مجموع الفتاوى/المجلد الخامس عشر/فصل في تفسير قوله تعالى إن هذان لساحران
فصل في تفسير قوله تعالى إن هذان لساحران
[عدل]قَالَ شيخ الإسلام تقي الدين أَحمد بن تيمية رَحمهُ الله تعالى:
في قوله تعالى: { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } 1، فإن هذا مما أُشْكِلَ على كثير من الناس، فإن الذي في مصاحف المسلمين { إِنْ هَذَانِ } بالألف، وبهذا قرأ جماهير القراء، وأكثرهم يقرأ: { إنَّ } مشددة، وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم: { إنْ } مخففة، لكن ابن كثير يشدد نون { هذان } دون حفص، والإشكال من جهة العربية على القراءة المشهورة، وهي قراءة نافع وابن عامر وحمزة والكسائي، وأبي بكر عن عاصم، وجمهور القراء عليها، وهي أصح القراءات لفظا ومعني.
وهذا يتبين بالكلام على ما قيل فيها.
فإن منشأ الإشكال: أن الاسم المثني يعرب في حال النصب والخفض بالياء، وفي حال الرفع بالألف، وهذا متواتر من لغة العرب: لغة القرآن وغيرها في الأسماء المبنية، كقوله: { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ } ، ثم قال: { فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ } 2، وقال: { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ } 3، وقال: { وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ } 4 ولم يقل: الكعبان، وقال: { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } 5، ولم يقل: اثنان، وقال: { قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } 6، وقال: { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ } 7، ولم يقل: اثنان، ولا الذكران ولا أنثيان، وقال: { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } 8، ولم يقل: زوجان، وقال: { فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } 9، ولم يقل: اثنتان.
ومثل هذا كثير مشهور في القرآن وغيره.
فظن النحاة أن الأسماء المبهمة المبنية مثل هذين واللذين تجري هذا المجري، وأن المبني في حال الرفع يكون بالألف، ومن هنا نشأ الإشكال.
وكان أبو عمرو إماما في العربية، فقرأ بما يعرف من العربية: «إِنّ هذين لَسَاحرِاَنِ». وقد ذكر أن له سلفا في هذه القراءة، وهو الظن به: أنه لا يقرأ إلا بما يرويه، لا بمجرد ما يراه، وقد روي عنه أنه قال: إني لأستحيي من الله أن أقرأ: { إِنْ هَذَانِ } ؛ وذلك لأنه لم ير لها وجها من جهة العربية، ومن الناس من خَطَّأ أبا عمرو في هذه القراءة، ومنهم الزجاج، قال: لا أجيز قراءة أبي عمرو، خلاف المصحف.
وأما القراءة المشهورة الموافقة لرسم المصحف، فاحتج لها كثير من النحاة بأن هذه لغة بني الحارث بن كعب، وقد حكي ذلك غير واحد من أئمة العربية. قال المهدوي: بنو الحارث بن كعب يقولون: ضربت الزيدان، ومررت بالزيدان، كما تقول: جاءني الزيدان. قال المهدوي: حكى ذلك أبو زيد، والأخفش، والكسائي، والفراء، وحكى أبو الخطاب: أنها لغة بني كنانة، وحكي غيره: أنها لغة لخثعم، ومثله قول الشاعر:
تزود منا بين أذناه ضربة ** دعته إلى هاوي التراب عقيم
وقال ابن الأنباري 10: هي لغة لبني الحارث بن كعب وقريش، قال الزجاج: وحكي أبو عبيدة عن أبي الخطاب وهو رأس من رؤوس الرواة أنها لغة لكنانة يجعلون ألف الاثنين في الرفع والنصب والخفض على لفظ واحد، وأنشدوا:
فأطرق إطراق الشجاع ولو يجد ** مساغا لناباه الشجاع لصمما
وقال: ويقول هؤلاء: ضربته بين أذناه.
قلت: بنو الحارث بن كعب هم أهل نجران، ولا ريب أن القرآن لم ينزل بهذه اللغة، بل المثني من الأسماء المبنية في جميع القرآن هو بالياء في النصب والجر كما تقدمت شواهده. وقد ثبت في الصحيح عن عثمان أنه قال: إن القرآن نزل بلغة قريش، وقال للرهط القرشيين الذين كتبوا المصحف هم وزيد: إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة قريش؛ فإن القرآن نزل بلغتهم، ولم يختلفوا إلا في حرف، وهو التابوت فرفعوه إلى عثمان، فأمر أن يكتب بلغة قريش. رواه البخاري في صحيحه.
وعن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أَدْرِك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحَرَّق.
وهذه الصحيفة التي أخذها من عند حفصة هي التي أمر أبو بكر وعمر بجمع القرآن فيها لزيد بن ثابت، وحديثه معروف في الصحيحين وغيرهما، وكانت بخطه؛ فلهذا أمر عثمان أن يكون هو أحد من ينسخ المصاحف من تلك الصحف، ولكن جعل معه ثلاثة من قريش ليكتب بلسانهم، فلم يختلف لسان قريش والأنصار إلا في لفظ: التابوه، والتابوت، فكتوبه: التابوت بلغة قريش.
وهذا يبين أن المصاحف التي نسخت كانت مصاحف متعددة، وهذا معروف مشهور، وهذا مما يبين غلط من قال في بعض الألفاظ: إنه غلط من الكاتب، أو نقل ذلك عن عثمان، فإن هذا ممتنع لوجوه:
منها: تعدد المصاحف، واجتماع جماعة على كل مصحف، ثم وصول كل مصحف إلى بلد كبير فيه كثير من الصحابة والتابعين يقرؤون القرآن ويعتبرون ذلك بحفظهم، والإنسان إذا نسخ مصحفا غلط في بعضه عرف غلطه بمخالفة حفظه القرآن وسائر المصاحف، فلو قُدِّرَ أنه كتب كاتب مصحفا ثم نسخ سائر الناس منه من غير اعتبار للأول والثاني، أمكن وقوع الغلط في هذا، وهنا كل مصحف إنما كتبه جماعة ووقف عليه خلق عظيم ممن يحصل التواتر بأقل منهم، ولو قُدِّر أن الصحيفة كان فيها لحن فقد كتب منها جماعة لا يكتبون إلا بلسان قريش، ولم يكن لحنا، فامتنعوا أن يكتبوه إلا بلسان قريش، فكيف يتفقون كلهم على أن يكتبوا: { إِنْ هَذَانِ }، وهم يعلمون أن ذلك لحن لا يجوز في شيء من لغاتهم، أو: { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ }، وهم يعلمون أن ذلك لحن، كما زعم بعضهم.
قال الزجاج في قوله: { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ }: قول من قال: إنه خطأ بعيد جدا، لأن الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة والقدوة، فكيف يتركون شيئا يصلحه غيرهم، فلا ينبغي أن ينسب هذا إليهم، وقال ابن الأنباري: حديث عثمان لا يصح؛ لأنه غير متصل ومحال أن يؤخر عثمان شيئا ليصلحه من بعده.
قلت: ومما يبين كذب ذلك: أن عثمان لو قدر ذلك فيه، فإنما رأي ذلك في نسخة واحدة، فإما أن تكون جميع المصاحف اتفقت على الغلط، وعثمان قد رآه في جميعها وسكت؛ فهذا ممتنع عادة وشرعًا من الذين كتبوا، ومن عثمان، ثم من المسلمين الذين وصلت إليهم المصاحف ورأوا ما فيها، وهم يحفظون القرآن، ويعلمون أن فيه لحنا لا يجوز في اللغة، فضلا عن التلاوة، وكلهم يقر هذا المنكر لا يغيره أحد، فهذا مما يعلم بطلانه عادة، ويعلم من دين القوم الذين لا يجتمعون على ضلالة، بل يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر أن يدَعوا في كتاب الله منكرا لا يغيره أحد منهم، مع أنهم لا غرض لأحد منهم في ذلك، ولو قيل لعثمان: مر الكاتب أن يغيره؛ لكان تغييره من أسهل الأشياء عليه.
فهذا ونحوه مما يوجب القطع بخطأ من زعم أن في المصحف لحنا أو غلطا، وإن نقل ذلك عن بعض الناس ممن ليس قوله حجة، فالخطأ جائز عليه فيما قاله، بخلاف الذين نقلوا ما في المصحف وكتبوه وقرؤوه فإن الغلط ممتنع عليهم في ذلك، وكما قال عثمان: إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة قريش، وكذلك قال عمر لابن مسعود: أقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل؛ فإن القرآن لم ينزل بلغة هذيل.
وقوله تعالى في القرآن: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } 11، يدل على ذلك، فإن قومه هم قريش، كما قال: { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ } 12، وأما كنانة: فهم جيران قريش، والناقل عنهم ثقة، ولكن الذي ينقل ينقل ما سمع، وقد يكون سمع ذلك في الأسماء المبهمة المبنية، فظن أنهم يقولون ذلك في سائر الأسماء؛ بخلاف من سمع «بين أذناه»، و«لناباه» فإن هذا صريح في الأسماء التي ليست مبهمة.
وحينئذ، فالذي يجب أن يقال: إنه لم يثبت أنه لغة قريش، بل ولا لغة سائر العرب: أنهم ينطقون في الأسماء المبهمة إذا ثنيت بالياء، وإنما قال ذلك من قاله من النحاة قياسا، جعلوا باب التثنية في الأسماء المبهمة كما هو في سائر الأسماء، وإلا فليس في القرآن شاهد يدل على ما قالوه، وليس في القرآن اسم مبهم مبني في موضع نصب أو خفض إلا هذا، ولفظه: { هَذَانِ }، فهذا نقل ثابت متواتر لفظا ورسما.
ومن زعم أن الكاتب غلط فهو الغالط غلطا منكرا، كما قد بُسِطَ في غير هذا الموضع، فإن المصحف منقول بالتواتر، وقد كتبت عدة مصاحف، وكلها مكتوبة بالألف، فكيف يتصور في هذا غلط.
وأيضا، فإن القراء إنما قرؤوا بما سمعوه من غيرهم، والمسلمون كانوا يقرؤون سورة طه، على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وهي من أول ما نزل من القرآن، قال ابن مسعود: بنو إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء من العِتَاق الأُوَل، وهُنَّ من تِلادي. رواه البخاري عنه. وهي مكية باتفاق الناس، قال أبو الفرج وغيره: هي مكية بإجماعهم، بل هي من أول ما نزل، وقد روي أنها كانت مكتوبة عند أخت عمر، وأن سبب إسلام عمر كان لما بلغه إسلام أخته، وكانت السورة تُقْرَأ عندها.
فالصحابة لابد أن قد قرؤوا هذا الحرف، ومن الممتنع أن يكونوا كلهم قرؤوه بالياء كأبي عمرو، فإنه لو كان كذلك لم يقرأها أحد إلا بالياء، ولم تكتب إلا بالياء، فعلم أنهم أو غالبهم كانوا يقرؤونها بالألف كما قرأها الجمهور، وكان الصحابة بمكة والمدينة والشام والكوفة والبصرة يقرؤون هذه السورة في الصلاة وخارج الصلاة، ومنهم سمعها التابعون، ومن التابعين سمعها تابعوهم، فيمتنع أن يكون الصحابة كلهم قرؤوها بالياء مع أن جمهور القراء لم يقرؤوها إلا بالألف، وهم أخذوا قراءتهم عن الصحابة، أو عن التابعين عن الصحابة، فهذا مما يعلم به قطعا أن عامة الصحابة إنما قرؤوها بالألف كما قرأ الجمهور، وكما هو مكتوب.
وحينئذ، فقد علم أن الصحابة إنما قرؤوا كما علَّمهم الرسول، وكما هو لغة للعرب، ثم لغة قريش، فعلم أن هذه اللغة الفصيحة المعروفة عندهم في الأسماء المبهمة تقول: إن هذان، ومررت بهذان: تقولها في الرفع والنصب والخفض بالألف، ومن قال: إن لغتهم أنها تكون في الرفع بالألف، طولب بالشاهد على ذلك والنقل عن لغتهم المسموعة منهم نثرا ونظما، وليس في القرآن ما يشهد له، ولكن عُمْدَتُهُ القياس.
وحينئذ، فنقول:
قياس «هذا» بغيرها من الأسماء غلط، فإن الفرق بينهما ثابت عقلا وسماعًا: أما النقل والسماع فكما ذكرناه، وأما العقل والقياس فقد تَفَطَّنَ للفرق غير واحد من حُذَّاقِ النحاةِ، فحكي ابن الأنباري وغيره عن الفراء قال: ألف التثنية في «هذان» هي ألف هذا، والنون فرقت بين الواحد والاثنين، كما فرقت بين الواحد والجمع نون الذين، وحكاه المهدوي وغيره عن الفراء، ولفظه قال: إنه ذكر أن الألف ليست علامة التثنية، بل هي ألف هذا، فزدت عليها نونا، ولم أُغَيرْها، كما زدت على الياء من الذي، فقلت: الذين في كل حال، قال: وقال بعض الكوفيين: الألف في هذا مشبهة يفعلان، فلم تغير كما لم تغير.
قال: وقال الجرجاني 13: لما كان اسما على حرفين أحدهما حرف مد ولين، وهو كالحركة، ووجب حذف إحدى الألفين في التثنية لم يحسن حذف الأولي؛ لئلا يبقي الاسم على حرف واحد، فحذف علم التثنية، وكان النون يدل على التثنية، ولم يكن لتغيير النون الأصلية الألف وجه، فثبت في كل حال كما يثبت في الواحد. قال المهدوي: وسأل إسماعيل القاضي ابن كيسان عن هذه المسألة فقال: لما لم يظهر في المبهم إعراب في الواحد ولا في الجمع، جرت التثنية على ذلك مجري الواحد، إذ التثنية يجب ألا تغير، فقال إسماعيل: ما أحسن ما قلت لو تقدمك أحد بالقول فيه حتى يؤنس به. فقال له ابن كيسان: فليقل القاضي حتى يؤنس به، فتبسم!!
قلت: بل تقدمه الفراء وغيره، والفراء في الكوفيين مثل سيبويه في البصريين، لكن إسماعيل كان اعتماده على نحو البصريين، والمبرد كان خصيصا به.
وبيان هذا القول: أن المفرد «ذا»، فلو جعلوه كسائر الأسماء؛ لقالوا في التثنية: «ذوان»، ولم يقولوا: «ذان»، كما قالوا: عصوان، ورجوان ونحوهما من الأسماء الثلاثية، و«ها» حرف تنبيه، وقد قالوا فيما حذفوا لامه: أبوان، فردته التثنية إلى أصله، وقالوا في غير هذا... 14: ويدان وأما «ذا»، فلم يقولوا: «ذوان»، بل قالوا كما فعلوا في «ذو»، و«ذات» التي بمعنى صاحب، فقالوا: هو ذو علم، وهما ذوا علم، كما قال: { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } 15، وفي اسم الإشارة قالوا: «ذان»، و«تان»، كما قال: { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ } 16، فإن «ذا» بمعنى صاحب هو اسم معرب، فتغير إعرابه في الرفع والنصب والجر، فقيل: ذو، وذا، وذي.
وأما المستعمل في الإشارة والأسماء الموصولة والمضمرات هي مبنية، لكن أسماء الإشارة لم تفرق لا في واحده، ولا في جمعه بين حال الرفع والنصب والخفض، فكذلك في تثنيته، بل قالوا: قام هذا وأكرمت هذا، ومررت بهذا، وكذلك هؤلاء في الجمع، فكذلك المثني، قال هذان، وأكرمت هذان، ومررت بهذان، فهذا هو القياس فيه أن يلحق مثناه بمفرده وبمجموعه، لا يلحق بمثني غيره الذي هو أيضا معتبر بمفرده ومجموعه.
فالأسماء المعربة ألحق مثناها بمفردها ومجموعها، تقول: رجل، ورجلان، ورجال، فهو معرب في الأحوال الثلاثة؛ يظهر الإعراب في مثناه، كما ظهر في مفرده ومجموعة.
فتبين أن الذين قالوا: إن مقتضي العربية أن يقال: «إن هذين» ليس معهم بذلك نقل عن اللغة المعروفة في القرآن التي نزل بها القرآن، بل هي أن يكون المثني من أسماء الإشارة مبنيا في الأحوال الثلاثة على لفظ واحد، كمفرد أسماء الإشارة ومجموعها.
وحينئذ، فإن قيل: إن الألف هي ألف المفرد زيد عليها النون، أو قيل: هي علم للتثنية وتلك حذفت، أو قيل: بل هذه الألف تجمع هذا، وهذا معنى جواب ابن كيسان، وقول الفراء مثله في المعني، وكذلك قول الجرجاني، وكذلك قول من قال: إن الألف فيه تُشبه ألف يفعلان.
ثم يقال: قد يكون الموصول كذلك، كقوله: { وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ } 17، فإن ثبت أن لغة قريش أنهم يقولون: رأيت الذين فعلا، ومررت باللذين فعلا، وإلا فقد يقال: هو بالألف في الأحوال الثلاثة، لأنه اسم مبني، والألف فيه بدل الياء في الذين، وما ذكره الفراء، وابن كيسان وغيرهما يدل على هذا، فإن الفراء شبه هذا بالذين، وتشبيه اللذان به أولي، وابن كيسان علل بأن المبهم مبني لا يظهر فيه الإعراب، فجعل مثناه كمفرده ومجموعه، وهذا العَلَم يأتي في الموصول.
يؤيد ذلك، أن المضمرات من هذا الجنس، والمرفوع والمنصوب لهما ضمير متصل ومنفصل، بخلاف المجرور فإنه ليس له إلا متصل؛ لأن المجرور لا يكون إلا بحرف، أو مضاف لا يقدم على عامله، فلا ينفصل عنه، فالضمير المتصل في الواحد الكاف من أكرمتك ومررت بك، وفي الجمع أكرمتكم ومررت بكم، وفي التثنية زيدت الألف في النصب والجر، فيقال: أكرمتكما ومررت بكما، كما نقول في الرفع، ففي الواحد والجمع: فعلت وفعلتم، وفي التثنية: فعلتما بالألف وحدها زيدت علما على التثنية في حال الرفع والنصب والجر، كما زيدت في المنفصل في قوله: «إياكما» و «أنتما».
فهذا كله مما يبين أن لفظ المثني في الأسماء المبنية في الأحوال الثلاثة نوع واحد، لم يفرقوا بين مرفوعه وبين منصوبه ومجروره، كما فعلوا ذلك في الأسماء المعربة، وأن ذلك في المثني أبلغ منه في لفظ الواحد والجمع، إذ كانوا في الضمائر يفرقون بين ضمير المنصوب والمجرور، وبين ضمير المرفوع في الواحد والمثني، ولا يفرقون في المثني وفي لفظ الإشارة والموصول، ولا يفرقون بين الواحد والجمع وبين المرفوع وغيره، ففي المثني بطريق الأولي. والحمد للّه وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
ذكر شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية هذه المسألة في موضع آخر، وذكر فيها هذا الاعتراض.
هامش
- ↑ [طه: 63]
- ↑ [النساء: 11]
- ↑ [يوسف: 100]
- ↑ [المائدة: 6]
- ↑ [يس: 13، 14]
- ↑ [هود: 40]
- ↑ [الأنعام: 143]
- ↑ [الذاريات: 49]
- ↑ [النساء: 11]
- ↑ [هو أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم الشيباني، كاتب الإنشاء بديوان الخلافة ببغداد خمسين سنة. عَلَت مكانته عند الخلفاء والسلاطين، وناب في الوزارة، وأنفذ رسولا إلى ملوك الشام وخراسان وكان فاضلا أديبًا، توفي سنة 304هـ]
- ↑ [إبراهيم: 4]
- ↑ [الأنعام: 66]
- ↑ [هو أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني النحوي المشهور، واضع أصول البلاغة، كان من كبار أئمة اللغة العربية، من أهل جرجان له شعر رقيق، من كتبه أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز، وكان شافعي المذهب، أشعري الأصول، توفي سنة 471ه]
- ↑ [بياض بالأصل]
- ↑ [الرحمن: 48]
- ↑ [القصص: 32]
- ↑ [النساء: 16]