إغاثة اللهفان/الباب الثالث عشر/25
فصل
والفتنة بعشق الصور تنافي أن يكون دين العبد كله لله بل ينقص من كون دينه لله بحسب ما حصل له من فتنة العشق وربما أخرجت صاحبه من أن يبقى معه شيء من الدين لله قال تعالى 8: 39 وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله
فناقض بين كون الفتنة وبين كون الدين كله فكل منهما يناقض الآخر
والفتنة قد فسرت بالشرك
فما حصلت به فتنة القلوب فهو إما شرك وإما من أسباب الشرك
وهي جنس تحته أنواع من الشبهات والشهوات
وفتنة الذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله من أعظم الفتن
ومنه فتنة أصحاب العجل كما قال تعالى لموسى 20: 85 إنا قد فتنا قومك من بعدك
وكذلك فتنة العشق من أعظم الفتن قال تعالى 9: 49 ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا نزلت في الجد بن قيس لما غزا رسول الله ﷺ تبوك قال له هل لك يا جد في بلاد بني الأصفر تتخذ منهم السراري والوصفاء فقال جد ائذن لي في القعود عنك فقد عرف قومي أني مغرم بالنساء وأني أخشى إن رأيت بنات الأصفر أن لا أصبر عنهن فأنزل الله تعالى هذه الآية
قال ابن زيد يريد لا تفتني بصباحة وجوههن
وقال أبو العالية لا تعرضني للفتنة
وقوله تعالى ألا في الفتنة سقطوا قال قتادة ما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله ﷺ والرغبة بنفسه عنه أعظم
فالفتنة التي فر منها بزعمه هي فتنة محبة النساء وعدم صبره عنهن والفتنة التي وقع فيها هي فتنة الشرك والكفر في الدنيا والعذاب في الآخرة
ولفظ الفتنة في كتاب الله تعالى يراد بها الإمتحان الذي لم يفتتن صاحبه بل خلص من الإفتتان ويراد بها الإمتحان الذي حصل معه افتتان
فمن الأول قوله تعالى لموسى عليه السلام 20: 40 وفتناك فتونا
ومن الثاني قوله تعالى 8: 39 وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة وقوله ألا في الفتنة سقطوا
ويطلق على ما يتناول الأمرين كقوله تعالى 29: 1 آلم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ومنه قول موسى عليه السلام 7: 155 إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أي امتحانك وابتلاؤك تضل بها من وقع فيها وتهدي من نجا منها
وتطلق الفتنة على أعم من ذلك كقوله تعالى 64: 15 إنما أموالكم وأولادكم فتنة قال مقاتل أي بلاء وشغل عن الآخرة قال ابن عباس فلا تطيعوهم في معصية الله تعالى
وقال الزجاج أعلمهم الله تعالى أن الأموال والأولاد مما يفتنون به وهذا عام في جميع الأولاد فإن الإنسان مفتون بولده لأنه ربما عصى الله تعالى بسببه وتناول الحرام لأجله ووقع في العظائم إلا من عصمه الله تعالى
ويشهد لهذا ما روى أن النبي ﷺ كان يخطب فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما وعليهما قميصان أحمران يعثران فنزل النبي ﷺ إليهما فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر وقال صدق الله إنما أموالكم وأولادكم فتنة رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما
وقال ابن مسعود رضي الله عنه لا يقولن أحدكم اللهم إني أعوذ بك من الفتنة فإنه ليس منكم أحد إلا وهو مشتمل على فتنة لأن الله تعالى يقول إنما أموالكم وأولادكم فتنة فأيكم استعاذ فليستعذ بالله تعالى من مضلات الفتن
ومنه قوله تعالى 25: 20 وجعلنا بعضكم لبعض فتنة وهذا عام في جميع الخلق امتحن بعضهم ببعض فامتحن الرسل بالمرسل إليهم ودعوتهم إلى الحق والصبر على أذاهم وتحمل المشاق في تبليغهم رسالات ربهم وامتحن المرسل إليهم بالرسل وهل يطيعونهم وينصرونهم ويصدقونهم أم يكفرون بهم ويردون عليهم ويقاتلونهم وامتحن العلماء بالجهال هل يعلمونهم وينصحونهم ويصبرون على تعليمهم ونصحهم وإرشادهم ولوازم ذلك وامتحن الجهال بالعلماء هل يطيعونهم ويهتدون بهم وامتحن الملوك بالرعية والرعية بالملوك وامتحن الأغنياء بالفقراء والفقراء بالأغنياء وامتحن الضعفاء بالأقوياء والأقوياء بالضعفاء والسادة بالأتباع والأتباع بالسادة وامتحن المالك بمملوكه ومملوكه به وامتحن الرجل بامرأته وامرأته به وامتحن الرجال بالنساء والنساء بالرجال والمؤمنين بالكفار والكفار بالمؤمنين وامتحن الآمرين بالمعروف بمن يأمرونهم وامتحن المأمورين بهم ولذلك كان فقراء المؤمنين وضعفاؤهم من أتباع الرسل فتنة لأغنيائهم ورؤسائهم امتنعوا من الإيمان بعد معرفتهم بصدق الرسل وقالوا: لو كان خيرا ما سبقونا إليه هؤلاء وقالوا لنوح عليه السلام: أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال تعالى: وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا فإذا رأى الشريف الرئيس المسكين الذليل قد سبقه إلى الإيمان ومتابعة الرسول حمى وأنف أن يسلم فيكون مثله وقال: أسلم فأكون أنا وهذا الوضيع على حد سواء
قال الزجاج: كان الرجل الشريف ربما أراد الإسلام فيمتنع منه لئلا يقال: أسلم قبله من هو دونه فيقيم على كفره لئلا يكون للمسلم السابقة عليه في الفضل
ومن كون بعض الناس لبعضهم فتنة: أن الفقير يقول: لم لم أكن مثل الغني ويقول الضعيف: هلا كنت مثل القوى ويقول المبتلى هلا كنت مثل المعافى وقال الكفار: لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله
قال مقاتل: نزلت في افتتان المشركين بفقراء المهاجرين نحو بلال وخباب وصهيب وأبي ذر وابن مسعود وعمار كان كفار قريش يقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين تبعوا محمدا من موالينا وأراذلنا قال الله تعالى: إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكرى وكنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون فأخبر سبحانه أنه جزاهم على صبرهم كما قال تعالى: وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون قال الزجاج أي أتصبرون على البلاء فقد عرفتم ما وجد الصابرون
قلت: قرن الله سبحانه الفتنة بالصبر ههنا وفي قوله: ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا فليس لمن قد فتن بفتنة دواء مثل الصبر فإن صبر كانت الفتنة ممحصة له ومخلصة من الذنوب كما يخلص الكير خبث الذهب والفضة
فالفتنة كير القلوب ومحك الإيمان وبها يتبين الصادق من الكاذب
قال تعالى: ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين
فالفتنة قسمت الناس إلى صادق وكاذب ومؤمن ومنافق وطيب وخبيث فمن صبر عليها كانت رحمة في حقه ونجا بصبره من فتنة أعظم منها ومن لم يصبر عليها وقع في فتنة أشد منها
فالفتنة لا بد منها في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون فالنار فتنة من لم يصبر على فتنة الدنيا قال تعالى في شجرة الزقوم: إنا جعلناها فتنة للظالمين قال قتادة: لما ذكر الله تعالى هذه الشجرة افتتن بها الظلمة فقالوا: يكون في النار شجرة والنار تأكل الشجر فأنزل الله تعالى: إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم فأخبرهم أن غذاءها من النار أي غذيت بالنار قال ابن قتيبة: قد تكون شجرة الزقوم نبتا من النار ومن جوهر لا تأكله النار وكذلك سلاسل النار وأغلالها وأنكالها وعقاربها وحياتها ولو كانت على ما يعلم لم تبق على النار وإنما دلنا الله تعالى على الغائب عنده بالحاضر عندنا فالأسماء متفقة الدلالة والمعاني مختلفة وما في الجنة من ثمرها وفرشها وشجرها وجميع آلاتها على مثل ذلك
والمقصود: أن هذه الشجرة فتنة لهم في الدنيا بتكذيبهم بها وفتنة لهم في الآخرة بأكلهم منها
وكذلك إخباره سبحانه بأن عدة الملائكة الموكلين بالنار تسعة عشر كان فتنة للكفار حيث قال عدو الله أبو جهل: أيخوفكم محمد بتسعة عشر وأنتم الدهم أفيعجز كل مائة منكم أن يبطشوا بواحد منهم ثم تخرجون من النار فقال أبو الأسد: يا معشر قريش إذا كان يوم القيامة فأنا أمشي بين أيديكم على الصراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر في النار ونمضي فندخل الجنة
فكان ذكر هذا العدد فتنة لهم في الدنيا وفتنة لهم يوم القيامة
والكافر مفتون بالمؤمن في الدنيا كما أن المؤمن مفتون به ولهذا سأل المؤمنون ربهم أن لا يجعلهم فتنة للذين كفروا كما قال الحنفاء: ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا وقال أصحاب موسى عليه السلام: ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين قال مجاهد: المعنى لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولون: لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم هذا وقال الزجاج: معناه: لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على حق فيفتنوا بذلك وقال الفراء: لا تظهر علينا الكفار فيروا أنهم على حق وأنا على باطل وقال مقاتل: لا تقتر علينا الرزق وتبسطه عليهم فيكون ذلك فتنة لهم وقد أخبر الله سبحانه أنه قد فتن كلا من الفريقين بالفريق الآخر فقال: وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بينننا فقال الله تعالى: أليس الله بأعلم بالشاكرين
والمقصود: أن الله سبحانه فتن أصحاب الشهوات بالصور الجميلة وفتن أولئك بهم فكل من النوعين فتنة للآخر فمن صبر منهم على تلك الفتنة نجا مما هو أعظم منها ومن أصابته تلك الفتنة سقط فيما هو شر منها فإن تدارك ذلك بالتوبة النصوح وإلا فبسبيل من هلك ولهذا قال النبي ﷺ ما تركت بعدي فتنة أضر من النساء على الرجال أو كما قال
فالعبد في هذه الدار مفتون بشهواته ونفسه الأمارة وشيطانه المغوى المزين وقرنائه وما يراه ويشاهد مما يعجز صبره عنه ويتفق مع ذلك ضعف الإيمان واليقين وضعف القلب ومرارة الصبر وذوق حلاوة العاجل وميل النفس إلى زهرة الحياة الدنيا وكون العوض مؤجلا في دار أخرى غير هذه الدار التي خلق فيها وفيها نشأ فهو مكلف بأن يترك شهوته الحاضرة المشاهدة لغيب طلب منه الإيمان به:
فوالله لولا الله يسعد عبده... بتوفيقه والله بالعبد أرحم
لما ثبت الأيمان يوما بقلبه... على هذه العلات والأمر أعظم
ولا طاوعته النفس في ترك شهوة مخافة... نار جمرها يتضرم
ولا خاف يوما من مقام إلهه... عليه بحكم القسط إذ ليس يظلم
فصل
والفتنة نوعان: فتنة الشبهات وهي أعظم الفتنتين وفتنة الشهوات وقد يجتمعان للعبد وقد ينفرد بإحداهما
ففتنة الشبهات من ضعف البصيرة وقلة العلم ولا سيما إذا اقترن بذلك فساد القصد وحصول الهوى فهنالك الفتنة العظمى والمصيبة الكبرى فقل ما شئت في ضلال سيء القصد الحاكم عليه الهوى لا الهدى مع ضعف بصيرته وقلة علمه بما بعث الله به رسوله فهو من الذين قال الله تعالى فيهم: إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس وقد أخبر الله سبحانه أن اتباع الهوى يضل عن سبيل الله فقال: يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب
وهذه الفتنة مآلها إلى الكفر والنفاق وهي فتنة المنافقين وفتنة أهل البدع على حسب مراتب بدعهم فجميعهم إنما ابتدعوا من فتنة الشبهات التي اشتبه عليهم فيها الحق بالباطل والهدى بالضلال
ولا ينجى من هذه الفتنة إلا تجريد اتباع الرسول وتحكيمه في دق الدين وجله ظاهره وباطنه عقائده وأعماله حقائقه وشرائعه فيتلقى عنه حقائق الإيمان وشرائع الإسلام وما يثبته لله من الصفات والأفعال والأسماء وما ينفيه عنه كما يتلقى عنه وجوب الصلوات وأوقاتها وأعدادها ومقادير نصب الزكاة ومستحقيها ووجوب الوضوء والغسل من الجنابة وصوم رمضان فلا يجعله رسولا في شيء دون شيء من أمور الدين بل هو رسول في كل شيء تحتاج إليه الأمة في العلم والعمل لا يتلقى إلا عنه ولا يؤخد إلا منه فالهدى كله دائر على أقواله وأفعاله وكل ما خرج عنها فهو ضلال فإذا عقد قلبه على ذلك وأعرض ما سواه ووزنه بما جاء به الرسول فإن وافقه قبله لا لكون ذلك القائل قاله بل لموافقته للرسالة وإن خالفه رده ولو قاله من قاله فهذا الذي ينجيه من فتنة الشبهات وإن فاته ذلك أصابه من فتنتها بحسب ما فاته منه
وهذه الفتنة تنشأ تارة من فهم فاسد وتارة من نقل كاذب وتارة من حق ثابت خفى على الرجل فلم يظفر به وتارة من غرض فاسد وهوى متبع فهي من عمى في البصيرة وفساد في الإرادة
فصل
وأما النوع الثاني من الفتنة: ففتنة الشهوات وقد جمع سبحانه بين ذكر الفتنتين في قوله: كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم أي تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها والخلاق هو النصيب المقدر ثم قال: وخضتم كالذي خاضوا فهذا الخوض بالباطل وهو الشبهات
فأشار سبحانه في هذه الآية إلى ما يحصل به فساد القلوب والأديان من الاستمتاع بالخلاق والخوض بالباطل لأن فساد الدعين إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكم به أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح فالأول: هو البدع وما والاها والثاني: فسق الأعمال
فالأول فساد من جهة الشبهات والثاني من جهة الشهوات
ولهذا كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه وصاحب دنيا أعمته دنياه
وكانوا يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون
وأصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع والهوى على العقل
فالأول: أصل فتنة الشبهة والثاني: أصل فتنة الشهوة
ففتنة الشبهات تدفع باليقين وفتنة الشهوات تدفع بالصبر ولذلك جعل سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين الأمرين فقال: وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون
فدل على أنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين
وجمع بينهما أيضا في قوله: وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر فتواصوا بالحق الذي يدفع الشبهات وبالصبر الذي يكف عن الشهوات وجمع بينهما في قوله: واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولى الأيدي والأبصار فالأيدي: القوى والعزائم في ذات الله والأبصار: البصائر في أمر الله وعبارات السلف تدور على ذلك
قال ابن عباس: أولى القوة في طاعة الله والمعرفة بالله
وقال الكلبي: أولى القوة في العبادة والبصر فيها
وقال مجاهد: الأيدي: القوة في طاعة الله، والأبصار: البصر في الحق.
وقال سعيد بن جبير: الأيدي: القوة في العمل والأبصار: بصرهم بما هم فيه من دينهم
وقال جاء في حديث مرسل: إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات
فبكمال العقل والصبر تدفع فتنة الشهوة وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهة والله المستعان
فصل
إذا سلم العبد من فتنة الشبهات والشهوات حصل له أعظم غايتين مطلوبتين بهما سعادته وفلاحه وكماله وهما الهدى والرحمة
قال تعالى عن موسى وفتاه: فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما فجمع له بين الرحمة والعلم وذلك نظير قول أصحاب الكهف ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا فإن الرشد هو العلم بما ينفع والعمل به والرشد والهدى إذا أفرد كل منهما تضمن الآخر وإذا قرن أحدهما بالآخر فالهدى هو العلم بالحق والرشد هو العمل به وضدهما الغي واتباع الهوى
وقد يقابل الرشد بالضر والشر قال تعالى: قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا وقال مؤمنوا الجن وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا فالرشد يقابل الغى كما في قوله: وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ويقابل الضر والشر كما تقدم وذلك لأن الغي سبب لحصول الشر والضرع ووقوعهما بصاحبه
فالضرر والشر غاية الغي وثمرته كما أن الرحمة والفلاح غاية الهدى وثمرته
فلهذا يقابل كل منهما بنقيضه وسبب نقيضه فيقابل الهدى بالضلال كقوله: يضل من يشاء ويهدي من يشاء وقوله: إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وهو كثير
ويقابل بالضلال والعذاب كقوله: فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى فقابل الهدى بالضلال والشقاء
وجمع سبحانه بين الهدى والفلاح والهدى والرحمة كما يجمع بين الضلال والشقاء والضلال والعذاب: كقوله إن المجرمين في ضلال وسعر فالضلال ضد الهدى والسعر العذاب وهو ضد الرحمة
وقال: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى
والمقصود: أن من سلم من فتنة الشبهات والشهوات جمع له بين الهدى والرحمة والهدى والفلاح
قال تعالى عن أوليائه: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب وقال تعالى: ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون وقال تعالى: هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يوقنون وقال تعالى: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شىء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون وقال تعالى: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين فقوله: هذا بصائر من ربكم عام مطلق وقوله: وهدى ورحمة لقوم يوقنون خاص بأهل اليقين
ونظير ذلك قوله يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين
ونظيره في الخصوص قوله تعالى: هدى للمتقين وقوله: يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام
ونظيره أيضا قوله: هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين
وقد أخبر أنه هدى عام لجميع المكلفين فقال إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى
فأخبر سبحانه أن القرآن بصائر لجميع الناس والبصائر جمع بصيرة وهي فعيلة بمعنى مفعلة أي مبصرة لمن تبصر ومنه قوله تعالى: وآتينا ثمود الناقة مبصرة أي مبينة موجبة للتبصر وفعل الإبصار يستعمل لازما ومتعديا يقال: أبصرته بمعنى أريته وأبصرته بمعنى رأيته فمبصرة في الآية: بمعنى مرئية لا بمعنى رائية والذين ظنوها بمعنى رائية غلطوا في الآية وتحيروا في معناها
فإنه يقال: بصر به وأبصره فيعدى بالباء تارة والهمزة تارة ثم يقال: أبصرته كذا أي أريته إياه كما يقال: بصرته به وبصر هو به
فههنا بصيرة وتبصرة ومبصرة فالبصيرة: المبينة التي تبصر والتبصرة مصدر مثل التذكرة وسمى بها ما يوجب التبصرة فيقال: هذه الآية تبصرة لكونها آلة التبصر وموجبه
فالقرآن بصيرة وتبصرة وهدى وشفاء ورحمة بمعنى عام وبمعنى خاص ولهذا يذكر الله سبحانه هذا وهذا فهو هدى للعالمين وموعظة للمتقين وهدى للمتقين وشفاء للعالمين وشفاء للمؤمنين وموعظة للعالمين وموعظة للمتقين فهو في نفسه هدى ورحمة وشفاء وموعظة
فمن اهتدى به واتعظ واشتفى كان بمنزلة من استعمل الدواء الذي يحصل به الشفاء فهو دواء له بالفعل وإن لم يستعمله فهو دواء له بالقوة وكذلك الهدى
فالقرآن هدى بالفعل لمن اهتدى به وبالقوة لمن لم يهتد به فإنما يهتدى به ويرحم ويتعظ المتقون الموقنون
والهدى في الأصل: مصدر هدى يهدي هدى
فمن لم يعمل بعلمه لم يكن مهتديا كما في الأثر من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله تعالى إلا بعدا ولكن يسمى هدى لأن من شأنه أن يهدي
وهذا أحسن من قول من قال: إنه هدى بمعنى هاد فهو مصدر بمعنى الفاعل كعدل بمعنى العادل وزور بمعنى الزائر ورجل صوم أي بمعنى صائم فإن الله سبحانه قد أخبر أنه يهدي به
فالله الهادي وكتابه الهدى الذي يهدي به على لسان رسوله ﷺ فههنا ثلاثة أشياء: فاعل وقابل وآلة فالفاعل: هو الله تعالى والقابل: قلب العبد والآلة هو الذي يحصل به الهدى وهو الكتاب المنزل والله سبحانه يهدي خلقه هدى كما يقال: دلهم دلالة وأرشدهم إرشادا وبين لهم بيانا
والمقصود: أن المحل القابل هو قلب العبد المتقي المنيب إلى ربه الخائف منه الذي يبتغي رضاه ويهرب من سخطه فإذا هداه الله فكأنه وصل أثر فعله إلى محل قابل فيتأثر به فصار هدى له وشفاء ورحمة وموعظة بالوجود والفعل والقبول وإذا لم يكن المحل قابلا وصل إليه الهدى فلم يؤثر فيه كما يصل الغذاء إلى محل غير قابل للاغتذاء فإنه لا يؤثر فيه شيئا بل لا يزيده إلا ضعفا وفسادا إلى فساده كما قال تعالى في السورة التي نزلها: فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وقال: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا
فتخلف الاهتداء يكون لعدم قبول المحل تارة ولعدم آلة الهدى تارة ولعدم فعل الفاعل وهو الهادي تارة ولا يحصل الهدى على الحقيقة إلا عند اجتماع هذه الأمور الثلاثة
وقد قال سبحانه: ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون فأخبر سبحانه أنه قطع عنهم مادة الاهتداء وهو إسماع قلوبهم وإفهامها ما ينفعها لعدم قبول المحل فإنه لا خير فيه فإن الرجل إنما ينقاد للحق بالخير الذي فيه والميل إليه والطلب له ومحبته والحرص عليه والفرح بالظفر به وهؤلاء ليس في قلوبهم شيء من ذلك فوصل الهدى إليها ووقع عليها كما يصل الغيث النازل من السماء ويقع على الأرض الغليظة العالية التي لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فلا هي قابلة للماء ولا للنبات فالماء في نفسه رحمة وحياة ولكن ليس فيها قبول له ثم أكد الله هذا المعنى في حقهم بقوله: ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون فأخبر أن فيهم مع عدم القبول والفهم آفة أخرى وهي الكبر والإعراض وفساد القصد فلو فهموا لم ينقادوا ولم يتبعوا الحق ولم يعملوا به فالهدى في حق هؤلاء هدى بيان وإقامة حجة لا هدى توفيق وإرشاد فلم يتصل الهدى في حقهم بالرحمة
وأما المؤمنون: فاتصل الهدى في حقهم بالرحمة فصار القرآن لهم هدى ولأولئك هدى بلا رحمة
والرحمة المقارنة للهدى في حق المؤمنين عاجلة وآجلة
فأما العاجلة فما يعطيهم الله تعالى في الدنيا من محبة الخير والبر وذوق طعم الإيمان ووجدان حلاوته والفرح والسرور بأن هداهم الله تعالى لما أضل عنه غيرهم ولما اختلف فيه من الحق بإذنه فهم يتقلبون في نور هداه ويمشون به في الناس ويرون غيرهم متحيرا في الظلمات فهم أشد الناس فرحا بما آتاهم ربهم من الهدى قال تعالى: قل بفضل الله وبرحمته فبذكلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون فأمر سبحانه عباده المؤمنين المهتدين أن يفرحوا بفضله ورحمته
وقد دارت عبارات السلف على أن الفضل والرحمة هو العلم والإيمان والقرآن وهما اتباع الرسول وهذا من أعظم الرحمة التي يرحم الله بها من يشاء من عباده فإن الأمن والعافية والسرور ولذة القلب ونعيمه وبهجته وطمأنينته: مع الإيمان والهدى إلى طريق الفلاح والسعادة والخوف والهم والغم والبلاء والألم والقلق: مع الضلال والحيرة
ومثل هذا بمسافرين أحدهما قد اهتدى لطريق مقصده فسار آمنا مطمئنا والآخر قد ضل الطريق فلم يدر أين يتوجه كما قال تعالى قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى
فالرحمة التي تحصل لمن حصل له الهدى هي بحسب هداه فكلما كان نصيبه من الهدى اتم كان حظه من الرحمة أوفر وهذه هي الرحمة الخاصة بعباده المؤمنين هي غير الرحمة العامة بالبر والفاجر
وقد جمع الله سبحانه لأهل هدايته بين الهدى والرحمة والصلاة عليهم فقال تعالى: أولكئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: نعم العدلان ونعمت العلاوة فبالهدى خلصوا من الضلال وبالرحمة نجوا من الشقاء والعذاب وبالصلاة عليهم نالوا منزلة القرب والكرامة والضالون حصل لهم ضد هذه الثلاثة: الضلال عن طريق السعادة والوقوع في ضد الرحمة من الألم والعذاب والذم واللعن الذي هو ضد الصلاة ولما كان نصيب كل عبد من الرحمة على قدر نصيبه من الهدى كان أكمل المؤمنين إيمانا أعظمهم رحمة كما قال تعالى في أصحاب رسول الله ﷺ: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم. وكان الصديق رضي الله عنه من أرحم الأمة وقد روى عن النبي ﷺ أنه قال: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر رواه الترمذي وكان أعلم الصحابة باتفاق الصحابة كما قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: وكان أبو بكر رضي الله عنه أعلمنا به يعني النبي ﷺ فجمع الله له بين سعة العلم والرحمة
وهكذا الرجل كلما اتسع علمه اتسعت رحمته وقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلما فوسعت رحمته كل شىء وأحاط بكل شىء علما فهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها بل هو أرحم بالعبد من نفسه كما هو أعلم بمصلحة العبد من نفسه والعبد لجهله بمصالح نفسه وظلمه لها يسعى فيما يضرها ويؤلمها وينقص حظها من كرامته وثوابه ويبعدها من قربه وهو يظن أنه ينفعها ويكرمها وهذا غاية الجهل والظلم والإنسان ظلوم جهول فكم من مكرم لنفسه بزعمه وهو لها مهين ومرفه لها وهو لها متعب ومعطيها بعض غرضها ولذتها وقد حال بينها وبين جميع لذاتها فلا علم له بمصالحها التي هي مصالحها ولا رحمة عنده لها فما يبلغ عدوه منه ما يبلغ هو من نفسه فقد بخسها حظها وأضاع حقها وعطل مصالحها وباع نعيمها الباقي ولذتها الدائمة الكاملة بلذة فانية مشوبة بالتنغيص إنما هي كأضغاث أحلام أو كطيف زار في المنام وليس هذا بعجيب من شأنه وقد فقد نصيبه من الهدى والرحمة فلو هدي ورحم لكان شأنه غير هذا الشأن ولكن الرب تعالى أعلم بالمحل الذي يصلح للهدى والرحمة فهو الذي يؤتيها العبد كما قال عن عبده الخضر: فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشدا
فصل
ومما ينبغي أن يعلم: أن الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد وإن كرهتها نفسه وشقت عليها فهذه هي الرحمة الحقيقية فأرحم الناس بك من شق عليك في إيصال مصالحك ودفع المضار عنك
فمن رحمة الأب بولده: أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره ويمنعه شهواته التي تعود بضرره ومتى أهمل ذلك من ولده كان لقلة رحمته به وإن ظن أنه يرحمه ويرفهه ويريحه فهذه رحمة مقرونة بجهل كرحمة الأم
ولهذا كان من تمام رحمة أرحم الراحمين: تسليط أنواع البلاء على العبد فإنه أعلم بمصلحته فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته: من رحمته به ولكن العبد لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلائه ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه
وقد جاء في الأثر: إن المبتلى إذا دعي له: اللهم ارحمه يقول الله سبحانه: كيف أرحمه من شيء به أرحمه وفي أثر آخر: إن الله إذا أحب عبده حماه الدنيا وطيباتها وشهواتها كما يحمي أحدكم مريضه
فهذا من تمام رحمته به لا من بخله عليه
كيف وهو الجواد الماجد الذي له الجود كله وجود جميع الخلائق في جنب جوده أقل من ذرة في جبال الدنيا ورمالها
فمن رحمته سبحانه بعباده: ابتلاؤهم بالأوامر والنواهي رحمة وحمية لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به فهو الغني الحميد ولا بخلا منه عليهم بما نهاهم عنه فهو الجواد الكريم
ومن رحمته: أن نغص عليهم الدنيا وكدرها لئلا يسكنوا إليها ولا يطمئنوا إليها ويرغبوا في النعيم المقيم في داره وجواره فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان فمنعهم ليعطيهم وابتلاهم ليعافيهم وأماتهم ليحييهم ومن رحمته بهم: أن حذرهم نفسه لئلا يغتروا به فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به كما قال تعالى: ويحذركم الله نفسه والله رؤزف بالعباد
قال غير واحد من السلف: من رأفته بالعباد: حذرهم من نفسه لئلا يغتروا به
فصل
ولما كان تمام النعمة على العبد إنما هو بالهدى والرحمة كان لهما ضدان: الضلال والغضب
فأمرنا الله سبحانه أن نسأله كل يوم وليلة مرات عديدة أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم وهم أولو الهدى والرحمة ويجنبنا طريق المغضوب عليهم وهم ضد المرحومين وطريق الضالين وهم ضد المهتدين ولهذا كان هذا الدعاء من أجمع الدعاء وأفضله وأوجبه وبالله التوفيق
فصل
إذا كان كل عمل فأصله المحبة والإرادة والمقصود به التنعم بالمراد المحبوب فكل حي إنما يعمل لما فيه تنعمه ولذته فالتنعم هو المقصود الأول من كل قصد وكل حركة كما أن العذاب والتألم هو المكروه المقصود أولا بكل بغض وكل امتناع وكف ولكن وقع الجهل والظلم من بني آدم بمعنيين: بالدعين الفاسد والدنيا الفاجرة طلبوا بهما النعيم وفي الحقيقة فإنما فيهما ضده ففاتهم النعيم من حيث طلبوه وآثروه ووقعوا في الألم والعذاب من حيث هربوا منه وبيان ذلك: أن الأعمال التي يعملها جميع بني آدم إما أن يتخذوها دينا أولا يتخذوها دينا
والذين يتخذونها دينا إما أن يكون الدين بها دين حقا وإما أن يكون دينا باطلا فنقول: النعيم التام هو في الدين الحق علما وعملا فأهله هم أصحاب النعيم الكامل كما أخبر الله تعالى بذلك في كتابه في غير موضع كقوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين وقوله عن المتقين المهتدين بالكتاب أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون وقوله فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى وفي الآية الأخرى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقوله إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم والقرآن مملوء من هذا
فوعد أهل الهدى والعمل الصالح بالنعيم التام في الدار الآخرة ووعيد أهل الضلال والفجور بالشقاء في الدار الآخرة مما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى آخرهم وتضمنته الكتب ولكن نذكر ههنا نكتة نافعة
وهي أن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيب كثيرا من أهل الإيمان في الدنيا من المصائب وما ينال كثيرا من الكفار والفجار والظلمة في الدنيا من الرياسة والمال وغير ذلك فيعتقد أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا للكفار والفجار وأن المؤمنين حظهم من النعيم في الدنيا قليل وكذلك قد يعتقد أن العزة والنصرة في الدنيا تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين فإذا سمع في القرآن قوله تعالى: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين. وقوله:
وإن جندنا لهم الغالبون وقوله: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي وقوله: والعاقبة للمتقين ونحو هذه الآيات وهو ممن يصدق بالقرآن حمل ذلك على أن حصوله في الدار الآخرة فقط وقال: أما الدنيا فإنا نرى الكفار والمنافقين يغلبون فيها ويظهرون ويكون لهم النصر والظفر والقرآن لا يرد بخلاف الحس ويعتمد على هذا الظن إذا أديل عليه عدو من جنس الكفار والمنافقين أو الفجرة الظالمين: وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى فيرى أن صاحب الباطل قد علا على صاحب الحق فيقول: أنا على الحق وأنا مغلوب فصاحب الحق في هذه الدنيا مغلوب مقهور والدولة فيها للباطل
فإذا ذكر بما وعده الله تعالى من حسن العاقبة للمتقين والمؤمنين قال: هذا في الآخرة فقط
وإذا قيل له: كيف يفعل الله تعالى هذا بأوليائه وأحبائه وأهل الحق
فإن كان ممن لا يعلل أفعال الله تعالى بالحكم والمصالح قال: يفعل الله في ملكه ما يشاء ويحكم ما يريد: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون
وإن كان ممن يعلل الأفعال قال: فعل بهم هذا ليعرضهم بالصبر عليه لثواب الآخرة وعلو الدرجات وتوفية الأجر بغير حساب
ولكل أحد مع نفسه في هذا المقام مباحثات وإيرادات وإشكالات وأجوبة بحسب حاصله وبضاعته من المعرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاته وحكمته والجهل بذلك فالقلوب تغلي بما فيها كالقدر إذا استجمعت غليانا
فلقد بلغنا وشاهدنا من كثير من هؤلاء من التظلم للرب تعالى واتهامه ما لا يصدر إلا من عدو فكان الجهم يخرج بأصحابه فيقفهم على الجذمى وأهل البلاء ويقول: انظروا أرحم الراحمين يفعل مثل هذا إنكارا لرحمته كما أنكر حكمته
فليس الله عند جهم وأتباعه حكيما ولا رحيما
وقال آخر من كبار القوم: ما على الخلق أضر من الخالق
وكان بعضهم يتمثل:
إذا كان هذا فعله بمحبه... فماذا تراه في أعاديه يصنع
وأنت تشاهد كثيرا من الناس إذا أصابه نوع من البلاء يقول: يا ربي ما كان ذنبي حتى فعلت بي هذا
وقال لي غير واحد: إذا تبت إليه وأنبت وعملت صالحا ضيق علي رزقي ونكد علي معيشتي وإذا رجعت إلى معصيته وأعطيت نفسي مرادها جاءني الرزق والعون ونحو هذا
فقلت لبعضهم: هذا امتحان منه ليرى صدقك وصبرك هل أنت صادق في مجيئك إليه وإقبالك عليه فتصبر على بلائه فتكون لك العاقبة أم أنت كاذب فترجع على عقبك
وهذه الأقوال والظنون الكاذبة الحائدة عن الصواب مبنية على مقدمتين
إحداهما: حسن ظن العبد بنفسه وبدينه واعتقاده أنه قائم بما يجب عليه وتارك ما نهى عنه واعتقاده في خصمه وعدوه خلاف ذلك وأنه تارك للمأمور مرتكب للمحظور وأنه نفسه أولى بالله ورسوله ودينه منه
والمقدمة الثانية: اعتقاده أن الله سبحانه وتعالى قد لا يؤيد صاحب الدين الحق وينصره وقد لا يجعل له العاقبة في الدنيا بوجه من الوجوه بل يعيش عمره مظلوما مقهورا مستضاما مع قيامه بما أمر به ظاهرا وباطنا وانتهائه عما نهي عنه باطنا وظاهرا فهو عند نفسه قائم بشرائع الإسلام وحقائق الإيمان وهو تحت قهر أهل الظلم والفجور والعدوان
فلا إله إلا الله كم فسد بهذا الاغترار من عابد جاهل ومتدين لا بصيرة له ومنتسب إلى العلم لا معرفة له بحقائق الدين
فإنه من المعلوم: أن العبد وإن آمن بالآخرة فإنه طالب في الدنيا لما لا بد له منه: من جلب النفع ودفع الضر بما يعتقد أنه مستحب أو واجب أو مباح فإذا اعتقد أن الدين الحق واتباع الهدى والاستقامة على التوحيد ومتابعة السنة ينافي ذلك وأنه يعادي جميع أهل الأرض ويتعرض لما لا يقدر عليه من البلاء وفوات حظوظه ومنافعه العاجلة لزم من ذلك إعراضه عن الرغبة في كمال دينه وتجرده لله ورسوله فيعرض قلبه عن حال السابقين المقربين بل قد يعرض عن حال المقتصدين أصحاب اليمين بل قد يدخل مع الظالمين بل مع المنافقين وإن لم يكن هذا في أصل الدين كان في كثير من فروعه وأعماله كما قال النبي ﷺ بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسى كافرا ويصبح مؤمنا يبيع دينه بعرض من الدنيا
وذلك أنه إذا اعتقد أن الدين الكامل لا يحصل إلا بفساد دنياه من حصول ضرر لا يحتمله وفوات منفعة لا بد له منها لم يقدم على احتمال هذا الضرر ولا تفويت تلك المنفعة
فسبحان الله كم صدت هذه الفتنة الكثير من الخلق بل أكثرهم عن القيام بحقيقة الدين وأصلها ناشىء من جهلين كبيرين: جهل بحقيقة الدين وجهل بحقيقة النعيم الذي هو غاية مطلوب النفوس وكمالها وبه ابتهاجها والتذاذها فيتولد من بين هذين الجهلين إعراضه عن القيام بحقيقة الدين وعن طلب حقيقة النعيم
ومعلوم أن كمال العبد هو بأن يكون عارفا بالنعيم الذي يطلبه والعمل الذي يوصل إليه وأن يكون مع ذلك فيه إرادة جازمة لذلك العمل ومحبة صادقة لذلك النعيم وإلا فالعلم بالمطلوب وطريقه لا يحصله إن لم يقترن بذلك العمل والإرادة الجازمة لا توجب وجود المراد إلا إذا لازمها الصبر
فصارت سعادة العبد وكمال لذته ونعيمه موقوفا على هذه المقامات الخمسة: علمه بالنعيم المطلوب ومحبته له وعلمه بالطريق الموصل إليه وعلمه به وصبره على ذلك
قال الله تعالى والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر
والمقصود أن المقدمتين اللتين تثبت عليهما هذه الفتنه أصلهما الجهل بأمر الله ودينه وبوعده ووعيده
فإن العبد إذا اعتقد أنه قائم بالدين الحق فقد اعتقد أنه قد قام بفعل المأمور باطنا وظاهرا وترك المحظور باطنا وظاهرا وهذا من جهله بالدين الحق وما لله عليه وما هو المراد منه فهو جاهل بحق الله عليه جاهل بما معه من الدين قدرا ونوعا وصفة
وإذا اعتقد أن صاحب الحق لا ينصره الله تعالى في الدنيا والآخرة بل قد تكون العاقبة في الدنيا للكفار والمنافقين على المؤمنين وللفجار الظالمين على الأبرار المتقين فهذا من جهله بوعد الله تعالى ووعيده
فأما المقام الأول: فإن العبد كثيرا ما يترك واجبات لا يعلم بها ولا بوجوبها فيكون مقصرا في العلم وكثيرا ما يتركها بعد العلم بها وبوجوبها إما كسلا وتهاونا وإما لنوع تأويل باطل أو تقليد أو لظنه أنه مشتغل بما هو أوجب منها أو لغير ذلك فواجبات القلوب أشد وجوبا من واجبات الأبدان وآكد منها وكأنها ليست واجبات الدين عند كثير من الناس بل هي من باب الفضائل والمستحبات فتراه يتحرج من ترك فرض أو من ترك واجب من واجبات البدن وقد ترك ما هو أهم من واجبات القلوب وأفرضها ويتحرج من فعل أدنى المحرمات وقد ارتكب من محرمات القلوب ما هو أشد تحريما وأعظم إثما
بل ما أكثر من يتعبد لله تعالى بترك ما أوجب عليه فيتخلى وينقطع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قدرته عليه ويزعم أنه متقرب إلى الله تعالى بذلك مجتمع على ربه تارك ما لا يعنيه فهذا من أمقت الخلق إلى الله تعالى وأبغضهم إليه مع ظنه أنه قائم بحقائق الإيمان وشرائع الإسلام وأنه من خواص أوليائه وحزبه
بل ما أكثر من يتعبد لله بما حرمه الله عليه ويعتقد أنه طاعة وقربة وحاله في ذلك شر من حال من يعتقد ذلك معصية وإثما كأصحاب السماع الشعري الذي يتقربون به إلى الله تعالى ويظنون أنهم من أولياء الرحمن وهم في الحقيقة من أولياء الشيطان
وما أكثر من يعتقد أنه هو المظلوم المحق من كل وجه ولا يكون الأمر كذلك بل يكون معه نوع من الحق ونوع من الباطل والظلم ومع خصمه نوع من الحق والعدل وحبك الشيء يعمي ويصم والإنسان مجبول على حب نفسه فهو لا يرى إلا محاسنها ومبغض لخصمه فهو لا يرى إلا مساويه بل قد يشتد به حبه لنفسه حتى يرى مساويها محاسن كما قال تعالى أفمن زينا له سوء عمله فرآه حسنا ويشتد به بغض خصمه حتى يرى محاسنه مساوىء كما قيل:
نظروا بعين عداوة ولو أنها... عين الرضا لاستحسنوا ما استقبحوا
وهذا الجهل مقرون بالهوى والظلم غالبا فإن الإنسان ظلوم جهول
وأكثر ديانات الخلق إنما هي عادات أخذوها عن آبائهم وأسلافهم وقلدوهم فيها: في الإثبات والنفي والحب والبغض والموالاة والمعاداة والله سبحانه إنما ضمن نصر دينه وحزبه وأوليائه القائمين بدينه علما وعملا لم يضمن نصر الباطل ولو اعتقد صاحبه أنه محق وكذلك العزة والعلو إنما هما لأهل الإيمان الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وهو علم وعمل وحال قال تعالى: وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين فللعبد من العلو بحسب ما معه من الإيمان وقال تعالى: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين فله من العزة بحسب ما معه من الإيمان وحقائقه فإذا فاته حظ من العلو والعزة ففي مقابلة ما فاته من حقائق الإيمان علما وعملا ظاهرا وباطنا
وكذلك الدفع عن العبد هو بحسب إيمانه قال تعالى: إن الله يدافع عن الذين آمنوا فإذا ضعف الدفع عنه فهو من نقص إيمانه
وكذلك الكفاية والحسب هي بقدر الإيمان قال تعالى: يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين أي الله حسبك وحسب اتباعك أي كافيك وكافيهم فكفايته لهم بحسب اتباعهم لرسوله وانقيادهم له وطاعتهم له فما نقص من الإيمان عاد بنقصان ذلك كله
ومذهب أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد وينقص
وكذلك ولاية الله تعالى لعبده هي بحسب إيمانه قال تعالى: والله ولي المؤمنين وقال الله تعالى: الله ولي الذين آمنوا وكذلك معيته الخاصة هي لأهل الإيمان كما قال تعالى: وإن الله لمع المؤمنين فإذا نقص الإيمان وضعف كان حظ العبد من ولاية الله له ومعيته الخاصة بقدر حظه من الإيمان
وكذلك النصر والتأييد الكامل إنما هو لأهل الإيمان الكامل قال تعالى إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وقال: فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين
فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله أو بإدالة عدوعه عليه فإنما هي بذنوبه إما بترك واجب أو فعل محرم وهو من نقص إيمانه
وبهذا يزول الإشكال الذي يورده كثير من الناس على قوله تعالى: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ويجيب عنه كثير منهم بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا في الآخرة ويجيب آخرون بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا في الحجة
والتحقيق: أنها مثل هذه الآيات وأن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى فالمؤمن عزيز غالب مؤيد منصور مكفي مدفوع عنه بالذات أين كان ولو اجتمع عليه من بأقطارها إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته ظاهرا وباطنا وقد قال تعالى للمؤمنين: ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين وقال تعالى: فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم
فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم التي هي جند من جنود الله يحفظهم بها ولا يفردها عنهم ويقتطعها عنهم فيبطلها عليهم كما يتر الكافرين والمنافقين أعمالهم إذ كانت لغيره ولم تكن موافقة لأمره
إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن قيم الجوزية | |
---|---|
مقدمة المؤلف | الباب الأول: في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت | الباب الثاني: في ذكر حقيقة مرض القلب | الباب الثالث: في انقسام أدوية أمراض القلب إلى طبيعية وشرعية | الباب الرابع: في أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه وموته وظلمته كل شر وفتنة فيه | الباب الخامس: في أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا للحق مريدا له مؤثرا له على غيره | الباب السادس: في أنه لا سعادة للقلب ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه وأحب إليه من كل ما سواه | الباب السابع: في أن القرآن الكريم متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه | الباب الثامن: في زكاة القلب | الباب التاسع: في طهارة القلب من أدرانه وأنجاسه | الباب العاشر: في علامات مرض القلب وصحته | الباب الحادي عشر: في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه | الباب الثاني عشر: في علاج مرض القلب بالشيطان | الباب الثالث عشر: في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 |