مجموع الفتاوى/المجلد الثامن/فصل في السؤال عن تعليل أفعال الله
فصل في السؤال عن تعليل أفعال الله
[عدل]وقال الشيخ قدس الله روحه:
وأما السؤال: عن تعليل أفعال الله.
فالذي عليه جمهور المسلمين من السلف والخلف أن الله تعالى يخلق لحكمة، ويأمر لحكمة، وهذا مذهب أئمة الفقه والعلم، ووافقهم على ذلك أكثر أهل الكلام، من المعتزلة والكرامية وغيرهم.
وذهب طائفة من أهل الكلام، ونفاة القياس، إلى نفي التعليل في خلقه وأمره، وهو قول الأشعري، ومن وافقه وقالوا: ليس في القرآن لام تعليل في فعل الله وأمره، ولا يأمر الله بشيء لحصول مصلحة، ولا دفع مفسدة، بل ما يحصل من مصالح العباد ومفاسدهم بسبب من الأسباب، فإنما خلق ذلك عندها، لا أنه يخلق هذا لهذا، ولا هذا لهذا، واعتقدوا أن التعليل يستلزم الحاجة والاستكمال بالغير، وأنه يفضي إلى التسلسل.
والمعتزلة، أثبتت التعليل، لكن علي أصولهم الفاسدة في التعليل، والتجويز، وأما أهل الفقه والعلم، وجمهور المسلمين. الذين يثبتون التعليل، فلا يثبتونه على قاعدة القدرية، ولا ينفونه نفي الجهمية، وقد بسطت الكلام على هذه المسألة في مواضع.
لكن قول الجمهور: هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة، والمعقول الصريح، وبه يثبت أن الله حكيم، فإنه من لم يفعل شيئًا لحكمة لم يكن حكيمًا، والكلام في هذا يبني على أصول.
أحدها: إثبات محبة الله ورضاه، وأنه يستحق أن يعبد لذاته، ويحب لذاته، وليس شيء سواه يستحق أن يحب إلا هو، وكل محبة لغيره فهي فاسدة، وهذا من معاني الإلهية فإن الإله هو المألوه الذي يستحق من يؤله فيعبد، والعباد تجمع غاية الذل، وغاية الحب، وهذا لا يستحقه إلا هو، وهو سبحانه يحمد نفسه، ويثنى على نفسه، ويمجد نفسه، ويفرح بتوبة التائبين، ويرضى عن عباده المؤمنين.
والحمد: هو الإخبار بمحاسن المحمود مع المحبة لها. فلو أخبر مخبر بمحاسن غيره من غير محبة لها لم يكن حامدًا ولو أحبها ولم يخبر بها لم يكن حامدا. والرب سبحانه وتعالى إذا حمد نفسه، فذكر أسماءه الحسنى وصفاته العلى، وأفعاله الجميلة، وأحب نفسه المقدسة، فكان هو الحامد والمحمود، والمثني والمثنى عليه، والممجد والممجد، والمحب والمحبوب، كان هذا غاية الكمال، الذي لا يستحقه غيره، ولا يوصف به إلا هو.
وهو سبحانه رب كل شيء، فلا يكون شيء إلا به، وهو الإله الذي لا إله إلا هو، ولا يجوز أن نعبد إلا هو، فما لا يكون به لا يكون، ومالا يكون له لا ينفع ولا يدوم، وكل عمل لم يرد به وجهه فهو باطل، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 1.
وهو الذي جعل المسلم مسلمًا، والمصلي مصليًا، والتائب تائبًا، والحامد حامدًا، فإذا يسر عبده لليسرى، فتاب إليه وفرح الله بتوبته، وشكره فرضي بشكره وعمل صالحًا فأحبه، لم يكن المخلوق هو الذي جعل الخالق راضيًا محبًا فرحًا بتوبته، بل الرب هو الذي جعل المخلوق فاعلا لما يفرحه ويرضيه ويحبه، وكل ذلك حاصل بمشيئته وقدرته لا شريك له في إحداث شيء من المحدثات، ولا هو مفتقر إلى غيره بوجه من الوجوه، بل هو الغني عن كل ما سواه من كل وجه، وكل ما سواه فقير إليه من كل وجه، فإذا خلق شيئًا لحكمة يحبها ويرضاها لم يجز أن يقال: هو مفتقر إلى غيره، إلا إذا كان هناك خالق غيره يفعل ما يحبه ويرضاه، وهذا يجىء على قول القدرية، الذين يزعمون أنه لم يخلق أفعال العباد، وإن الطاعات وجدت بدون قدرته وخلقه، فإذا قيل: إنه يحبها ويرضاها، لزم أن يكون المخلوق جعله كذلك.
وأما على قول أهل السنة الذين يقولون: إنه خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، فلم يوجد إلا ما خلقه هو، وله في ذلك من الحكمة البالغة ما يعلمه هو علي وجه التفصيل، وقد يعلم بعض عباده من ذلك ما يعلمه إياه إذ لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء.
وأما كون ذلك يستلزم قيام الأمور الاختيارية بذاته، فهذا قول السلف، وأئمة الحديث والسنة، وكثير من أهل الكلام.
وأما كون ذلك يستلزم التسلسل في المستقبل، فإنه إذا خلق شيئًا لحكمة توجد بعد وجوده، وتلك الحكمة لحكمة أخري لزم التسلسل في المستقبل، فهذا جائز عند المسلمين وغيرهم ممن يقول بدوام نعيم أهل الجنة، وإنما يخالف في ذلك من شك، كالجهم بن صفوان الذي يقول بفناء الجنة والنار، وكأبي الهذيل الذي يقول بانقطاع حركات أهل الجنة والنار. فإن هذين ادعيا امتناع وجود ما لا يتناهى في الماضي والمستقبل. وخالفهم جماهير المسلمين.
والجواب الثاني: أن يقال: التسلسل نوعان:
أحدهما: في الفاعلين وهو أن يكون لكل فاعل فاعل. فهذا باطل بصريح العقل، واتفاق العقلاء.
والثاني: التسلسل في الآثار، مثل أن يقال: إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، ويقال: إن كلمات الله لا نهاية لها. فهذا التسلسل يجوزه أئمة أهل الملل، وأئمة الفلاسفة، ولكن الفلاسفة يدعون قدم الأفلاك، وأن حركات الفلك لا بداية لها، ولا نهاية لها. هذا كفر مخالف لدين الرسل. وهو باطل في صريح المعقول.
وكذلك القول: بأن الرب لم يكن يمكنه أن يتكلم ولا يفعل بمشيئته، ثم صار يمكنه الكلام، والفعل بمشيئته كما يقول ذلك الجهمية والقدرية، ومن وافقهم من أهل الكلام قول باطل. وهو الذي أوقع الاضطراب بين ملاحدة المتفلسفة ومبتدعة أهل الكلام. في هذا الباب، والكلام علي هذه الأمور مبسوط في موضعه وهذه مطالب غالية، إنما يعرف قدرها من عرف مقالات الناس والإشكالات اللازمة علي كل قول حتى أوقعت كثيرًا من فحول النظار في بحور الشك والارتياب، وهي مبسوطة في غير هذا الموضع.
هامش
- ↑ [فاطر: 10]