواجب إذا لم يكن الولي بهذه الصفة أن يستبدل به، ولا يستحق الأجرة المسماة لكن إذا عمل لليتامى استحق أجرة المثل كالعمل في سائر العقود الفاسدة، ولا يقبل من السيد دعوى عدم الإذن لعبده مع علمه بتصرفه ولو قدر صدقة فتسليطه عليه عدوان، وتردد أبو العباس فيما إذا لم يمكن للولي خلاص حق موليه إلا برفع من هو عليه إلى وال يظلمه، ويستحب التجارة بمال اليتيم لقول عمر وغيره اتجروا بأموال اليتامى كي لا تأكلها الصدقة.

باب الوكالة

قال القاضي في ضمن مسألة بقاء الوكيل بموت الموكل: فأما إن أخرج الموكل فيه عن ملكه مثل إعتاقه العبد وبيعه فإنه تنفسخ الوكالة بذلك، ففرق بين الموت وبين العتق والمبيع بأن حكم الملك هنا قد زال، وهناك السلعة بعد الموت باقية على حكم مالكها، وما قاله القاضي فيه نظر، فإن الانتقال بالموت أقوى منه بالبيع والعتق فإن هذا يمكن الموكل الاحتراز عنه فيكون بمنزلة عزله بالقول وذلك زال الملك فيه بفعل الله تعالى، وإذا تصرف بلا إذن ولا ملك ثم تبين أنه كان وكيلا أو مالكا ففي صحة تصرفه وجهان، كما لو تصرف بعد العزل ولم يعلم فلو تصرف بإذن ثم تبين أن الإذن كان من غير المالك والمالك أذن له ولم يعلم أو أذن بناء على جهة ثم تبين أنه لم يكن يملك الإذن بها بل بغيرها أو بناء أنه مالك شبر ثم تبين أنه كان وارثا، فإن قلنا يصح التصرف في الأول فهاهنا أولى، وإن قلنا لا يصح هناك فقد يقال يصح هنا لأنه كان مباحا له في الظاهر والباطن، لكن الذي اعتقده ظاهر ليس هو الباطل، فنظيره إذا اعتقد أنه محدث فتطهر ثم تبين فساد طهارته، وأنه كان متطهرا قبل هذا، ولو وكل شخصا أن يوكل له فلانا في بيع ونحوه، فقال الوكيل الأول للوكيل الثاني: بع هذا ولم يشعر أنه وكيل الموكل. قال أبو العباس: سئلت عن هذه المسألة فقلت: نسبة أنواع التوكيل والموكلين إلى الوكيل كنسبة أنواع التمليك والمملكين إلى الملك، ثم لو ملك شيئا لم يحتج أن يتبين هل هو وكيله أو وكيل فلان، وإن كان الحكم فيهما مختلفا بالنسبة إلى الموكل والمملك ( نقل ) هاهنا في رجل دفع إلى رجل ثوبا يبيعه فباعه وأخذ الثمن فوهبه المشتري من الثمن درهما فإن الضمان على الذي باع الثوب، فقد نص أحمد على أن ما حصل للوكيل من زيادة فهي للبائع وما نقص فهو عليه، ولم يفرق بين أن يكون النقص قبل لزوم العقد أو بعده. وينبغي أن يفصل إذا لم يلزمه، والوكيل في الضبط والمعرفة مثل من وكل رجلا في كتابة ماله وما عليه كأهل الديوان فقوله أولى بالقبول من وكيل التصرف لأنه مؤتمن على نفس الأخبار بماله وما عليه، وهذه مسألة نافعة ونظير إقرار كتاب الأمراء وأهل ديوانهم بما عليهم من الحقوق بعد موتهم، وإقرار كتاب السلطان وبيت المال وسائر أهل الديوان مما على جهاتهم من الحقوق، ومن ناظر الوقف وعامل الصدقة والخراج ونحو ذلك، فإن هؤلاء لا يخرجون عن ولاية أو وكالة، وإن استعمل الأمير كاتبا جابيا أو عاملا أثم بما أذهب من حقوق الناس لتفريطه. ومن استأمنه أميرا على ماله فخشي من حاشيته إن منعهم من عادتهم المتقدمة لزمه فعل ما يمكنه، وما هو أصلح للأمير من تولية غيره فيرتع معهم لا سيما وللأخذ شبهة، قال في المحرر وإذا اشترى الوكيل أو المضارب بأكثر من ثمن المثل أو بدونه صح ولزمه النقص والزيادة، ونص عليه. قال أبو العباس: وكذلك الشريك والوصي والناظر على الوقف وبيت المال ونحو ذلك، وقال هذا ظاهر فيما إذا فرط وأما إذا احتاط في البيع والشراء ثم ظهر غبن أو عيب لم يقصر فيه، فهذا معذور يشبه خطأ الإمام أو الحاكم، ويشبه تصرفه قبل علمه بالعزل وأبين من هذا الناظر والوصي والإمام والقاضي إذا باع أو أجر أو زارع أو ضارب ثم تبين الخطأ فيه، مثل أن يأمر بعمارة أو غرس ونحو ذلك، ثم تبين أن المصلحة كانت في خلافه، وهذا باب واسع وكذلك المضارب والشريك فإن عامة من يتصرف لغيره بوكالة أو ولاية قد يجتهد ثم يظهر فوات المصلحة أو حصول المفسدة ولا لزوم عليه فيهما وتضمين مثل هذا فيه نظر، وهو يشبه بما إذا قتل في دار الحرب من يظنه حربيا فبان مسلما، فإن جماع هذا أنه مجتهد مأمور بعمل اجتهد فيه، وكيف يجتمع عليه الأمر والضمان هذا الضرب هو خطأ في الاعتقاد والقصد لا في العمل، وأصول المذهب تشهد له بروايتين، قال أبو حفص في المجموع وإذا سمى له ثمنا فنقص منه نص الإمام أحمد في رواية ابن منصور إذا أمر رجلا أن يبيع له شيئا فباعه بأقل، قال البيع جائز وهو ضامن لما نقص، قال أبو العباس لعله لم يقبل قولهما على المشتري في تقدير الثمن لأنهما يريان فساد العقد، وهو يدعي صحته، فكان القول قوله، ويضمن الوكيل النقص، وإذا وكله أو أوصى إليه أن يتصدق بمال ذكره فإنه يصح، وتعيين المعطي إلى الوكيل أو الوصي هذا هو الذي ذكروه في الوصية والوكالة مثلها، وكذلك لو وكله أو أوصى إليه بإخراج حجة عنه وإن وكله أو أوصى إليه أن يقف عنه شيئا ولم يعين مصرفا فينبغي أن يكون كالصدقة فإن المصرف للوقف كالمصرف للصدقة، ويبقى إلى الوكيل والوصي تعيين المصرف وإن عين مصرفا منقطعا فينبغي أن يكون إلى الوصي تتميمه بذكر مصرف مؤبد إلا أن يقال الصدقة لها جهة معلومة بالشرع والعرف وهم الفقراء، وإنما النظر للوصي في تعيين أفراد الجهة، بخلاف الوقف فإنه لا يتبين له جهة معينة شرعا ولا عرفا فالكلام في هذا ينبغي أن يكون كما لو نذر أن يقف أو يتصدق.

وحديث أبي طلحة يقتضي أن من نذر الصدقة بمال فإن الأفضل أن يصرفه في أقربيه، وإن كان سهم غني وهذا يقتضي أن الصدقة المطلقة في النذر ليست محمولة على الصدقة الواجبة في الشرع لكن على جنس المستحبة شرعا، ويتوجه على أدنى الواجب أو أدنى التطوع، فبين الوكالة والإيمان مشابهات، والوكيل أمين لا ضمان عليه ولو عزل قبل علمه بالعزل وقلنا ينعزل لعدم تفريطه، وكذا لا يضمن مشتر الأجرة إذا لم يعلم، وهو أحد القولين. ومن وكل في بيع أو استئجار أو شراء فإن لم يسم الموكل في العقد فضامن، وإلا فروايتان وظاهر المذهب تضمينه، ولو تصرف الوكيل فادعى الموكل أنه عزله قبل التصرف لم يقبل، فلو أقام بينة ببلد آخر وحكم به حاكم فإن لم ينعزل قبل العلم صح تصرفه وإلا كان حكما على الغائب، ولو حكم قبل هذا الحكم بالصحة حاكم لا يرى عزله قبل العلم، فإن كان قد بلغه ذلك بعد الحكم الناقض له فهو مردود، وإلا وجوده كعدمه.

قال القاضي في المجرد ": وابن عقيل في " الفصول ": ولو جاء رجل إلى امرأة فقال لها وكلني فلان لأزوجك له فرغبت في ذلك وأذنت لوليها في تزويجها ثم إن ذلك الموكل أنكر أن يكون وكله في التزويج له، فالقول قوله ولا يلزمه النكاح ولا تلزم للوكيل بل يحكم ببطلانه، ويتفرع على هذا أن الرجل إذا وكل وكيلا في أن يتزوج له امرأة فتزوجها فلا بد أن يذكر حال العقد أنه تزوجها لفلان، فإن أطلق ولم يسم الموكل لم يلزمه النكاح في حقه ولا في حق الموكل ؛ لأن الظاهر أنه عقد العقد لنفسه ونيته أن يعقده لغيره، وإذا لم يذكر اسم ذلك الغير فقد أخل بالمقصود، ولو وكله أن يشتري له سلعة فاشتراها لم يشترط في صحة العقد ذكر فلان، بل إذا أطلق ونوى الشراء له صح لأن القصد منه حصول الثمن وقد وجد، وإذا بطل عقد النكاح في حقهما فهل يلزم الوكيل نصف الصداق على روايتين. قال أبو العباس: فقد جعلا فيما إذا لم يسم الوكيل الموكل في العقد روايتين وهذا فيه نظر، بل إذا قال: زوجتك فلانة فقال قبلت فقد انعقد النكاح في الظاهر للوكيل، فإذا قال نويت أن النكاح لموكلي فهو يدعي فساد العقد وأن الزوج غيره فلا يقبل قوله على المرأة إلا أن تصدقه، ولو صدقته لم يلزمه شيء قولا واحدا إلا أن هنا الإنكار من الزوج بخلاف مسألة إنكار الوكالة، ولو قبل منه فتزوج غيرها ثم كتب لزوجته الجديدة وكالة، وقال متى رددتها كان طلاقها بيدك إلى مدة عشرين سنة، وقد طلق التي بيدها الوكالة. فهذه المسألة قد يظن من يظن أن الوكالة بحالها، بناء على أن الزوج إذا وكل امرأته في بيع ونحوه ثم طلقها ثلاثا لم تبطل الوكالة بالتطليق كما ذكره الفقهاء وليست كتلك، والصواب في هذه الصورة أنها تبطل بالتطليق لأنه هناك لم يرد أن يطلقها، وقد استناب غيره في ذلك، وإنما يريد أن يبيع متاعه فيوكل شخصا وهنا المراد تمكينها هي من الطلاق لئلا تبقى زوجة إلا برضاها. وأما بعد البينونة فلا يقصد رضاها كيف وقد طلقها، وهذا كله إذا جعل الشرط لازما وأما إذا لم يجعله شرطا لازما فيكون كما لو قال لها ابتداء: أمرك بيدك، أو أمر فلانة بيدك، فإن هذا له الرجوع فيه، قال الأصحاب: ومن ادعى الوكالة في استيفاء حق فصدقه الغريم لم يلزمه الدفع إليه ولا اليمين إن كذبه، والذي يجب أن يقال: إن الغريم متى غلب على ظنه أن الموكل لا ينكر وجب عليه التسليم فيما بينه وبين الله تعالى الذي بعث النبي إلى وكيله وعلم له علامة، فهل يقول أحد: إن ذلك الوكيل لم يكن يجب عليه الدفع. وأما في القضاء فإن كان الموكل عدلا وجب الحكم لأن العدل لا يجحد، والظاهر أنه لا يستثني، فإن دفع من عنده الحق إلى الوكيل ولم يصدقه بأنه وكيل وأنكر صاحب الحق الوكالة رجع عليه وفاقا، ومجرد التسليم ليس تصديقا وكذا إن صدقه في أحد قولي أصحابنا، بل نص إمامنا وهو قول مالك ؛ لأنه متى لم يتبين صدقه فقد غره. وكل إقرار كذب فيه ليحصل بما يمكن أساءه ويجعل أنسا مثل أن يقول: وكلت فلانا ولم توكله فهو نظير أن يجحد الوصية، فهل يكون جحده رجوعا، ففيه وجهان، وإذا اشترى شيئا من موكله أو موليه كان الملك للموكل والمولى عليه ولو نوى شراءه لنفسه لأن له ولاية الشراء وليس كالغصب لكن لو نوى أن يقع الملك له وهذه نية محرمة فتقع باطلة، ويصير كأن العقد عري عنها إذا كان يريد النقد من مال المولى عليه أو الموكل، قال أبو العباس في تعاليقه القديمة حديث عروة في شراء الشاة يدل على أن الوكيل في شراء معلوم بمعلوم إذا اشترى به أكثر من المقدر جاز له بيع الفاضل، وكذا ينبغي أن يكون الحكم ويغلب على ظني أنه منقول كذا حسبه في كفالة الكافي. قلت: ما قاله أبو العباس من النقل فصحيح، قال صاحب " الكافي " ظاهر كلام أحمد صحة ذلك الحديث عن عروة ولكن ذكره في وكالة الكافي فنسب العلم لأبي العباس فكتب كفالة الكافي والله أعلم.

فصل الاشتراك في مجرد الملك بالعقد، مثل أن يكون بينهما عقار فيشيعانه أو يتعاقد على أن المال الذي لهما المعروف بهما بينهما يكون نصفين ونحو ذلك، مع تساوي ملكهما فيه فجوازه متوجه، لكن يكون قياس ما ذكروه في الشركة أنه ليس بيعا، كما أن القسمة ليست بيعا ولا نفقة للمضارب إلا بشرط أو عادة، فإن شرطت مطلقا فله نفقة مثل طعامه وكسوته، وقد يخرج لنا أن للمضارب في السفر الزيادة على نفقة الحضر كما قلنا في الولي إذا جحد الصبي ؛ لأن الزيادة إنما احتاج إليها لأجل المال. وقال أبو العباس أيضا يتوجه فيها ما قلناه في نفعه في الصبي إذا أحجه الولي هل يكون الزائد فيها من مال الصبي أو مال الولي على القولين كذلك، وقد ثبت من أصلنا صحة الاشتراك في العقود وإن تختلط الأعيان، كما تصح الأقسام بالمحاسبة وإن لم تتميز الأعيان. ولو دفع دابته أو نخلة إلى من يقوم به وله جزء من ثمانية صح، وهو رواية عن أحمد ويجوز قسمة الدين في ذمة أو ذمم وهو رواية عن أحمد، فإن تكافأت الذمم فقياس المذهب في الحوالة على ولي وجوبها ولو كتب رب المال للجابي والسمسار ورقة ليسلمها إلى الصبي في المتسلم ماله، وأمره أن لا يسلمه حتى يقتص منه، فخالف ضمن لتفريطه، ويصدق الصبي مع يمينه والورقة شاهدة له ؛ لأن العادة جارية بذلك، وتصح شركة الشهود، وللشاهد أن يقيم مقامه إن كان الجعل على عمل في الذمة. وإن كان على شهادته بعينه فالأصح جوازه، وللحاكم أن يكرههم لأن له نظرا في العدالة وغيرها، وإن اشتركوا على أن كل ما حصله كل واحد منهم بينهم بحيث إذا كتب أحدهم وشهد شاركه الآخر، وإن لم يعمل فهي شركة الأبدان تجوز بحيث تجوز به الوكالة وأما حيث لا تجوز ففيه وجهان، كشركة الدلالين. وقد نص أحمد على جوازها فقال في رواية أبي داود وقد سئل عن الرجل يأخذ الثوب ليبيعه فيدفعه إلى الآخر يبيعه ويناصفه فيما يأخذ من الكراء، للذي باعه إلا أن يكون يشتركان فيما أصابا، ووجه صحتها أن بيع الدلال وشراءه بمنزلة خياطة الخياط وتجارة التجار وسائر الأجراء المشتركين. ولكل منهم أن يستنيب، وإن لم يكن للوكيل أن يوكل ومأخذ من منع أن الدلالة من باب الوكالة، وسائر الصناعات من باب الإجارة وليس الأمر كذلك، ومحل الخلاف في شركة الدلالين التي فيها عقد. فأما مجرد النداء والعرض وإحضار الديون فلا خلاف في جوازه، وتسليم الأموال إلى الدلالين مع العلم باشتراكهم إذن لهم ولو باع كل واحد ما أخذه ولم يعط غيره واشتركا في الكسب جاز في أظهر الوجهين، وموجب العقد المطلق التساوي في العمل، وأما بإعطائه زيادة في الأجرة بقدر عمل. وإن اتفقوا على أن يشترطوا له زيادة جاز، وليس لولي الأمر المنع بمقتضى مذهبه في شركة الأبدان والوجوه والمساقاة والمزارعة ونحوها مما يشرع فيه الاجتهاد والربح الحاصل من مال لم يأذن مالكه في التجارة فيه، فقيل هو للمالك فقط كنماء الأعناب، وقيل للعامل فقط لأن عليه الضمان، وقيل يتصدقان به لأنه ربح خبيث. وقيل يكون على قدر النفعين بحسب معرفة أهل الخبرة وهو أصحها، وبه حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلا أن يتجر به على غير وجه العدوان. مثل أن يعتقد أنه مال نفسه فتبين مال غيره، فهنا يقتسمان الربح بلا ريب. وذكر أبو العباس في موضع آخر: أنه إن كان عالما بأنه مال الغير فهنا يتوجه قول من لا يعطه شيئا لأنه حصل بعمل محرم، فلا يكون سببا للإباحة، فإن تاب سقط حق الله بالتوبة وأبيح له حينئذ بالقسمة فأما إذا لم يتب ففي حله نظر، وكذلك المتوجه فيما إذا غصب شيئا كفرس وكسب به مالا كالصيد أن يجعل المكسوب بين الغاصب ومالك الدابة على قدر نفعهما. بأن تقوم منفعة الراكب ومنفعة الفرس ثم يقسم الصيد بينهما، وأما إذا كسب العبد فالواجب أن يعطي المالك أكثر من الأمرين من كسبه أو قيمة نفعه، ومن كانت بينهما أعيان مشتركة مما يكال أو يوزن فأخذ أحدهما قدر حقه بإذن حاكم جاز قولا واحدا وذلك بدون إذنه على الصحيح انتهى.

باب المزارعة والمساقاة

ولو دفع أرضه إلى آخر يغرسها بجزء من الغراس صح كالمزارعة، واختاره أبو حفص العكبري والقاضي في تعليقه وهو ظاهر مذهب أحمد، ولو كانت الأرض مغروسة فعامله بجزء من غراسها صح وهو مقتضى ما ذكره أبو حفص ولا فرق بين أن يكون الغارس ناظر وقف أو غيره. ولا يجوز لناظر بعده نصيب الوقف من الشجرة وللحاكم الحكم بلزومها في محل النزاع فقط، والحكم له من عوض المثل ولو لم تقم به بينة لأنه الأصل، ويجوز للإنسان أن يتصرف فيما في يده بالوقف وغيره حتى تقوم حجة شرعية بأنه ليس ملكا له، لكن لا يحكم بالوقف حتى يثبت الملك ومقتضى قول أبي حفص أنه يجوز أن يغارسه بجزء من الأرض كما جاز النسج بجزء من غزل نفسه، فإن اشترطا في المغارسة أن يكون على الغارس الماء أو بعضه، فالمتوجه أن الماء كالغرس وكالبذر سيجيء مثله في المزارعات. لأن الماء أصل يفنى ومتى كان من العامل أصل فإن فيه روايتان وإن غارسه على أن رب الأرض تكون له دراهم مسماة إلى حين إثمار الشجر، فإذا أثمرت كانا شريكين في الثمر. قال أبو العباس: فهذه لا أعرفها منقولة، وقد يقال هذا لا يجوز، كما إذا اشترط شيئا مقدرا فإنه قد لا يحصل إلا ذلك المشروط فيبقى الآخر لا شيء له لكن الأظهر أن هذا ليس بمحرم، والمناصب على أن عليه سقي الشجر والقيام عليها إذا باع نصيبه من ذلك لمن يقوم مقامه في العمل جاز وصح شرطه، كالمكاتب إذا بيع على كتابته هذا قياس المذهب، وإذا لم يقم الغارس بما شرط عليه كان لرب الأرض الفسخ. فإذا فسخ العامل أو كانت فاسدة فلرب الأرض أن يتملك نصيب الغارس إذا لم يتفقا على القلع. وإذا ترك العامل العمل حتى فسد الثمر فينبغي أن يجب عليه ضمان نصيب المالك، وينظر كم يحيي لو عمل بطريق الاجتهاد. كما يضمن لو يبس الشجر وهذا لأن تركه العمل من غير فسخ العقد حرام وغرر وهو سبب في عدم هذا الثمر، فيكون كما لو تلفت الثمرة تحت اليد العادية مثل أن يغصب الشجر غاصب ويعطلها عن السقي حتى يفسد ثمرها، أما الضمان باليد العادية كالضمان بسبب الإتلاف لا سيما إذا انضم إليه العادية. واستيلاؤه على الشجر مع عدم الوفاء بما شرطه هل هو يد عادية فيه نظر، لكنه سبب في الإتلاف، وهذا في الفوائد نظير المنافع فإن المنافع لم توجد وإنما الغاصب منع من استيفائها وحاصله أن الإتلاف نوعان: إعدام موجود وتفويت لمعدوم انعقد سبب وجوده وهذا تفويت. وعلى هذا فالعامل في المزارعة إذا ترك العمل فقد استولى على الأرض وفوت نفعها، فينبغي أيضا ضمان إتلاف أو ضمان إتلاف ويد، لكن هل يضمن أجرة المثل أو يضمن ما جرت به العادة في مثل تلك الأرض، مثل أن يكون الزرع في مثلها معروفا فيقاس بمثلها. أما على ما ذكره أصحابنا فينبغي أن يضمن بأجرة المثل، والأصوب الأقيس بالمذهب أن يضمن بمثل ما يثبت، وعلى هذا فلا يكون ضمان يد وإنما هو ضمان تعزير والمزارعة أحل من الإجارة لاشتراكهما في الغنم والمغرم، ولا يشترط كون البذر من رب الأرض وهو رواية عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه، ولو كان من إنسان الأرض ومن ثان العمل ومن ثالث البذر ومن رابع البقر صح وهو رواية عن أحمد. وإذا نبت الزرع من الحب المشترك قسم الزرع على قدر منفعة الأرض والحب في أصح القولين، وإن شرط صاحب البذر أن يأخذ مثل بذره ويقتسمان الباقي جاز كالمضاربة وكاقتسامهما ما يبقى بعد الكلف، وإذا صحت المزارعة فيلزم المقطع عشر نصيبه ومن قال العشر كله على الفلاح فقد خالف الإجماع، وإن ألزموا الفلاح به فمسألة الظفر والحق ظاهر فيجوز له قدر ما ظلم به والمساح على المالك، ويتبع في الكلف السلطانية العرف ما لم يكن شرط، وما طولب من القرية من الوظائف السلطانية ونحوها فعل قدر الأموال، وإن وضعت على الزرع فعلى ربه، وإن منعت مطلقا فالعادة. ولا يجوز أن يشترط المقطع على الفلاح شيئا مأكولا. وما يؤخذ من نصيب الفلاح للقطع، والعشر والرئاسة إن كانت لو دفعت مقاسمة قسمت أو جرت العادة بمقدار فأخذ قدره فلا بأس، وهدية الفلاح للمقطع إنما هي بسبب الإقطاع فينبغي أن يحسها له مما عنده أو لا يأخذها.

وإذا فسدت المزارعة أو المساقاة أو المضاربة استحق العامل نصيب المثل وهو ما جرت العادة في مثله لا أجرة المثل، وإذا كنا نقول في الغاصب إن زرعه لرب الأرض وعليه النفقة، فلأن نقول مثل ذلك في المزارعة الفاسدة إن الزرع لرب الأرض وإن كان البذر لغيره أولى، والله أعلم.

باب الإجارة

وهل تنعقد الإجارة بلفظ البيع فيه وجهان يثبتان على أن هذه المعاوضة نوع من البيع أو شبه به، ويصح أن يستأجر الدابة بعلفها وهو رواية عن أحمد وجزم به القاضي في التعليق، ويصح أن يستأجر لابنه ولو جعل الأجرة نفقته نص مالك على جواز إجارة لابنه فمن أصحابه من جوز ذلك تبعا لنصه ومنهم من منع بها مورد النص، ولم يدل عليها نصه. وإذا استأجر لبنه فنقص عن العادة كبعير العادة ببعير العادة في المنفعة بملك المستأجر. وأما الأرش فيجوز إجارة ما قناه مدة وما قابض تركه راماه ويجوز إجارة الشجر لأخذ ثمره والسمع ليشغله، وهو قياس المذهب فيما إذا أجره كل شهر بدرهم ومثله وكلما أعتقت عبدا من عبيدك فعلي ثمنه، فإنه يصح وإن لم يبين العدد والثمن

ويجوز للمؤجر إجارة العين المؤجرة من غير المستأجر في مدة الإجارة. ويقوم المستأجر الثاني مقام المالك في استيفاء الأجرة من المستأجر الأول، وغلط بعض الفقهاء فأفتى في نحو ذلك بفساد الإجارة الثانية ظنا منه أن هذا كبيع المبيع، وأنه تصرف فيما لا يملك وليس كذلك، بل هو تصرف فيما استحقه على المستأجر ويجوز إجارة الإقطاع. قال أبو العباس: وما علمت أحدا من علماء الإسلام الأئمة الأربعة قال: إجارة الإقطاع لا تجوز حتى حدث بعض أهل زماننا فابتدع القول بعدم الجواز ويجوز للمستأجر إجارة العين المؤجرة لمن يقوم مقامه بمثل الأجرة وزيادة، وهو ظاهر مذهب أحمد والشافعي، فإن شرط المؤجر على المستأجر أن لا يستوفي المنفعة إلا بنفسه أو أن لا يؤجرها إلا لعدل أو لا يؤجرها من زيد. قال أبو العباس: فقياس المذهب فيما أراه أنها شروط صحيحة، لكن لو تعذر على المستأجر الاستيفاء بنفسه لمرض أو تلف مال أو إرادة سفر ونحو ذلك، فينبغي أن يثبت له الفسخ كما لو تعذر تسليم المنفعة، ولو اضطر إلى السكنى في بيت إنسان لا يجد سواه، أو النزول في خان مملوك أو رحا للطحن أو غير ذلك من المنافع وجب بدله بأجرة المثل بلا نزاع، والأظهر أنه يجب بدله محاباة ظاهر المذهب.

ويجوز أن يأخذ الأجرة على تعليم الفقه والحديث ونحوهما إن كان محتاجا وهو وجه في المذهب، ولا يصح الاستئجار على القراءة وإهدائها إلى الميت لأنه لم ينقل عن أحد من الأئمة الإذن في ذلك. وقد قال العلماء إن القارئ إذا قرأ لأجل المال فلا ثواب له، فأي شيء يهدى إلى الميت وإنما يصل إلى الميت العمل الصالح، والاستئجار على مجرد التلاوة لم يقل به أحد من الأئمة، وإنما تنازعوا في الاستئجار على التعليم ولا بأس بجواز أخذ الأجرة على الرقية ونص عليه أحمد.

والمستحب أن يأخذ الحاج عن غيره ليحج لا أن يحج ليأخذ فمن أحب إبرار الميت برؤية المشاعر يأخذ ليحج ومثله كل رزق أخذ على عمل صالح ففرق بين من يقصد الدين والدنيا وسيلته وعكسه، فالأشبه أن عكسه ليس له في الآخرة من خلاق، والأعمال التي يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة هل يجوز إيقاعها غير وجه القربة. فمن قال لا يجوز ذلك لم يجز الإجارة عليها لأنها بالعوض تقع غير قربة، وإنما الأعمال بالنيات، والله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، ومن جوز الإجارة جوز إيقاعها على وجه القربة، وقال تجوز الإجارة عليها لما فيها من نفع المستأجر. وأما ما يؤخذ من بيت المال فليس عوضا وأجرة بل رزق للإعانة على الطاعة فمن عمل منهم لله أثيب وما يأخذه رزق للإعانة على الطاعة. وكذلك المال الموقوف على أعمال البر والموصى به والمنذور كذلك ليس كالأجرة.

والجعل في الإجارة إلى ما له الاختصاص، فلو استأجر أرضا من جندي ثم غرسها قضبا وانتقل الإقطاع إلى آخر فالجندي الثاني لا يلزمه حكم الإجارة الأولى وله أن يؤجرها لمن له فيها القضب وكذا لغيره على الصحيح، ويقوم ذلك المؤجر فيها مقام المؤجر الأول، وإذا وقعت الإجارة بالأشهر فالذي وقع في أثناء الشهر ففيه عن أحمد روايتان إحداهما يعتبر ذلك الشهر الذي وقع فيه الإنبات بالعدد، وباقي الشهور بالأهلة. وعلى هذه الرواية فإنما يعتبر الشهر الأول بحسب تمامه ونقصانه، فإن كان تاما كمل تاما، وإن كان ناقصا كمل ناقصا، فإذا وقع أول المدة في عاشر الشهر مثلا كمل ذلك الشهر في عاشر الشهر الثاني إن كان الشهر الأول ناقصا وليس للوكيل أن يطلق في الإجارة مدة طويلة، بل العرف كسنتين ونحوهما. وإذا شرط الواقف أن النظر للموقوف عليه أو أتى بلفظ يدل على ذلك، فأفتى بعض أصحابنا أن إجارته كإجارة الناظر وعلى ما ذكره ابن أحمد أن ليس كذلك، وهو الأشبه وتنفسخ إجارة البطن الأول إذا انتقل الوقف إلى البطن الثاني في أصح الوجهين.

وصناعة التنجيم وأخذ الأجرة عليها وبذلها حرام بإجماع المسلمين، وعلى ولاة أمور المسلمين المنع من ذلك والقيام في ذلك من أفضل الجهاد في سبيل الله.

وإذا ركب المؤجر إلى شخص ليؤجره لم يجز لغيره الزيادة عليه، فكيف إذا كان المستأجر ساكنا في الدار فإنه لا تجوز الزيادة على ساكن الدار، وإذا وقعت الإجارة صحيحة فهي لازمة من الطرفين ليس للمؤجر الفسخ لأجل زيادة حصلت باتفاق الأئمة. وما ذكره بعض متأخري الفقهاء من التفريق بين أن تكون الزيادة بقدر الثلث فتقبل الزيادة أو أقل فلا تقبل فهو قول مبتدع لا أصل له عن أحد من الأئمة لا في الوقف ولا في غيره، ولو التزم المستأجر بهذه الزيادة على الوجه المذكور لم تلزمه اتفاقا، ولو التزمها بطيب نفس منه في لزومها له قولان. فعند الشافعي وأحمد لا تلزمه أيضا بناء على أن إلحاق الزيادة والشروط بالعقود اللازمة لا يصح، وتلزمه إذا فعلها بطيب نفس منه متبرعا بذلك في القول الآخر وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في القول الآخر بناء على أنه تلحق الزيادة بالعقود اللازمة. لكن إذا كانت العادة لم تجر بأن أحد هؤلاء يلحقها بطيب نفسه، ولكن خوفا من الإخراج، فحينئذ لا تلزمهم بالاتفاق بل لهم استرجاعها ممن قبضها منهم وأجرة المثل ليست شيئا محدودا. وإنما هي ما تساوي الشيء في نفوس أهل الرغبة، ولا عبرة بما يحدث في أثناء المدة من ارتفاع الكراء أو انخفاضه، ولو استأجر تفاحة يحتمل الجواز ويجوز إجارة المقصبة ليقوم عليها المستأجر ويسقيها فتنبت العروق التي فيها بمنزلة من يسقي الأرض لينبت فيها الكلأ بلا بذر، وإذا عمل الأجير بعض العمل أعطي من الأجرة بقدر ما عمل، وإذا مات المستأجر لم يلزم ورثته تعجيل الأجرة في أصح قولي العلماء. وهذا على قول من يقول لا يحل الدين بالموت ظاهر وكذا على قول من يقول بحلوله في أظهر قوليهم إذ يفرقون بين الإجارة وغيرها كما يفرقون في الأرض المحتكرة إذا بيعت أو ورثت فإن الحكر يكون على المشتري والوارث وليس لأصحاب الحكر أخذ الحكر من البائع ومن تركة الميت في أظهر قولي العلماء

ويجوز الجمع بين البيع والإجارة في عقد واحد في أظهر قوليهم ولا يجوز أن يستأجر من يصلي معه نافلة ولا فريضة في جنبه ولا يمينه باتفاق الأئمة وإذا تقايلا الإجارة أو فسخها المستأجر بحق وكان حرثها فله ذلك وليس لأحد أن يقطع غراس المستأجر وزرعه سواء كانت الإجارة صحيحة أو فاسدة بل إذا بقي فعليه أجرة المثل. وترك القابلة ونحوها الأجرة لحاجة المقبولة أفضل من أخذها الصدقة بها. وإجارة المضاف يفسر بشيئين أن يؤجر سنة أو سنتين، والثاني أن يؤجر مدة لا يمكن الانتفاع بالمأخوذ لما استؤجر له في المدة فمن الحكام من يرى أن الإجارة لا تجوز إلا إذا أمكن الانتفاع بالعين عقب العقد، فإن أراد أن يستأجر الأرض للازدراع ونحوه كتب فيها أنه استأجرها مقيلا ومراحا ومزدرعا ونحو ذلك لتكون المنفعة ممكنة حالة العقد ونصوص الإمام أحمد كثيرة في المنع من إجارة المسلم داره من أهل الذمة وبيعها لهم واختلف الأصحاب في هذا المنع هل هو كراهة تنزيه أو تحريم فأطلق أبو علي وأبو موسى والآمدي بالكراهة. وأما الخلال وصاحبه فمقتضى كلامهما وكلام القاضي تحريم ذلك، وكلام أحمد يحتمل الأمرين وهذا الخلاف عندنا والتردد في الكراهة إنما محله إذا لم يعقد الإجارة على المنفعة المحرمة فأما إن أجره إياها لأجل بيع الخمر واتخاذها كنيسة لم يجز قولا واحدا.

قال أبو طالب: سألت أبا عبد الله عن الرجل يغسل الميت بكراء ؟ قال: بكراء، ؟ واستعظم ذلك. قلت: يقول أنا فقير، قال: هذا كسب سوء. ووجه هذا النص أن تغسيل الموتى من أعمال البر والتكسب بذلك يؤذن بتمني موت المسلمين فنسبه إلى الاحتكار قال أصحابنا يستحب أن يعطى الظئر عند الفطام عبدا أو أمة إذا أمكن للخبر ولعل هذا في المتبرعة بالرضاع وأما في الإجارة فلا يفتقر إلى تقدير عوض ولا إلى صيغة بل ما جرت العادة بأنه إجارة فهو إجارة يستحق فيه أجرة المثل في أظهر قولي العلماء.

نقل أحمد بن الحسين قال سأل رجل أحمد بن حنبل وأنا أسمع عن رجل يأخذ الأجرة على كتابة العلم فقال أبو عبد الله: أكرهه لا نأخذ على شيء من أعمال البر أجرة وكان أبو عيينة لا يراه قال القاضي ظاهر هذا المنع. قال أبو العباس: لعله مع الغنى وإلا فهو بعيد قال القاضي في التعليق ": إذا دفع إلى دلال ثوبا أو دارا وقال له: بع هذا فمضى وعرض ذلك على جماعة مشترين وعرف ذلك صاحب المبيع فامتنع من البيع وأخذ السلعة ثم باعها هو من ذلك المشتري أو من غيره لم تلزمه أجرة الدلال للمبيع لأن الأجرة إنما جعلها في مقابلة العقد وما حصل له ذلك. قال أبو العباس: الواجب أن يستحق من الأجرة بقدر ما عمل وهذه من مسائل الجعلات وتصح إجارة الأرض للزرع ببعض الخارج منها وهو ظاهر المذهب وقول الجمهور قال ابن منصور: قلت لأحمد: الرجل يستأجر البيت إذا شاء أخرجه وإذا شاء خرج قال قد وجب فيهما إلى أجله إلا أن يهدم البيت أو يغرق الدار أو يموت البعير فلا ينتفع المستأجر بما استأجر فيكون عليه بحساب ما سكن أو ركب قال القاضي ظاهر هذا أن الشرط الفاسد لا يبطل الإجارة. وقال أبو العباس: هذا اشتراط النجار لكنه في جميع المدة مع الإذن في الانتفاع فإذا ترك الأجير ما يلزمه عمله بلا عذر فتلف ما استؤجر عليه ضمنه وللمستأجر مطالبة المؤجر بالعمارة وهي واجبة من وجهين من جهة حق أهل الوقف ومن جهة حق المستأجر.

واتخاذ الحجامة صناعة يتكسب بها هو مما نهي عنه عند إمكان الاستغناء عنه فإنه يفضي إلى كثرة مباشرة النجاسات والاعتناء بها لكن إذا عمل ذلك العمل بالعوض استحقه وإلا فلا يجتمع عليه استعماله في مباشرة النجاسة وحرمانه أجرته ونهي عن أكله مع الاستغناء عنه مع أنه ملكه وإذا كانت عليه نفقة رقيق أو بهائم يحتاج إلى نفقتها أنفق عليها من ذلك لئلا يفسد ماله إذا كان الرجل محتاجا إلى هذا الكسب ليس له ما يغنيه عنه إلا المسألة للناس فهو خير له من مسألة الناس كما قال بعض السلف كسب فيه دناءة خير من مسألة الناس.

وإذا بيعت العين المؤجرة أو المرهونة ونحوهما به تعلق حق غير البائع وهو عالم بالعيب فلم يتكلم فينبغي أن يقال: لا يملك المطالبة بفساد البيع بعد هذا لأن إخباره بالعيب واجب عليه بالسنة بقوله ولا يحل لمن علم ذلك إلا إن بينه فكتمانه تغرير والغار ضامن وكذا ينبغي أن يقال فيما إذا رأى عيبا فلم ينهه وفي جميع المواضع فإن المذاهب أن السكوت لا يكون إذنا فلا يصح التصرف لكن إذا لم يصح يكون تغريرا فيكون ضامنا بحيث إنه ليس له أن يطالب المشتري بالضمان فإن ترك الواجب عندنا كفعل المحرم كما يقال فيمن قدر على إنجاء إنسان من هلاكه بل الضمان هنا أقوى. وظاهر كلام الإمام أحمد في رواية الميموني أن من باع العين المؤجرة ولم يتبين للمشتري أنها مستأجرة أنه لا يصح البيع ووجهه أنه باع ملكه وملك غيره فهي مسألة تفريق الصفة.

فصل والعارية تجب مع غناء المالك وهو أحد القولين في مذهب أحمد وهي مضمونة يشترط ضمانها وهي رواية عن أحمد ولو سلم شريك شريكه دابة فتلفت بلا تعد ولا تفريط لم يضمن وقياس المذهب إذا قال: أعرتك دابتي لتعلفها أن هذا يصح لأن أكثر ما فيه أنه بمنزلة استئجار العبد بطعامه وكسوته لكن دخول العوض فيه يلحقه بالإجارة إلا أن يكون ذلك يسيرا لا يبلغ أجرة المثل بلا تعد فيكون حكم العارية باقيا وهذا في المنافع نظير الهبة المشروط فيها الثواب في الأعيان. قال أبو العباس: في قديم خطه نفقة العين المعارة تجب على المالك أو على المستعير لا أعرف فيها نقلا إلا أن قياس المذهب فيما يظهر لي أنها تجب على المستعير لأنهم قد قالوا: إنه يجب عليه مؤنة ردها وضمانها إذا تلفت وهذا دليل على أنه يجب عليه ردها إلى صاحبها كما أخذها منه سوى نقص المنافع المأذون له فيها ثم إنه خطر لي أنها تخرج على الأوجه في نفقة الدار الموصى بمنفعتها فقط أحدها: يجب على المالك لكن فيه نظر، وثانيها على المالك للنفع، وثالثها في كسبها فإن قيل هناك المنفعة مستحقة وليس كذلك هنا فإن مالك الرقبة هو مالك المنفعة غير أن المستعير ينتفع بها بطريق الإباحة وهذا يقوي وجوبها على المعير والأصل الأول يقوي وجوبها على المستعير ثم أقول: هذا لا تأثير له في مسألتنا فإن المنفعة حاصلة في الأصل والفرع ثم كونه يملك انتزاع المنفعة من يده غير مؤثر بدليل ما لو كان واهب المنفعة أبا وكان الموهوب له ابنه وهذه في غير صورة الوصية قلت ذكر هذه المسألة أبو المعالي بن المنجا في " شرح الهداية " فقال: ونفقة العين المعارة واجبة على المعير ووافقه في " الرعاية " وقال وعلى المستعير مؤنة رد المعار لا مؤنة عينه وذكر الحلواني في " التبصرة " أنها على المستعير، والله سبحانه وتعالى أعلم.