مجموع الفتاوى/المجلد الخامس عشر/فصل في قوله تعالى وما كان الله ليعذبهم
فصل في قوله تعالى وما كان الله ليعذبهم
[عدل]وَقَالَ رَحِمَهُ الله:
فى قوله تعالى: { وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } 1، والكلام عليها من وجهين:
أحدهما: في الاستغفار الدافع للعذاب.
والثاني: في العذاب المدفوع بالاستغفار.
أما الأول، فإن العذاب إنما يكون على الذنوب، والاستغفار يوجب مغفرة الذنوب التي هي سبب العذاب، فيندفع العذاب، كما قال تعالى: { الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } 2، فبين سبحانه أنهم إذا فعلوا ذلك متعوا متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى، ثم إن كان لهم فضل أُوتوا الفضل.
وقال تعالى: عن نوح: { قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } إلى قوله: { اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا } الآية 3، وقال تعالى: { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ } 4، وذلك أنه قد قال تعالى: { وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ } 5، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } 6، وقال تعالى: { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } 7، وقال تعالى: { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } 8، وقال تعالى: { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } 9.
وأما العذاب المدفوع، فهو يعم العذاب السماوى، ويعم ما يكون من العباد، وذلك أن الجميع قد سماه الله عذابًا، كما قال تعالى في النوع الثاني: { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ } 10، وقال تعالى: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ } 11، وكذلك: { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا } 12، إذ التقدير بعذاب من عنده أو بعذاب بأيدينا، كما قال تعالى: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ } .
وعلى هذا، فيكون العذاب بفعل العباد، وقد يقال: التقدير: { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ } ، أو يصيبكم بأيدينا، لكن الأول هو الأوجه؛ لأن الإصابة بأيدى المؤمنين لا تدل على أنها إصابة بسوء، إذ قد يقال: أصابه بخير، وأصابه بشر. قال تعالى: { وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } 13، وقال تعالى: { فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } 14، وقال تعالى: { وَكَذَلِكَ
مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء } 15 ؛ ولأنه لو كان لفظ الإصابة يدل على الإصابة بالشر، لاكتفى بذلك في قوله: { أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ } .
وقد قال تعالى أيضا: { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } 16.
ومن ذلك قوله تعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } إلى قوله: { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } 17، وقوله تعالى: { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } 18.
ومن ذلك أنه يقال في بلال ونحوه: كانوا من المعذبين في الله، ويقال: إن أبا بكر اشترى سبعة من المعذبين في الله. وقال ﷺ: «السفر قطعة من العذاب».
وإذا كان كذلك، فقوله تعالى: { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ } 19، مع ما قد ثبت في الصحيحين عن جابر عن النبي ﷺ: أنه لما نزل قوله: { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ } ، قال: «أعوذ بوجهك»، { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } ، قال: «أعوذ بوجهك»، { أّو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض }، قال: «هاتان أهون» يقتضى أن لبسنا شيعًا وإذاقة بعضنا بأس بعض هو من العذاب الذي يندفع بالاستغفار، كما قال: { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } 20، وإنما تنفى الفتنة بالاستغفار من الذنوب والعمل الصالح.
وقوله تعالى: { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ } 21، قد يكون العذاب من عنده، وقد يكون بأيدى العباد، فإذا ترك الناس الجهاد في سبيل الله فقد يبتليهم بأن يوقع بينهم العداوة، حتى تقع بينهم الفتنة كما هو الواقع، فإن الناس إذا اشتغلوا بالجهاد في سبيل الله جمع الله قلوبهم وأَلَّف بينهم، وجعل بأسهم على عدو الله وعدوهم، وإذا لم ينفروا في سبيل الله عذبهم الله بأن يلبسهم شيعًا، ويذيق بعضهم بأس بعض.
وكذلك قوله: { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } 22، يدخل في العذاب الأدنى ما يكون بأيدى العباد، كما قد فسر بوقعة بدر بعض ما وعد الله به المشركين من العذاب.
هامش
- ↑ [الأنفال: 33]
- ↑ [هود: 1 3]
- ↑ [نوح: 2 11]
- ↑ [هود: 52]
- ↑ [الشورى: 30]
- ↑ [آل عمران: 155]
- ↑ [آل عمران: 165]
- ↑ [الروم: 36]
- ↑ [النساء: 79]
- ↑ [البقرة: 49]
- ↑ [التوبة: 14]
- ↑ [التوبة: 52]
- ↑ [يونس: 107]
- ↑ [الروم: 48]
- ↑ [يوسف: 56]
- ↑ [النساء: 78، 79]
- ↑ [النور: 2]
- ↑ [النساء: 25]
- ↑ [الأنعام: 65]
- ↑ [الأنفال: 25]
- ↑ [التوبة: 39]
- ↑ [السجدة: 21]