إغاثة اللهفان/الباب الثامن
الباب الثامن في زكاة القلب
الزكاة في اللغة: هي النماء والزيادة في الصلاح وكمال الشيء يقال: زكا الشيء إذا نما قال الله تعالى: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها [ التوبة: 103 ] فجمع بين الأمرين: الطهارة والزكاة لتلازمهما فإن نجاسة الفواحش والمعاصي في القلب بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن وبمنزلة الرغل في الزرع وبمنزلة الخبث في الذهب والفضة والنحاس والحديد فكما أن البدن إذا استفرغ من الأخلاط الرديئة تخلصت القوة الطبيعية منها فاستراحت فعملت عملها بلا معوق ولا ممانع فنما البدن فكذلك القلب إذا تخلص من الذنوب بالتوبة فقد استفرغ من تخليطه فتخلصت قوة القلب وإرادته للخير فاستراح من تلك الجواذب الفاسدة والمواد الرديئة: زكا ونما وقوى واشتد وجلس على سرير ملكه ونفذ حكمه في رعيته فسمعت له وأطاعت فلا سبيل له إلى زكاته إلا بعد طهارته كما قال تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون [ النور: 30 ] فجعل الزكاة بعد غض البصر وحفظ الفرج
ولهذا كان غض البصر عن المحارم يوجب ثلاث فوائد عظيمة الخطر جليلة القدر:
إحداها: حلاوة الإيمان ولذته التي هي أحلى وأطيب وألذ مما صرف بصره وتركه لله تعالى فإن من ترك شيئا لله عوضه الله تعالى خيرا منه والنفس مولعة بحب النظر إلى الصور الجميلة والعين رائد القلب فيبعث رائده لنظر ما هناك فإذا أخبره بحسن المنظور إليه وجماله تحرك اشتياقا إليه وكثيرا ما يتعب ويتعب رسوله ورائده كما قيل:
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا... لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر... عليه ولا عن بعضه أنت صابر
فإذا كف الرائد عن الكشف والمطالعة استراح القلب من كلفة الطلب والإرادة فمن أطلق لحظاته دامت حسراته فإن النظر يولد المحبة فتبدأ علاقة يتعلق بها القلب بالمنظور إليه ثم تقوى فتصير صبابة ينصب إليه القلب بكليته ثم تقوى فتصير غراما يلزم القلب كلزوم الغريم الذي لا يفارق غريمه ثم يقوى فيصير عشقا وهو الحب المفرط ثم يقوى فيصير شغفا وهو الحب الذي قد وصل إلى شغاف القلب وداخله ثم يقوى فيصير تتيما والتتيم التعبد ومنه تيمه الحب إذا عبده ويتم الله عبد الله فيصير القلب عبدا لمن لا يصلح أن يكون هو عبدا له وهذا كله جناية النظر فحينئذ يقع القلب في الأسر فيصير أسيرا بعد أن كان ملكا ومسجونا بعد أن كان مطلقا يتظلم من الطرف ويشكوه والطرف يقول: أنا رائدك ورسولك وأنت بعثتني وهذا إنما تبتلي به القلوب الفارغة من حب الله والإخلاص له فإن القلب لابد له من التعلق بمحبوب فمن لم يكن الله وحده محبوبه وإلهه ومعبوده فلابد أن يتعبد قلبه لغيره قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين [ يوسف: 24 ] فامرأة العزيز لما كانت مشركة وقعت فيما وقعت فيه مع كونها ذات زوج ويوسف عليه السلام لما كان مخلصا لله تعالى نجا من ذلك مع كونه شابا عزبا غريبا مملوكا
الفائدة الثانية في غض البصر: نور القلب وصحة الفراسة قال أبو شجاع الكرماني: من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وكف نفسه عن الشهوات وغض بصره عن المحارم واعتاد أكل الحلال لم تخظىء له فراسة وقد ذكر الله سبحانه قصة قوم لوط وما ابتلوا به ثم قال بعد ذلك: إن في ذلك لآيات للمتوسمين [ الحجر: 75 ] وهم المتفرسون الذين سلموا من النظر المحرم والفاحشة وقال تعالى عقيب أمره للمؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم: الله نور السموات والارض [ النور: 35 ]
وسر هذا: أن الجزاء من جنس العمل فمن غض بصره عما حرم الله تعالى عليه عوضه الله تعالى من جنسه ما هو خير منه فكما أمسك نور بصره عن المحرمات أطلق الله نور بصيرته وقلبه فرأى به ما لم يره من أطلق بصره ولم يغضه عن محارم الله تعالى وهذا أمر يحسه الإنسان من نفسه فإن القلب كالمرآة والهوى كالصدأ فيها فإذا خلصت المرآة من الصدأ انطبعت فيها صور الحقائق كما هي عليه وإذا صدئت لم تنطبع فيها صور المعلومات فيكون علمه وكلامه من باب الخرص والظنون
الفائدة الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته فيعطيه الله تعالى بقوته سلطان النصرة كما أعطاه بنوره سلطان الحجة فيجمع له بين السلطانين ويهرب الشيطان منه كما في الأثر: إن الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله ولهذا يوجد في المتبع هواه من ذل النفس وضعفها ومهانتها ما جعله الله لمن عصاه فإنه سبحانه جعل العز لمن أطاعه والذل لمن عصاه قال تعالى: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [ المنافقون: 8 ] وقال تعالى: ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين [ آل عمران: 139 ] وقال تعالى: من كان يريد العزة فلله العزة جميعا [ فاطر: 10 ] أي من كان يطلب العزة فليطلبها بطاعة الله: بالكلم الطيب والعمل الصالح وقال بعض السلف: الناس يطلبون العز بأبواب الملوك ولا يجدونه إلا في طاعة الله وقال الحسن: وإن هملجت بهم البراذين وطقطقت بهم البغال إن ذل المعصية لفي قلوبهم أبى الله تعالى إلا أن يذل من عصاه وذلك أن من أطاع الله تعالى فقد والاه ولا يذل من والاه ربه كما في دعاء القنوت: إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت
والمقصود: أن زكاة القلب موقوفة على طهارته كما أن زكاة البدن موقوفة على استفراغه من أخلاطه الرديئة الفاسدة قال تعالى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم [ النور: 21 ] ذكر ذلك سبحانه عقيب تحريم الزنا والقذف ونكاح الزانية فدل على أن التزكى هو باجتناب ذلك وكذلك قوله تعالى في الاستئذان على أهل البيوت: وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم [ النور: 28 ] فإنهم إذا أمروا بالرجوع لئلا يطلعوا على عورة لم يحب صاحب المنزل أن يطلع عليها كان ذلك أزكى لهم كما أن رد البصر وغضه أزكى لصاحبه وقال تعالى قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى وقال تعالى عن موسى عليه السلام في خطابه لفرعون هل لك إلى أن تزكى [ النازعات: 18 ] وقال تعالى: وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة. قال أكثر المفسرين من السلف ومن بعدهم: هي التوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله والإيمان الذي به يزكو القلب فإنه يتضمن نفي إلهية ما سوى الحق من القلب وذلك طهارته وإثبات إلهيته سبحانه وهو أصل كل زكاة ونماء فإن التزكي وإن كان أصله النماء والزيادة والبركة فإنه إنما يحصل بإزالة الشر فلهذا صار التزكي ينتظم الأمرين جميعا فأصل ما تزكو به القلوب والأرواح: هو التوحيد والتزكية جعل الشيء زكيا إما في ذاته وإما في الاعتقاد والخبر عنه كما يقال عدلته وفسقته إذا جعلته كذلك في الخارج أو في الاعتقاد والخبر وعلى هذا فقوله تعالى: فلا تزكوا أنفسكم [ النجم: 32 ] هو على غير معنى: قد أفلح من زكاها [ الشمس: 9 ] أي لا تخبروا بزكاتها وتقولوا: نحن زاكون صالحون متقون ولهذا قال عقيب ذلك: هو أعلم بمن اتقى [ الشمس: 9 ] وكان اسم زينب برة فقال: تزكي نفسها فسماها رسول الله ﷺ زينب وقال: الله أعلم بأهل البر منكم وكذلك قوله: ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم أي يعتقدون زكاءها ويخبرون به كما يزكي المزكي الشاهد فيقول عن نفسه ما يقول المزكي فيه ثم قال الله تعالى: بل الله يزكي من يشاء [ النساء: 49 ] أي هو الذي يجعله زاكيا ومثله قوله: قد أفلح من تزكى [ الأعلى: 14 ]
وقد اختلف في الضمير المرفوع في قوله (زكاها) فقيل: هو لله أي أفلحت نفس زكاها الله تعالى وخابت نفس دساها وقيل: إن الضمير يعود على فاعل أفلح وهو من سواء كانت موصولة أو موصوفة فإن الضمير لو عاد على الله سبحانه لقال: قد أفلح من زكاه وقد خاب من دساه والأولون يقولون: من وإن كان لفظها مذكرا فإذا وقعت على مؤنث جاز إعادة الضمير عليها بلفظ المؤنث مراعاة للمعنى وبلفظ المذكر مراعاة للفظ وكلاهما من الكلام الفصيح وقد وقع في القرآن اعتبار لفظها ومعناها فالأول كقوله: ومنهم من يستمع إليك [ الأنعام: 25 ] فأفرد الضمير والثاني كقوله: ومنهم من يستمعون إليك [ يونس: 42 ]
قال المرجحون للقول الأول: يدل على صحة قولنا: ما رواه أهل السنن من حديث ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: أتيت ليلة فوجدت رسول الله ﷺ يقول: رب أعط نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها فهذا الدعاء كالتفسير لهذه الآية وأن الله تعالى هو الذي يزكي النفوس فتصير زاكية فالله هو المزكي والعبد هو المتزكي والفرق بينهما فرق ما بين الفاعل والمطاوع قالوا: والذي جاء في القرآن من إضافة الزكاة إلى العبد إنما هو بالمعنى الثاني دون الأول كقوله: قد أفلح من تزكى [ الأعلى: 14 ] وقوله: هل لك إلى أن تزكى [ النازعات: 18 ] أي تقبل تزكية الله تعالى لك فتزكى قالوا: وهذا هو الحق فإنه لا يفلح إلا من زكاة الله تعالى قالوا: وهذا اختيار ترجمان القرآن ابن عباس فإنه قال في رواية علي بن أبي طلحة وعطاء والكلبي قد أفلح من زكى الله تعالى نفسه وقال ابن زيد قد أفلح من زكى الله نفسه
واختاره ابن جرير قالوا: ويشهد لهذا القول أيضا قوله في أول السورة: فألهمها فجورها وتقواها [ الشمس: 8 ] قالوا: وأيضا فإنه سبحانه وتعالى أخبر أنه خالق النفس وصفاتها وذلك هو معنى التسوية
قال أصحاب القول الآخر: ظاهر الكلام ونظمه الصحيح: يقتضي أن يعود الضمير على من أي أفلح من زكى نفسه هذا هو المفهوم المتبادر إلى الفهم بل لا يكاد يفهم غيره كما إذا قلت: هذه جارية قد ربح من اشتراها وصلاة قد سعد من صلاها وضالة قد خاب من آواها ونظائر ذلك
قالوا: والنفس مؤنثة فلو عاد الضمير على الله سبحانه لكان وجه الكلام: قد أفلحت نفس زكاها أو أفلحت من زكاها لوقوع من على النفس قالوا: وإن جاز تفريغ الفعل من التاء لأجل لفظ من كما تقول: قد أفلح من قامت منكن فذاك حيث لا يقع اشتباه والتباس فإذا وقع الاشتباه لم يكن بد من ذكر ما يزيله قالوا: ومن موصولة بمعنى الذي ولو قيل: قد أفلح الذي زكاها الله لم يكن جائزا لعود الضمير المؤنث على الذي وهو مذكر قالوا: وهو سبحانه قصد نسبة الفلاح إلى صاحب النفس إذا زكى نفسه ولهذا فرغ الفعل من التاء وأتى ب من التي هي بمعنى الذي وهذا الذي عليه جمهور المفسرين حتى أصحاب ابن عباس رضي الله عنهما وقال قتادة: قد أفلح من زكاها من عمل خيرا زكاها بطاعة الله تعالى وقال أيضا: قد أفلح من زكى نفسه بعمل صالح وقال الحسن: قد أفلح من زكى نفسه فأصلحها وحملها على طاعة الله تعالى وقد خاب من أهلكها وحملها على معصية الله تعالى قال ابن قتيبة: يريد أفلح من زكى نفسه أي نماها وأعلاها بالطاعة والبر والصدقة واصطناع المعروف وقد خاب من دساها أي نقصها وأخفاها بترك عمل البر وركوب المعاصي والفاجر أبدا خفى المكان زمن المروءة غامض الشخص ناكس الرأس فمرتكب الفواحش قد دس نفسه وقمعها ومصطنع المعروف قد شهر نفسه ورفعها وكانت أجواد العرب تنزل الرئى ويفاع الأرض لتشهر أماكنها للمعتفين وتوقد النيران في الليل للطارقين وكانت اللئام تنزل الأولاج والأطراف والأهضام لتخفي أماكنها على الطالبين فأولئك أعلوا أنفسهم وزكوها وهؤلاء أخفوا أنفسهم ودسوها وأنشد:
وبواب بيتك في معلم... رحيب المباءة والمسرح
كفيت العفاة طلاب القرى... ونبح الكلاب لمستنبح
فهذان قولان مشهوران في الآية وفيها قول ثالث: أن المعنى: خاب من دس نفسه مع الصالحين وليس منهم حكاه الواحدي قال: ومعنى هذا: أنه أخفى نفسه في الصالحين يري الناس أنه منهم وهو منطو على غير ما ينطوي عليه الصالحون وهذا وإن كان حقا في نفسه لكن في كونه هو المراد بالآية نظر وإنما يدخل في الآية بطريق العموم فإن الذي يدس نفسه بالفجور إذا خالط أهل الخير دس نفسه فيهم والله تعالى أعلم
إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن قيم الجوزية | |
---|---|
مقدمة المؤلف | الباب الأول: في انقسام القلوب إلى صحيح وسقيم وميت | الباب الثاني: في ذكر حقيقة مرض القلب | الباب الثالث: في انقسام أدوية أمراض القلب إلى طبيعية وشرعية | الباب الرابع: في أن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه وموته وظلمته كل شر وفتنة فيه | الباب الخامس: في أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا للحق مريدا له مؤثرا له على غيره | الباب السادس: في أنه لا سعادة للقلب ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه وأحب إليه من كل ما سواه | الباب السابع: في أن القرآن الكريم متضمن لأدوية القلب وعلاجه من جميع أمراضه | الباب الثامن: في زكاة القلب | الباب التاسع: في طهارة القلب من أدرانه وأنجاسه | الباب العاشر: في علامات مرض القلب وصحته | الباب الحادي عشر: في علاج مرض القلب من استيلاء النفس عليه | الباب الثاني عشر: في علاج مرض القلب بالشيطان | الباب الثالث عشر: في مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 |