مجموع الفتاوى/المجلد السابع/سائر أهل الكبائر إيمانهم ناقص
سائر أهل الكبائر إيمانهم ناقص
[عدل]وهكذا سائر أهل الكبائر إيمانهم ناقص، وإذا كان في قلب أحدهم شعبة نفاق عوقب بها إذا لم يعف الله عنه، ولم يخلد في النار، فهؤلاء مسلمون وليسوا مؤمنين ومعهم إيمان. لكن معهم أيضا ما يخالف الإيمان من النفاق، فلم تكن تسميتهم مؤمنين بأولى من تسميتهم منافقين، لا سيما إن كانوا للكفر أقرب منهم للإيمان، وهؤلاء يدخلون في اسم الإيمان في أحكام الدنيا، كما يدخل المنافق المحض وأولى؛ لأن هؤلاء معهم إيمان يدخلون به في خطاب الله ب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}، لأن ذلك أمر لهم بما ينفعهم ونهى لهم عما يضرهم، وهم محتاجون إلى ذلك، ثم إن الإيمان الذي معهم إن اقتضى شمول لفظ الخطاب لهم فلا كلام، وإلا فليسوا بأسوأ حالا من المنافق المحض، وذلك المنافق يخاطب بهذه الأعمال وتنفعه في الدنيا ويحشر بها مع المؤمنين يوم القيامة، ويتميز بها عن سائر الملل يوم القيامة كما تميز عنهم بها في الدنيا، لكن وقت الحقيقة يضرب {بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ الله وَغَرَّكُم بِالله الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 1، وقد قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِالله وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لله فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ الله الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} 2.
فإذا عمل العبد صالحا لله، فهذا هوالإسلام الذي هو دين الله، ويكون معه من الإيمان ما يحشر به مع المؤمنين يوم القيامة، ثم إن كان معه من الذنوب ما يعذب به عذب وأخرج من النار، إذا كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان وإن كان معه نفاق؛ولهذا قال تعالى في هؤلاء: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ الله الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} 3، فلم يقل: إنهم مؤمنون بمجرد هذا؛ إذ لم يذكر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، بل هم معهم، وإنما ذكر العمل الصالح وإخلاصه لله، وقال: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} فيكون لهم حكمهم.
وقد بين تفاضل المؤمنين في مواضع أخر، وأنه من أتى بالإيمان الواجب استحق الثواب، ومن كان فيه شعبة نفاق وأتى بالكبائر، فذاك من أهل الوعيد، وإيمانه ينفعه الله به، ويخرجه به من النار ولو أنه مثقال حبة خردل لكن لا يستحق به الاسم المطلق المعلق به وعد الجنة بلا عذاب. وتمام هذا أن الناس قد يكون فيهم من معه شعبة من شعب الإيمان، وشعبة من شعب الكفر أو النفاق، ويسمى مسلما، كما نص عليه أحمد.
وتمام هذا أن الإنسان قد يكون فيه شعبة من شعب الإيمان، وشعبة من شعب النفاق، وقد يكون مسلما وفيه كفر دون الكفر الذي ينقل عن الإسلام بالكلية، كما قال الصحابة ابن عباس وغيره: كفر دون كفر. وهذا قول عامة السلف، وهو الذي نص عليه أحمد وغيره ممن قال في السارق، والشارب، ونحوهم ممن قال فيه النبي ﷺ: «إنه ليس بمؤمن» أنه يقال لهم: مسلمون لا مؤمنون، واستدلوا بالقرآن والسنة على نفي اسم الإيمان مع إثبات اسم الإسلام، وبأن الرجل قد يكون مسلما ومعه كفر لا ينقل عن الملة، بل كفر دون كفر، كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 4 قالوا: كفر لا ينقل عن الملة، وكفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم.
وهذا أيضا مما استشهد به البخاري في صحيحه فإن كتاب الإيمان الذي افتتح به الصحيح قرر مذهب أهل السنة والجماعة، وضمنه الرد على المرجئة، فإنه كان من القائمين بنصر السنة والجماعة مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
وقد اتفق العلماء على أن اسم المسلمين في الظاهر يجري على المنافقين؛ لأنهم استسلموا ظاهرا، وأتوا بما أتوا به من الأعمال الظاهرة بالصلاة الظاهرة، والزكاة الظاهرة، والحج الظاهر، والجهاد الظاهر، كما كان النبي يجري عليهم أحكام الإسلام الظاهر، واتفقوا على أنه من لم يكن معه شيء من الإيمان فهو كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}5 وفيها قراءتان: دَرْك ودَرَك قال أبو الحسين بن فارس: الجنة درجات والنار دركات، قال الضحاك: الدرج: إذا كان بعضها فوق بعض. والدرك: إذا كان بعضها أسفل من بعض، فصار المظهرون للإسلام بعضهم في أعلى درجة في الجنة وهو رسول الله ﷺ، كما قال في الحديث الصحيح: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة» وقوله ﷺ: «وأرجو أن أكون» مثل قوله: «إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بحدوده» ولا ريب أنه أخشى الأمة لله، وأعلمهم بحدوده.
وكذلك قوله: «اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا»، وقوله: «إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة» وأمثال هذه النصوص، وكان يستدل به أحمد وغيره على الاستثناء في الإيمان، كما نذكره في موضعه.
والمقصود أن خير المؤمنين في أعلى درجات الجنة، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، وإن كانوا في الدنيا مسلمين ظاهرا تجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة، فمن كان فيه إيمان ونفاق يسمى مسلما؛ إذ ليس هو دون المنافق المحض، وإذا كان نفاقه أغلب لم يستحق اسم الإيمان، بل اسم المنافق أحق به، فإن ما فيه بياض وسواد، سواده أكثر من بياضه، هو باسم الأسود أحق منه باسم الأبيض، كما قال تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} 6، وأما إذا كان إيمانه أغلب ومعه نفاق يستحق به الوعيد، لم يكن أيضا من المؤمنين الموعودين بالجنة، وهذا حجة لما ذكره محمد بن نصر عن أحمد، ولم أره أنا فيما بلغني من كلام أحمد ولا ذكره الخلال ونحوه.
وقال محمد بن نصر: وحكى غير هؤلاء عن أحمد أنه قال: من أتى هذه الأربعة: الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والنُّهْبَة التي يرفع الناس فيها أبصارهم إليه، أو مثلهن أو فوقهن، فهو مسلم ولا أسميه مؤمنًا، ومن أتى دون الكبائر نسميه مؤمنا ناقص الإيمان، فإن صاحب هذا القول يقول: لما نفى عنه النبي ﷺ الإيمان، نفيته عنه كما نفاه عنه الرسول ﷺ والرسول لم ينفه إلا عن صاحب كبيرة، وإلا فالمؤمن الذي يفعل الصغيرة هي مكفرة عنه بفعله للحسنات واجتنابه للكبائر، لكنه ناقص الإيمان عمن اجتنب الصغائر، فما أتى بالإيمان الواجب، ولكن خلطه بسيئات كفرت عنه بغيرها، ونقصت بذلك درجته عمن لم يأت بذلك.
هامش
- ↑ [الحديد: 13: 15]
- ↑ [النساء: 145، 146]
- ↑ [النساء: 146]
- ↑ [المائدة: 44]
- ↑ [النساء: 145]
- ↑ [آل عمران: 167]