يأس كيخسروي
یأس كيخسروي
[عدل]قال: ثم استولى على الملك كيخسرو الفكر فى حاله و تقلُّب غِيَر الدهر به، فجعل يقول فى نفسه:
إنى قد طفت جميع المسالك و الممالك، و سخرت جميع ملوك الشرق و الغرب، و دخلت تحت حكمى ممالك و البر و البحر، و قضيت أوطارى و أدركت ثارى فلا ينبغى أن يملك العجب مقادى، و يستولى علىّ شيطان الطغيان فأصير مثل الضحاك و جمشيذ و أفراسياب و كيكاوس. فالأولى أن أبتهل الى اللّه تعالى و أتضرع اليه فلعله يحوّلنى الى دار القرار، و ينقلنى الى جوار الأخيار». فأمر حاجب بابه ألا يمكن أحدا من الدخول عليه. فأغلق الباب، و حل الملك منطقته، و لبث ثياب البياض. و دخل متعبدا له و جعل يناجى ربه و يستودعه دينه و نفسه، و يسأله أن يرزقه قربه. فبقى أسبوعا قائما بين يدى ربه ليلا و نهارا يدعوه سرا و جهارا. فخرج فى اليوم الثامن و قد ظهر عليه أثر الضعف من العبادة فجلس على تخته
سؤال الملوك و الأمراء و الأعيان عن سر احتجاب الملك كيخسرو و اختفائه عنهم
[عدل]و أمر الحجاب برفع الحجاب. فدخل عليه الملوك و الأكابر خاضعين له و ضارعين.
و هم طوس و جوذَرز و جيو و بيژن و جُرجين و رُهّام . فلما رأوا وجه الملك سجدوا. ثم رفعوا رءوسهم و دعوا له و أثنوا عليه و قالوا: أيها الملك! إنك قد ملكت الأرض و أهلكت العدوّ فما من ملك إلا و هو فى رق حكمت، و ما من مدينة إلا و هى تحت أمرك، و ما ندرى من أى وجهة دخل على قلبك الفكر، و قبض من عنان نشاطك الهم و الحزن، و هذا أوان تمتعك بالملك و المملكة و سرورك بالعز و السلطنة؟ فإن كان قد صدر منا ما أوجب تغير خاطر الملك فليعلمنا لنسعى فى إزالته و نعتذر. و إن كان له عدوّ كاشح فلا يخفيه عنا حتى نجتهد بأموالنا و أنفسنا فى إبادته و استئصال شأفته.
فقال الملك:
أيها الأكابر! إنه لم يظهر لى عدوّ ، و لا صدر من واحد منكم جرم. فاستمتعوا برغد عيشكم و طيب حياتكم. و أنا فإن لى الى اللّه تعالى حاجة قد عرضتها عليه و أقمت فى استنجازها أسبوعا بين يديه، حياتكم. و سلوه فلعله يقضيها و سيجيب دعائى فيها». فصرفهم بهذا الكلام و أمر حاجبه ثانيا فانتهوا اليه و سلوه فلعله يقضيها و يستجيب دعاء فيها». فصرفهم بهذا الكلام و أمر حاجبه ثانيا أن يغلق الباب و يسبل الحجاب و لا يفتح اليه طريقا لأحد، سواء كان من الأقارب أو كان من الأجانب.
و دخل متعبده، و خلا بنفسه يدعو اللّه تعالى و يتضرع اليه.
إرسال الإيرانيين رسلهم إلى زال و رستم للمجيء إليهما
[عدل]فمضى عليه أسبوع آخر. و كان الملوك و الأمراء يجتمعون على بابه و يضجون من طول احتجابه و امتناعه عن الظهور لأصحابه. فجلا طوس بجوذرز و خاضا فى حديث الملك كيخسرو، و ذكرا ما استولى عليه من الضجر و السآمة، و أخذا يجيلان الآراء فى ذلك فى فاتفقا على إنفاذ جيو الى زابلستان، و إعلام رستم و دستان بحال الملك و استنهاضهما الى حضرته ليكماه و يصرفاه عما هو عليه. فسار جيو الى زابلستان، و أخبر رستم بما دهاهم من حال الملك. فاهتم رستم و ذكر الحال لأبيه ففرّقا الرسل فى أطراف ممالكهما و جمعا الموابذة و المنجمين، و استصحباهم الى ايران.
قال: و لما مضى على احتجاب الملك أسبوع أمر فى اليوم الثامن فرفعت الحجب، و أذن فى الدخول عليه فدخل عليه الملوك و الأمراء فأكرمهم و أنزل كل واحد منهم منزلته فى الخدمة. فما قعد منهم واحد. و قالوا: أيها الملك الكبير! إنا نصحاؤك و عبيدك فأعرب لنا عما انطوى عليه ضميرك، و أى جرم صدر منا حتى سدّ علينا الطريق اليك و منعنا من المثول بين يديك؟ لقد طال هذا الانقباض و أظلم علينا لأجله النهار، و لأى أى معنى لا يبوح لنا الملك بسره، و لا يستقدح آراءنا فى أمره حتى لو اعتراه ذلك من بحر استنزفناه أو من جبل نسفناه؟ و إن كان يحتاج فى إزالته الى مال فنحن كلنا حفظة أمواله و ذخائره و خزنة كنوزه و رغائبه. و اذا علمنا بالحال أنفقنا جميعها فى سبيل مراضيه حتى نفرج عن الملك ما هو فيه.
فقال لهم: إنه ليس شيء مما تذكرون. و لكن فى نفسى أمينة أرجو أن أبلغها من اللّه عز و جل. و هأنا أسأله ذلك و طول الليل و النهار. و سأبرزها لكم عند قضائها من مضيق الكتمان الى فضاء الإظهار. فارجعوا الآن و لا تحموا على قلوبكم كل هذا الاضطراب و القلق».
رؤيا الملك كيخسرو ملكا في المنام
[عدل]فخرجوا و أمر بإسبال الحجب، و عاد الى عبادة اللّه تعالى و بقى خمسة أسابيع بين يدى اللّه عز و جل يبكى و يتضرع و يسأل اللّه تعالى أن يمكن له فى جواره و ينقله الى دار قراره. فغفا غفوة ذات ليلة وقت الفجر و رأى فى المنام كأن ملكا نزل عليه و قال له فى أذنه: أيها الملك السعيد» انك قد اعطيت ما سألت فتجهز الى جوار اللّه الكريم، و لا تقم فى هذه الدنيا الكدرة، و فرق الأموال على المحتاجين و الفقراء و المساكين، و اعهد الى ملك عادل يقول مقامك من السلطنة، و اعلم أنه لم يبقى من مقامك إلا القليل». فانتبه الملك و هو غريق فى عرقه فسجد باكيا بين يدى اللّه عز و جل يشكره على قضاء و وطره و إنجاز أمله. فنحىّ التاج عن رأسه و خلع السوار و لبس ثوبا جديدا و جلس على التخت.
نصيحة و موعظة من زال إلى الملك كيخسرو
[عدل]فوصل رستم و أبوه فى خلق من الموابذة و الهرابذة فاستقبله الايرانيون. و لما لقى طوس رستم أجهش اليه بالبكاء، و ذكر له ما اعترى الملك من تغيره عن الحالة المعهودة. فأقبلوا الى بابه فرفعت الحجب. و لما رأى الملك رستم و زالا بادرهما بالمصافحة و المعانقة، و تهلل مستبشرا الى من كان معهما من الموابذة و الهرابذة، و رتب كل واحد منهم فى منزلته. فأثنى عليه زال و قال: أيها الملك! إنه بلغنا أنك حجبت الملوك و اعترلت و آثرت الخلوة و انزويت فبادرت حضرتك بعد أن جمعت موابذة تلك البلاد و منجميها لأقف على حال الملك و ما انطوى عليه حتى أسعى فى إزالة وحشته و إعادة أنسه.
جواب الملك كيخسرو على نصيحة و موعظة زال
[عدل]فقال له الملك: أيها الشيخ الجليل! اعلم أنى مثلت بين يدى اللّه عز و جل خمسة أسابيع أدعوه و أتضرع اليه و أسأله أن يغفر ما سلف من ذنبى و ينوّر قلبى و ينقلنى من هذه الدنيا الغرّارة الى جواره الكريم قبل أن أعدل عن سنن السداد، و يزيغنى الشيطان عن لَقَم الرشاد مثل من سبق الملوك. و الآن قد قضيت حاجتى و أجيبت دعوتى. و قد غفوت البارحة فجاءنى الملك و قال: تجهز فقد حان الرحيل.
و قد انقضت مدّتى و بلغتُ أمدى. فاهتم عند ذلك الجماعة و ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، و تنفس زالٌ الصعداء لما سمع من كلامه فقال: إن هذا الرجل قد اختلط عقله و فسد رأيه. و انى من أوّل عمرى الى يومى هذا لم أر أحدا من الملوك تكلم بمثل هذا الكلام. و كأن الشيطان قد استحوذ عليه.
و ينبغى لنا ألا نرضى له بمثل ما سمعنا من كلامه». فقالوا له: أنت لساننا فجاوبه بما تستصوبه فلعله لا يزيغ عن المنهج اللاحب، و يعاود ما كان عليه من رسم السلطنه و آيين الملك».
انتقاد زال كلام الملك كيخسرو و توبيخه له
[عدل]فقام زال و قال: أيها الملك العادل! اسمع كلام الشيخ الطاعن فى السن العالم بتصاريف الدهر، و لا تستوحش مما يخاطبك به من مرّ الحق و مكروه الصدق اعلم أنك من أحد طرفيك تنتمى الى أفراسياب الذى كان لا يرى غير السحر فى المنام، و من الطرف الآخر الى كيكاوس الذى كان معروفا بشراسة الخلق بين الأنام. و هو الذى ملك ما بين الخافقين و استولى على ممالك المشرقين فأراد أن يصعد الى السماء.
و كم وعظته و نصحته فلم يقبل من ذلك شيئا حتى فعل و لقى ما عُرف . و أما أنت فقد نهضت فى مائة ألف مقاتل شاكى السلاح كالأسْد الجياع عند الكفاح فصففتهم و عبيتهم فى صحراء خوارزم ثم خرجت وحدك، و بارزت شيذه بن أفراسياب و ترجلت لمصارعته. و لو أعطى الغلبة و ظفر بك لم يبق من إيران عين و لا أثر، و لم يسلم من رجالها و نسائها أحد. فخلصك اللّه تعالى من يده، و أظفرك به. ثم قتلت الذى كنت تخاف معرته و تخشى بائقته- يعنى أفراسياب- فكان وقت رفاهيتك و استمتاعك بالملك و المملكة و تفرّغك للجلوس على تخت السلطنة. فقلبت الأمر على الايرانيين بما هو أصعب و للشر أجلب، فطويت طريق الحق و السداد، و ملت إلى الزيغ و الفساد. و اللّه عز و جل لا يستحسن منك ما أنت عليه، و لست تنتفع بما أنت فيه. و إن استمررت على هذه الحالة و أصررت على ما أنت عليه من الجهالة و الضلالة لم يدر أحد حولك، و لم يسمع فى خير و لا شر قولك. هذه نصيحتى. فإن قبلت فقد أفلحت، و إن لم تقبل سلبت التاج و التخت». فقال الإيرانيون: إنا موافقون لهذا الشيخ فيما يقول، و لا يخفى ما تقتضيه العقول.
جواب الملك كيخسرو على زال و اعتذار زال من الملك
[عدل]فأطرق كيخسرو عند ذلك ساعة و جعل يتفكر فى نفسه و قال: إن خاشنته فى الجواب لم يكن حسنا عند اللّه و لم آمن موجدة رستم. فالأول أن ألاطفه و لا أكسر قلبه. ثم أقبل على الحاضرين و قال: قد سمعت كلام دستان و هأنا أحلف بخالق الزمان و المكان أنى لست فى طاعة الشيطان، و لست أميل إلا إلى طاعة الرحمن. و قد أبصرت بنور قلبى المنوّر ذلك العالم، و تحصنت بعقلى عن المكاره». فأقبل على زال و قال: و أنت فلا تحتدّ و لا تجاوز فى كلامك الحدّ . و أما ما زعمت من أنه لم يولد ذو عقل بتوران فإنى من الشجرة الكيانية: سلالة سياوخش و حافد كيكاوس.
و أنتسب من جهة الأم إلى أفراسياب حافد أفريذون. و لا عار فى الانتساب اليه. و اعلم أن تقريع الملوك ينشأ من البطل و الفضول. و بعد أن أدركت ثارى فى أبى، و بلغت من عدوّى نهاية أربى فلا حاجة لى فى هذه الدنيا التى إن طال فيها أملى و تراخى أجلى و امتدّت فيها مدّة ملكى خشيت على نفسى من الزيغ و اتباع هوى النفس مثل من سبق من الملوك كالضحاك و جمشيذ و تور بن أفريذون الذين سفكوا الدماء و خربوا الديار. و أما ما أنكرت من الإقدام على مبارزة شيذه فإنما باشرت بنفسى ذلك لأنى لم أر في جميع الإيرانيين من يقوم بمقاومته و يقدر على مطاولته. ثم إنى قد سئمت التاج و التخت و الأمر و النهى و وقفت بين يدى ربى فى هذه الأسابيع الخمسة، أتضرع اليه و أسأله أن يخلص روحى من هذه الأرض. المكدرة حتى استجاب اللّه تعالى دعوتى و حقق أملى. و أنت تزعم أن الشيطان قد نصب لك الحبالة و أمال قلبك إلى الزيغ و الضلالة. فلا أدرى بأى المكاره و الأسواء نجازى على ذلك يوم الجزاء؟» فأظلمت الدنيا عند ذلك فى عين دستان و وثب قائما و اعترف بذنبه و اعتذر و سأله الصفح و العفو. فقبل الملك معذرته و أوسع ذنبه صفحا و عفوا.
نصيحة الملك كيخسرو للإيرانيين
[عدل]ثم أشار عليه بأن يبرز مع رستم و طوس و جوذرز و جيو. و جميع الملوك و الأمراء و القوّاد بالسرادقات و الخيم، و يخيموا فى الصحراء، و يخرجوا معهم الألوية و الألوية و الأعلام فامتثلوا أمره فى ذلك. ثم خرج فجلس فى سرادقه على تخت من الذهب و على أحد جانبيه زال و رستم و على الجانب الآخر طوس و جوذرز و رهام و سابور و جرجين قد طأطئوا الأعناق مطرقين.
فتكلم عليهم و وعظهم و نصحهم و قال لهم: اعملوا أنه لا بد لنا من مفارقة دار الفناء. فما بالنا نتحمل بسببها كل هذا التعب و العناء؟ فاستشعروا الخوف من خالق الأرض و السماء:
أين الأكاسرة الجبابرة الأولى كنزوا الكنوز فما بقين و لا بقوا؟
من كل من ضاق الفضاء بجيشه حتى ثوى فحواه لحدّ ضيق و كم من ملك كفر و طغى.
و لوى رأسه عن طاعة ربه و عتا. و هل أنا الا واحد منهم؟ و من أجل ذلك قلعت قلبى من هذه الدار الفانية، و أعرضت نفسى عن الملك و السلطنة. و سأفرق على الايرانيين جميع ما أملك من صامت و ناطق، و أقسم أقاليم العالم بين الملوك أولى التخوت و المناطق.
فإنى قد صمت عزمى على الروح، و فرّغت قلبي من عالم المساء و الصباح.
فلما سمعوا ذلك تحيروا فى أمره و نسبوه الى الجنون. و بعد أسبوع جلس متبذلا لهم على التخت، و أوصى و قسم الممالك و كان ذلك لأمره فذلك ذكر إيصائه الى جوذرز، و كيفية قسمة الممالك على الأكابر، و عهده الى لُهراسب الى آخر أمره
وصية الملك كيخسرو إلى جودرز
[عدل]و لما عزم على المفارقة و الارتحال فتح باب كنز من كنوزه، و سلمه الى جوذرز بن كِشواذ و أوصى اليه بإنفاقه فى عمارة الخانات و القناطر و المعابر التى خربت فى عهد أفراسياب، و أن ينفق منه على الأيتام و الأرامل و أهل التجمل الذين تحيف أحوالهم السنون و هم من السؤال يستحيون، و أن يديم ذلك عليهم و لا يقطعه عنهم. و سلم اليه كنزا آخر يسمى باذاوَر ، و كان مملوءا من الجواهر و الأكاليل و الحلى، و أمره أن يصرفها الى عمارة الآبار و القنى المطموسة فى أقطار الممالك و أمره أن يفتح باب الكنز المعروف بالعروس الذى كنزه كيكاوس فى مدينة السوس، و يقسمها على رستم و أبيه و جيو. ثم سلم ثيابه و أسلحته الى رستم. و أعطى خيله و رعيله طوس بن نوذر. و وهب بستانه و مجلسه لجوذرز بين كشواذ. و وهب سرادقه و خيمه و دوابه المربوطة عنده لفريبُرزين بن كيكاوس.
و سلم الى بيژن بن جيو طوقا مرصعا و خاتمين من الياقوت مكتوبا عليهما اسمه، و قال: خذ أنت هذه تذكرة. ثم قال للايرانيين: سلونى ما تريدون فقد قارب وقت انفضاض المجلس. فرفعوا أصواتهم بالبكاء و العويل لمفارقة ذلك الملك الجليل. زال يسأل الملك كيخسرو أن يعطي منشورا لرستم
فوثب دستان و قبل الأرض و وقف ماثلا بين يديه و قال:
أنت تعلم أيها الملك صنيع رستم مع الايرانيين، و حسن بلائه فى حالتى السراء و الضراء، و الشدّة و الرخاء و من ذلك نهوضه الى مازندران و قتله الملك الجن و تخليصه لكيكاوس و جوذرز و طوس، و قتله لولده سُهراب فى طاعة كيكاوس ثم ما فعل فى وقعة كاموس، الى غير ذلك من مقاماته المشهورة و وقائعه المذكورة فى خدمة هذه الدولة القاهرة. فما ذا يكون بعدك لهذا الولى الناصح؟ فقال: ان آثاره فى خدمة هذا البيت أكثر من أن يحيط بها الوصف أو يفصح عنها اللسان و يعرب عنها البيان. فأمر فكتبوا له عهدا بسالارّية رستم، و بأن يكون هو المقدّم فى جميع العالم، و أن يكون له ممالك نيم روز بحذافيرها و سائر ما يضاف اليها و يعدّ من نواحيها. و أمر لكل واحد من الموابذة الذين استصحبهم زال بتحف فاخرة و صلات وافرة.
جودرز يسأل الملك كيخسرو أن يعطي منشورا لجيو
[عدل]ثم قام جوذرز و قال: إنى من عهد مِنوجِهر الى هذا العهد المبارك لم أحل من وسطى نطاق العبودية، و لم أقصر يوما واحدا فى الخدمة. و كان حولى ثمانية و سبعون ولدا فلم يبق منهم غير هؤلاء الثمانية و قتل الباقون تحت الراية المنصورة. ثم ولدى جيو من الحقوق ما يعرفه الملك من دخوله الى بلاد الترك و تقلبه سبع سنين فى أطرافها حتى فعل ما فعل، ثم ما أتفق له بعد رجوعه الى ايران من الخدم المرضية كما عرف و اشتهر. فهو يتوقع ملاحظة بعين العناية. فقال الملك: إن أفعاله أكثر من أن تذكر. و أمر بأن يعقد له على ممالك قُم و إصبهان، و كتب له منشورا بذلك. ثم قال للحاضرين: اعملوا أن جيوا تذكرتى عندكم، و وديعتى بين أظهركم، فلا تخالفوه فيما يأمره، و اتبعوه فيما يأتى و يذر». فقعد جوذرز.
إعطاء الملك كيخسرو منشورا لطوس
[عدل]و قام طوس و قبل الأرض و قال: أيها الملك! أنا المنتهى الى أفريدون من بين هؤلاء الأكابر. و لم أزل مشدود الوسط فى خدمة الايرانيين. و ذكر مقاماته و وقائعه ثم قال: فما ذا يكون لى بعد الملك؟ فمدحه كيخسرو و أثنى عليه و عقد له على جميع ممالك خراسان، و أقرّه فى مرتبته من سالارية الدِّرفش الجاوِيانى و المداس الذهبى.
استخلاف الملك كيخسرو لهراسب للحكم بعده
[عدل]و لم يبق أحد غير لُهراسب فأمر الملك بيژن بن جيو بأن يحضره. فلما دخل عليه وثب قائما له و أثنى عليه. ثم نزل من التخت و أخذ التاج عن رأسه و وضعه على رأسه لهراسب و أقعده فى مكانه من السرير و هناه بالسلطنة و قال: إنى قد سلمت إليك تاج الملك فلا تحرّك لسانك إلا بالعدل. فإنك به تكون منصورا مسرورا. و لا تجعل للشيطان الى قلبك سبيلا إن أردت أن يكون حظك من الملك موفورا. و اتبع الحق و لا تؤذ الخلق، و كن حافظا للسانك. فصعب على الايرانيين عهده الى لُهراسب و اختياره للملك دونهم. فقام زال و أنكر عليه ذلك فى كلام من جملته أن قال: إن لهراسب قدم و لم يكن له إلا فرس واحد، فنفّذه الملك الى قتال ألان، و أعطاه السالارية و الكوس و العلم. فكيف بلغ به الحال الى أن أهلته لولاية العهد، و تركت هؤلاء الأكابر الذين ينتمون الى الشجرة الخُسروانية و الدوحة الكيانية؟ و كيف نخاطب بالسلطنة من لا نعرف نسبه و لا حسبه؟ فكثر لغط الايرانيين و وافقوا زالا فيما قال: فلما سكتوا قال الملك لزال. لا تجعل و لا تحتد. فإن من قال غير الصواب تعرّض للعذاب. و إن اللّه تعالى إذا خص أحدا بالسعادة و جعله مستحقا للسيادة حباه بالدين و الحياء، و الروعة و البهاء، و جمع له بين المعدلة و الأصالة، و السماحة و البسالة. و اللّه شاهد على لسانى أن هذه الخصال الحميدة و السير المرضية مجموعة فى لهراسب. و هو حافد أو شهَنج الملك الطاهر الذيل الناصح الجيب. و هو الذى يقطع دابر السحرة من وجه الأرض، و يظهر الطريق الى اللّه عز و جل، و يرجع به الى الزمان شبابه الناضر.
و يخلفه فى ذلك بعده ولده الطاهر. فحيوه بتحية الملوك، و لا تخالفوا موعظتى الصادرة عن الشفقة و الخلوص. فإن من يخالف و صيتى كان سعيه هباء منثورا و كان بربه كفورا، و لن يزال مدّة حياته مروّعا مذعورا». فندم زال على ما قال، و قام و قام و خاطب لهراسب بالسلطنة، و دعا الملك و قال: من ذا يعرف انتساب لهراسب الى أو شهَنج لولا الملك؟ و اعتذر اليه و سأله الصفح و العفو. فقام عند ذلك الملوك، و الأكابر، و حيوه بتحية الملوك، و نثروا على تاجه الجواهر. ثم قال الملك و قال: شاعكم السلام أيها الكرام.
فعانق كل واحد منهم و ودعهم، و هم يبكون و يضجون، و كأنهم بلسان حالهم يقولون: وداعك مثل وادع الحياة و فقدك مثل افتقاد الديَم عليك السلام فكم من وفاء نفارق منك و كم من كرم
توديع الملك كيخسرو جواريه و نسائه
[عدل]ثم ركب إلى إيوانه و ودع جواريه و نساءه. و استحضر لهراسب و أوصاه بهنّ و أمره بمراعاتهن و احترامهنّ و القيام بكفالتهنّ . و أن يقرّهنّ فى الدار التى كنّ بها حينئذ. و قال: عليك ألا تخجل إذا لقيتنى و سِياوخش عند تحوّلك من هذه الدار إلى مستقرّ الأبرار. فتقبل لهراسب وصيته. ثم خرج و ركب و طاف على الإيرانيين و عزاهم عن نفسه و وعظهم و نصحهم.
ذهاب الملك كيخسرو إلى الجبل و اختفاؤه في البرد
[عدل]ثم أمر لهراسب بالانصراف عنه و العود إلى تخت الملك و قال: إياك أن تزرع فى الدنيا غير الخير. و متى رأيت أن نفسك قد رغبت فى الراحة، و زهدت فى الملك و المال فاعلم أن وقتك قد انتهى فلا تعدل عن العدل و الإنصاف، و خلص نفسك عن المكاره و الأسواء. و فنزل لهراسب و قبل الأرض و ودّعه . و سار الملك، و صحبه رءوس الإيرانيين مثل دستان و رستم و جوذرز و جيو و بيژن و كُستَهم و فريبُرز و طوس، و سار إلى أن صعد إلى جبل فأقاموا عليه أسبوعا. و خرج فى أثره نساء الإيرانيين و رجالها زهاء مائة ألف نفس يبكون و يضجون حتى طنّ بصياحهم و عويلهم السهل و الجبل. ثم بعد أسبوع أشار الملك على الأكابر و السادات بالانصراف من ذلك المكان، و قال: إن أمامنا طريقا صعبا لا ماء فيه و لا عشب. فانصرف دستان و رستم و جوذرز و بم ينصرف عنه الباقون. فسار الملك و ساروا معه حتى وصلوا إلى ماء فنزلوا هناك. و قال لهم الملك: إذا طلعت الشمس غدا حان وقت المفارقة. فباقوا ليلتهم عند العين. و لما كان فى الثلث الأخير من الليل قام الملك و دخل العين و اغتسل. ثم ودّعهم و قال: إن الثلج غدا يسدّ عليم الطريق فلا تهتدون إلى الرجوع إلى إيران.
بحث الأبطال عن الملك كيخسرو بين الثلوج و عدم عثورهم عليه
[عدل]و لما طلعت الشمس ركب الملك و غاب عن أعينهم فهاموا على وجوههم فى تلك الجبال و الرمال يطلبونه و يبكون عليه. فلما لم يروا منه أثرا عادوا إلى تلك العين فنزلوا ساعة، و قالوا: نستريح ثم نرتحل راجعين. و جعلوا يتعجون من الحالة التى شاهدوها، و يقولون: لم نسمع قط بأن أحدا فى حالة حياته ينتقل إلى جوار اللّه الكريم. و بقوا على تلك الحالة يبكون و يتأسفون ثم تناولوا شيئا كان معهم و ناموا ساعة. فتغيمت السماء، و اشتدّ الهواء، و مطروا ثلجا غابت فيه من كثرته رماحهم القائمة. و بقوا يضطربون تحت الثلج حتى هلكوا أجمعين. و أما زال و رستم و جوذرز فانهم أقاموا ثلاثة أيام على ذلك الجبل الذى ذكرنا مفارقة الملك إياهم عليه، يبكون و ينتحبون. و لما طلعت الشمس عن اليوم الرابع، و انكشف الغيم و صحا الجوّ قالوا: قد طال مكثنا هاهنا، و ان كان الملك قد هلك فما بال من كانوا معه لم يعودوا؟ فأقاموا أسبوعا آخر فأيسوا منهم، و أخذوا فى البكاء و العويل، و طفق جوذرز يضرب نحره و ينتف شعره و يقول: من لقى ما لقيت من ذرية كيكاوس؟ قد كان حولى من أولادى عسكر فقتل أكثرهم بسبب الطلب بثأر سياوخش، و قد أصاب هؤلاء الباقين مع هذا الآخر ما أصابهم. و جعل ينوح عليهم و يندبهم. فأخذ زال يغريه و يسليه. ثم رجعوا.
علم لهراسب باختفاء الملك كيخسرو
[عدل]و لما علم لهراسب بحالهم و رجوعهم جلس على تخته فدخل عليه الأكابر و الأمراء. فقال: يا قوّاد العسكر! إنكم قد سمعتم مواعظ الملك السعيد كيخسرو و وصاياه. فمن يكن منكم بولايتى غير مسرور و لا ممتثل لأوامر الملك فإنى بكل ما أمرنى به قائم، و لجميع مراسمه ممتثل. و أنتم فلا تخالفوه أيضا و لا تخفوا من حالكم من شيئا. فإن من نبذ وصية الملوك وراء ظهره يكون مخالفا للّه فى سره و جهره. فقال دستان: إن الملك قد سماك لهذا الأمر، و قبلتُ وصيته و لست براجع عن ذلك و لا رستم. فالآن أنت المتبوع و نحن التابعون، و الآمر و نحن المطيعون. فأثنى عليه لهراسب و قال: إن الملك قد عقد لكم على نيم روز، فالآن كل ما قدرتم على أخذه و استضافته اليها فقد سلطتكم عليه. و أقبل على جوذرز قال: ماذا تقول أيها البهلوان؟ فقال ماذا أقول و أنا رجل وحيد؟ فذكر أولاده بهرام و جيوا و بيژن، و مزق ثيابه، و بقى ساعة يندبهم و ينوح عليهم. ثم أفاق و قال: أنا موافق لدستان فيما قال و ممتثل لأمر الملك كيخسرو فيما دبر و اختار. أنت الملك و نحن كلنا لك أتباع و أشياع». فأثنى على لهراسب سائر من حضر من الأمراء و القوّاد ، و خدموه ثم انصرفوا. و انشرح صدره بما استتب له من ذلك الأمر لكنه أخر التتوّج بتاج السلطنة الى يوم المهرجان اقتداء بأفريدون. و هذا آخر الحديث عن ملك كيخسرو و سلطانه. و نتبعه بذكر نوبة لهراسب و وقائعه ان شاء اللّه تعالى، بسعادة مولانا السلطان الملك المعظم، ملك ملوك العرب و العجم أبى الفتح عيسى بن السلطان الملك العادل أبى بكر بن أيوب لا زال تاج الملك منوّرا ببهائه و جماله، و سرير السلطنة مزينا بروعته و جلاله، ما تعاقب الملوان و تناوب الجديدان.
فهرست قصص الشاهنامة |
فاتحة الكتاب • كيومرث • هوشنغ • طهمورث • جمشيد • ضحاك • أفريدون • منوشهر • زال • سفيدج • نوذر • زو بن طهماسب • غرشاسب • كيقباد • هفتخوان رستم • وقعة هاماوران • وقعة برواز • سهراب • سياوش • كيخسرو • طواف الممالك • عهد بحيرة هسروه • وقعة فرود بن سياوش • كاموس الكشاني • بولاطوند • أخوان ديو • بيجن • يازدهرخ • كهار الكهانی • جوذرر و بيران • الإصبهبذين • فرشيذ و لهاك • إنهزام أفراسياب • يأس كيخسروي • قسمة الممالك على الأكابر • لهراسب • زرادشت • كشتسب • زرير • هفتخوان اسفنديار • رستم و اسفنديار • شغاد • بهمن بن اسفنديار • هماي جهرزاد • داراب • دارا بن داراب • اسكندر • مدينة البراهمة • مبدأ أمر أردشير • اشكانيون • هفتواد • جلوس أردشير على العرش • سابور بن اردشير • هرمزد • بهرام • بهرام بهراميان • نرسي بن بهرام • هرمز بن نرسي • سابور ذوالأكتاف • بهرام بن سابور • أردشير المحسن • سابور الثالث • يزدجرد بن سابور • بهرام جور • يزدجرد بن بهرام جور • هرمز بن يزدجرد • فيروز • بلاش • قباذ • خروج مزدك • نوشزاد بن أنوشيروان • المرأة النصرانية • حرب رام برزين • رؤيا أنوشروان • بزرجمهر الحکيم • مأدبة أنوشيروان • مهبود وزير • سورستان • كو و طلخند • الراي ملك الهند • برزويه الطبيب • قتال الروم • هرمزد بن كسري • بهرام جوبين • كسري برويز • شيرين و خسرو • شيرين و فرهاد • طاق الديس • إيوان المدائن • شيرويه • أردشير بن شيرويه • فرائين • بوراندخت • ازرمدخت • فرخزاد • يزدجرد الثالث • |