انتقل إلى المحتوى

مجموع الفتاوى/المجلد السابع/فصل: الاستثناء في الإيمان سنة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


فصل: الاستثناء في الإيمان سنة

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى

الاستثناء في الإيمان سنة عند أصحابنا وأكثر أهل السنة وقالت المرجئة والمعتزلة: لا يجوز الاستثناء فيه بل هو شك؛ والاستثناء أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله أو مؤمن أرجو أو آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله أو إن كنت تريد الإيمان الذي يعصم دمي فنعم وإن كنت تريد {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} 1 فالله أعلم. ثم هنا ثلاثة أقوال إما أن يقال: الاستثناء واجب فلا يجوز القطع وهذا قول القاضي في عيون المسائل وغيره وإما أن يقال: هو مستحب ويجوز القطع باعتبار آخر وإما أن يقال: كلاهما جائز باعتبار وإنما ذكر أن الاستثناء سنة بمعنى أنه جائز ردا على من نهى عنه فإذا قلنا هو واجب فمأخذ القاضي أنه لو جاز القطع على أنا مؤمنون لكان ذلك قطعا على أنا في الجنة لأن الله وعد المؤمنين الجنة ولا يجوز القطع على الوعد بالجنة لأن من شرط ذلك الموافاة بالإيمان ولا يعلم ذلك إلا الله وكذلك الإيمان إنما يحصل بالموافاة ولا يعلم ذلك. ولهذا قال ابن مسعود: هلا وكل الأولى كما وكل الآخرة. يريد بذلك ما استدل به من أن رجلا قال عنده: إني مؤمن فقيل لابن مسعود هذا يزعم أنه مؤمن قال: فسلوه أفي الجنة هو أو في النار؟ فسألوه فقال: الله أعلم فقال عبد الله: فهلا وكلت الأولى كما وكلت الثانية. قلت: ويستدل أيضا على وجوب الاستثناء بقول عمر: من قال إنه مؤمن فهو كافر ومن زعم أنه في الجنة فهو في النار ومن زعم أنه عالم فهو جاهل ولما استدل المنازع بأن الاستثناء إنما يحتاج إليه لمستقبل يشك في وقوعه قال: الجواب إن هنا مستقبلا يشك في وقوعه وهو الموافاة بالإيمان؛ والإيمان مرتبط بعضه ببعض فهو كالعبادة الواحدة.

قلت: فحقيقة هذا القول أن الإيمان اسم للعبادة من أول الدخول فيه إلى أن يموت عليه فإذا انتقض تبين بطلان أولها كالحدث في آخر الصلاة والوطء في آخر الحج والأكل في آخر النهار؛ وقول مؤمن عند الإطلاق يقتضي فعل الإيمان كله كقول مصل وصائم وحاج؛ فهذا مأخذ القاضي. وقد ذكر بعدها في المعتمد مسألة الموافاة وهي متصلة بها وهو أن المؤمن الذي علم الله أنه يموت كافرا؛ وبالعكس؛ هل يتعلق رضا الله وسخطه ومحبته وبغضه بما هو عليه أو بما يوافي به. والمسألة متعلقة بالرضا والسخط: هل هو قديم أو محدث؟ والمأخذ الثاني: أن الاسم عند الإطلاق يقتضي الكمال؛ وهذا غير معلوم للمتكلم كما قال أبو العالية: أدركت ثلاثين من أصحاب محمد كلهم يخاف النفاق على نفسه لا يقول إن إيماني كإيمان جبريل فإخبار الرجل عن نفسه أنه كامل الإيمان خبر بما لا يعلمه وهذا معنى قول ابن المنزل: أن المرجئة تقول إن حسناتها مقبولة وأنا لا أشهد بذلك وهذا مأخذ يصلح لوجوب الاستثناء وهذا المأخذ الثاني للقاضي فإن المنازع احتج بأنه لما لم يجز الاستثناء في الإسلام فكذلك في الإيمان. قال: والجواب أن الإسلام مجرد الشهادتين وقد أتى بهما والإيمان أقوال وأعمال لقوله: «الإيمان بضع وسبعون بابا» وهو لا يتحقق كل ذلك منه. المأخذ الثالث: أن ذلك تزكية للنفس وقد قال الله: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} 2 وهذا يصلح للاستحباب وإلا فإخبار الرجل بصفته التي هو عليها جائز وإن كانت مدحا وقد يصلح للإيجاب قال الأثرم في السنة: حدثنا أحمد بن حنبل سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما أدركت أحدا من أصحابنا ولا بلغني إلا على الاستثناء قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن الاستثناء في الإيمان ما تقول فيه؟ قال: أما أنا فلا أعيبه فأستثني مخافة واحتياطا ليس كما يقولون على الشك إنما يستثنى للعمل قال أبو عبد الله: قال الله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء الله} 3 أي إن هذا الاستثناء لغير شك وقد قال النبي : «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» أي لم يكن يشك في هذا وقد استثنى وذكر قول النبي : «نبعث إن شاء الله من القبر» وذكر قول النبي : «إني والله لأرجو أن أكون أخشاكم لله» قال هذا كله تقوية للاستثناء في الإيمان. قلت لأبي عبد الله: فكأنك لا ترى بأسا أن لا يستثنى فقال إذا كان ممن يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص فهو أسهل عندي ثم قال أبو عبد الله إن قوما تضعف قلوبهم عن الاستثناء فتعجب منهم وذكر كلاما طويلا تركته. فكلام أحمد يدل على أن الاستثناء لأجل العمل وهذا المأخذ الثاني وأنه لغير شك في الأصل وهو يشبه الثالث ويقتضي أن يجوز ترك الاستثناء وأما جواز إطلاق القول بأني مؤمن فيصح إذا عنى أصل الإيمان دون كماله والدخول فيه دون تمامه كما يقول: أنا حاج وصائم لمن شرع في ذلك وكما يطلقه في قوله آمنت بالله ورسله وفي قوله: إن كنت تعني كذا وكذا أن جواز إخباره بالفعل يقتضي جواز إخباره بالاسم مع القرينة وعلى هذا يخرج ما روي عن صاحب معاذ بن جبل وما روي في حديث الحارث الذي قال: أنا مؤمن حقا. وفي حديث الوفد الذين قالوا: نحن المؤمنون. وإن كان في الإسنادين نظر.


هامش

  1. [الأنفال: 2]
  2. [النجم: 32]
  3. [الفتح: 27]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد السابع
كتاب الإيمان الكبير | الفرق بين الإيمان والإسلام | تفسير الإيمان في حديث وفد عبد القيس | تفسير قوله: ألم يأن للذين آمنوا | تفسير قوله: ثم قست قلوبكم | تفسير قوله: إن الذين اتقوا إذا مسهم | فصل: جاءت أحاديث تنازع الناس في صحة الإيمان لأجل ترك واجب | كلام محمد بن نصر المروزي على آية حبب إليكم الإيمان | تفسير آيات فيما أحل وما حرم من الأطعمة | معنى: وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة من خردل | فصل: في لفظ الكفر والنفاق | فصل: في لفظ الصالح والشهيد والصديق | فصل: في لفظ المعصية والفسوق والكفر | فصل: في ظلم النفس | فصل: في لفظ الصلاح والفساد | فصل: فإن قيل تنوع دلالة اللفظ بالإطلاق والتقييد لا يمكن دفعه | بحث في الإطلاق والتقييد والكليات والجزئيات في الأمور العقلية | ومن الأمثلة المشهورة لمن يثبت المجاز في القرآن | فإن قيل: الصلاة والحج ونحوهما لو ترك بعضها بطلت بخلاف الإيمان | فصل في أن أبا الحسن الأشعري نصر قول جهم في الإيمان | فصل: الذين نصروا مذهب جهم جعلوا الإيمان خصلة من خصال الإسلام | فصل: ومما يدل من القرآن على أن الإيمان المطلق مستلزم للأعمال | فصل: فيما إذا قرن الإسلام بالإيمان | فصل: عطف الشيء على الشيء في القرآن يقتضي المغايرة | فصل: لفظ الإيمان إذا أطلق يراد به ما يراد بلفظ البر | فصل:هذا النوع من نمط أسماء الله وأسماء كتابه وأسماء رسوله وأسماء دينه | فصل: الوجه الثاني ظنهم أن ما في القلب من الإيمان ليس إلا التصديق فقط | فصل: فإن قيل فإذا كان الإيمان المطلق يتناول جميع ما أمر الله به ورسوله | فصل: زيادة الإيمان تعرف من وجوه | فصل: أثبت الله في القرآن إسلاما بلا إيمان | فصل: الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف تفسيرها | فصل: ومما يسأل عنه أنه إذا كان ما أوجبه الله من الأعمال الظاهرة أكثر من هذه الخمس | فصل: قال محمد بن نصر: واستدلوا على أن الإيمان هو ما ذكره بالآيات التي تلوناها | من يختصه الله بفضله | سائر أهل الكبائر إيمانهم ناقص | الذين نفى عنهم الرسول الإيمان | اسم الإسلام يتناول أيضا ما هو أصل الإيمان | وقول القائل: أصل الاستسلام هو الإسلام الظاهر | وقول القائل: الطاعات ثمرات التصديق الباطن | تفريق أحمد بين الإسلام والإيمان | جواب أحمد مما نقل عنه في الرد على طوائف المرجئة | دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين | صار الناس في الإيمان والإسلام على ثلاثة أقوال | فصل: الاستثناء في الإيمان | كتاب الإيمان الأوسط | فصل: حديث سؤال النبي عن الإسلام والإيمان والإحسان | فصل: قول الخوارج الذين يكفرون بمطلق الذنوب ويخلدون في النار | فصل: تنازع الناس في اسم المؤمن والإيمان نزاعا كثيرا | الأصل الثاني: أن شعب الإيمان قد تتلازم | فصل: الإيمان تارة يطلق على ما في القلب من الأقوال القلبية | فصل: التفاضل في الإيمان بدخول الزيادة والنقص فيه يكون من وجوه متعددة | فصل: إذا علم أن الإيمان الذي في القلب من التصديق والحب وغير ذلك يستلزم الأمور الظاهرة | فصل: في الجمع بين الأحاديث التي ذكرت فيها أركان الإسلام الخمسة | فصل: في الإحسان وقوله أن تعبد الله كأنك تراه | فصل: فيما تقدم من القواعد | فصل: لفظ الإسلام يستعمل على وحهين | فصل: أصل الإيمان هو الإيمان بالله ورسوله | سئل: عن الإيمان بالله ورسوله هل فوقه مقام من المقامات أو حال من الأحوال | فصل: في قول القائل: هل تكون صفة الإيمان نورا يوقعه الله في قلب العبد | فصل: في قوله: هل يكون لأول حصوله سبب | فصل: قوله: الأسباب التي يقوى بها الإيمان | فصل: في طريق الوصول إلى ذلك | فصل: الإيمان: هل هو مخلوق أو غير مخلوق | فصل: الاستثناء في الإيمان سنة | فصل: سئل عن معنى حديث إذا زنى العبد خرج منه الإيمان | فصل: سئل عن معنى قوله لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر | سئل شيخ الإسلام عن بدعة المرازقة