انتقل إلى المحتوى

إغاثة اللهفان/الباب الثاني عشر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
الباب الحادي عشر: في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه
الباب الثالث عشر: في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم ←


الباب الثاني عشر في علاج مرض القلب بالشيطان

هذا الباب من أهم أبواب الكتاب وأعظمها نفعا والمتأخرون من أرباب السلوك لم يعتنوا به اعتناءهم بذكر النفس وعيوبها وآفاتها فإنهم توسعوا في ذلك وقصروا في هذا الباب

ومن تأمل القرآن والسنة وجد اعتناءهما بذكر الشيطان وكيده ومحاربته أكثر من ذكر النفس فإن النفس المذمومة ذكرت في قوله: إن النفس لامارة بالسوء [ يوسف: 53 ] واللوامة في قوله: ولا أقسم بالنفس اللوامة [ القيامة: 2 ] وذكرت النفس المذمومة في قوله: ونهى النفس عن الهوى [ النازعات: 40 ] وأما الشيطان فذكر في عدة مواضع وأفردت له سورة تامة فتحذير الرب تعالى لعباده منه جاء أكثر من تحذيره من النفس وهذا هو الذي لا ينبغي غيره فإن شر النفس وفسادها ينشأ من وسوسته فهي مركبه وموضع شرعه ومحل طاعته وقد أمر الله سبحانه بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن وغير ذلك وهذا لشدة الحاجة إلى التعوذ منه ولم يأمر بالاستعاذة من النفس في موضع واحد وإنما جاءت الاستعاذة من شرها في خطبة الحاجة في قوله ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا كما تقدم ذلك في الباب الذي قبله وقد جمع النبي بين الاستعاذة من الأمرين في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله علمني شيئا أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت قال: قل: اللهم عالم الغيب والشهادة فاطر السموات والأرض رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك

فقد تضمن هذا الحديث الشريف الاستعاذة من الشر وأسبابه وغايته فإن الشر كله إما أن يصدر من النفس أو من الشيطان وغايته: إما أن تعود على العامل أو على أخيه المسلم فتضمن الحديث مصدري الشر اللذين يصدر عنهما وغايتيه اللتين يصل إليهما

فصل

قال تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون

ومعنى استعذ بالله: امتنع به واعتصم به والجأ إليه ومصدره العوذ والعياذ والمعاذ وغالب استعماله في المستعاذ به ومنه قوله لقد عذت بمعاذ وأصل اللفظة: من اللجأ إلى الشيء والاقتراب منه ومن كلام العرب أطيب اللحم عوذه: أي الذي قد عاذ بالعظم واتصل به وناقة عائذ: يعوذ بها ولدها وجمعها عوذ كحمر ومنه في حديث الحذيبية معهم العوذ المطافيل والمطافيل: [ جمع ] مطفل وهي الناقة التي معها فصيلها

قالت طائفة منهم صاحب جامع الأصول: استعار ذلك للنساء أي معهم النساء وأطفالهم ولا حاجة إلى ذلك بل اللفظ على حقيقته أي قد خرجوا إليك بدوابهم ومراكبهم حتى أخرجوا معهم النوق التي معها أولادها فأمر سبحانه بالاستعاذة به من الشيطان عند قراءة القرآن وفي ذلك وجوه:

منها: أن القرآن شفاء لما في الصدور يذهب لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة فهو دواء لما أمره فيها الشيطان فأمر أن يطرد مادة الداء ويخلى منه القلب ليصادف الدواء محلا خاليا فيتمكن منه ويؤثر فيه كما قيل:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى... فصادف قلبا خاليا فتمكنا

فيجيء هذا الدواء الشافي إلى القلب قد خلا من مزاحم ومضاد له فينجع فيه

ومنها: أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب كما أن الماء مادة النبات والشيطان نار يحرق النبات أولا فأولا فكلما أحس بنبات الخير من القلب سعى في إفساده وإحراقه فأمر أن يستعيذ بالله تعالى منه لئلا يفسد عليه ما يحصل له بالقرآن

والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أن الاستعاذة في الوجه الأول لأجل حصول فائدة القرآن وفي الوجه الثاني لأجل بقائها وحفظها وثباتها

وكأن من قال إن الاستعاذة بعد القراءة لاحظ هذا المعنى وهو لعمر الله ملحظ جيد إلا أن السنة وآثار الصحابة إنما جاءت بالاستعاذة قبل الشروع في القراءة وهو قول جمهور الأمة من السلف والخلف وهو محصل للأمرين

ومنها: أن الملائكة تدنو من قارىء القرآن وتستمع لقراءته كما في حديث أسيد بن حضير لما كان يقرأ ورأى مثل الظلة فيها مثل المصابيح فقال  : تلك الملائكة والشيطان ضد الملك وعدوه فأمر القارىء أن يطلب من الله تعالى مباعدة عدوه عنه حتى يحضره خاص ملائكته فهذه منزلة لا يجتمع فيها الملائكة والشياطين

ومنها: أن الشيطان يجلب على القارىء بخيله ورجله حتى يشغله عن المقصود بالقرآن وهو تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد به المتكلم به سبحانه فيحرص بجهده على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن فلا يكمل انتفاع القارىء به فأمر عند الشروع أن يستعيذ بالله تعالى منه

ومنها: أن القارىء يناجي الله تعالى بكلامه والله تعالى أشد أذنا للقارىء الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته والشيطان إنما قراءته الشعر والغناء فأمر القارىء أن يطرده بالاستعاذة عند مناجأة الله تعالى واستماع الرب قراءته

ومنها: أن الله سبحانه أخبر أنه ما أرسل من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته والسلف كلهم على أن المعنى: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته قال الشاعر في عثمان:

تمنى كتاب الله أول ليله... وآخره لاقى حمام المقادر

فإذا كان هذا فعله مع الرسل عليهم السلام فكيف بغيرهم ولهذا يغلط القارىء تارة ويخلط عليه القراءة ويشوشها عليه فيخبط عليه لسانه أو يشوش عليه ذهنه وقلبه فإذا حضر عند القراءة لم يعدم منه القارىء هذا أو هذا وربما جمعهما له فكان من أهم الأمور: الاستعاذة بالله تعالى منه

ومنها: أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير أو يدخل فيه فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه وفي الصحيح عن النبي إن شيطانا تفلت على البارحة فأراد أن يقطع على صلاتي الحديث وكلما كان الفعل أنفع للعبد وأحب إلى الله تعالى كان اعتراض الشيطان له أكثر وفي مسند الإمام أحمد من حديث سبرة بن أبي الفاكه أنه سمع يقول: إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرافه فقعد له بطريق الإسلام فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول فعصاه وهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد وهو جهاد النفس والمال فقال: تقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال قال: فعصاه فجاهد

فالشيطان بالرصيد للإنسان على طريق كل خير

وقال منصور عن مجاهد رحمه الله: ما من رفقة تخرج إلى مكة إلا جهز معهم إبليس مثل عدتهم رواه ابن أبي حاتم في تفسيره فهو بالرصد ولا سيما عند قراءة القرآن فأمر سبحانه العبد أن يحارب عدوه الذي يقطع عليه الطريق ويستعيذ بالله تعالى منه أولا ثم يأخذ في السير كما أن المسافر إذا عرض له قاطع طريق اشتغل بدفعه ثم اندفع في سيره

ومنها: أن الاستعاذة قبل القراءة عنوان وإعلام بأن المأتى به بعدها القرآن ولهذا لم تشرع الاستعاذة بين يدي كلام غيره بل الاستعاذة مقدمة وتنبيه للسامع أن الذي يأتي بعدها هو التلاوة فإذا سمع السامع الاستعاذة استعد لاستماع كلام الله تعالى ثم شرع ذلك للقارىء وإن كان وحده لما ذكرنا من الحكم وغيرها

فهذه بعض فوائد الاستعاذة

وقد قال أحمد في رواية حنبل: لا يقرأ في صلاة ولا غير صلاة إلا استعاذ لقوله تعالى: فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم [ النحل: 98 ]

وقال في رواية ابن مشيش: كلما قرأ يستعيذ وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي إذا قرأ استعاذ يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم

وفي المسند والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال: كان النبي إذا قام إلى الصلاة استفتح ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: من همزه ونفخه ونفثه

وقال ابن المنذر: جاء عن النبي أنه كان يقول قبل القراءة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم واختار الشافعي وأبو حنيفة والقاضي في الجامع أنه كان يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وهو رواية عن أحمد لظاهر الآية وحديث ابن المنذر

وعن أحمد من رواية عبد الله: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم لحديث أبي سعيد وهو مذهب الحسن وابن سيرين ويدل عليه ما رواه أبو داود في قصة الإفك: أن النبي جلس وكشف عن وجهه وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

وعن أحمد رواية أخرى أنه يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم وبه قال سفيان الثوري ومسلم بن يسار واختاره القاضي في المجرد وابن عقيل لأن قوله: فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم [ النحل: 98 ] ظاهره أنه يستعيذ بقوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقوله في الآية الأخرى: فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم [ فصلت: 36 ] يقتضي أن يلحق بالاستعاذة وصفه بأنه هو السميع العليم في جملة مستقلة بنفسها مؤكذة بحرف إن لأنه سبحانه هكذا ذكر

وقال إسحاق: الذي أختاره ما ذكر عن النبي اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه

وقد جاء في الحديث تفسير ذلك قال: وهمزه المؤتة ونفخه: الكبر ونفثه: الشعر

وقال تعالى: وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون [ المؤمنون: 97 ] والهمزات: جمع همزة كتمرات وتمرة وأصل الهمز الدفع قال أبو عبيد عن الكسائي: همزته ولمزته ولهزته ونهزته إذا دفعته والتحقيق: أنه دفع بنخز وغمز يشبه الطعن فهو دفع خاص فهمزات الشياطين: دفعهم الوساوس والإغواء إلى القلب قال ابن عباس والحسن: همزات الشياطين: نزغاتهم ووساوسهم وفسرت همزاتهم بنفخهم ونفثهم وهذا قول مجاهد وفسرت بخنقهم وهو الموتة التي تشبه الجنون

وظاهر الحديث أن الهمز نوع غير النفخ والنفث وقد يقال وهو الأظهر إن همزات الشياطين إذا أفردت دخل فيها جميع إصاباتهم لابن آدم وإذا قرنت بالنفخ والنفث كانت نوعا خاصا كنظائر ذلك

ثم قال: وأعوذ بك رب أن يحضرون [ المؤمنون: 98 ] قال ابن زيد: في أموري وقال الكلبي: عند تلاوة القرآن وقال عكرمة: عند النزع والسياق فأمره أن يستعيذ من نوعي شر إصابتهم بالهمز وقربهم ودنوهم منه

فتضمنت الاستعاذة أن لا يمسوه ولا يقربوه وذكر ذلك سبحانه عقيب قوله: ادفع بالتي هى أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون [ المؤمنون: 96 ] فأمره أن يحترز من شر شياطين الإنس بدفع إساءتهم إليه بالتي هي أحسن وأن يدفع شر شياطين الجن بالاستعاذة منهم

ونظير هذا قوله في سورة الأعراف: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين [ الأعراف: 199 ] فأمره بدفع شر الجاهلين بالإعراض عنهم ثم أمره بدفع شر الشيطان بالاستعاذة منه فقال وإما ينزغنك من الشيطان نزع فاستعذ بالله إنه سميع عليم [ الأعراف: 200 ] ونظير ذلك قوله في سورة فصلت: ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هى أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم [ فصلت: 34 ]

فهذا لدفع شر شياطين الإنس ثم قال: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم [ فصلت: 36 ] فأكد بإن وبضمير الفصل وأتى باللام في: السميع العليم وقال في الأعراف: إنه سميع عليم وسر ذلك والله أعلم أنه حيث اقتصر على مجرد الإسم ولم يؤكده أريد إثبات مجرد الوصف الكافى في الاستعاذة والإخبار بأنه سبحانه يسمع ويعلم فيسمع استعاذتك فيجيبك ويعلم ما تستعيذ منه فيدفعه عنك فالسمع لكلام المستعيذ والعلم بالفعل المستعاذ منه وبذلك يحصل مقصود الاستعاذة وهذا المعنى شامل للموضعين وامتاز المذكور في سورة فصلت بمزيد التأكيد والتعريف والتخصيص لأن سياق ذلك بعد إنكاره سبحانه على الذين شكوا في سمعه لقولهم وعلمه بهم كما جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: اجتمع عند البيت ثلاثة نفر قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم فقالوا: أترون الله يسمع ما نقول فقال أحدهم: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا فقال الآخر: إن سمع بعضه سمع كله فأنزل الله تعالى: وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين [ فصلت: 22 ] فجاء التوكيد في قوله: إنه هو السميع العليم في سياق هذا الإنكار: أي هو وحده الذي له كمال قوة السمع وإحاطة العلم لا كما يظن به أعداؤه الجاهلون: أنه لا يسمع إن أخفوا وأنه لا يعلم كثيرا مما يعملون وحسن ذلك أيضا: أن المأمور به في سورة فصلت دفع إساءتهم إليه بإحسانه إليهم وذلك أشق على النفوس من مجرد الإعراض عنهم ولهذا عقبة بقوله وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم [ فصلت: 35 ] فحسن التأكيد لحاجة المستعيذ

وأيضا فإن السياق ههنا لإثبات صفات كماله وأدلة ثبوتها وآيات ربوبيته وشواهد توحيده ولهذا عقب ذلك بقوله ومن آياته الليل والنهار [ فصلت: 37 ] وبقوله: ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة [ فصلت: 39 ] فأتى بأداة التعريف الدالة على أن من أسمائه السميع العليم كما جاءت الأسماء الحسنى كلها معرفة والذي في الأعراف في سياق وعيد المشركين وإخوانهم من الشياطين ووعد المستعيذ بأن له ربا يسمع ويعلم وآلهة المشركين التي عبدوها من دونه ليس لهم أعين يبصرون بها ولا آذان يسمعون بها فإنه سميع عليم وآلهتهم لا تسمع ولا تبصر ولا تعلم فكيف تسوونها به في العبادة فعلمت أنه لا يليق بهذا السياق غير التنكير كما لا يليق بذلك غير التعريف والله أعلم بأسرار كلامه ولما كان المستعاذ منه في سورة حم المؤمن هو شر مجادلة الكفار في آياته وما ترتب عليها من أفعالهم المرئية بالبصر قال: إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير [ غافر: 56 ] فإنه لما كان المستعاذ منه كلامه وأفعالهم المشاهدة عيانا قال: إنه هو السميع البصير وهناك المستعاذ منه غير مشاهد لنا فإنه يرانا هو وقبيله من حيث لا نراه بل هو معلوم بالإيمان وإخبار الله ورسوله

فصل

فالقرآن أرشد إلى دفع هذين العدوين بأسهل الطرق بالاستعاذة والإعراض عن الجاهلين ودفع ودفع إساءتهم بالإحسان وأخبر عن عظم حظ من لقاه ذلك فإنه ينال بذلك كف شر عدوه وانقلابه صديقا ومحبة الناس له وثناءهم عليه وقهر هواه وسلامة قلبه من الغلوالحقد وطمأنينة الناس حتى عدوه إليه هذا غير ما يناله من كرامة الله وحسن ثوابه ورضاه عنه وهذا غاية الحظ عاجلا وآجلا ولما كان ذلك لا ينال إلا بالصبر قال: وما يلقاها إلا الذين صبروا فإن النزق الطائش لا يصبر على المقابلة

ولما كان الغضب مركب الشيطان فتتعاون النفس الغضبية والشيطان على النفس المطمئنة التي تأمر بدفع الإساءة بالإحسان أمر أن يعاونها بالاستعاذة منه فتمد الاستعاذة النفس المطمئنة فتقوى على مقاومة جيش النفس الغضبية ويأتي مدد الصبر الذي يكون النصر معه وجاء مدد الإيمان والتوكل فأبطل سلطان الشيطان ف إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.

قال مجاهد وعكرمة والمفسرون: ليس له حجة

والصواب: أن يقال: ليس له طريق يتسلط به عليهم: لا من جهة الحجة ولا من جهة القدرة والقدرة داخلة في مسمى السلطان وإنما سميت الحجة سلطانا لأن صاحبها يتسلط بها تسلط صاحب القدرة بيده وقد أخبر سبحانه أنه لا سلطان لعدوه على عباده المخلصين المتوكلين فقال في سورة الحجر: قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ الحجر: 39 ]

وقال في سورة النحل: إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ النحل: 99 ] فتضمن ذلك أمرين: أحدهما نفي سلطانه وإبطاله على أهل التوحيد والإخلاص والثاني إثبات سلطانه على أهل الشرك وعلى من تولاه ولما علم عدو الله أن الله تعالى لا يسلطه على أهل التوحيد والإخلاص قال: فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ ص: 83 ]

فعلم عدو الله أن من اعتصم بالله تعالى وأخلص له وتوكل عليه لا يقدر على إغوائه وإضلاله وإنما يكون له السلطان على من تولاه وأشرك مع الله فهؤلاء رعيته فهو وليهم وسلطانهم ومتبوعهم

فإن قيل: فقد أثبت له السلطان على أوليائه في هذا الموضع فكيف ينفيه في قوله: ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك [ سبأ: 20 ]

قيل: إن كان الضمير في قوله: وما كان له عليهم من سلطان. عائدا على المؤمنين فالسؤال ساقط ويكون الاستثناء منقطعا: أي لكن امتحناهم بإبليس لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وإن كان عائدا على ما عاد عليه في قوله: ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه [ سبأ: 20 ] وهو الظاهر ليصح الاستثناء المنقطع بوقوعه بعد النفي ويكون المعنى: وما سلطناه عليهم إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة

قال ابن قتيبة: إن إبليس لما سأل الله تعالى النظرة فأنظره قال: لأغوينهم ولأضلنهم ولآمرنهم بكذا ولأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا وليس هو في وقت هذه المقالة مستيقنا أن ما قدره فيه يتم وإنما قال ظانا فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم فقال تعالى: وما كان تسليطنا إياه إلا لنعلم المؤمنين من الشاكين يعني نعلمهم موجودين ظاهرين فيحق القول ويقع الجزاء

وعلى هذا فيكون السلطان ههنا على من لم يؤمن بالآخرة وشك فيها وهم الذين تولوه وأشركوا به فيكون السلطان ثابتا لا منفيا فتتفق هذه الآية مع سائر الآيات

فإن قيل: فما تصنع بالتي في سورة إبراهيم حيث يقول لأهل النار:

وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي [ ابراهيم: 22 ] وهذا وإن كان قوله فالله سبحانه أخبر به عنه مقررا له لا منكرا فدل على أنه كذلك

قيل: هذا سؤال جيد وجوابه: أن السلطان المنفي في هذا الموضع: هو الحجة والبرهان أي ما كان لي عليكم من حجة وبرهان أحتج به عليكم كما قال ابن عباس: ما كان لي من حجة أحتج بها عليكم أي: ما أظهرت لكم حجة إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي وصدقتم مقالتي واتبعتموني بلا برهان ولا حجة وأما السلطان الذي أثبته في قوله: إنما سلطانه على الذين يتولونه [ النحل: 100 ] فهو تسلطه عليهم بالإغواء والإضلال وتمكنه منهم بحيث يؤزهم إلى الكفر والشرك ويزعجهم إليه ولا يدعهم يتركونه كما قال تعالى: ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا. قال ابن عباس: تغريهم إغراء وفي رواية تشليهم إشلاء وفي لفظ تحرضهم تحريضا وفي آخر تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا وفي آخر توقدهم أي تحركهم كما يحرك الماء بالإيقاد تحته قال الأخفش: توهجهم

وحقيقة ذلك: أن الأز هو التحريك والتهييج ومنه يقال لغليان القدر: الأزيز لأن الماء يتحرك عند الغليان ومنه الحديث: لجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء قال أبو عبيدة: الأزيز الالتهاب والحركة كالتهاب النار في الحطب يقال: از قدرك أي ألهب تحتها بالنار وأيزت القدر إذا اشتد غليانها فقد حصل للأز معنيان: أحدهما: التحريك والثاني: إلايقاد والإلهاب وهما متقاربان فإنه تحريك خاص بإزعاج وإلهاب

فهذا من السلطان الذي له على أوليائه وأهل الشرك ولكن ليس له على ذلك سلطان حجة وبرهان وإنما استجابوا له بمجرد دعوته إياهم لما وافقت أهواءهم وأغراضهم فهم الذين أعانوا على أنفسهم ومكنوا عدوهم من سلطانه عليهم بموافقته ومتابعته فلما أعطوا بأيديهم واستأسروا له سلط عليهم عقوبة لهم وبهذا يظهر معنى قوله سبحانه: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا [ النساء: 141 ] فالآية على عمومها وظاهرها وإنما المؤمنون يصدر منهم من المعصية والمخالفة التي تضاد الإيمان ما يصير به للكافرين عليهم سبيل بحسب تلك المخالفة فهم الذين تسببوا إلى جعل السبيل عليهم كما تسببوا إليه يوم أحد بمعصية الرسول ومخالفته والله سبحانه لم يجعل للشيطان على العبد سلطانا حتى جعل له العبد سبيلا إليه بطاعته والشرك به فجعل الله حينئذ له عليه تسلطا وقهرا فمن وجد خيرا فليحمد الله تعالى ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه

فالتوحيد والتوكل والإخلاص يمنع سلطانه والشرك وفروعه يوجب سلطانه والجميع بقضاء من أزمة الأمور بيده ومردها إليه وله الحجة البالغة فلو شاء لجعل الناس أمة واحدة ولكن أبت حكمته وحمده وملكه إلا ذلك: فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم [ الجاثية: 36 ]


إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن قيم الجوزية
مقدمة المؤلف | الباب الأول: في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت | الباب الثاني: في ذكر حقيقة مرض القلب | الباب الثالث: في انقسام أدوية أمراض القلب إلى طبيعية وشرعية | الباب الرابع: في أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه وموته وظلمته كل شر وفتنة فيه | الباب الخامس: في أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا للحق مريدا له مؤثرا له على غيره | الباب السادس: في أنه لا سعادة للقلب ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه وأحب إليه من كل ما سواه | الباب السابع: في أن القرآن الكريم متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه | الباب الثامن: في زكاة القلب | الباب التاسع: في طهارة القلب من أدرانه وأنجاسه | الباب العاشر: في علامات مرض القلب وصحته | الباب الحادي عشر: في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه | الباب الثاني عشر: في علاج مرض القلب بالشيطان | الباب الثالث عشر: في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34