كشتسب
بداية القصة
[عدل]و كان له من بنت كيكاوس ابنان كأنهما قمران يتأهل كل واحد منهما للتاج و التخت و الأمر و النهى، لما فيهما من المروءة و الشجاعة و الجرأة و البسالة. و كان أحد هما يسمى كشتسب و الآخر زرير.
فاتفق أن لهراسب قعد ذات يوم فى مجلس أنسه بفارس و حضر كشتسب. و لما دار عليه الكأس و تمكن منه السكر قام و قبل الأرض بين يدى أبيه، و قال: أنت تعلم أنه بعد رستم بن دستان ليس على وجه الأرض من يساجلنى فى الشجاعة و يطاولنى فى البسالة. و أنا أريد أن تسمينى للسلطنة، و تعهدلىّ حسب صنيع الملك كيخسرو و بك. و أكون مع ذلك متصفا بعبوديتك و ملازما لخدمتك.
فقال له أبوه: إنك بعد فى ريعان الحداثة و غرة الشبيبة. فدع طلب هذه المرتبة، و لا تقل إلا ما يستحسنه العقل و يقتضيه الذكاء. فعظم ذلك عليه. و كان له ثلاثمائة فارس فركب فيهم وقت المساء، و فارق خدمة أبيه متوجها الى حضرة ملك الهند. و زعم أنه جاءه منه كتاب يستدعيه.
و لما أصبح أبوه وقف على حاله، و اهتم لصنيعه، و أحضر نصحاءه و أصحاب، رأيه، و فاوضهم فى أمر ولده، و شكا إليهم صنيعه، و قال: ربيته حتى شب و ترعرع، و لما دنا وقت الانتفاع بمكانه بادر الفرار و نغص علىّ العيش و القرار».
فدعا بولده الآخر زرير و نفذه فى ألف فارس على طريق الهند، و نفذ كُستَهم فى جميع على طريق الروم، و نفذ برازه على طريق الصين، و أمر كل واحد منهم بالجدّ فى طلبه و استرجاعه قبل أن يصل الى مهربه.
ذكر مسير كشتسب إلى بلاد الروم، و ما جرى عليه
[عدل]ذهاب كشتسب الى بلاد الروم
[عدل]قال: و لما أصبح أبوه و اطلع على حاله أحضر زرير، و استدعى الموابذة، و ذكر لهم حال كشتسب. فقال له أحدهم: فرق العسكر فى طلبه فاذا ردّوه اليك فلا تبخل عليه و اعهد اليه.
فهو يستحق ذلك بما فيه من الشهامة و الصرامة». ففرق الأكابر فى طلبه فطافوا فى أطراف المملكة فلم يقفوا له على خبر و لا عثروا منه على أثر فعادوا خائبين.
دخول كشتسب إلى بلاد الروم
[عدل]و أما كشتسب فإنه سار حتى قرب من البحر. و كان الموكل بالسفن رجلا عاقلا يسمى هيشويَه فسأله مركبا يعبر فيه، و قال: أنا كانت من أرض إيران، و أريد الدخول إلى بلاد الروم. فقال:ما أرى شمائل الكتاب. و ما أدرك، لما أشاهد عليك من البهاء و الأبهة، إلا من الملوك، و لا سبيل لك إلى العبور إلا بأن تصدقنى عن حالك أو تعطينى بعض ما معك». فأرضاه بمال و هبه له و عبر.
و كانت هناك مدينة بناها سلم بن أفريذون فى طول ثلاثة فراسخ، و هى مستقر سرير قيصر ملك الروم. فدخلها كشتسب و بقى فيها مدّة مديدة حتى أنفق جميع.
ما كان معه، و ضاقت يده فدخل إلى ديوان قيصر و قال لبعض الأساقفة: إنى كاتب من أرض إيران. و سألهم أن يستكتبوه أو يستنيبوه فى بعض الأعمال. فنظروا الى اعضاده الشديدة، و تفرّسوا فى شكله و قوّته ، و قالوا: إن هذا ليبكى قلم الحديد من مخافته، و يحترق القرطاس من مهابته، و لا يصلح له إلا فرس يعلوه و سلاح يعانيه».
و لم يقبلوه فرجع مهموما يتنفس الصعداء فصار نحو جويان قيصر و سأله أن يستخدمه فلم يقبله أيضا، و قال: أنت رجاح أجنبى و لا آمنك على الخيل. فتركه و صار إلى الساربان، و سأله أن يقاطعه على خدمة الجِمال . فقال: لا يليق بك أن تكون جمّالا . و لو دخلت الى دار قيصر و رآك لأغناك عن هذا. فاقصد بابه و لا تعدل عنه». و عزم عليه فى ذلك.
فانصرف و دخل البلد و هو حزين كئيب فدخل سوق الحدّادين ، و جلس على طرف دكان حدّاد يسمى بوراب فأطال القعود عنده. فاستعرض حاجته. فقال: إن رأيت أن تستعملنى فى تطريق الحديد فافعل. فإنى أقوم به و أغنى غناء حسنا. فأجابه الى ذلك، و طرح فى النار بيضة من الحديد حتى اذا احمرت و صارت كوهج النار اجترّها و وضعها على السندان، و أعطاه الفِطّيس فلم يزد على ان ضربها ضربة واحدة رض بها الحديدة و فلق السندان فطارت الحديدةشعاعا و تفرّقت فرقا.
فطنّ السوق بحديثه، و اجتمع عليه خلق ففزع بوراب و قال: أيها الشباب! إن السندان لا يطيق قوّتك ، و أنت لا تصلح لهذا العمل. فرمى الفِطّيس و خرج من دكانه و هو جائع لا يجد مطعما و لا يرجع الى مسكن، و قد غلبه الهم و الحزن. و قد وصف صاحب الكتاب حاله بما أعرب عنه الشاعر بقوله حيث يقول: بلونا ما تجيء به الليالى فلا صبح يدوم و لا مساء و أنضينا المدى طربا و هما فما بقى النعيم و لا الشقاء اذا كان الأسى داء مقيما ففى حسن العزاء له شفاء و ما ينجى من الغمرات إلا طعان أو ضراب أو رِماء سيُقطعك المثقف ما تمنى و يعطيك المهند ما تشاء.
استضافة الدهقان لكشتسب
[عدل]قال: فخرج من المدينة الى ضيعة قريبة منها كثيرة الماء و الشجر. فتفيأ فى صحرائها بظل شجرة، و أطرق يفكر فى حاله و يبكى. فمرّ به رجل من أهل تلك الضيعة حميد السيرة مرضى الخلق، فرآه عن تلك الحالة فاستخبره عما به لا لاطفه فى استعلام حاله، و استدعاه الى ضيافته. فسأله كشتسب عن محتده و أصله. فقال له: أى غرض لك فى هذا السؤال؟ فلم يجبه حتى أخبره بأصله و أنه من ذرية أفريذون. فنهض معه عند ذلك الى منزله. و جعل يخدمه خدمة الأخ الشفيق. و بقى عنده على ذلك أشهرا من الزمان.
قصة كتايون بنت قيصر الروم
[عدل]و كانت عادة قيصر فى ذلك الزمان أنه اذا أدركت إحدى بناته و حان حين تزويجها ألا يزوّجها إلا ممن تختار و تريد فتجلس فى إيوان و يجتمع إليها الأمراء و الخواص و العوام. فمن وقع عليه نظرها و رضيته لنفسها أعطته باقة ريحان.فتزوّج حينئذ منه. و كانت للملك ثلاث بنات و موصوفات بالجمال و الأدب و العقل. فدخل وقت تزويج كبراهن و كانت تسمى كتايون.
فرأت فى المنام أنه احتفل لها الناس على عادتهم فحضر رجل استنارت به الأرض كأنه قمر زاهر أو سر و ناضر غير أنه غريب كئيب، فأعطته هى باقة ريحان و أعطاها هو باقة أخرى. فانتبهت، و لما طلعت الشمس اجتمع الناس على عادتهم فتبرجت فى ستين جارية مع كل واحدة منهم باقة ورد و ريحان فتأمك فى جميع الحاضرين فلم تقع عليها على أحد ترتضيه، فانصرفوا.
و لما كان الغد قال الذى نزل عنده كشتسب له: ما بالك قاعدا مهموما؟ فقم و اذهب و تفرّج على اجتماع الناس لعرس بنت الملك. فخرج معه و صار الى إيوان قيصر، و قد اجتمعوا اجتماعهم بالأمس. فقعد كشتسب فى زاوية من المجلس.
فتبرجت كتايون و طافت على الحاضرين، فلما انتهت الى كشتسب أعطته ما معها من الورد و الريحان. فارتفعت الأصوات و بادر الوزير إلى الملك و قال: إن كتايون اختارت من القوم رجلا رشيق القدّ صبيح الوجه قد أعطاه اللّه رونقا و بهاء، و كساه أبهة و جلالا.
غير أنا لا نعرفه و لا نعرف أصله و محتده». فعظم ذلك على قيصر و قال: لا عاشت البنت فإنها تجلت العار و الشنار. كيف أزوّج بنتى من رجل خامل الذكر غير معروف بفخامة الأمر و جلالة القدر؟ و الرأى أن نقطع رأس المختار و المختارة من وراء الستارة. فأنكر الأسقف عليه ذلك و قال: هذا طريق ما سلكه أحد من آبائك فلا تسلك أنت فيه فإنه غير مبارك و لا مرضى عند الملوك. و صرفه عن رأيه ذلك
تزويج قيصر الروم ابنته كتايون من كشتسب
[عدل]و استقرّ الأمر على أن يزوّجها إياه. فزوّجها منه و قال لها: اخرجى معه و لا حِلى لك عندى و لا حُلىّ و لا تاج و لا طوق و لا سوار.
فقال لها كشتسب: مالك لم تختارى واحدا من هؤلاء الملوك و الأمراء حتى لا يتغير فيك رأى الملك؟ و مالك اخترت رجلا غريبا مسكينا؟ فقالت له: إذا كنت قد رضيت بك مع هذه الحالة فما لك تكثر الفضول؟ فخرج. و طيب قلوبها الدهخُداء الذى كان أنزله فى منزله، و أخلى لهما دارا، و قام بخدمتهما.
و كانت مع كتايون جواهر لها قيمة فأعطته فصا من الياقوت فباعه بستة آلاف دينار. فاشترى منه ما احتاجا إليه من المفارش و الملابس و غير ذلك. و مال كل واحد منهما الى صاحبه، و أخذا يزجيان أوقاتهما و كان الصيد و القنص معظم ما يشتغل به كشتسب، فلم يكن يفارقه القوس و التركش.
فخرج يوما على عادته الى الصيد فرجع و معه عدّة من أنواع الصيد. فاتفق مروره على هيشويه المتولى للبحر الذى سبق ذكره فعرفه فتلقاه و أكرمه. فقدّم إليه كشتسب ما معه من الصيد، و حصلت بينهما صداقة عظيمة و مودة أكيدة، و كان كل يوم إذا رجع من الصيد يحضره عنده و يقدّم له بعض ما اصطاده، و إذا انصرف الى ضيعته قدّم بعض ما صحبه من الصيد الى صاحب الدار، و فرّق الباقى على أهل الضيعة.
خطبة ميرين و هو أحد الأمراء ابنة قيصر الأخرى
[عدل]قال: و كان فى قوّاد قيصر أمير كبير من بيت كبير من الوجوه المشهورين. فخطب الى قيصر بنته فقال: إنى قد تركت ما سبق لنا فى هذا من الرسم و الآيين. و لست أزوّج بنتى إلا ممن يفعل فعلة عظيمة مذكورة فيركب الى أجمة قاسقون فإنّ فيها ذئبا أغبر فى ضرارة ثعبان و قوّة فيل- فى أوصاف ذكرها صاحب الكتاب منها أنه كان له قرن- فمن قتل هذا الشيطان أجبته الى ما يريد، و صاهرته».
فضاقت الأرض على الأمير الخاطب بما رحبت، فرجع الى إيوانه، و خلا بنفسه، و أخذ يطالع الكتب فرأى فى كلام بعض علمائهم المتقدّمين أنه يأتيهم فى الزمان الفلانى رجل من أهل إيران فيتيسر له ثلاثة أمور: أن يتزوّج بابنة قيصر، و أن يقتل فى أرض الروم سبعين قد عظمت أذيتهما للناس. و كان الرجل قد علم من حال كشتسب اتصاله بكتايون بنت قيصر و مصاحبته لهيشويه و مصادقته له، فركب الى هيشويه، و ذكر له حاله، و حكى له ما رآه فى كتاب الفيلسوف.
فقال له: إن هذا الرجل الذى وصفته لم يأتنى بالأمس، و هو يأتينى الساعة فلا تبرح. فأحضر الشراب و المغانى. و لما درأت عليهم الكأس أربع دورات ظهر لهم كشتسب من الطريق. فركب هيشويه مع ميرمين، و هو الأمير المذكور، و تلقاه.
و لما قربا منه ترجلا له و قبل هيشويه الأرض بين يديه. و عدلوا الى جانب و أحضروا الطعام و الشراب، و اندفعوا فى الأكل و الشرب.
و لما ثمل كشتسب أقبل عليه هيشويه و قال: إن ميرين هذا رجل عاقل عالم منجم قد نظر فى كتب الفلاسفة، و هو عالم بأحوالهم.
و هو مع هذه الخصال ينتسب الى سلم بن أفريذون، و عنده صمصامة سلم التى كانت لا تفارقه. و هو فارس مقدام. و قد أراد التشرف باتصاله بقيصر فخطب اليه ابنته، فزعم أنه لا يزوّجه إياها إلا بعد أن يقتل الذئب الذى من صفته كيت و كيت.
فإن كفيته هذا المهم، و قتلت له هذا السبع كنت لك عبدا، و كان هذا الأمير لك نسيبا و حميما. فقال له كشتسب: إن هذا أمر هين. فهاتوا فرسا قويا، و هاتوا سيف سلم الذى وصفتموه.
فركب ميرين الى منزله، و أخرج فرسا أدهم، و حمل السيف مع درع و خوذة، و استصحب تحفا من الجواهر و الثياب و غيرها. و جاء بذلك هيشويَه .
فلما جاء كشتسب من منزله قدّم ذلك بين يديه فقبل الفرس و السيف، و وهب البقية لهيشويه. ثم لبس الخفتان و ركب الفرس، و توجه نحو الأجمة، و أمامه ميرين و هيشويه حتى دنوا من الأجمة المذكورة.
قتل كشتسب للذئب الضاري
[عدل]فأراه هيشويه مرض السبع، و رجع مع ميرين القهقرى وراءهما، و قعدا.
يتلهفان على كتشاسب حيث ألقى بيده الى التهلكة. و أما كشتسب فإنه نزل عند الغيضة و سجد للّه تعالى و استنصره و استعانه. ثم ركب و دخل الأجمة فزأر زأرة كاد يتمزق من هولها و شدّتها مرائر السباع التى هنالك. فلما رآه الذئب همهم كالسحاب الراعد، و أقبل اليه يشقق الأرض بأظافيره.
فرشقه بسهام صائبة فجرحه. فربض ما ناله من ألم الجراح و استراح ساعة ثم حمل على كشتسب و شق بقرنه بطن فرسه. فترجل كشتسب و علا رأسه بسيفه ففلق هامته حتى انتهى الى زوره، و وقع صريعا. و خرّ كشتسب ساجد اللّه عز و جل شكرا على ما أولاه. ثم قلع سنين من أسنان الذئب كأنهما حربتان مؤللتان، و كرّ راجعا راجلا الى صاحبيه. و كانا قد أقاما المأتم عليه. فلما تراءى لهما من بعيد وثبا مبادرين اليه فعانقاه، و استخبراه عما جرى له، فأعلمها بما يسر له من قتل ذلك السبع، و أشار عليهما بدخول الغيضة ليشاهدا العجب. ففعلا و رجعا اليه و قد انشرحت صدور هما بذلك.
فانصرفوا و قدّم ميرين تحفا كثيرة و هدايا وافرة لكشتسب فلم يقبل منها إلا فرسا ركبه و عاد الى منزله.
و بادر ميرين الى حضرة قيصر و قال: أيها الملك! قد كفيت أمر ذلك السبع العظيم. و قد قددته من مفرقه الى زوره بنصفين. ففرح له قيصر و استبشر و أمر بأن يخرج من الأجمة على العجل الى الميدان. فلما شاهده الملك صفق بيديه فرحا و سرورا. ثم أحضر الأسقف و زوّج ميرين ابنته.
و أمر بتفريق الكتب الى بطارقة الروم يخبرهم بما تسنى لميرين من كفاية شر ذلك السبع الهائل و التنين الصائل.
قصة كشتسب مع أهرَن
[عدل]خطبة أهرن و هو أحد القادة بنت قيصر الثالثة
[عدل]قال: و كان فى بلاد الروم أمير آخر يسمى أهرن ذا بيت فى الشرف أصيل و عرق فى المجد عريق. فأرسل الى قيصر يخطب اليه ابنته التى بقيت عنده، و يقول: أنت تعلم أنى أشرف من ميرين حسبا، و أكرم منه نسبا، و أطول منه باعا، و أرحب منه ذراعا، فأرسل إليه الملك يقول: إنه لا يخفى أنى لم أزوّج ابنتى من ميرين حتى فعل بالسبع ما فعل. فإن كنت راغبا فى هذه المصاهرة فلا بد لك من مثل ما فعله ميرين. فى جبل سقيلا ثعبان قد ضيق على الخلق هذا الإقليم.
فإن قتلته و كفيت الروم شره أجبتك الى ما سألت. قال: فأفكر أهرن ففطن أن قتل الذئب ليس من صنيع ميرين، و أن تلك الضربة ليست ضربته.
و قال: الرأى. أن أركب الى هذا المحتال، و استخبره عن الحال فعساه أن يصدقنى الخبر. فركب فى موكبه و جاء الى باب إيوان ميرين، و استأذن و دخل فتلقاه ميرين بأتم إعظام و إكرام. ثم خلا به و قال: إنى جئتك لأستخبرك عن شيء، و لا بدّ أن تكشف الغطاء و تصدقنى عنه. فضمن له عن نفسه الصدق فيما يسأله. فقال: إنى خطبت الى قيصر ابنته فأجابنى على شريطة أن اقتل الثعبان.
فأخبرنى الآن كيف كان حرب السبع، و دلنى على وجه الحيلة فيه. فأطرق ميرين عند ذلك ساعة مفكرا، و قال فى نفسه: إن لم أخبره بمصدوقة الحال لم يخف الأمر عليه. و الصدق هو رأس مال الفتوّة ، و الكذب مباين للمروّة . و الرأى أن أدله على الرجل فلعله تنحسم على يده أيضا مادة شر هذا الثعبان، و أعتضد بأهرن و نكون بين الروم يدا واحدة لئلا يتمكن منا عدوّ ، ثم ندبر على هذا الفارس نقتله ليخفى الأمر و لا يطلع عليه أحد».
ثم استحلف أهرن على الكتمان فحلف له. فكتب الى هيشويه كتابا، و ذكر فيه أن أهرن من أولاد القياصرة، و أنه ممن لا يخفى شرفه.
و قد خطب الى الملك ابنته فأجابه و شرط عليه أن يقتل الثعبان الذى فى جبل سقيلا. و الآن فقد توسل بن اليك لتدبر أمره. فحمل أهرن كتابه الى هيشويه فضمن له ذلك. فأقبل كشتسب فتلقاه مع أهرن و خدماه. و لما نزل عرض عليه ما تجشم لأجله أهرن بعد أن ذكر حسبه و نسبه و رغبته فى مصاهرة قيصر. فقال: استعمل حربة طولها خمسة أذرع فى كل واحد من طرفيها سنان مؤكل كأسنان الحية رأسه كإبرة الشوك. و أحضر لى فرسا و جوشنا حتى أكفيهم أمر هذا الثعبان الهائل بإذن اللّه عز و جل. فعمل أهرن ما أشار به عليه، و حمله و جاء الى هيشويه.
قتل كشتسب للثعبان و زواج أهرن ابنة قيصر
[عدل]و جاء كشتسب و ركب و ركبا معه و ساروا حتى قربوا من ذلك الجبل. فوقفا و صعد كشتسب الجبل، و قد طلعت الشمس، فرأى ثعبانا متغيظا قد فتح فاه عن مثل الجحيم، و اجترّ اليه كشتسب بنَفَسه . فرماه بالنشاب، و لما قرب منه وضع الحربة ما بين فكيه.
فعض عليها فدخلت فى حلقه فأخذ يغرغر و يقذف السم من فيه حتى كاد يغمر وجه الأرض بسمه. ثم علا رأسه، و ضربه ضربة أفرغت دماغه ما بين تلك الحجارة.
فترجل و قلع من شدقيه نابين طويلين، و انصرف نحو عين هناك و اغتسل و سجد يبكى و يعفر وجهه فى التراب يدعو اللّه تعالى و يشكره على إعانته إياه على ذلك السبع العظيم، و هذا الثعبان الهائل، و يسأله أن يجمع شمله بأبيه و أخيه. ثم ركب مخضل الوجه بدموعه، و عاد إلى صاحبيه ففرح بذلك أهرن، و لما عاد إلى منزله أهدى له هدايا كثيرة من التحف و الثياب و الجواهر و الخيل و الأسلحة.
فلم يأخذ لنفسه منها غير فرس و قوس و عدّة سهام. و وهب الباقى لهيشويه. فركب أهرن الى منزله، و انتشر الخبر فى المدينة بأن أهرن قتل الثعبان. و حُمل الثعبان على العجل على ميدان قيصر. و كان كقطعة جبل.
فاجتمع الناس ينظرون اليه، و ابتهج قيصر لذلك، و اتخذ ذلك اليوم عيدا. و لما كان من الغد استدعى الأسقف و البطارقة و الجاثليق، و سلم ابنته الى أهرن. و كان يظهر التبجح به و بالختن الآخر الذى يسمى ميرين.
إظهار كشتسب فنونه و مزاياه أمام قيصر الروم
[عدل]و بنى قصرا مشرفا على الميدان فكان يجلس فيه و ينظر الى لعبهما فى الميدان بالكرة و الصولجان حتى مصى على ذلك زمان.
فاتفق أن ابنة قيصر التى تحت كشتسب قالت له ذات يوم: مالك لا تركب الى ميدان الملك و تتنفس ساعة و تلقى عن نفسك بعض هذا الهم و الحزن؟
فاستحضر مركوبه، و ركب و دخل الميدان، و وقف ساعة ينظر الى مطاردة من هناك من الأمراء و ملاعبتهم بالكرة. فاستدعى صولجانا، و تقدّم و لاعبهم فغلب الكل غلبة فضوا منها العجب.
ثم شرعوا فى النضال و المراماة فنضلهم كشاسب. فتعجب قيصر منه و استحضره و استدناه و استخبره عن اسمه و حاله و مولده. فقال: أنا ذاك العبد الذليل الذى طرده الملك من المدينة، و جفا ابنته حيث اختارته غريبا نازح الوطن بعيدا عن الأهل و السكن. و هو الذى قتل السبع الهائل و الثعبان الصائل، و كفى الروم شر هذين الشيطانين. ثم قال: و هيشويه دلنى عليهما. و أبيا بهما بعدُ عندى فى البيت.
فان رأى الملك أن يسأل هيشويه عن ذلك فليفعل ليعلم أنه ليس فى مصاهرتى عار و لا فى مواصلتى شنار. فجاء هيشويه و شهد بذلك، و أحضر هو أنياب السبعين بين يدى الملك، فغضب على أهرن و ميرين، و قال: كيف كان يخفى هذا الأمر؟ ثم اعتذر الى كشتسب و اعترف بالتقصير فى حقه.
و قال: أين ولدى كتايون فقد ظلمتها كثيرا؟
فحضرت فى الحال بين يديه فاعتذر اليها عما سلف، و لاطفها و قال لها: هل سألت زوجك عن حاله و أصله و محتده و مولده؟ فقالت: إنى سألته كثيرا عما يقوله الملك و لكنه ليس يخبرنى عن مصدوقة الحال، و لا يطلعنى على حقيقة الأمر، و لا أشك أنه من بيت عظيم و عرق كريم.
فانصرف قيصر الى إيوانه. ثم أتاه كشتسب من الغد و دخل عليه فأجلسه بجنبه على تخت من الذهب، فأحضروا له منطقة و خاتما و تاجا قيصريا. فقبل التاج و وضعه على رأسه و اعتذر اليه، و قال لأصحابه: كونوا كلكم مطيعين لفرّخ زاذ- يعين كشتسب، و كان قد تسمى عندهم بهذا الاسم و أخفى اسمه الأوّل - و لا تخالفوه فى قوله و لا فعله، و كونوا أيقاظا فى خدمته.
ذكر ما جرى بين إلياس ملك الخزر و بين قيصر
[عدل]رسالة قيصر الروم إلى إلياس ملك الخزر و طلب الخراج منه
[عدل]قال: و كان إقليم الخزر أقرب الأقاليم الى بلاد الروم. و كان ملكهم إلياس ابن الملك مهراس. فكتب اليه قيصر كتابا يبرق فيه و يريد حتى كأنه قطر بقلمه دما، و قال: إنك قد استوليت على ممالك الخزر فى هذه المدّة المديدة، و قد انتهت الآن أيام استبدادك بها. فنفذ الينا الخراج و الحمل و رهائن من أولادك. و إلا ففرّخ زاذ يسير اليك، و يدوّخ بلادك، و يملك تختك و تاجك.
فاغتاظ إلياس حين قرأ الكتاب، و أرسل اليه يقول: إنا ما سمعنا قبل اليوم بكل هذه الرجولية و الشجاعة فى الروم. و أنت أما ترضى، إذا لم أطلب منك الخراج، أن تنجو منى رأسا برأس؟ و أراك قد تهت و أعجبت بنفسك منذ استأمن اليك هذا الفارس. و هذا الرجل الوحيد و لو كان جبل حديد فليس إلا من حبالاتك و أشراكك التى نصبها الشيطان لهلاكك. ثم لا تجشمه النهوض الىّ فإنى لا أتأخر عن المسير إليك. و بلغ جوابه هذا الى أهرن و ميرين فأرسلا الى قيصر و قالا: إن إلياس ليس كالسبع و الثعبان. فاحذر أن يخلف ظنك فرخ زاذ اذا تضرمت نار الحرب، و انتصب إلياس للطعن و الضرب.
فاغتاظ قيصر من كلامهما و استحضر فرخ زاذ و قال له: اعلم أنه الياس رجل شجاع مسعر يحطم الأسد ببأسه و لا يصطلى أحد بناره. فان كنت تقدر على مطاولته و تستطيع مقاومته فأعلمنى، و إن كان غير ذلك فأعلمنى أيضا لأرى رأيا آخر، و أصرفه بالرفق و المداراة عما عزم عليه.
فقال له: أى حاجة لك الى هذا التطويل و القال و القيل؟ إنى اذا علوت ظهر الفرس لم أفكر فى جميع رجال الخزر. غير أنى لا آمن المخاطرة من ميرين و أهرن. فتعاون أن و ابنك على حماية ظهرى فى ملتحم القتال. فانى مجهول اللّه و قوّته لا أبقى إلياس و لا جيشه و لا تاجه و لا تخته.
قال: و لما كان من الغد وصل عسكر إلياس فأشار قيصر على كشتسب بأن يبرز بعسكره من المدينة و يزحف إليهم. فبرز بهم الى المصاف. و لما رآه الياس، و شاهد شدّة أعضاده و عبالة صدره و كيفية كره و فرّه أرسل اليه فارسا، و قصد أن يخدعه و يصرفه عن وجهه بمال يعطيه أو ولاية يجعلها له. فأجابه كشتسب و قال: إنك تضرب فى حديد بارد. و ما أنا ممن ينخدع لك، و تؤثر فيه رقيتك.
حرب كشتسب و إلياس و مقتل إلياس
[عدل]و لما طلعت الشمس من الغد ركب على عسكر الروم و جاء قيصر و عبى الصفوف و رتبها فخلّف ميرين و أهرن لحفظ الأثقال و ما وراء العسكر، و وقف فى المدينة، و رتب ولده المسمى سقيل فى الميسرة، و جعل كشتسب فى القلب. فتزاحف الفريقان التقى الجمعان.
و لما رأى الياس كشتسب قال لأصحابه: انما طلب قيصر منا الخراج لكون هذا الفارس على بابه. قال: و تلاقى إلياس و كشتسب فسدّد اليه إلياس سهما فأخطأه، و بادره كشتسب فطعنه طعنة أذرته عن ظهر الفرس، ثم مدّ يده و أخذه بأطواقه و اجتره من بين فرسانه، و ركض به الى قيصر فسلمه اليه. ثم عاود المعترك و زحف بجموعه الى صفوف الخزر فزحزحهم عن مواقفهم، و بدّد جموعهم و مزقهم كل ممزق، بعد أن قتل منهم مقتلة عظيمة.
ثم ترك الروميين فى أقفيتهم، و انصرف نحو قيصر فتلقاه قرير العين منشرح الصدر فشكر سعيه و قبله بين عليه. ثم انصرفوا الى دار الملك مظفرين منصورين. و خدمت الروم كشتسب بالهدايا و التحف و أنواع المبار و الخدم.
مطالبة قيصر الروم الخراج من لهراسب ملك إيران
[عدل]ثم بعد مضى أدوار من الزمان شاور قيصر كشتسب فى إنفاذه رسولا الى لُهراسب و مطالبته بأداء الخراج و إيذانه بالحرب. فقال له كشتسب: رأيك أصوب و أحكم. فافعل ما ترى.
ذكر مراسلة قيصر لُهراسبَ بذلك
[عدل]قال: و كان فى أصحاب قيصر رجل عاقل معروف بالشهامة و الصرامة مذكور برصانة الرأى و رزانة العقل يسمى قالوس. فأرسله الى لهراسب و أمره أن يقول له: أدّ الينا خراج ايران ليبقى عليك ملكك. و إن لم تفعل ذلك نفذت اليك فرخ زاذ فيدوّخ ديارك و يملك بلادك. فمضى الرسول الى لهراسب.
فلما وصل أعلم بوصوله، فجلس على تخت من العاج، و اعتصب بالتاج، و مثل بين يديه الأمراء و القوّاد سماطين. ثم أمر بادخال الرسول.
فدخل و أدّى اليه الرسالة فعظم عليه ذلك. ثم أمر بانزاله فى موضع يليق بجلالة قدر مرسله. و فرشوا له البسط المنسوجة لذهب، و قدّموا له الهدايا و التحف، و بلغوا فى إكرامه و إعظامه الغاية. فلما كان الغد جاء الرسول باب إيوان الملك و استأذن فأذن له. فدخل و خلا به لهراسب و قال: أيها الرجل العاقل! إنى مسائلك عن أمر فلا تعدل عن الصدق فيه.
ثم قال: إنا لم نسمع بكل هذه الرجولية فى الروم قبل يومنا هذا. و كان ملكهم أضعف الملوك. فمن أين تجدّد الآن لقيصر هذه القوّة و الشوكة حتى يبلغ به الأمر الى أن صار ينفذ كل حين الى إقليم و يطالب أهله بأداء الخراج و قبول الجزية و يهدّدهم و يخوّفهم سطوة بأسه، و حتى إنه أسر إلياس ملك الخزر مع جلالة قدره و فخامة أمره؟ فقل له من أى جهة شمخ بأنفه، و استعلى أمره؟
فقال قالوس: أنا كنت الرسول الى ملك الخزر، و تردّدت و رسولا غير مرة الى غير واحد من الملوك، و ما سألنى أحد منهم عما سألنى الملك عنه. و قد أنعم الملك علىّ بما لا أقدر معه على مخالفته فيما يشير به. ليعلم الملك أن اتصل بقيصر رجل يصيد الأسود بيده، و يضحك على جميع الرجال بقوّته و بطشه. و قد أصبح بين الروم كالنار على علم». و سرد عليه حكايته و قصته فى قتل السبع و الثعبان. فقال له لهراسب: فبمن تُشبّه هذا الرجل؟
فقال كأنه ولدك زرير وجها و قدا و شمائل و شكلا. فسرى عن لهُراسب و ذهب عنه بعض ما أحاط به من الهم، و أعطى الرسول بدار من المال و عدّة من الجوارى و الغلمان. ثم قال: أعلم قيصر أنى متأهب لقتاله و مصمم عليه. فانصرف الرسول.
حمل زرير رسالة لهراسب إلى قيصر الروم
[عدل]و أحصر لهراسب زرير و قال له: إن هذا الرجل ليس غير أخيك كشتسب. فدبر الأمر و لا تبطئ، و احمل اليه التاج و التخت. فإنى قد وهبت له السلطنة، و قلدته الملك. و لا تظهر فى العسكر إلا أنك خرجت لقتال قيصر».
فبرز زرير فى جميع أولاد الملوك و الأمراء و سار يطوى المراحل حتى وصل الى حلب فخيم فى صحرائها فامتلأت بالخيل و الرجال. و استخلف مكانه بهرام من الذرية الجوذرزية، و ركب فى خمسة من غلمانه، و مضى الى قيصر فى زى رسول، و لما دخل عليه وجد عنده قالوس و كشتسب. فخدمه و خدم جميع من حضر من الأمراء، و لم يلتفت الى كشتسب .
فقال له قيصر: مالك لا تقبل على فرخ زاذ؟ فقال: لأنه عبد أبق من الملك لهراسب جاء اليك فمكنته من خدمتك، و وطأت له كنفك. فلم يجبه كشتسب بشيء. ثم قال له: لهراسب يقول: إن عدلت عن طريق السداد، و رغبت عن الطاعة و الانقياد تركت المقام بأرض ايران و جعلت بلاد الروم مستقر سريرى. ثم اعلم أن أهل إيران ليسوا كالخزر، و لا أنا كإلياس الذى تسلطت على بلاده، و تمكنت منه. فقال قيصر: أنا على عزيمة اللقاء.
رجوع كشتسب مع زرير إلى إيران و إعطاء لهراسب الحكم إلى كشتسب
[عدل]رجوع كشتسب مع أخيه زرير
[عدل]قال: فسار كشتسب الجافى حتى وصل الى أطراف كابُل فرأى رياضا معشبة و غياضا متأشبة و أنهارا جارية و صيدا كثيرا فنزل فيها و اشتغل و بالشرب فى ليله ثم أدلج بالبزاة و الفهود و الجوارح فى طلب الصيد. فلحقه أخوه فى ذلك المكان.
و لما رأى وجهة ترجل و قبل الأرض، و أجهش اليه بالبكاء، و تعانقا و رجعا الى المخيم فقعدوا فيه و تناوشوا أطراف الحديث فقال له أخوه المذكور: أيها الأمير الكبير! إن الموابذة و المنجمين فى أرض إيران يخبرون بسعادتك و على جدك، و أنك تبلغ مرتبة الملك كيخسرو.
و اذا دخلت الى بلاد الهند احتجب الى خدمة ملكها الذى لا يعبد إلهك و ليس على دينك. فأفكر فى أمرك، و انظر كيف يقتضى العقل هذا، و هل يحسن بمثلك أن يدخل تحت طاعة ملك الهند؟ هذا مع أنك لك الحسنى عند أبيك، و العتبى بعد تأبيك.
و لا ندرى من أى جهة تكرهته و مللته. فقال: إن وجوهنا لا ماء لها عند أبينا، و هو شرس الخلق و لا يميل إلا الى الكاووسية و من ينتسب الى تلك الجرثومة، و ليس لى و لا لك عنده مكانة، و هو لا ير شحنا إلا للعبودية و الخدمة.
و لكنى أرجع من أجلك، فإن جعل لى تاج مملكة إيران وقفت فى خدمته على القدم، و خدمته خدمة الوثنى للصنم. و إن لم يفعل ذلك فارقت بابه، و هجرت جنابه، و سرت إلى موضع لا يهتدى اليه».
ثم رجع مع أخيه. فلما بلغ أباه و رجوعه ركب لاستقباله فترجل لأبيه و قبل الأرض. فعانقه أبوه و لا لاطفه و دعا له. ثم عاد به الى إيوانه. و أقام عنده زمانا لا يصل إلى مراده منه، و يرى أكثرا اعتنائه بأمر الكاوسيين. فكان يتقلب على جمر الهموم و يتجرّع مرارة الغصص. فعزم على مفارقته و قال فى نفسه: إن استصحبت عسكرى علم و أنفذ خلفى و ردّنى .
فركب وحده ذات ليلة و حمل معه من الجواهر ما أراد، و توجه قاصدا إلى بلاد الروم. ثم صرف الرسول و خلا كشتسب و قال له: لماذا سكت و لم تجبه بشيء؟ فقال: إنى خدمت لهراسب زمانا طويلا، و حالى غير خاف عليه.
ثم الأولى أن أمضى اليهم رسولا حتى أبلغ لك فيهم ما تريد، و أبلغك ما تطلب و تروم. فقال له قيصر: أنت أعلم. فركب و إقبل الى مخيم زرير. فلما بدا من الطريق و رآه وجوه العسكر و الأمراء تلقوه رجالة، و خدموا و سجدوا و استبشروا، و قالوا: قد انتهت دولة الأسى و الأسف، و أقبلت دولة السرور و الفرح.
ثم جاء زرير فترجل و قبل الأرض بين يديه. فعانقه كشتسب و نزل و جلس على التخت مع أكابر إيران و أمرائها. فدعا له زرير و قال له: إن أباك قد طعن فى السن- لا زلت ممتعا بالشاب- و زهد فى الملك و فوّضه اليك.
و ها هو قد نفذ اليك التاج و التخت، و رضي من الدنيا بزاوية يعتزل فيها و يعبد اللّه عز و جل و تعالي. ثم قدّم اليه التاج و الطوق و السوار.
فلبسها و تسنم التخت و اصطف بين يديه الجوذرزيون مثل بهرام و ساوه و ريو، و غيرهم من أولاد الملوك، التخت و اصطف بين يديه الجوذرزيون مثل بهرام و ساوه و ريو، و غيرهم من أولاد الملوك، و حيوه بتحية الملك، و دعوا له كما يدعى للسلاطين.
ثم نفذ كشتسب الى قيصر و قال: إن مقصودك قد حصل. و زرير و وجوه العسكر يتوقعون منك المجيء وحدك الى معسكرهم ليعاهدوك و يصالحوك.
فلما أتى الرسول قيصر ركب و أقبل الى معسكر الايرانيين فرأى كشتسب جالسا على تخت من العاج معتصبا بتاج من الفيروزج.
فقام كشتسب و تلقاه و عانقه و لا لاطفه. فعلم قيصر انه سلالة الملك لهراسب، فخدمه و قبل الأرض بين يديه ثم طفق يعتذر اليه و يقضى العجب مما شاهد منه. فقبل كشتسب معذرته و عانقه و قال له: جهز الينا صاحبتنا التى اختارتنا فإنها تعبت تعبا كثيرا و تحملت بسببنا عناء ثقيلا.
فانصرف قيصر مطرقا من الخجل و نادما على ما سبق منه من سوء العشرة فنفذ الى كتايون كنزا من الذهب و تاجا و جواهر كثيرة و أحمالا من الثياب و ألف وصيفة.
و جعل على جميع ذلك فيلسوفا ارتضاه لحفظه. و نفذ مع ذلك الى كشتسب أسلحة و خلعا فاخرة برسم من عنده من الأمراء. فلما وصلت كتايون الى كشتسب ارتحل من حلب متوجها الى بلاد إيران. فشيعه قيصر مرحلتين، ثم حلف عليه كشتسب و ردّه .
و سار الى إيران فتلقاه أبوه لهراسب و عانقه و اعتذر اليه، و قال: إن اللّه تعالى كان قد قدّر غيبتك عن هذا الإقليم الى هذه الغاية. ثم قبل التاج و وضعه على رأسه فقال له كشتسب: أيها الملك! لا خلت منك المملكة و لا نحلت إلا بك السلطنة. فاعتزل لهراسب، و تقلد كشتسب الملك.
لما سلم لهراسب سرير السلطنة الى ولده كشتسب سار الى نوبَهار بلخ. و كانت متعبد عبادهم يقصدونها للمجاورة، و ينقطعون فيها للعبادة. و كانت عند الفرس بمنزلة مكة الطاهرة المحروسة عند العرب. فدخلها لهراسب و خلا بنفسه و أغلق عليه باب متعبده و لبس المسوح و لازم الخضوع و الخشوع و طرح سواره و سدل شعره على عادتهم. و قام على ذلك ثلاثين سنة. يعبد الشمس تأسيا بجمشيذ: الى أن انتهى أجله
و لما تسلم كشتسب سرير الملك و اعتصب بتاج أبيه قال: إن اللّه تعالى إنما حبانى الملك لأنشر لواء العدل و أبسط جناح الأمن، و أظهر الأرض من كل من عاث و أفسد، و أحمى القطيع من الذئب و الأسد، و لا أمد يد الأذى الى سالكى طرق الانقياد، و لا أضيق الأرض على الأحرار أهل الخير و السداد». فأنارت الأرض بأنوار معدلته، و انعمرت برأفته و رحمته حتى صارت الدنيا كما قال فى صفة عهد و ما ظهر فيه من الأمن و الأمان: برأفته طالب الزمان فقد غدت تخاصر آرام الصريم ضراغمه و تربض فى حَجر السراحين شاؤه و تفرخ فى وكر العقاب حمائمه ثم إنه رزق من بنت قيصر ولدين أحدهما يسمى إسفنديار و الآخر بِشوتَن . و استتب له الملك، و دخل تحت أمره جميع الملوك، و أدّوا اليه الخراج و بذلوا له الجزية.
ما خلا ملك توران المسمى أرجاسب. فإنه كان ملك الصين و المستعبد لرقاب الشياطين، و كان بسبب ذلك يأخذ الإتاوة من أرض إيران.
ظهور زردشت و قبول كشتسب دينه
[عدل]ثم بعد مضى سنين مضت من ملك كشتسب ظهر زردُشت و ادعى النبوّة فقال كشتسب: إنى رسول اللّه اليك. و هو يقول لك: اقبل الدين، و تفكر فى هذه السماوات و الأرضين، و انظر هل يقدر على خلق هذه الأشياء غير رب العزة و الكبرياء؟ فاذا وضح لك الأمر فاقبل دين هذا الرسول و تعلم منه طريق اليقين». فآمن به كشتسب و جميع من كان بحضرته من الملوك و الأمراء و سائر الموابذة و الهرابذة.
و بنى للنار بيوتا كثيرة و جعل لها قبابا رفعية. ثم غرس على باب بيت نار بكشمير شجرة سرو، و كتب على ساقها:« إنّ كشتسب قبل دين الحق و أشهد على نفسه هذا السرو». ثم بعد مضى أدولة من الزمان استعلى السرور و استغلظ و ارتفع فى السماء فأمر كشتسب فبنوا عليه قيصرا فى طول أربعين ذراعا و فى عرض مثلها. و جعلوا سقفه من الذهب، و أرضه من الفضة، و ترابه من العنبر. و رصعوا حيطانه بالجواهر و اليواقيت الزواهر. و صوّروا فيه صورة جمشيذ و أفريدون.
ثم علموا حوالى القصر سورا من حديد. ثم اتخذ الملك كشتسب هذا القصر مجلسه، و ادعى أنه يصعد منه الى السماء. و فرّق الرسل الى أطراف البلاد، و كتب إلى الملوك يأمرهم بالمصير إلى خدمة هذا السرور، و باستماع مواعظ زردُشت و الدخول فى دينه و ترك عبادة الأصنام و الأوثان، فأجابه الناس إلى ذلك و دخلوا فى دينه طوعا و كرها.