انتقل إلى المحتوى

محلى ابن حزم - المجلد السادس/الصفحة العشرون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


كتاب الدماء والقصاص والديات

2090 - مسألة: وهل يستقاد في الحرم ؟

قال علي : اختلف الناس في هذا , فقالت طائفة : لا يقاد في الحرم : كما حدثنا حمام ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا الدبري ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن ابن طاووس عن أبيه ، عن ابن عباس قال : من قتل أو سرق في الحرم , أو في الحل , ثم دخل , فإنه لا يجالس , ولا يكلم , ولا يؤذى , ويناشد حتى يخرج فيقام عليه الحد. ومن قتل أو سرق فأخذ في الحل ثم أدخل الحرم , فأرادوا أن يقيموا عليه ما أصاب أخرجوه من الحرم إلى الحل , فإن قتل في الحرم أو سرق أقيم عليه في الحرم. وعاب ابن عباس على ابن الزبير في رجل أخذه في الحل ثم أدخله الحرم ثم أخرجه إلى الحل فقتله. وبه : إلى عبد الرزاق حدثني ابن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاووس ، عن ابن عباس فيمن قتل في الحل ثم أدخل الحرم , قال : لا يجالس , ولا يكلم , ولا يبايع , ولا يؤذى يؤتى إليه فيقال : يا فلان اتق الله في دم فلان اخرج من المحارم. حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ، حدثنا أحمد بن دحيم ، حدثنا إبراهيم بن حماد ، حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا علي بن عبد الله بن المديني ، حدثنا سفيان بن عيينة أخبرني إبراهيم بن ميسرة وكان ثقة مأمونا قال : سمعت طاووسا يقول : سمعت ابن عباس يقول : من أصاب حدا ثم دخل الحرم , لم يجالس , ولم يبايع , ويأتيه الذي يطلبه , فيقول : أي فلان اتق الله في دم فلان , اخرج عن المحارم , فإذا خرج أقيم عليه الحد. وبه : إلى إسماعيل ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس في قول الله تعالى : {مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا}. قال : إذا أحدث الرجل حدثا ثم دخل الحرم , لم يجالس , ولم يبايع , ولم يطعم , ولم يسق , حتى يخرج من الحرم , فيؤخذ.

ومن طريق عبد الرزاق قال : قال ابن جريج : سمعت ابن أبي حسين يحدث عن عكرمة بن خالد , قال : قال عمر بن الخطاب : لو وجدت فيه يعني حرم مكة قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه. قال ابن جريج : وحدثني أبو الزبير قال : قال ابن عمر : لو وجدت فيه يعني حرم مكة قاتل عمر ما ندهته. وعن عطاء ، عن ابن عباس قال : لو وجدت قاتل أبي في الحرم ما عرضته. قال عطاء : والشهر الحرام كذلك مثل الحرم في ذلك كله. وقال الزهري : من قتل في الحرم قتل في الحرم , ومن قتل في الحل ثم دخل الحرام أخرج إلى الحل فقتل في الحل قال الزهري : تلك السنة.

وبه يقول أبو حنيفة , وأحمد بن حنبل , وإسحاق.

قال أبو محمد : وقد روي عن قوم خلاف هذا وشيء يظن أنه خلاف هذا وهو كما حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ، حدثنا أحمد بن دحيم ، حدثنا إبراهيم بن حماد ، حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا عبد الله بن معاذ ، حدثنا أبي ، حدثنا أشعث ، هو ابن عبد الملك عن الحسن في قول الله تعالى {ومن دخله كان آمنا} قال : كان الرجل في الجاهلية يقتل الرجل , ثم يعلق في رقبته الصوفة , ثم يدخل الحرم فيلقاه ابن المقتول أو أبوه فلا يحركه. وعن قتادة في قول الله تعالى {ومن دخله كان آمنا} قال : كان ذلك في الجاهلية , فأما اليوم فلو سرق فيه أحد قطع , وإن قتل قتل , ولو قدر على المشركين فيه قتلوا. وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، أنه قال في رجل جرح رجلا في الحرم : أنه يقاد به ,

وكذلك لو جرح في الحل أقيد به في الحرم , وحيث وجد.

وبه يقول مالك , والشافعي , وأبو سليمان , وأصحابهم.

قال أبو محمد : فهؤلاء من الصحابة عمر بن الخطاب , وابنه عبد الله , وابن عباس , وابن الزبير , وأبو شريح على ما نذكر بعد هذا , إن شاء الله تعالى ، ولا مخالف لهم من الصحابة ، رضي الله عنهم ،. ومن التابعين عطاء , وعبيد بن عمير , ومجاهد , وسعيد بن جبير , والزهري , وغيرهم , ويخبر بذلك عن علمائهم , وهم التابعون من أهل المدينة , ويخبر : أن السنة مضت بذلك فيما تعلق من تعلق بخلاف ذلك إلا برواية عن ربيعة.

وأما قتادة , والحسن , فليس في قولهما خلاف لمن ذكرنا , لأن الحسن إنما أخبر عمن كان في الجاهلية , ولم يقل إن الإسلام جاء بخلاف ذلك إلا به ,

وأما قتادة فلم يقل : إن من أصاب في الحل دما أقيد به في الحرم. فبطل تعلقهم بقتادة , والحسن.

وقال أبو محمد : وجاهر بعضهم أقبح مجاهرة , فذكر : ما حدثناه أحمد بن عمر ، حدثنا عبد الله بن الحسين ، حدثنا إبراهيم بن محمد ، حدثنا محمد بن الجهم ، حدثنا أحمد بن الهيثم ، حدثنا عباد بن العوام عن سفيان بن الحسين عن الحكم عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : آيتان نسختا من هذه السورة يعني المائدة آية القلائد فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم فموه بأن هذا اختلاف من قول ابن عباس.

قال أبو محمد : وهذا البهت الفاضح والكذب المجرد , ونعم : إن قوله تعالى {لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا} قد قيل : إنه نسخ منه " القلائد " فقط : كما حدثنا أبو سعيد الجعفري ، حدثنا محمد بن علي المقبري ، حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبو جعفر الطحاوي ، حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن قتادة وذكر هذه الآية فقال : منسوخ , كان الرجل في الجاهلية إذا خرج إلى الحج يقلد من الشعر , فلا يعرض له أحد , وإذا تقلد قلادة شعر لم يعرض له أحد , وكان المشرك يومئذ لا يصدر عن البيت , فأمر الله تعالى أن لا يقاتل المشركون في الشهر الحرام , ولا عند البيت , ثم نسخها قول الله تعالى {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} وهذا نص قول قتادة. فهبك أنه قد صح نسخ " القلائد " فأي شيء في ذلك مما يوجب أن من قال بنسخ " القلائد " فقد خالف ذلك من قوله قول من قال : لا يقام الحد في الحرم , ولا يقتل أحد في الحرم , لقد كان ينبغي لمن كان له دين أن يستحيي من أن يعمى هذا العمى وأن يتبع هواه في الباطل هذا الأتباع , و " القلائد " هاهنا إنما هي على ظاهرها " قلائد الهدي " التي لا يحل إحلالها.

قال أبو محمد : وعهدنا بالمالكيين , والشافعيين يعظمون خلاف الصاحب إذا وافق تقليدهم , وهم قد خالفوا هاهنا خمسة من الصحابة لا يعرف لهم منهم مخالف. وخالفوا القرآن والسنة الثابتة على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى.

وأعجب من هذا كله : احتجاجهم بابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة فهذه قصة نص رسول الله على أنها له خاصة , ولا تحل لأحد بعده , كما نبين بعد هذا , إن شاء الله تعالى.

قال علي : قال الله تعالى {مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا} وهذا أمر من الله تعالى مخرجه مخرج الخبر هذا لا يخلو القول من أن يكون خبرا أو أمرا فبطل أن يكن خبرا , لأننا قد وجدنا " القرامطة " الكفرة لعنهم الله قد قتلوا فيه أهل الإسلام. ووجدنا يزيد بن معاوية , والفاسق الحجاج قد قتلا فيه النفوس المحرمة فصح يقينا أنه أمر من الله تعالى , إذ لم يبق غيره. وأن من ادعى أن هذا إنما هو خبر من الله تعالى عن الجاهلية فقد كذب , لأنه أخبر عن الله تعالى , بما لم يقله قط. وقد قال تعالى {وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} , وقال تعالى {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} , حاش لله أن يكون الحرم له فضل في الجاهلية بخسه الله تعالى إياه في الإسلام , بل ما زاد الله تعالى الحرم في الإسلام إلا تعظيما , وحرمة , وإكراما. وقد روينا من طريق البخاري ، حدثنا عبيد بن إسماعيل ، حدثنا أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه فذكر حديث الفتح , وفيه إن سعد بن عبادة قال لأبي سفيان : يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة , اليوم تستحل الكعبة المحرمة , فلما مر رسول الله بأبي سفيان قال : ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة قال : ما قال قال : قال كذا وكذا. فقال رسول الله كذب سعد , ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة , ويوم تكسى فيه الكعبة وذكر الحديث.

واحتج بعضهم : بما روينا من طريق البخاري ، حدثنا محمد بن مقاتل أنا عبد الله ، هو ابن المبارك ، حدثنا يونس عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير قال : إن امرأة سرقت على عهد رسول الله في غزوة الفتح ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعون به قال عروة : فلما كلمه أسامة فيها تلون وجه رسول الله فقال : تكلمني في حد من حدود الله قال أسامة : فاستغفر لي يا رسول الله فلما كان العشي قام رسول الله خطيبا فأثنى على الله تعالى بما هو أهله , ثم قال : أما بعد , فإنما هلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه , وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد , والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ثم أمر رسول الله بتلك المرأة فقطعت يدها وذكرت عائشة الحديث.

قال أبو محمد : وهذا لا متعلق لهم فيه , لأنه ليس في هذا الخبر أنها قطعت يدها في الحرم , فإذ ليس ذلك فيه لا يجوز أن يعترض على نص القرآن ; ونص بيان السنن بظن لا حقيقة فيه ولعل أمرها كان في غير الحرم أو في الطريق

قال الله تعالى {إن الظن لا يغني من الحق شيئا} , وأيضا فإن هذا الخبر ظاهره الإرسال. وقال بعض من لا يبالي بما أطلق به لسانه : إنما معنى قوله تعالى {مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا} إنما عنى الصيد وهذا مع أنه كذب على الله تعالى وجرأة على الباطل فضيحة في اللحن , لأنه لا يخبر في لغة العرب لفظة " من " إلا عمن يعقل , لا عن الحيوان غير الآدمي.

فإن قال قائل : إنما هذا في " المقام " وحده بنص الآية قيل له : إن الله تعالى لا يكلم عباده بالمحال , ولا بما لا يمكن , وباليقين يدري كل ذي حس سليم أن " مقام إبراهيم " حجر واحد لا يدخله أحد , ولا يقدر أحد على ذلك , وإنما " مقام إبراهيم " الحرم كله , كما قال مجاهد , إنه قال " مقام إبراهيم " الحرم كله.

فإن قال قائل : إن الله تعالى قال : {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم}.

قلنا : نعم , هكذا قال الله تعالى وبهذا نقول , ولا يحل قتال أحد لا مشرك ، ولا غيره في حرم مكة , لكننا نخرجهم منه , فإن خرجوا وصاروا في الحل نفذنا عليهم ما يجب عليهم من قتل , أو أسر , أو عقوبة , فإن امتنعوا وقاتلونا قاتلناهم حينئذ في الحرم كما أمر الله تعالى وقاتلناهم فيه , وهكذا نفعل بكل باغ وظالم من المسلمين ، ولا فرق.

فإن قالوا : فقد قال الله تعالى {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} الآية

قلنا : الذي قال هذا قال : {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} وكلامه كله وعهوده كلها فرض , ولا يحل ترك شيء من كلامه لشيء آخر إلا بنسخ متيقن فواجب علينا أن نستعمل مثل هذه النصوص ونجمعها , ونستثني الأقل منها من الأكثر , إذ لا يحل غير ذلك. فنحن نقتل المشركين حيث وجدناهم إلا عند المسجد الحرام. فنحن إذا فعلنا هذا كنا على يقين من أننا قد أطعنا الله تعالى في كل ما أمرنا به , ومن خالف هذا العمل فقد عصى الله تعالى في إحدى الآيتين وهذا لا يحل أصلا. وكما

قلنا فعل أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير رضي الله عنه فإنه لما ابتدأه الفساق بالقتال في حرم مكة : يزيد , وعمرو بن سعيد , والحصين بن نمير , والحجاج , ومن بعثه ومن كان معهم من جنود السلطان قاتلهم مدافعا لنفسه وأحسن في ذلك وبالله تعالى التوفيق.

حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ، حدثنا إبراهيم بن أحمد ، حدثنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير عن منصور بن المعتمر عن مجاهد عن طاووس ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله يوم افتتح مكة لا هجرة , ولكن جهاد ونية , وإذا استنفرتم فانفروا , فإن هذا بلد حرمه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض , فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة , وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي , ولم يحل لي إلا ساعة من نهار , فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة , لا يعضد شوكه , ولا ينفر صيده , ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها , ولا يختلى خلاها قال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم قال : إلا الإذخر.

ومن طريق مسلم بن الحجاج ، حدثنا زهير بن حرب ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة بن عوف ، حدثنا أبو هريرة قال : لما فتح الله تعالى على رسول الله مكة قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه , ثم قال : إن الله تعالى حبس الفيل عن مكة وسلط عليها رسوله والمؤمنين , وإنها لم تحل لأحد كان قبلي , وإنها حلت لي ساعة من نهار , وإنها لن تحل لأحد بعدي , فلا ينفر صيدها , ولا يختلى شوكها , ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد وذكر باقي الحديث بذكر الإذخر. وقد

روينا من طريق مسلم ، حدثنا قتيبة بن ليث ، هو ابن سعد عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي شريح العدوي ، أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة : ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله الغد من يوم الفتح , سمعته أذناي , ووعاه قلبي , وأبصرته عيناي حين تكلم به : أنه حمد الله تعالى , وأثنى عليه , ثم قال : إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لأمرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما , ولا يعضد بها شجرة , فإن أحد ترخص بقتال رسول الله فيها فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم , وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار , وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس , وليبلغ الشاهد الغائب. قيل لأبي شريح : ماذا قال لك عمرو قال : قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح , إن الحرم لا يعيذ عاصيا , ولا فارا بخربة.

قال أبو محمد : ولا كرامة للطيم الشيطان شرطي الفاسق يريد أن يكون أعلم من صاحب رسول الله بما سمعه ذلك الصاحب رضي الله عنه من فم رسول الله وإنا لله وإنا إليه راجعون , على عظيم المصاب في الإسلام ثم على تضاعف المصيبة ممن شاهده يحتج في هذه القصة بعينها بقول الفاسق عمرو بن سعيد معارضة لرسول الله ثم يتكلم في دين الله تعالى , ويغر الضعفاء بأنه عالم , وما العاصي لله تعالى ولرسوله إلا الفاسق عمرو بن سعيد , ومن ولاه وقلده , وما حامل الخربة في الدنيا والآخرة إلا هو , ومن أمره وأيده , وصوب قوله

قال أبو محمد : فهذا نقل تواتر ثلاثة من الصحابة أصحاب رسول الله أبو هريرة ، وابن عباس , وأبو شريح , كلهم يروي عن رسول الله ، أنه قال : إن مكة حرمها الله تعالى فبيقين ندري أن رسول الله لم يحرم مكة خصوصا القتال المحرم بالظلم , لأنه محرم في كل مكان في الأرض , لكنه عليه الصلاة والسلام نص على أنه إنما حرم القتال المأمور به في غيرها , لأنه عليه الصلاة والسلام المقاتل في مكة , ولا قتل إلا بحق , ونهى عن ذلك القتال بعينه غيره , وحرم أن يحتج به في مثله , وقطع الأيدي فيه سفك دم , والقصاص كذلك , فلا يحل فيها ألبتة. وقد شغف قوم : ب

ما روينا من طريق مسلم ، حدثنا يحيى بن يحيى قلت لمالك : حدثنا ابن شهاب عن أنس : أن النبي دخل مكة على رأسه المغفر , فلما نزعه جاءه رجل فقال : إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال : اقتلوه. قال : نعم , وهذا لا حجة لهم فيه , لأن هذا كان حين دخوله مكة عام الفتح وهي الساعة التي أحلها الله تعالى له ثم أخبر عليه الصلاة والسلام في اليوم الثاني أنها قد عادت إلى حرمتها إلى يوم القيامة. فإذ قد ارتفع الإشكال وجب تأمين من دخل مكة جملة من كل قتل وقصاص وحد وبالله تعالى التوفيق.

فإن قال قائل ممن يحتج لهذا القول : إن الله تعالى يقول {والحرمات قصاص} فمن انتهك حرمة في الحرم وجب أن ينتهك منه مثل ذلك في الحرم

قلنا له : هذا عموم يخصه قول الله تعالى ومن دخله كان آمنا , ويخصه قول رسول الله بتحريمها أن لا يسفك فيها دم أصلا , إلا من قاتلنا فيه من المشركين , وبالإجماع في الدفاع عن النفس الظلم.

فصح أن الله تعالى لم يرد قط أن من انتهك حرمة الحرم أن ننتهكها نحن أيضا قصاصا منه , وأنه لا يقام عليه حتى يخرج إلى الحل. وهذا قول عمر بن الخطاب , وعبد الله بن عمر , وابن عباس , والشعبي , وسعيد بن جبير , والحكم بن عتيبة

وروي أيضا عن عطاء وبه نأخذ.

وأما نهي الناس عن مبايعته ومكالمته , فإن الله تعالى يقول {وأحل الله البيع وحرم الربا} فلا يجوز منعه من البيع بغير نص , ولا إجماع.

وكذلك أمر الله تعالى بإفشاء السلام فلا يجوز منعه , إلا بنص , أو إجماع. فإن احتجوا بقول عبد الرحمن بن فروخ , قال : اشترى نافع بن عبد الحارث عامل عمر بن الخطاب على مكة من صفوان بن أمية بن خلف دار السجن بأربعة آلاف , فإن رضي عمر فالبيع له , وإن لم يرض عمر فلصفوان أربع مائة.

قلنا : قد جاء لبعض السلف خلاف لهذا , كما روي عن طاووس أنه كره السجن بمكة , وقال : لا ينبغي أن يكون بيت عذاب في بيت رحمة وبهذا نأخذ. فإن أنكروا علينا خلاف عمر , ونافع , وصفوان في ذلك.

قلنا لهم : نحن لا ننكر هذا إذا أوجبه قرآن أو سنة , ولكن إذ تنكرون هذا ، ولا يحل عندكم فكيف استجزتم خلافه في هذا الخبر نفسه , في أنه نص عمر " فله بيعه وإن لم يرض فلصفوان أربع مائة " وهذا عند جميع الحاضرين من المخالفين ربا محض , فعاد الإثم عليهم والعار أيضا في خلافهم ما لا يستحلون خلافه إلى خلافهم : عمر , وابنه , وأبي شريح , وابن عباس , وابن الزبير , في أن لا يقام قود بمكة أصلا , ولا مخالف لهم من الصحابة ، رضي الله عنهم ، والقرآن معهم , والسنة , ورسول الله معهم يهتف بذلك على الناس ثاني يوم الفتح. فهذا هو الإجماع الثابت المقطوع به على جميع الصحابة أنهم قالوا به.

وأما نحن فلا حجة عندنا في قول الله تعالى , وقول رسول الله وحكمه وبالله تعالى التوفيق.


2091 - مسألة: هل يقام القصاص أو الحدود في الشهر الحرام أم لا؟

قال علي : قال الله تعالى {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}

وقال تعالى {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير} إلى قوله تعالى : {والفتنة أكبر من القتل}.

قال أبو محمد : وقد روينا من طريق عبد الرزاق ، عن ابن جريج قلت لعطاء : أرأيت الرجل يقتل في الحرم أين يقتل قاتله قال : حيث شاء أهل المقتول قال : فإن قتل في الحل ولم يقتل في الحرم قال عطاء :

وكذلك الشهر الحرام. وبه : إلى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال : شهر الله الأصم رجب , قال فكان المسلمون يعظمون الأشهر الحرم , لأن الظلم فيها أعظم قال : ومن قتل في شهر حلال أو جرح لم يقتل في شهر حرام حتى يجيء شهر حلال , قال الله تعالى {الشهر الحرام بالشهر الحرام}. وبه إلى عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال أخبرني عطاء أن رجلا جرح في شهر حلال فأراد عثمان بن محمد بن أبي سفيان أن يقيده وهو أمير في شهر حرام فأرسل إليه عبيد بن عمير وهو في طائفة من الدار : لا تقده حتى يدخل شهر حلال

قال أبو محمد : فهذا عبيد بن عمير , والزهري لا يريان أن يقاد في شهر حرام من جنى في شهر حلال. وعن عطاء بن أبي رباح يرى من قتل في شهر حرام أن يقتل في شهر حرام فإن قتل في شهر حلال لم يقد منه في شهر حرام. فهؤلاء من أكابر التابعين وفقهاء مكة والمدينة.

قال علي : قال الله تعالى {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم} فإنما نهى الله تعالى فيها عن الظلم , فكان الظلم فيها أوكد من الظلم في غيرها , ولا يحل أن يزاد على الله تعالى ما لم يقل. ثم نظرنا في قوله تعالى {الشهر الحرام بالشهر الحرام} فكان موجب هذه الآية أن من قتل أو جرح في شهر حرام فلم يظفر به إلا في شهر حلال , فإن ولي الأستقادة من الدم , أو الجرح مخير : إن شاء تأخيره إلى شهر حرام فذلك له بنص الآية , وإن لم يرد ذلك فهو بعض حقه تجافى عنه ولم تمنعه الآية من ذلك وبهذا نقول وبالله تعالى التوفيق.

وأما قوله تعالى {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} إنما هذا في القتال , وليس في القود في شيء

قال أبو محمد : ويحبس الذي وجب عليه القود فأخره المجني عليه أو ولي الدم حتى يأتي شهر حرام , لأنه قد وجب أخذه بما جنى , فلا ينبغي تسريحه , بل يوقف بلا خلاف للقود , ويمنع من الأنطلاق.

قال أبو محمد : وأما الحدود فتقام في الشهر الحرام كلها من رجم وغيره , لأن الله تعالى لم يأت عنه نص بالمنع من ذلك , ولا من رسوله عليه الصلاة والسلام وتعجيل الطاعة المفترضة في إقامة الحدود واجب بيقين , ندري أن الله تعالى لو أراد تأخير ذلك عن الشهر الحرام لبينه تعالى على لسان رسوله كما بين ذلك في الحرم بمكة , فإذا لم يفعل فنحن نشهد بشهادة الله تعالى أنه ما أراد قط أن لا تقام الحدود إلا في الأشهر الحرم. وهكذا القول في حرم المدينة وما كان ربك نسيا وبالله تعالى التوفيق.


2092 - مسألة: مقاتلة من مر أمام المصلي

قال علي : من أراد المرور أمام المصلي إلى سترة أو غير سترة , فأراد إنسان أن يمر بينه وبين سترته , أو بين يديه , وإن لم يكن إلى سترة فليدفعه , فإن اندفع وإلا فليقاتله , فإن دفعه فوافقت منية المريد للمرور فدمه هدر , ولا شيء فيه , لا قود , ولا دية , ولا كفارة , وكذا إن كسر له عضو ، ولا فرق , فإن وافق في ذلك منية المصلي : ففيه القود , أو الدية أو المفاداة.

برهان ذلك : ما رويناه من طريق أبي داود ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا سليمان ، هو ابن المغيرة عن حميد قال : قال أبو صالح : أحدثك عما رأيت من أبي سعيد , وسمعته منه : دخل أبو سعيد على مروان فقال : سمعت رسول الله يقول إذا صلى أحدكم إلى ما يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفع في نحره , فإن أبى فليقاتله , فإنما هو شيطان.

وروينا من طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن محمد بن مصعب الصوري ، حدثنا محمد بن المبارك هو الصوري ، حدثنا عبد العزيز بن محمد هو الدراوردي عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري : أنه كان يصلي فأراد ابن لمروان أن يمر بين يديه فدرأه فلم يرجع , فضربه , فخرج الغلام يبكي حتى أتى مروان فأخبره فقال مروان لأبي سعيد : لم ضربت ابن أخيك قال : ما ضربته , إنما ضربت الشيطان , سمعت رسول الله يقول إذا كان أحدكم في صلاته فأراد إنسان أن يمر بين يديه فيدرؤه ما استطاع فإن أبى فليقاتله , فإنما هو شيطان.

ومن طريق مسلم عن رسول الله قال : فإن أبى فليقاتله فإن معه القرين. ومن قاتل كما أمره رسول الله فهو محسن , قال الله تعالى {ما على المحسنين من سبيل} , فإذ هو محسن فليس متعديا , وإذ ليس متعديا فلا قود عليه ، ولا دية. وليس قاتل خطأ فتكون عليه كفارة , فلو أمكنه دفعه فعمد قتله أقيد به , لأنه معتد حينئذ بما لم يؤمر

وأما المار بين يدي المصلي فمعتد بالمرور معتد بالمقاتلة , فعليه القود وبالله تعالى التوفيق.


2093 - مسألة: الجماعة تضرب الواحد فيقتل ، ولا يدرى من أصابه منهم , والمصطدمان , ومن وقع على آخر , ومن تعلق بآخر فسقط , والحفارون , والمتصارعان , والمتلاعبان

قال أبو محمد : أما الجماعة تضرب الواحد فيموت ، ولا يدرى من منهم أصابه فإنه إن وجد مقتولا في دار قوم فادعى أهله على أهل تلك الدار وكان الذين ضربوه من أهل تلك الدار : ففيه القسامة على ما نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى وإن كان الذين ضربوه من غير أهل تلك الدار : فليس هاهنا حكم القسامة , ولكن حكم التداعي فالبينة هاهنا على مدعي الدم , فإن جاء بها فله القود , وإن لم يأت بها حلفوا له , إن ادعى على جميعهم ; أو حلف له من ادعى عليه منهم , وبرئوا , وسنذكر هذا كله في " باب القسامة ".

محلى ابن حزم - المجلد السادس/كتاب الدماء والقصاص والديات
كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2022 - 2024) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2025) | كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة مسألة 2025 - 2026) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2027) | كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة 1 مسألة 2027) | كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة 2 مسألة 2027) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2028) | كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة مسألة 2028) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2029 - 2030) | كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة 1 مسألة 2030) | كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة 2 مسألة 2030) | كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة 3 مسألة 2030) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2031 - 2037) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2038 - 2050) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2051 - 2059) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2060 - 2074) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2075 - 2078) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2079 - 2085) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2086 - 2089) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2090 - 2093) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2094 - 2096) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2097 - 2100) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2101 - 2103) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2104 - 2112) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2113 - 2115) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2116 - 2118) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2119 - 2125) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2126 - 2131) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2132 - 2134) | كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2135 - 2143)